ملتقى الخطباء الرابع، بعنوان:
أقامت مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصّصية في النهضة الحسينية التابعة للعتبة الحسينية المقدسة ملتقى الخطباء الرابع، تحت شعار: "خطباء يجدّدون العهد مع الحسين (عليه السلام)" بعنوان: "ملتقى خطباء إقليم السند في باكستان"، وذلك في يوم الخميس: 15 ذي القعدة 1446هـ، المصادف 15 / 5 /2025م، في مصلى دار العلم للإمام الخوئي (قدّس سرّه) في النجف الأشرف.
افتُتح الملتقى بتلاوة آياتٍ مباركةٍ من الذكر الحكيم بصوت قارئ ومؤذن العتبة العلوية المقدسة السيد هاني الموسوي.
وكانت أولى فقرات الملتقى كلمةُ لسماحة العلّامة السيد محمد صادق الخرسان (دامت بركاته)، إذ تطرّق فيها إلى وصايا أهل البيت (عليهم السلام) التي تسهم في نجاح عمل المبلغ، وهي أربعة أُمور: الإخلاص، والخشية، والاعتدال، والعدل.
كما أكّد على أنّ المبلغ يجب عليه أن يوصل فكر أهل البيت (عليهم السلام) إلى المجتمع، مبيناً أنّ مَن يحمل هذا الفكر لا يحتاج إلى الغلو في كلامه، بل نسير كما سار علماؤنا الأبرار، منهم زعيم الحوزة العلمية السيد الخوئي (قدّس سرّه)، الذي رفد الساحة الفكرية بعلوم آل محمد، ونشأ على ذلك المرجع الأعلى سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه) وهو يحيى الأخلاق السامية للأئمّة الأطهار (عليهم السلام).
ثمّ تلتها كلمة دار العلم للإمام الخوئي (قدّس سره) ألقاها سماحة السيد الدكتور زيد بحر العلوم (دام توفيقه)، إذ شكر فيها القائمين على هذا الملتقى، سيّما مؤسسة وارث الأنبياء، وبيّن أنّ عمل المبلغ رسالةٌ جليلةٌ وامتدادٌ لمسير الأنبياء والعلماء، ويجب على المبلغ أن يجسّد كلام أهل البيت (عليهم السلام) بالعمل وليس بالقول فقط.
ثمّ كانت هناك كلمةٌ لمؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصّصية في النهضة الحسينية ألقاها سماحة الشيخ باقر الساعدي (دام توفيقه) بيّن فيها عمل المؤسسة، وتخصّصها بالجانب الحسيني، واهتمامها بالمبلغين، حيث صدرت مؤخراً: موسوعة معين الخطباء بـ 10 أجزاء، والتي تضمّ أكثر من 300 مجلساً حول اهل البيت (عليهم السلام).
كما كانت هناك كلمةٌ لخطباء ومبلغي إقليم السند ألقاها نيابةً عنهم سماحة الشيخ عبد الخالق النجفي (دام توفيقه)، وكلمةُ لهيئة طلاب إقليم السند في النجف الأشرف، ألقاها نيابةً عنهم سماحة الشيخ عبد الرسول المحسني (دام توفيقه).
ومسك الختام كان كلمة سماحة الشيخ علي النجفي (دام توفيقه) نجل المرجع سماحة الشيخ بشير النجفي (دام ظلّه)، إذ أشار فيها إلى أنّ المبلغ لا يُنظر له على أنّه فرد، بل أكثر من ذلك؛ فإنّه ينتمي للحوزة العلمية في النجف الأشرف، ممّا يزيد مسؤولياته في إيصال علوم أهل البيت (عليهم السلام) وفكرهم.
=====================================================================================================
كلمة سماحة العلّامة السيد محمد صادق الخرسان (دامت بركاته)
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته...
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين...
اللهم صلِّ محمّدٍ وآل محمد...
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين، وفّقنا الله وسائر المشتغلين للعلم والعمل الصالح، ورضي الله عن مشايخنا الماضين.
إنّها من نعم الله سبحانه وتعالى أن نلتقي اليوم جميعاً ونحن في جوار أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ بهدف التواصي بالحقّ والصبر، ومن أجل التواصل مع الإخوة الأعزاء ممَّن شرّفهم الله تعالى بتحصيل العلوم والعمل على تبليغها.
