مقدّمة المؤسّسة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
إنّ العلم والمعرفة مصدر الإشعاع الذي يهدي الإنسان إلى الطريق القويم، ومن خلالهما يمكنه أن يصل إلى غايته الحقيقية وسعادته الأبدية المنشودة، فبهما يتميّز الحقّ من الباطل، وبهما تُحدد اختيارات الإنسان الصحيحة، وعلى ضوئهما يسير في سبل الهداية وطريق الرشاد الذي خُلق من أجله، بل على أساس العلم والمعرفة فضّله الله عز وجل على سائر المخلوقات، واحتج عليهم بقوله: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[1]، فبالعلم يرتقي المرء وبالجهل يتسافل، وقد جاء في الأثر «العلمُ نورٌ»[2]،كما بالعلم والمعرفة تتفاوت مقامات البشر ويتفوّق بعضهم على بعض عند الله عز وجل، إذ (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[3]، وبهما تسعد المجتمعات، وبهما الإعمار والازدهار، وبهما الخير كلّ الخير.
ومن أجل العلم والمعرفة كانت التضحيات الكبيرة التي قدّمها الأنبياء والأئمة والأولياء^، تضحيات جسام كان هدفها منع الجهل والظلام والانحراف، تضحيات كانت غايتها إيصال المجتمع الإنساني إلى مبتغاه وهدفه، إلى كماله، إلى حيث يجب أن يصل ويكون، فكان العلم والمعرفة هدف الأنبياء المنشود لمجتمعاتهم، وتوسّلوا إلى الله عز وجل بغية إرسال الرسل التي تعلّم المجتمعات فقالوا: (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[4]، و(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[5]، ما يعني أنّ دون العلم والمعرفة هو الضلال المبين والخسران العظيم.
بل هو دعاؤهم^ ومبتغاهم من الله عز وجل لأنفسهم أيضاً، إذ طلبوا منه تعالى بقولهم: «وَاملأ قُلُوبَنا بِالْعِلْمِ وَالمَعْرفَةِ»[6].
وبالعلم والمعرفة لا بدّ أن تُثمّن تلك التضحيات، وتُقدّس تلك الشخصيات التي ضحّت بكلّ شيء من أجل الحقّ والحقيقة، من أجل أن نكون على علم وبصيرة، من أجل أن يصل إلينا النور الإلهي، من أجل أن لا يسود الجهل والظلام.
فهذه هي سيرة الأنبياء والأئمة^ سيرة الجهاد والنضال والتضحية والإيثار لأجل نشـر العلم والمعرفة في مجتمعاتهم، تلك السيرة الحافلة بالعلم والمعرفة في كلّ جانب من جوانبها، والتي ينهل منها علماؤنا في التصدّي لحلّ مشاكل مجتمعاتهم على مرّ العصور والأزمنة والأمكنة، وفي كافّة المجالات وشؤون البشر.
وهذه القاعدة التي أسسنا لها لا يُستثنى منها أيّ نبي أو وصي، فلكلّ منهم^ سيرته العطرة التي ينهل منها البشر للهداية والصلاح، إلّا أنّه يتفاوت الأمر بين أفرادهم من حيث الشدّة والضعف، وهو أمر عائد إلى المهام التي أنيطت بهم^، كما أخبر عز وجل بذلك في قوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)[7]، فسيرة النبي الأكرم’ ليست كبقية سير الأنبياء، كما أنّ سيرة الأئمة^ ليست كبقية سير الأوصياء السابقين، كما أنّ التفاوت في سير الأئمة^ فيما بينهم مما لا شك فيه، كما في تفضيل أصحاب الكساء على بقية الأئمة^.
والإمام الحسين× تلك الشخصية القمّة في العلم والمعرفة والجهاد والتضحية والإيثار، أحد أصحاب الكساء الخمسة التي دلّت النصوص على فضلهم ومنزلتهم على سائر المخلوقات، الإمام الحسين× الذي قدّم كلّ شيء من أجل بقاء النور الرباني، الذي يأبى الله أن ينطفئ، الإمام الحسين× الذي بتضحيته تعلّمنا وعرفنا، فبقينا.
فمن سيرة هذه الشخصية العظيمة التي ملأت أركان الوجود تعلَّم الإنسان القيم المثلى التي بها حياته الكريمة، كالإباء والتحمّل والصبر في سبيل الوقوف بوجه الظلم، وغيرها من القيم المعرفية والعملية، التي كرَّس علماؤنا الأعلام جهودهم وأفنوا أعمارهم من أجل إيصالها إلى مجتمعات كانت ولا زالت بأمس الحاجة إلى هذه القيم، وتلك الجهود التي بُذلت من قبل الأعلام جديرة بالثناء والتقدير؛ إذ بذلوا ما بوسعهم وأفنوا أغلى أوقاتهم وزهرة أعمارهم لأجل هذا الهدف النبيل.
إلّا أنّ هذا لا يعني سدّ أبواب البحث والتنقيب في الكنوز المعرفية التي تركها× للأجيال اللاحقة ـ فضلاً عن الجوانب المعرفية في حياة سائر المعصومين^ ـ إذ بقي منها من الجوانب ما لم يُسلّط الضوء عليه بالمقدار المطلوب، وهي ليست بالقليل، بل لا نجانب الحقيقة فيما لو قلنا: بل هي أكثر مما تناولته أقلام علمائنا بكثير، فلا بدّ لها أن تُعرَف لتُعرَّف، بل لا بدّ من العمل على البحث فيها ودراستها من زوايا متعددة، لتكون منهجاً للحياة، وهذا ما يزيد من مسؤولية المهتمين بالشأن الديني، ويحتّم عليهم تحمّل أعباء التصدّي لهذه المهمّة الجسيمة؛ استكمالاً للجهود المباركة التي قدّمها علماء الدين ومراجع الطائفة الحقّة.
ومن هذا المنطلق؛ بادرت الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدّسة لتخصيص سهم وافر من جهودها ومشاريعها الفكرية والعلمية حول شخصية الإمام الحسين× ونهضته المباركة؛ إذ إنّها المعنيّة بالدرجة الأولى والأساس بمسك هذا الملف التخصصي، فعمدت إلى زرع بذرة ضمن أروقتها القدسية، فكانت نتيجة هذه البذرة المباركة إنشاء مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصّصية في النهضة الحسينية، التابعة للعتبة الحسينية المقدّسة، حيث أخذت على عاتقها مهمّة تسليط الضوء ـ بالبحث والتحقيق العلميين ـ على شخصية الإمام الحسين× ونهضته المباركة وسيرته العطرة، وكلماته الهادية، وفق خطة مبرمجة وآلية متقنة، تمّت دراستها وعرضها على المختصين في هذا الشأن؛ ليتمّ اعتمادها والعمل عليها ضمن مجموعة من المشاريع العلمية التخصصية، فكان كلّ مشروع من تلك المشاريع متكفّلاً بجانب من الجوانب المهمّة في النهضة الحسينية المقدّسة.
كما ليس لنا أن ندّعي ـ ولم يدّعِ غيرنا من قبل ـ الإلمام والإحاطة بتمام جوانب شخصية الإمام العظيم ونهضته المباركة، إلّا أنّنا قد أخذنا على أنفسنا بذل قصارى جهدنا، وتقديم ما بوسعنا من إمكانات في سبيل خدمة سيّد الشهداء×، وإيصال أهدافه السامية إلى الأجيال اللاحقة.
المشاريع العلمية في المؤسسة
بعد الدراسة المتواصلة التي قامت بها مؤسَّسة وارث الأنبياء حول المشاريع العلمية في المجال الحسيني، تمّ الوقوف على مجموعة كبيرة من المشاريع التي لم يُسلَّط الضوء عليها كما يُراد لها، وهي مشاريع كثيرة وكبيرة في نفس الوقت، ولكلٍّ منها أهميته القصوى، ووفقاً لجدول الأولويات المعتمد في المؤسَّسة تمّ اختيار المشاريع العلميّة الأكثر أهميّة، والتي يُعتبر العمل عليها إسهاماً في تحقيق نقلة نوعية للتراث والفكر الحسيني، وهذه المشاريع هي:
الأوّل: قسم التأليف والتحقيق
إنّ العمل في هذا القسم على مستويين:
أ ـ التأليف
ويُعنَى هذا القسم بالكتابة في العناوين الحسينية التي لم يتمّ تناولها بالبحث والتنقيب، أو التي لم تُعطَ حقّها من ذلك. كما يتمُّ استقبال النتاجات القيِّمة التي أُلِّفت من قبل العلماء والباحثين في هذا القسم؛ ليتمَّ إخضاعها للتحكيم العلمي، وبعد إبداء الملاحظات العلمية وإجراء التعديلات اللازمة بالتوافق مع مؤلِّفيها يتمّ طباعتها ونشرها.
ب ـ التحقيق
والعمل فيه قائم على جمع وتحقيق وتنظيم التراث المكتوب عن مقتل الإمام الحسين×، ويشمل جميع الكتب في هذا المجال، سواء التي كانت بكتابٍ مستقلٍّ أو ضمن كتاب، تحت عنوان: (موسوعة المقاتل الحسينيّة). وكذا العمل جارٍ في هذا القسم على رصد المخطوطات الحسينية التي لم تُطبع إلى الآن؛ ليتمَّ جمعها وتحقيقها، ثمّ طباعتها ونشرها. كما ويتمُّ استقبال الكتب التي تمّ تحقيقها خارج المؤسَّسة، لغرض طباعتها ونشرها، وذلك بعد إخضاعها للتقييم العلمي من قبل اللجنة العلمية في المؤسَّسة، وبعد إدخال التعديلات اللازمة عليها وتأييد صلاحيتها للنشر تقوم المؤسَّسة بطباعتها.
الثاني: مجلّة الإصلاح الحسيني
وهي مجلّة فصلية متخصّصة في النهضة الحسينية، تهتمّ بنشـر معالم وآفاق الفكر الحسيني، وتسلِّط الضوء على تاريخ النهضة الحسينية وتراثها، وكذلك إبراز الجوانب الإنسانية، والاجتماعية والفقهية والأدبية في تلك النهضة المباركة، وقد قطعت شوطاً كبيراً في مجالها، واحتلّت الصدارة بين المجلات العلمية الرصينة في مجالها، وأسهمت في إثراء واقعنا الفكري بالبحوث العلمية الرصينة.
الثالث: قسم ردّ الشُّبُهات عن النهضة الحسينية
إنّ العمل في هذا القسم قائم على جمع الشُّبُهات المثارة حول الإمام الحسين× ونهضته المباركة، وذلك من خلال تتبع مظانّ تلك الشُّبُهات من كتب قديمة أو حديثة، ومقالات وبحوث وندوات وبرامج تلفزيونية وما إلى ذلك، ثُمَّ يتمُّ فرزها وتبويبها وعنونتها ضمن جدول موضوعي، ثمّ يتمُّ الردُّ عليها بأُسلوب علميّ تحقيقي في عدَّة مستويات.
الرابع: الموسوعة العلمية من كلمات الإمام الحسين×
وهي موسوعة علمية تخصصية مستخرَجة من كلمات الإمام الحسين× في مختلف العلوم وفروع المعرفة، ويكون ذلك من خلال جمع كلمات الإمام الحسين× من المصادر المعتبرة، ثمّ تبويبها حسب التخصّصات العلمية مع بيان لتلك الكلمات، ثمّ وضعها بين يدي ذوي الاختصاص؛ ليستخرجوا نظريات علميّة ممازجة بين كلمات الإمام× والواقع العلمي.
الخامس: قسم دائرة معارف الإمام الحسين× أو (الموسوعة الألفبائية الحسينية)
وهي موسوعة تشتمل على كلّ ما يرتبط بالإمام الحسين× ونهضته المباركة من أحداث، ووقائع، ومفاهيم، ورؤى، وأعلام وبلدان وأماكن، وكتب، وغير ذلك، مرتّبة حسب حروف الألف باء، كما هو معمول به في دوائر المعارف والموسوعات، وعلى شكل مقالات علميّة رصينة، تُراعَى فيها كلّ شروط المقالة العلميّة، مكتوبة بلغةٍ عصـرية وأُسلوبٍ حديث.
السادس: قسم الرسائل والأطاريح الجامعية
إنّ العمل في هذا القسم يتمحور حول أمرين: الأوّل: إحصاء الرسائل والأطاريح الجامعية التي كُتبتْ حول النهضة الحسينية، ومتابعتها من قبل لجنة علمية متخصّصة؛ لرفع النواقص العلمية، وتهيئتها للطباعة والنشر، الثاني: إعداد موضوعات حسينيّة من قبل اللجنة العلمية في هذا القسم، تصلح لكتابة رسائل وأطاريح جامعية، تكون بمتناول طلّاب الدراسات العليا.
السابع: قسم الترجمة
يقوم هذا القسم بمتابعة التراث المكتوب حول الإمام الحسين× ونهضته المباركة باللغات غير العربية لنقله إلى العربية، ويكون ذلك من خلال تأييد صلاحيته للترجمة، ثمَّ ترجمته أو الإشراف على ترجمته إذا كانت الترجمة خارج القسم.