هذه نجف علي (سلام الله عليه)، التي تستوعب الجميع، ويحيا فيها الجميع، من أجل أن يحيا الجميع؛ لأنّ علياً (عليه السلام) ما كان بدائرةٍ محدودةٍ، بل كان هو ولي الله وحجّته، وخليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لجميع البشرية، ومن هنا ينعقد الأمل على الإخوة الكرام ـ الذين يتوفّقون للتبليغ، وينشطون في هذا المجال ـ أن يعيشوا هذه الفكرة، ألا وهي أنّ علياً (عليه السلام) يمتدّ في عطائه إلى ما تتّسع له البسيطة، ويستمدّ من هذا العطاء كلّه بحسب وسعه وطاقته، وكان لا بدّ لنا من العمل على إيصال فكر عليٍّ والحسين (سلام الله عليهما) إلى الجميع، ولا سيّما أنّ الأعزاء الذين نتذاكر معهم في هذه الدقائق، وفي هذا المكان المبارك، ممَّن تشرفوا بذكر سيّد الشهداء (سلام الله عليه)، ولا شكّ أنّ هذا الأمر يحتاج إلى الاستعداد، وهذا الاستعداد من أجل أن يكون المسير في طريق الحياة آمناً، ومن ضمانات أمان هذا الطريق والمسير أن نتّخذ الثقلين ـ الكتاب والعترة (عليهم السلام) ـ فهم العماد وعليهم الاعتماد؛ لأنّ الآراء كثيرة، والرؤى أكثر، وما كان للإنسان أن يسلم من العثرات والممرّات إلّا بالاهتداء بهدي محمّدٍ وآله الطاهرين ...
وهذا كلّه لكي نكون مع الصادقين، وحتى تكون هذه الكينونة بشروطها لا بدّ أن نأخذ من المعصومين (عليهم السلام)؛ لأنّ المُبلِّغ عموماً، والخطيب خصوصاً، وربما بشكلٍ أعمّ طالب العلم، قد تستحوذ على اهتماماته بعض حالات التحنيث، فيرقى الأعواد، ويصرف الوقت والجهد من أجل أن يبيّن للناس ما لا يُسألون عنه غداً، يوم ينادي المنادي: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ [الصافات: 24]، فكان لا بدّ من تأشير ما هو صحيح، والصواب فيما ينبغي أن يكون عليه الخطباء والمبلغون عموماً، وما هذا إلا بالأخذ عنهم (سلام الله عليهم)، امتثالاً لوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما خاطب كميل (رضي الله عنه): "يا كميل، لا تأخذ إلّا عنّا تكن منّا". [تحف العقول: ص171] ويجد المتأمّل في هذه الوصية العلوية المباركة أنّ ضماناً قدّمه الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) لجميع مَن يأخذ عنهم، بحيث لا يحيد ولا تأخذه حالات الانبهار بالجديد؛ لأنّنا نعيش في عالمنا اليوم، وننتفع من جميع حالات الحداثة والمعاصرة، ولكن لا بدّ أن لا نتنكّر للماضي، وعلينا أن نحذر من المستورد، ولا بدّ لنا أن نكون على بصيرةٍ من أمرنا في جميع ما يُقدّم إلينا؛ لأنّ هذا ـ كما ورد عنهم (سلام الله عليهم) ـ ممّا يوجب مزيداً من المسؤولية على الإنسان؛ لأنّ الإنسان إذا كان يعتني بما يدخل إلى جوفه، فكيف لا يعتني بما يُدخله إلى عقله، ويكون عاملاً مساعداً على دخوله إلى عقول الآخرين.
إنّنا في هذا اليوم نواجه تحدياً في أن نعيش حاضرنا ونخطو نحو مستقبلنا، ولكن لا بدّ لنا ألّا ننسى ذلك الماضي المشرق، الذي عاش فيه الفقهاء العظام، وتأسّوا فيه بالأئمة (سلام الله عليهم)، وسار الجميع على خُطى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلذلك لا بدّ للشباب الأعزاء أن يفهموا المعادلة جيداً، وأن لا ينساقوا وراء هذا وذاك، إلّا بعد التبصّر، وهذا التبصّر يحتاج إلى ضمانات الوعي، ومن ضمانات الوعي هذه: أنّ الإنسان يهتمّ في مثل هذه الظروف بحفظ الهوية الثقافية، التي بات القلق شديداً على اختطافها؛ لأنّ الذي يروِّج لأفكارٍ لا تمدّ بصلةٍ إلى فكر عليٍّ والحسين (سلام الله عليهما)، علينا أن نتريّث كثيراً قبل الإقبال عليه، فضلاً عن القبول منه؛ لأنّها مسؤولية.
ومن هنا أُريد أن أدخل إلى ما بعد التمهيد لأقول: إنّ هذه المسؤولية، هي التي بها يلقى الإنسان ربَّه، فيحيا حياةً كريمةً، أو إنّها الأُخرى ـ والعياذ بالله ـ وعوامل اقتطاف هذه الهوية الثقافية غير قليلةٍ؛ لأنّ الجهل والخوف والفقر والخضوع بالقول للغالب، ولذي الجاه، ولصاحب المال، وغير ذلك من عنواناتٍ كثيرةٍ ربما تتكاثر في قادم الأيام، فإذا لا نلتفت لأنفسنا، ولا نعي أنّ الكلمة مسؤولية، فبالمقابل لا نحمل مسؤولية الكلمة، فإنّنا سنكون في مهبّ الريح، ولا يكون لحضورنا تأثيرٌ، وهذا ما يأباه الله ورسوله والمؤمنون؛ لأنّ ما لدينا من الحقّ الحقيق بالإتباع حريٌّ لمزيد من العناية.
الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) قدّم في بعض وصاياه عناصر لنجاح المبلغين ـ واؤكّد بما يشمل جميع الفعّاليات التي تهتمّ بتقديم الزاد الفكري للآخرين؛ حيث أوصى (عليه السلام) بلزوم الإخلاص في السرّ والعلانية، وأوصى كذلك من الخشية في الغيب والشهادة، وأوصى ثالثةً بالقصد في الفقر والغنى، وأوصى في ختام هذه الوصية المباركة للعدل في الرضا والسخط، لا شكّ أنّنا لا نريد أن نعيش بحالة من المثالية؛ لأنّ الواقع سوف يرفض مَن يعيش بهذه الحالة. ومن جانبٍ آخر، الذي يُعنى بحمل فكر مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يكون معنياً بالدرجة الأُولى بإيصال هذا الفكر، وتعريف الأُمّة به بمختلف الوسائل المباحة المتاحة، بحيث إنّ الإنسان يكون من همِّه في ليله ونهاره أن يُعرّف الناس على ما قدّم لهم محمّدٌ وآله الطيبون الطاهرون من زادٍ يأخذ بهم إلى حالة الامتلاء، بحيث لا يحتاج الإنسان معها إلى أن يتكفّف هذا أو ذاك.
ومن هنا، لا بدّ للإخوة الذين ينشطون في مجال التبليغ في هذا الإقليم أو سواه، أن يعرفوا بأنّ جميع ما يتّصل بغير طريقة الاعتدال والقصد ـ كما بيّن الإمام (سلام الله عليه) في جميع أحوال الإنسان ـ لا يمكن أن يؤدّي إلى نتيجة مرضية. وأنت تحمل زاد فكر علي والحسين لا تحتاج إلى كلمات الغلو، ومن الطبيعي أن تنأى بنفسك عن حالات التقصير؛ لأنّنا لا يصحّ منّا إطلاقاً أن نقدّم أنفسنا على أساس أنّا في معرض التحشية والتعليق على كلام المعصوم (سلام الله عليه)، وإنّما نروي ذلك، ونلتزم ذات الطريق على نهج ما سار عليه الفقهاء والأُمناء للرسل؛ حتى نخرج عن عهدة التكليف، ولئلّا نخشى سوء الحساب.
هذه العناصر في الرباعية المتقدّمة، أعني: الإخلاص، والخشية، والاعتدال، والعدل، هي ضماناتٌ للنجاح بل التفوّق في الأداء؛ لأنّ الإنسان إذا صمّم في نفسه على تهذيب طباعه من مساوئ الصفات، فإنّه يكون قد أخلص نيّته لله، وبالنتيجة لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يستجيره إلى هذا الموقف أو ذاك رضا هذا أو سخط غيره، ولاسيما أنّ الإخوة عندما يريدون أن يمارسوا أدوارهم التبليغية ومن المؤكّد أنّهم يكونون في هذه البقعة أو تلك، وهناك هيمنات للمتولّين أو للقائمين أو للباذلين، بما تصرف الإنسان أحياناً عن الامتثال للحكم التكليفي الذي يذكره الفقيه المأمون على الدين والدنيا، وإنّما تكون هنالك من الانصياع لرغبات هذا أو ذاك.