الثامن: قسم الرَّصَد والإحصاء
يتمُّ في هذا القسم رصد جميع القضايا الحسينيّة المطروحة في جميع الوسائل المتّبعة في نشر العلم والثقافة، كالفضائيات، والمواقع الإلكترونية، والكتب، والمجلات والنشريات، وغيرها؛ ممّا يعطي رؤية واضحة حول أهمّ الأُمور المرتبطة بالقضية الحسينية بمختلف أبعادها، وهذا بدوره يكون مؤثّراً جدّاً في رسم السياسات العامّة للمؤسّسة، ورفد بقيّة الأقسام فيها، وكذا بقية المؤسّسات والمراكز العلمية في شتّى المجالات.
التاسع: قسم المؤتمرات والندوات العلمية
ويتمّ العمل في هذا القسم على إقامة مؤتمرات وملتقيات وندوات علميّة فكرية متخصّصة في النهضة الحسينية، لغرض الإفادة من الأقلام الرائدة والإمكانات الواعدة، ليتمّ طرحها في جوٍّ علميّ بمحضر الأساتذة والباحثين والمحقّقين من ذوي الاختصاص، كما تتمّ دعوة العلماء والمفكِّرين؛ لطرح أفكارهم ورؤاهم القيِّمة على الكوادر العلمية في المؤسَّسة، وكذا سائر الباحثين والمحققين وكلّ من لديه اهتمام بالشأن الحسيني، للاستفادة من طرق قراءتهم للنصوص الحسينية وفق الأدوات الاستنباطية المعتمَدة لديهم.
العاشر: قسم المكتبة الحسينية التخصصية
وهي مكتبة حسينية تخصّصية تجمع التراث الحسيني المخطوط والمطبوع، أنشأتها مؤسَّسة وارث الأنبياء، وهي تجمع آلاف الكتب المهمّة في مجال تخصُّصها.
الحادي عشر: قسم الموقع الإلكتروني
وهو موقع إلكتروني متخصِّص بنشر نتاجات وفعاليات مؤسَّسة وارث الأنبياء، يقوم بنـشر وعرض كتبها ومجلاتها التي تصدرها، وكذا الندوات والمؤتمرات التي تقيمها، وكذا يسلِّط الضوء على أخبار المؤسَّسة، ومجمل فعالياتها العلمية والإعلامية.
الثاني عشر: القسم النسوي
يعمل هذا القسم من خلال كادر علمي متخصص وبأقلام علمية نسوية في الجانب الديني والأكاديمي على تفعيل دور المرأة المسلمة في الفكر الحسيني، كما يقوم بتأهيل الباحثات والكاتبات ضمن ورشات عمل تدريبية، وفق الأساليب المعاصرة في التأليف والكتابة.
الثالث عشر: القسم الفني
إنّ العمل في هذا القسم قائم على طباعة وإخراج النتاجات الحسينية التي تصدر عن المؤسَّسة، من خلال برامج إلكترونية متطوِّرة يُشرف عليها كادر فنيّ متخصِّص، يعمل على تصميم الأغلفة وواجهات الصفحات الإلكترونية، وبرمجة الإعلانات المرئية والمسموعة وغيرهما، وسائر الأمور الفنيّة الأخرى التي تحتاجها كافّة الأقسام.
وهناك مشاريع أُخرى سيتمّ العمل عليها إن شاء الله تعالى.
هذا الكتاب (النهضة الحسينية وعلم الإمام× )
إنّ البحث عن أهداف النهضة الحسينية المقدّسة وارتباطها بعلم الإمام الحسين×، من الأبحاث المهمّة والمعمّقة في النهضة الحسينية، والتي وقع في بعض جزئياتها اختلاف ونقاش، لذلك نجد تعدد النظريات وتنوّع الآراء منذ زمن بعيد وإلى يومنا هذا، ومن أهم الأسباب التي أدّت إلى هذا الاختلاف هو وجه الجمع بين علم الإمام× بشهادته من جانب، سواء كان علمه من سنخ العلوم الغيبية واللدنية، أو كان من إخبارات الرسول’ وأهل البيت^، ومن جانب آخر بين تحرّكاته العسكرية ورسائله السياسية ومجموعة من الأهداف المخطط لها والمعلن عنها في بعض كلماته كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير الحاكم الظالم، وما إلى ذلك، وعلى إثر ذلك تولّدت في البين نظريتان مهمّتان: الأولى: تذهب إلى أنّ الهدف الأساسي هو الشهادة، وكلّ إصلاح يترتب عليها، الثانية: تذهب إلى أنّ الهدف الأصلي هو إقامة الحكومة، وبين هاتين النظريتين توجد آراء أخرى قد ترقى بعضها إلى مستوى النظرية تختلف في السعة والضيق، أو في نوعية الدليل والبرهان، أو في البيان والتفسير، أو في مراحل النهضة ومحطّاتها وتغيّر خطاباتها[8].
وقد ألّفت في هذا الصدد كتب عديدة وبحوث ومقالات متنوّعة، من بينها كتاب شهيد جاويد (الشهيد الخالد) للشيخ صالحي نجف آبادي، والذي أثار هذا الكتاب جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية؛ حيث تبنّى مجموعة من الآراء التي خالف بها المشهور، والتي لها لوازم علمية لا يمكن قبولها، فقد أبعد علم الإمام× عن النزاع في هذه المسألة وبحثها بشكلها الطبيعي والظاهري[9]، فأسس أساساً بنى عليه رؤيته حول فلسفة وأسباب النهضة الحسينية، وقد حاول تأويل أو تضعيف النصوص والأدلة التي تخالف متبنّياته.
وعلى إثر هذا الطرح في كتاب شهيد جاويد (الشهيد الخالد) كانت هناك مجموعة من الردود والإشكالات على الرؤية والآراء المذكورة في هذا الكتاب[10]، ومن أهم تلك الردود ما سطره يراع العِلم والفضيلة، العَلَم العالم سماحة آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكانيK في كتاب تحت عنوان: شهيد آگاه (الشهید العالم).
وقد قامت مؤسسة وارث الأنبياء، وانطلاقاً من مسؤوليتها في بيان وإظهار الحقائق العلمية، بترجمة هذا الكتاب ونشره تحت عنوان: (النهضة الحسينية وعلم الإمام×)[11]، وقد أشرف على ترجمته قسم الترجمة في المؤسسة.
وإذ نحمد الله تعالى على هذا التوفيق، نقدّم الشكر للشيخ الدكتور محمّد الحلفي مسؤول قسم الترجمة في المؤسسة والشيخ الدكتور حبيب الساعدي عضو قسم الترجمة، كما نتقدّم بالشكر الجزيل للدكتور السيّد خالد سيساوي والدكتور الشيخ نبيل اليعقوبي الذَين أخذا على عاتقهما ترجمة هذا الكتاب القيّم.