أولاً علينا عليكم أعزائي أن تتعاملوا بالحسنى مع الجميع؛ لأنّ البعض لا يعرف علياً والحسين، وإنّما سيتعرّف على بعض خصالهم الأخلاقية من خلال تعاملكم، والشيء الآخر أنّكم في هذا الإقليم تنفتحون على رؤًى متعددةٍ، فلا بدّ أن تتعايشوا مع الناس بالشكل بحيث إذا عشتم حنّو إليكم وإن كان بعد أن يحين موعد لقائنا الأُخروي بكوا علينا، إنّنا عندما نستذكر القامات العظيمة من تأريخ التشيع نجد حالةً من الخشوع والإجلال لأُولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فدافعو ولم يندفعوا، وإنّما نتعلّم من مدرسة السيد الخوئي (رحمة الله تعالى عليه) الفكرية ما يرفد الساحة العلمية، وكذلك نتعلّم منه الأناة والصبر، والتعامل بحكمة، كما هو شأن الشيبة المباركة ـ مدّ الله تعالى له بالسلامة ومزيد الكرامة ـ حيث يجسّد دائماً تلكم الأخلاق السامية، مع أنّ المعروف عن هذين العلمين ما هو معروفٌ عمَّن سبقهم من المحقّق النائيني، والشيخ الأعظم والسيد المجدّد الشيرازي، ومَن سبقهم، وصولاً إلى الطبقة الأُولى من أعلامنا (رحمة الله تعالى عليهم)، من الحرص الأكيد على التحصيل العلمي، وعدم التفريط بالوقت في ليلٍ أو نهار، وعدم التذرّع ببعض القضايا التي هي من مستجدّات الأحوال في هذه المراحل الزمنية، أو البقاع المكانية؛ لأنّ الجميع عندما يتحدّث لا ينظر المتلقّي إلى ضعفه، وإنّما حكم عليه من خلال ما استمع منه إليه، ومن هنا نحتاج إلى إتقان قواعد اللغة العربية، وكذلك إتقان قراءتنا للقرآن المجيد، وكذلك الاهتمام بالزاد الحديثي الروائي عن المعصومين (عليهم السلام)؛ لنتعرّف أنّ الناظر في آثار آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) سوف يجد ما يحلّ به عويص المسائل العقلية، كما يُروى ذلك ويُنقل، وما سمعته أنا مباشرةً من المرحوم السيد الوالد عن الشيخ الذي نحن في جوار قبره (رحمة الله عليه) على مسافة أمتار، الشيخ الكبير الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء، عندما سُئل عن مسائل ذات بعدٍ فلسفيٍّ عقليٍّ، فأملى الجواب وهو على الحوض يتوضّأ، أملى على ولده شيخ موسى (رحمة الله عليهم جميعاً)، فلمّا استوعب علماء أصفهان ـ حسب الظاهر يومها كان في أصفهان ـ فأجابهم بما تقدّم إنّنا ننفتح على العلوم كلّها، وعلى اللغات بأسرها، فيما يمكننا.
ولكن لا بدّ لنا أن نلتفت أنّ هناك مخاطر، فعلينا أن نراعي الضوابط؛ لأنّ استعمال أيّ شيء حتى في يومنا هذا من هذه الأجهزة الحديثة لا بدّ أن يكون الاستعمال على أُصوله، ولا يتوفّر للإنسان هذا الغطاء الآمن إلّا إذا التزم قضيةً معيّنةً، ألا وهي الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والخشية منه، بحيث يخاف الله تعالى وكأنّه لم يعِد تعالى بالجنة، ولا يكون الإنسان مفرطاً في ابتعاده عن هذه الضوابط، بحيث وكأنّه لم يسمع بما توعّد الله تعالى به العُصاة من عباده، إنّ لله تعالى رحمةً تسَع كلّ شيء، ولكن لا بدّ لنا أن نعلم أنّ الكذب حرامٌ في أيّ حال، إلّا ما استثناه الفقهاء، فعندما يكون صاحب المجلس، أو صاحب الحوار المعيّن يطلب منك شيئاً وأنت لم تتثبت منه، فعليك أن تنقل الجميع إلى ما تعلمته من الحوزة العلمية، من رعاية الضوابط، وعدم الأخذ بما لا تعلم؛ لأنّ الذي يقول ما لا يعلم فسيُسأل حتى لا يعلم.
وتعلمون الجهل من العوادي الظواري على الإنسان؛ لأنّه سيُفتضح مهما أراد أن يتزيّن بجاهٍ، بمالٍ، بسلطةٍ، بإعلامٍ، بإعلانٍ، فإنّه لا ينتفع. الذي ضمنه أمير المؤمنين (سلام الله عليه) من عناصر نجاح المبلغ، هذا أمرٌ مضمون السلامة، وموجبٌ للكرامة، بحيث إنّ الإنسان لا يخشى على نفسه في أيّ مكان، أمّا الذي يعوّل على غيره، ويعتمد هذا أو ذاك؛ فإنّه ينطبق عليه ما تقدّم آنفاً.
ومن هنا نحتاج إلى التحصّن بالتوكّل على الله تعالى، والاستشفاع بالمعصومين (عليهم السلام)، والاهتمام بإقامة مجالس فضائلهم ومصائبهم، والاهتمام بالبكاء على هذه المصائب؛ لأنّ الإنسان نتيجة ما يحصل له أحياناً من تراكمٍ معرفيٍّ قد تحصل له ـ فيما شخّصه بعض الأساتذة الكرام ـ حالة عُجبٍ، ولا ينتفع من هذا الفيض المعنوي الذي جعله الله تعالى غذاءً للروح، وترويحاً للنفس؛ لأنّنا عندما نبكي الحسين لا نبكي شخصاً مضى، بل نستذكر مآثر عظيمٍ من عظماء البشرية، ما زال يدعو الملايين، ويحفّز الأكثر، نحو بقعته المباركة، التي يبدو أنّها تمتدّ من محلّ مرقده المبارك إلى حيث أعواد منابره المنتشرة في مختلف بقاع الدنيا، بل وتصل إلى ما هو المتعارف في عالمنا اليوم من المجالات المجازية الفضائية، فإنّ أي منبرٍ بشكله المحسوس أو ما صار متعارفاً من قنواتٍ إعلاميةٍ معاصرةٍ، إنّما هو تذكيرٌ بقضية الحسين (سلام الله عليه)، وهذا ما يجعل المعادلة متوازنةً.
وهنا أُريد أن أنتقل إلى ثالثة الرباعية العلوية، حيث أوصى (سلام الله عليه) بالاعتدال في الأُمور، وعدم الأفراط والتفريط؛ لأنّه عندما يأخذ الإنسان بمسارات الفكر وعقلنة الأُمور، سوف تكون لديه هشاشة في بناء المعنوية، وهذا ما يخاف منه كسر الانكسار؛ لأنّ وقوع أحدٍ منا إنّما يؤثر علينا، فلذلك لا بدّ أن نكون متحابّين في الله، متواصلين في الله، ولنا الأُسوة والقدوة بما فعله علماؤنا ـ جزاهم الله خيراً ـ عندما كانوا يقابلون الإساءة بالإحسان؛ تأسياً منهم بالأئمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين)، فإنّ هذا الخلق الرفيع ممّا يربّي الإنسان على أن يواصل طريقه والتحدّيات من دون تلكؤ، ولكنّه على بصيرةٍ من أمره، وهذا الاعتدال إنّما يعني أن يحسب الإنسان للأُمور حسابها المناسب، ولا يضيّع من وقته ما يحتاج إليه في قادم الأيّام، وإنّما يحرص على ساعات عمره من الضياع، ويخشى ما يؤدّي إلى سوء الحساب، ونجد أنّ الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) ببلاغته المعهودة قد جعل إزاء كلّ مفردةٍ من هذه الرباعية ما يشير إلى لزوم العمل بهذا الخلق في مختلف حالات الإنسان، بغضّ النظر عن أنّه هناك مَن يسجّل ويتابع ويشهد، أو أنّه يخلو بنفسه مع ربّه، وإنّما لا بدّ للإنسان أن يتّخذ هذه الصفات بما يجعل الإنسان مندمجاً معها تماماً.