وفي الختام نسأل الله أن يوفّقنا في أعمالنا إنّه سميعٌ مجيبُ.
اللجنة العلمية في
مؤسسة وارث الأنبياء
للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
قد يقول البعض: في هذا الوقت الذي يتعرض فيه الإسلام من كل صوب لهجوم الطّغاة والمستعمرين وأزلامهم، وتهدّد فيه كينونة المجتمع الإسلامي بالأسلحة الخطيرة السياسية منها والاقتصادية، والثقافية، والحربية. حتى تحوّلت مجتمعاتنا الإسلامية إلى مجتمعات أجنبية وكافرة. والتزايد المستمر لمخططاتهم الاستغلالية من خلال إعلامهم المغرض لا سيما الموجّه منه لشريحة الشباب حتى تحرف أفكارهم عن جادة الصواب، ساعية بذلك إلى قلع أسس الدين الإسلامي من جذورها. فها هي تضع المطبوعات الضالّة بين يدى المسلمين مما جعل أساس الإسلام والتربية الإسلامية في دائرة الخطر، مضافاً للترويج صباحاً ومساء للفحشاء والمنكر والتقاليد الأجنبية والطائفية والأقليّات الدينية من خلال الكتب والصحف، والمجلّات المترجمة والجرائد و...، فتنشأ نتيجة ذلك الصراعات والاختلافات المتعددة بينهم. وتساق تلك المجتمعات المسلمة إلى حافة الانقراض.
أي ثمرة سنجنيها من تناول كتاب الشهيد الخالد بالبحث والنقد؛ غير إلقاء الحطب في نار الاختلافات؟ وأي ألم نريد إسكانه؟
علينا القول بأنه يجب أن نقلل من الاختلاف، ونحكّم أواصر وحدتنا ونذيب الفواصل بيننا، وأن نبني سدّاً في وجه هذا السيل من الإلحاد والتغرّب، وهذا الإعلام المغرض، والقوى الدخيلة على مجتمعاتنا الإسلامية التي تحاول تزريق تقاليدها وخرافاتها ومؤلفاتها. لنفكر في إيجاد لحمة بيننا يكون لها الأثر في تحصين قلاع مجتمعاتنا ومكانتها ومشتركاتها الإسلامية.
علينا صقل أذهان الشباب، ووضع التعاليم الإسلامية في مجال الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والأخلاق، والتربية والتعليم بين أيديهم بصورة يسهل دركها؛ حتى يعلموا أنّ الإسلام قادر على تأمين تطلّعاتهم الإسلامية كافة. فندفع بذلك تشنجهم الفكري ونميط عن طريقهم تلك البحوث المتعلقة بالمواضيع الهامشية والثانوية.
إنّ هذه النقاشات ستكون سبباً في إحكام هيمنة العدو من خلال ضمور شجرة التوحيد الطيّبة وشغل أذهان الموحدين بمباحث لا طائل منها، وجعله يواصل مخططاته مرتاح البال. في وقتنا الحاضر الحافل بالقلق والاضطراب، والخوف، لا توجد أية مصلحة تترتب على الفرقة والانقسام، بل مع هذه الابتلاءات التي تحف بنا لا توجد لدينا فرصة لمثل هذه الأبحاث والدراسات؛ لذا علينا تجنب الخوض فيها بإصرار. فهذه الاختلافات الداخلية وإن كانت جزئية وقليلة إلّا أنّها تضعف من شوكة مقاومتنا لعدونا الخارجي؛ وتزيد من رصيد الأجانب؛ وتسوقنا من دون أن نشعر إلى تحقيق أهدافهم الخائنة.
هذه هي الأمور التي يحترق من أجلها القلب؛ وتتعلق بها آمال الخير المهمة جدّاً والجديرة بالاهتمام؛ وهذا أيضاً ما أردت بيانه من خلال هذا التفصيل حتى يلتفت القارئ أكثر إلى الوظائف الخطيرة الملقاة على عاتقه من حفظ للانسجام والتآلف، والمحافظة على وحدة صوتنا في سبيل الدفاع عن حرمة أحكام الإسلام وتعاليمه وشعائره.
أضف إلى ما ذكرناه:
إنّه يجدر بنا أن لا نغفل أو نتغافل عن مساعي وجهود الأعداء المنصبة على تجزئة المسلمين وإيجاد الفرقة والتناحر بينهم. ويجب أن لا نستهين فنهمش ما قد يوجده ذلك الاختلاف والفرقة من أضرار على مجتمعاتنا، يجب أن لا نصرف هذه الآية المحكمة عن أعيننا؛ قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). فالدخلاء المستعمرون بعد تقسيمهم للدول الإسلامية وإنشائهم حكومات ضعيفة متفرقة في كل الجوانب؛ وإجبار المسلمين على اتباع هذه الحكومات التي كانت حامية لمصالحهم؛ مما جعل المسلمين يتصورون أنّ الوحدة الإسلامية بين هذه الحكومات وبين أزلامهم الذين عينتهم على رأسها أمر مستحيل، وصار المسلمون مجبرين على الرضا بدويلات صغيرة وبلدان مصطنعة غير أصيلة. وما ذلك إلّا لأنّهم رأوا أنّ المعتقدات الإسلامية التوحيدية تقود تلك المجتمعات إلى الاتحاد، وعدم الابتعاد عن فكرة الوحدة الإسلامية؛ أي الوحدة الإنسانية العالمية والإسلامية، فتلك المعتقدات الإسلامية الراقية والمنجية قد جعلت هؤلاء الأفراد يداً واحدة في عزمهم وكفاحهم رغم الاختلافات التي حصلت باسم تعدد الأوطان والدول والأنظمة المختلفة، وقد أزالت كلمة: «اَللهُ أکبَر، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا الله، أَشْهَدُ أنَّ مُحَمّداً رَسُولُ اللهِ»؛ الفواصل الجغرافية بينهم. بل إنّ المشتركات بين المسلمين كثيرة ومتجذّرة لدرجة أنّ أنحاء الاختلاف بينهم لم تؤثر في وحدتهم ولم تفرّقهم.
فمثلاً الشعب التونسي والشعب الهولندي شعبان منفصلان وأجنبيان عن بعضهما البعض، بخلاف الشعب التونسي، والمغربي، والأندونيسي، والباكستاني فهم لم يصبحوا أربع أمم؛ ولم ينفصلوا عن بعضهم؛ كون هويتهم الإسلامية محفوظة وثابتة، ولم تتعارض معها الهوية التونسية ولا المغربية، بل ذابتا فيها. وظلّ المعيار الحاكم بين المسلمين هو قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ). وهذا ما حمل الدول المستكبرة على السعي بأي نحو من الأنحاء إلى الاستمرار في رسم مخططاتهم الرامية لإضعاف تلك الشعائر والمشتركات في الدول الإسلامية، وتوهين المعتقدات والالتزامات الإسلامية للمجتمع، وترويج العادات والشعائر الأخرى وإن كانت في عصور الجاهلية وقبل الإسلام. على كل حال؛ إنّ الخلايا الاستعمارية ومكائدها ومؤامراتها كثيرة جدّاً.
في هذا العصر؛ يتعيّن علينا نحن المسلمين أن نكون على يقظة واستعداد، وأن نقف في وجه حملات كل هؤلاء الأعداء، وإعلامهم الموجّه ضدّ الإسلام؛ الذي يمتلك آلاف الصفحات والمطبوعات في هذا العالم. كما يجب أن نكون على استعداد للدفاع عن عالمنا الإسلامي، والارتقاء بالنضج الفكري للشباب من خلال إرشادهم إلى التعاليم الإسلامية، وحمل المجتمع على التقدّم والرقي والتكامل أكثر فأكثر علمياً وأخلاقياً.
إنّنا لندرك هذه المعاناة، وأشهد الله تعالى كم كابدت ـ أنا العبد الضعيف ـ ألم الشعور بها حتى اضطرب حالي وأرق نومي.
لكن لو جاء أحد وألقى حجر التفرقة بين الناس عن عمد أو عن غير عمد، فماذا نفعل؟ لو جاء أحد من خلال ما تبناه من أفكار مستحدثة ومتجددة برأي مخالف في مسألة محسومة ليست موضعاً للمشاحنات الفكرية؛ وقد عرفت على أنّها أرقى المدارس الجهادية وأفضل نموذج لبسالة رجال الفضيلة، ومحبي الخير، والإنسانية، والحرية، وجعلها محلّاً للتّرف الفكري مستنفذاً سبع سنوات من عمره في التحقيق حولها دون جدوى، فماذا علينا أن نفعل؟
لو أدلى شخص برأي شاذ ومستهجن في مسألة تعدّ جزءً ممّا يجري في عروق أمتنا، وأس وجودنا وبقائنا، مع أنّ أساتذته قد نصحوه ومنعوه من عرض هاته الأفكار إلّا أنّه لم يقبل؛ بل أصرّ على طباعتها ونشرها، فماذا يجب أن نفعل[12]؟
لو عمد أحد إلى مدرسة كفوءة يقتدي بها المجتمع وحجب صورتها المتلألئة، والأصيلة، والعقلائية، والمحترمة، معتمداً في ذلك على المغالطة والخطأ ـ التي صدرت إنشاء الله عن غير عمد ـ وتقديمها مفرغة عن قيمها، فماذا نفعل؟
بديهي؛ أنّه استبد برأيه هنا ولم يعر اهتماماً للنصيحة ولم يتمكن من التزام الصمت وتجنب إضلال أفكار غيره في الوقت الحاضر والمستقبل. لذا تعيّن علينا أن نميط الأذى ونرفع حجر التفرقة هذا حتى يتفطن الآخرون؛ لأنّ معالجة هذا الحجر لا تعدّ نشراً للاختلاف بل حيلولة دون توسعة دائرة الخلاف.
علينا لفت الانتباه إلى مسألة مهمة، وهي أنّ إدراك حقيقة النهضة الحسينية ليس أمراً ثانوياً وقليل الفائدة والأهمية. إذ كيف بإمكاننا معرفة الإسلام؟ نعرفه من خلال القرآن والسنّة، ومدرسة أمير المؤمنين× وسيد الشهداء×، وسائر الأئمة^، فنهضة الإمام تحتل قلب المذهب الشيعي. وإذا لم نعرفها لم نعرف الإسلام، بل لو انحرفنا عنها قليلاً نكون قد انحرفنا عن حقائق الإسلام؛ ذلك أنّ الإمام مرآة الإسلام، والمرشد إلى تعاليمه ورسالته.
الإمامة أس التعاليم الإسلامية وعقائد هذا الدين المتجذرة التي أبلغها الرسول| في بداية بعثته، ودعا إليها، ما يعني أنّ هناك علاقة وثيقة بين معرفة حقيقة الإمامة ومعرفة حقيقة نهضة الإمام الحسين×.
وهناك ملاحظة أخرى وهي أنّ الإدلاء بهذا الكلام قد يمثّل أحياناً خطأ آخر. فلو اعترض على من طرح مثل هذا الطرح وألقى حجر الفرقة وقيل له: لِمَ عملت ذلك؟ إنّ مثل هذه الدراسات تساعد الأجانب على أهدافهم الفتنوية، بل إنّك لن تداوي أي داء ولن تجعل من مدرسة الإمام الحسين× مدرسة أكثر اقتداء وارتقاءً وعقلانية.
ولكن للأسف؛ إذ كثير من هؤلاء الأشخاص المعدودين أو أغلبهم ممن تتحرق قلوبهم لمثل هذا الأمر؛ لم يعترضوا عليه رغم أنّهم يتابعون هذا التوجه لم يبادروا إلى محاججته ومنعه من القيام بذلك، بل إنّهم يعترضون على من ردّ عليه!
لا يمكننا القول إلّا أنّ هذا الاعتراض ما هو إلّا استجداء سلبي مختلق يرجع بالنفع على من يريد الإخلال ببنيتنا الاجتماعية المحكمة.
لا، علينا الردّ على الجميع، وأن نجيب الكلّ، وأن نحمي كافة حدودنا. فإذا دافعنا بإحكام عن حد من حدودنا وحميناه؛ لا يجب القول: لماذا أحكمتم الدفاع عن هذا الحد مع أنّ غيره أيضاً يتعرض لحملات العدو؟ يتعيّن عليكم أنتم أو أي شخص آخر متخصص الحفاظ على ذلك الحد. وإلّا فنحن رأينا أنّ أي شخص أراد أن يدافع عن أي حد من هذه الحدود وحال دون وقوع ثلمة في هذا السدّ المحكم؛ تصدى له أولئك الذين يهدفون إلى الهجوم على ذاك الحد في ثوب الحريص المنافق والجاهل؛ لأنّ العدو يريد أن تبقى جميع الحدود مفتوحة وبدون مواجهة، ويود انسحاب حماتها بحجة الخوف من الاتّهام والاعتراض و...
إنّ هذه النزعة السلبية كانت سلاحاً في يد من ينزعون إلى التفرقة واختلاق المذاهب على مدى قرون متوالية، ويقوون بذلك بناءهم الفكري الخائن ويدعمونه.