ومن هنا من المهم أن نشير إلى قضية أنّ الطلبة الأعزاء من المبلّغين الكرام وسواهم، عندما يخرجوا عن دائرة النجف الأشرف الجغرافية عليهم أن يتذكّروا أنّ لعليٍّ (عليه السلام) حقوقاً في الرقاب، وعلى العواتق، فلا بدّ لهم أن يرعوا هذه الحقوق، محافظٌ يلقى محافظاً، كلّ واحدٍ منّا على هذا الاعتبار والانتماء، وإلّا كان من هتك الحرمة، ومَن يهتك حرمة أحدٍ من المؤمنين ـ فضلاً عن المعصومين ـ سيلقى سوء الحساب؛ لأنّ الإنسان عندما تأخذه عوامل الرضا والغض، والانصياع للسلطة أو الجاه، أو الميل من هنا أو هناك من أجل تحصيل مالٍ أو منصبٍ أو نحو ذلك، إنّما لا يفرّط بنفسه، وإنّما يفرّط بهذا التاريخ العاطر.
إنّنا عندما نستذكر بعض أساتذة السيد الخوئي (رحمة الله تعالى عليه وعليهم)، كالشيخ محمد جواد البلاغي، الذي حمل هم المعرفة على عاتقه، وقدّمها لمختلف أتباع الأديان، أو لأتباع مختلف الأديان، ما هذا إلّا لأنّه ذلك الفقيه، والمحقّق العظيم، فخلّد نفسه بما سطّره من الكلمات العلمية، والمواد التحقيقية، في الفقه، والتفسير، وسواهما؛ ممّا يوجد أكثره في هذه الموسوعة المتداولة، وأيضاً بما كان يُعرف عنه من الاهتمام بإقامة الشعائر والمآتم، والتصدّر لحفظها، وبهذا نجد رائحةً من عبق المجدّد الشيرازي (رحمة الله عليه) السيد محمد حسن، الذي كان يهتمّ أيّما اهتمامٍ بهذا.
وببركة ما ذكرت عن هؤلاء الأعلام، أُريد أن أؤكّد على الأعزاء المبلغين: إنّكم قد تجدون بعض الطاقات الشابّة، التي تحتاج إلى الرعاية، فإذا وجدتها في المجلس عليك أن لا يضيق صدرك منها، بل مهما أمكنك أن تستوعبها، وأن توظّفها لإيصال صوت الحقّ، فإنّ المروي عن السيد المجدّد الشيرازي (رحمة الله عليه) أنّه كان يشجّع مَن يُلقي شعراً في أهل البيت (سلام الله عليهم)، و هذا التشجيع له ألوانٌ ومظاهرَ متعدّدةٍ، وأيضاً كان يتفاعل مع ما يُلقى في ذكر فضائلهم، وفي مجالس مصائبهم، إذن؛ إنّنا أمام مسؤوليةٍ في الاهتمام بإحياء ذكر أهل البيت (سلام الله عليهم) في مختلف المناسبات، مع التوازن، وتثقيف المجتمع على أنّ حلال محمدٍ حلالٌ إلى يوم القيامة، وأنّ حرامه حرامٌ إلى يوم القيامة، والعمل الجادّ على استيعاب حالات الاختلاف التي قد تكون بين الناس بشكلٍ طبيعي، فلا بدّ من إرشادهم أنّ كلّ أحدٍ عليه أن يرجع إلى مرجع تقليده ممَّن تبرأ الذمّة بتقليده، وألّا يتأثّر هذا الإنسان بقول هذا أو ذاك؛ لأنّ الدين إنّما هو مجموعةٌ ممَّا يعمل به الإنسان متقرّباً إلى الله تعالى، وحتى فيما لا تُشترط فيه القربى، على الإنسان أن يربّي نفسه في أن يتقرّب بهذه الأعمال حتى المباعة؛ من أجل ألّا يكون من الغافلين، ومن أجل ألّا يخرج عن سيرة العلماء الماضين، الذين كانوا يهتمّون بهذا الجانب؛ تربيةً للنفس. وهذا ما ينفع؛ باعتبار أنّ المبلّغ قد يكون حَكَماً بين اثنين ـ فضلاً عن كثيرٍ من الناس ـ فيحتاج إلى العدل؛ لأنّه من دون العدل سوف يميل من هنا ومن هناك، والذي يقضي أو يحكم ولا يعدل فإنّه متوعَّدٌ بالنار ـ والعياذ بالله ـ .
لذلك أسال الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً ممَّن يميّز السليم من السقيم، وأن نحيا ونموت على ولاية محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

كلمة سماحة العلّامة السيد محمد صادق الخرسان (دامت بركاته)