فبقولهم: لمَ لا تحاربون بدعة أخرى؟ أو لماذا الآن تقولون هذا ولم تقولوه أمس؟ لماذا تصديتم لذلك هذه السنة ولم تتصدوا له السنة الماضية؟ يلقون حجر عثرة بين أرجل كل شخص يريد مكافحة أي منكر أو أي فساد وبدعة؛ حتّى تتعاظم شوكتهم. كما آثر البعض الآخر إيجاد اليأس في نفسيات الناس وعدّ هذه المساعي غير مثمرة من خلال قولهم: لا جدوى من طرح هذه الأمور، ولن نصل إلى نتيجة في هذا الوقت، حتّى يتنصّلون بذلك من مسؤولية المشاركة في خدمة الدين الإسلامي والدفاع عن حرمته. إنّ هؤلاء الأشخاص هم أكثر الناس تنحياً عن المسؤولية الجهادية، ويعرفون جيداً أنّه لا داعي لطرح مثل هذا الكلام حتّى لا يتورطوا فيه ويتعيّن عليهم المشاركة في الكفاح.
إنّنا لا نرغب أن نكون ـ إن شاء الله ـ من أصحاب هذه النزعة السلبية، وسنساهم بتوفيق من الله تعالى في إنارة الأفكار، ولفت انتباه المسلمين إلى التزاماتهم الدينية. كما نطلب من جميع من في هذا العالم من مجتمعات وجماعات مختلفة تسعى إلى تحقيق السعادة والعزّة والكرامة؛ بأن يتآزروا ويقفوا وقفة جهادية لدعم الإسلام الذي يهدف إلى سعادة وعزّة الجميع.
الملاحظة الثالثة وهي: أنّ قضية سيّد الشهداء× على الخصوص تحظى بعلاقة عاطفية متوهجة لدى الجميع، ونهضة الإمام هي محط اهتمام عموم الشيعة على مدار السنة، ولا يجدر بأي شخص أن يصمت ويقف موقف اللامبالي من هذا الكتاب.
رابع ملاحظة وهي أنّ ما يستدعي ضرورة نقد هذا الكتاب أكثر من كتب أخرى؛ هو أنّ هذا الكتاب من الممكن أن يكون في المستقبل مصدراً يعتمد عليه بعض منّا كحجة علينا؛ ولذلك فإنّ أي انتقاد يرد عليه سيكون صحيحاً وفي محلّه؛ حتّى لا يساء الاستفادة منه مستقبلاً.
بعد طرح هذه التوضيحات؛ نعرض بين أيديكم أيضاً الآتي:
إنّنا لا نهدف من خلال هذا الكتاب إلّا بيان الحق، والدفاع عن نهضة سيّد الشهداء×. ولا نرغب أبداً في استفزاز مشاعر الآخرين، ولا تأنيب أو تحقير مؤلف كتاب الشهيد الخالد المحترم؛ لذا أنا أعتذر مسبقاً إذا حدث أو فلت عنان قلمي بين ثنايا بعض المباحث، وخرج عن حدود البحث العلمي الذي أحسبني قد تقيدت به. وألتمس من القراء المحترمين عدم نسيان عذري هذا أثناء مطالعتهم لهذا الكتاب. إنّي أرجّح أن يعد كتابي هذا على أنّه عبارة عن توضيحات حول مباحث كتاب الشهيد الخالد.
إنّني آمل من المؤلف المحترم أن يُطالع توضيحاتي حول مطالب كتاب الشهيد الخالد بإنصاف؛ راجياً أن ترتفع الهوة بين فكري وفكره حتّى نتقارب شيئاً فشيئاً ونكون جميعنا ـ إن شاء الله تعالى ـ صفاً واحداً لدفع الهجمات الخارجية الموجّهة للتشيع والعالم الإسلامي.
إن أریدُ إِلّا الإصلاح مَا استَطَعْتُ وَما تَوفِیقي إلّا بِاللهِ عَلَیهِ تَوَکلْتُ وإلَیهِ أنیبُ.
إنّ عبارات ولسان وبيان أمثالنا وإن لامس ذروة الفصاحة والبلاغة إلّا أنّه سيبقى عاجزاً في دلالته أمام النهضة المقدّسة لسيّد الشهداء×، وقاصراً عن بيان نهضته الخالدة السرمدية؛ إذ لا شك أنّها من الحوادث الفريدة من نوعها التي لم تُكشف أسرارها وأهميتها ولم تخمد أشعة تجلياتها حتّى بعد مرور ثلاثة عشر قرناً؛ فأنوارها كانت ولا زالت تتلألأ وتهدي البشرية إلى سبل الحرية، وعزّة النفس، والفداء والجهاد في سبيل الله والعقيدة ومواجهة الباطل والشرك وعبادة الأوثان البشرية.
إنّ الظفر بالمفاهيم العظيمة التي تتطلّع إليها الإنسانية للوصول إلى مقاصدها وأهدافها الرفيعة في إيجاد مجتمع راق هو حكر على هذه النهضة المباركة، ولا يمكن وجدانها في ثورات أخرى.
إنّ أساس هذه النهضة يكمن في أنّ الإسلام حينما وقع في قبضة الشرك والكفر وكبّل أطرافه الاستبداد الأموي الذي ظهر في أقبح وأبشع صورة له، الأمر الذي أوجع المسلمين في كل مكان، كما هالهم الاستهتار بأحكام الله وانتهاك السنن الدينية، انتهاءً إلى أعظم فجيعة أصابت قلب الإسلام والنظام الإسلامي ألا وهي «حكومة يزيد». فخرج أعظم قائد ومعلّم رباني بصحبة سبعين شخصاً من أهل بيته وخواص أصحابه وتلامذته الذين تربوا في مدرسة لم تعرف الدنيا لها مثيلاً، وبذلوا أرواحهم وأموالهم بتفانٍ ومحبة في سبيل الله، وكانوا حائلاً قوياً في وجه النوايا التدميرية والخبيثة لبني أمية، وأعطوا للمؤمنين الأحرار دروساً تطيش لها العقول والألباب، وتجعل أهل البصيرة والفكر في وله وحيرة. دروس لم تكن صرف ألفاظ وعبارات وخطب وعويل وادّعاءات؛ إنّما هي دروس من تضحياتهم البطولية، وتفانيهم الخالص، وقرارهم الحاسم، وعزمهم الراسخ. فكانت مثل شعلة اللهب بل بصيص النور المنبعث من أعماق البحار والمعاناة التي لا أمد لها والأمواج التي تضج بالامتحانات وتزل عندها أقدام الرجال.
أسماء قد سجلت بقلم من نور في أفق ما وراء عالم الدنيا الدنيّة ولذائذها الجسمانية. وبيّنت أنّ الجهاد والكفاح في سبيل الله وحفظ الشرف والكرامة والعقيدة أعز وأشرف من تلك الحياة المادية، إذ الإنسان أعلى وأشرف من أن يكون أسيراً وعبداً للذّاته الفانية.
إنّ هذا العالم، وما فيه من نعم ونعيم، وما تباع به النفس من ذهب وحليّ ويفقد به الدين والإيمان؛ فضلاً عن الكرامة والعزة وشرف العائلة والحسب والنسب والسيرة المشرقة الفريدة من نوعها والأموال والأولاد الكبار والصغار، والزوجات والبنات والإخوة والأخوات وكل ما تتعلق به النفس الإنسانية من متاع الحياة الدنيا؛ جميع ذلك كان رهن اختيار الإمام الحسين×، ولا منازع في أنّه لم يكن للإمام الحسين× ند ولا نظير، ولم يكن لأحد مثل مفاخره في العالم بأسره. إلّا أنّ الإمام افتدى كل ذلك ببقاء الدين، وأخذه معه إلى مذبح كربلاء، متجاهلاً إياه في سبيل مقصده المقدّس.
إنّ هذا القيام والفداء قد تضمّن عبراً ودروساً في جميع مفاصله؛ فكما قال العلّامة الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء: «يخضع له الحكماء وتخر في محراب عظمته العقول خضوعاً وخنوعاً وأدباً».
کالبَدرِ مِنْ حَيثُ التَفَت وَجَدْتَهُ |
أمّا المؤلف المصري الفاضل «توفيق أبو علم» فبعد ثنائه وإشادته بإباء نفس الإمام وعظم روحه وقوله: إنّ العالم لا زال عاجزاً عن جعل مثيل وند له؛ بدأ يصف انتفاضة الإمام كالآتي: «أقْدَمَ الإمامُ الْحُسَينُ عَلَی المَوتِ مُقدِمَاً لِنَفْسِه وأولادِه، وأطْفالِهِ، واَهْلِ بَيتِه لِلقَتْلِ قُرْباناً ووَفاءً لِدِينَ جَدّهِ صَلَّی اللهِ عَلَيهِ وسَلَّم بِکلِّ سَخاء وطِيبَةِ نَفْس، وَعَدَمِ تَرَدُد وتَوَقف قائِلاً بِلِسانِ حالِهِ:
إنْ کانَ دِينُ مُحَمّد لَمْ يستَقِم |
وبعد وصفه لشجاعة الإمام يسترسل في وصفه قائلاً: «وهُوَ الَذِی صَبَرَ عَلی طَعْنِ الرّماحِ، وضَرْبِ السُّيوفِ، ورَمْی السّهامِ حتّی صارَتِ السّهامُ فِی دِرْعِه کالشّوَك فِی جِلْدِ القُنْفُذِ، وحتّی وُجِدَ فِی ثِيابِهِ مِئةُ وعِشرُونَ رَمْيةً بِسَهْم، وفِی جَسَدِهِ ثَلاثُ وثَلاثُونَ طَعْنَةً بِرُمْح، وأربَعُ وثَلاثُونَ ضَرْبَةً بِسَيف»[15].
وفي ختام مدحه وثنائه، أشاد بالدور الذي لعبه أهل بيت الإمام في هذه الانتفاضة قائلاً: «فِلله درُّهُمْ مِن عُصْبَة رَفَعُوا مَنارَ الفَخْر، ولَبِسُوا ثِيابَ العِزّ غَير مُشارِکينَ فِيها، وتَجَلْبَبُوا جِلْبابَ الوَفاء، وضَخَّمُوا أعْوامَ الدَّهْرِ بِعاطر ثَنائِهِم، ونَشَرُوا رَاَیة المَجْدِ والشَرَفِ تَخْفِقُ فَوقَ رُؤوسِهِمْ، وحَلّوُا جِیدَ الزَمانِ بِأفعالِهِم الجَمِیلَةِ، واَمَسی ذِکرُهُمْ حیاً مَدَی الأحْقابِ والَدهُورِ مالِئاً المَشارِقَ والمَغارِبَ، ونَقَشوُا عِلی صَفَحاتِ الأیامِ سُطُورَ مَدْح ولا تُمْحی، وإنْ طالَ العَهْدُ، وعادَ سَنا أنوارِهِم یمْحُو دُجَی الظُّلُماتِ ویعلُوا نَوَر الّشَمسِ والکواکب»[16] .
وفي وصفه وثنائه على أصحاب الإمام يقول: «وَأمّا أصْحابُهُ فَکانُوا خَیرَ أصْحاب فارَقُوا الأهلَ والأحْبابَ، وجاهَدُوا دُونَهُ جِهادَ الأبطالِ، وتَقَدَّمُوا مُسْرِعینَ إلی مَیدانِ القِتالِ قائِلینَ لَهُ: أنْفُسنا لَك الفِداء نقیك بِأیدینا ووُجُوهِنا. یضاحِك بَعْضُهُمُ بَعْضاً قِلَّة مُبالاته بِالمَوتِ، وسُرُوراً بِما یصیرُونَ إلَیهِ مِنَ النِّعَمِ، إلی أن قال: وأبدُوا یومَ عاشُوراء مِنَ الشَجاعَةِ والبَسالَةِ ما لَم یرَمِثَلُهُ».
هذا نزر مختصر عن نهضة الإمام الحسين× وأهل بيته وأصحابه، ومضامينها الراقية من منظور أستاذ وعالم معاصر من أهل السنّة[17] . أمّا ما جادت به أقلام المؤلفين العظماء وقرائح الأدباء والشعراء والخطباء حول هذه النهضة المباركة من شعر ونثر ونظم فلا يمكن جمعه أو إحصاؤه.
2ـ تحقيق حول أسباب وأهداف نهضة الإمام×
قبل البدء في الكلام عن أسباب وأهداف نهضة الإمام يجدر بنا الإشارة إلى بعض النقاط:
1 ـ إنّ معرفة الهدف من نهضة الإمام منوط بالإحاطة والالتفات إلى أبعاد وحقائق مسائل كثيرة لها دخل في الفهم الصحيح للموضوع، إذ يجب أن يكون المقول مسانخاً لشؤون الإمامة وشاملاً لبيان وتفسير وتعليل جميع أبعاد وحيثيات هذه الواقعة الفريدة من نوعها حتّى نكون قادرين من خلال الاعتماد عليها من تفسير الأحداث الصغيرة والكبيرة وتوجيهها منطقياً، ومن ثمّ مشاهدتها جميعاً في أفقها المتعالي الذي لا نظير له ووضعها أمام بصيرة الآخرين.
من البديهي أنّه لا يمكن اعتبار هذه الحادثة صرف حدث تاريخي يُتعامل معها بشكل اعتيادي، إذ لو غضضنا الطرف عن الأبعاد المهمة لهذه النهضة الحسينية وبحثنا عن الأهداف والعلل بمعزل عنها، فإنّ البحث سيكون عقيماً غير تام وغير صحيح.
2 ـ إنّ تشخيص هدف النبي والإمام، والوقوف على مصلحة وعلة إقداماتهم العملية ليس بواجب على الآخرين؛ وعليه لا ضرر إذا لم تكتشف حقيقة المصلحة وفلسفة مسألة (النهضة)؛ لأنّه باعتبار الأدلة العقلية والنقلية لا يخرج النبي والإمام قيد أنملة عن تكليفه الإلهي ووظيفته الشرعية، ولا يستطيع أحد من الشيعة أو أهل السنّة أن يشكك في شرعية نهضة الحسين× أو علمه وعصمته.
أمّا على الصعيد الإسلامي فإنّ سيّد الشهداء× باعتباره أحد أصحاب الكساء وأهل المباهلة تكون عصمته وعلمه ثابتين بموجب حديث الثقلين المتواتر وحديث السفينة وغيرهما؛ وعليه يكون بسط البحث في ذلك لا طائل منه. وأمّا جملة «فَلا تُعِلَّمُوهُمْ فَإنَّهُم أعْلم مِنْکم» فهي جواب إلى الذين يريدون خوض غمار البحث في هذا الموضوع أو على من لديهم اعتراض على ذلك.
كما أنّه فضلاً عمّا تواتر عند أهل السنّة والشيعة من روايات صحيحة عن الرسول الأكرم| تؤيّد وتقرّ هذا القيام الحسيني، فإنّ الله تعالى قد أثنى في ما أوحاه إلى نبيه على هذه النهضة المباركة. فلو كان في هذا الخروج شبهة ولم تكن هذه النهضة والشهادة مطلوبة لله ورسوله ولا تليق بالحسين× لما قام بها الإمام.
لقد دعا الرسول| عزيزه الحسين× لهذا الأمر، وأشار إلى ذلك في جلّ تلك الأخبار التي أدان فيها قتلة الحسين×؛ لكنه لم يشر أبداً بكلمة واحدة تشكك في مشروعية النهضة الحسينية، وعلى العكس تماماً إذ كانت جميع كلماته المباركة تمجيداً للحسين× وتكريماً له ولنهضته المباركة واعداً إيّاه بالدرجات العليا[18]. بينما وجّهت كلمات الشكوى والإدانة للأمّة التي خذلته وتخلّفت عن نصرته. فلو فرضنا تعلّق تلك الأخبار الواردة عن رسول الله وأمير المؤمنين÷ بغير الإمام الحسين× لدلّت بالقطع على فضل وعلو مقام ذلك الشخص.
3 ـ طبقاً للأخبار المعتبرة فإنّ معالم المسار الهادوي والإصلاحي لأيّ إمام طوال مدّة إمامته قد عيّن مسبقاً وأوكل إليهم من قبل النبي|، فكل واحد منهم يعمل وفقاً لما كلّف وتعهد بأدائه من وظائف خاصّة[19]؛ والحكم نفسه يجري على غيبة صاحب الزمان أرواحنا فداه باعتبار وظيفته.
إنّ كون هؤلاء العظماء حجج الله وبيناته وصنائعه يعني أنّ تكليفهم لا يقاس بتكليف الناس العاديين؛ بل لا يقاس بهم أحد مطلقاً. وهذا نزر من فضائلهم كما ورد على لسان أمير المؤمنين× بنحو المثال:
1. فَإنّا صَنائِع رَبِنّا والنّاسُ بَعْدُ صَنائِعُ لَنا[20].
2. لا یقاسُ بآلِ مُحَمَّد’ مِنْ هذِهِ الأمَّة أحَدٌ، ولا یسَوَّی بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نَعْمَتُهُمْ عَلَیهِ أبَداً. هُمْ أسَاسُ الدّینِ وعِمادُ الْیقینِ إلَیهِمْ یفییءُ الْغَالِی وبِهِمْ یلْحَقُ التَّالِی، ولَهُمْ خَصائِصُ حَقّ الوِلایةِ، وفیهِمُ الْوَصیةُ والْوِرَاثَةُ[21].
3. فیهِمِ کرائِمُ الْقُرآنِ وهُمْ کنوزُ الرَّحْمنِ، إنْ نَطَقُوا صَدَقُوا، وإنْ صَمَتُوا لَمْ یسْبَقُوا[22].
4. إنّ التعبد بالشهادة والقتل من الأمور السائدة بصور مختلفة في الشرائع والأديان، وصحة التكليف والتعبّد بها لا هو خلاف العقل ولا خلاف النقل؛ على الخصوص فيما يتعلق بالأنبياء والأولياء(عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [23]فصدقها عليهم كصدقها على الملائكة؛ إذ هم مجاري فيض مشيته وسننه وامتحاناته.
لقد أمر إبراهيم الخليل (علی نبينا وآله وعليه السلام) بذبح ولده العزيز؛ فما كان منه إلّا أن سلّم بمعية فلذة كبده إلى أمر الله، وامتثلا بتعبد وكمال إخلاص، طائعين لله. وما أورده مؤلف كتاب (الشهيد الخالد) من اعتراضات لا ترد على هذا التعبد بالشهادة والقتل، فإن قلنا بورودها كان يتعيّن على سيدنا إسماعيل× أن يقول: هذا الأمر ليس حقيقياً، فأمر قتلي لا تترتب عليه أيّ فائدة؛ لأنّني نبي الله أو سأكون نبياً لله في المستقبل تُوكل إليه هداية الناس ووظائف جليلة أخرى؛ فلماذا تضعف معنويات المؤمنين وتحرمهم من شخص عظيم مثلي؟ لمَ أُذبح؟ هل في بقائي على قيد الحياة ضرر على دين الله ومقاصده المشروعة؟ أم وجودي مانع من الاصلاحات؟
وقس على هذا تلك الاعتراضات والتصريحات غير الناضجة المذكورة في كتاب (الشهيد الخالد) ولم يُسلّم، ويؤوّل منام والده وما أمر به، أو أنكر مصداقية تلك الرؤيا؛ ولكنه بدل هذه الكلمات غير المتأدبة و... يقول لوالده: (أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [24].
ومن القصص الشاهدة على هذا المدّعى قصة أصحاب الأخدود الذين سعوا للموت بقلوب وجلة ومحبة للقاء الله. أصحاب الأخدود هم مؤمنون قد خيروا بين العودة للكفر أو الإحراق بالنار، فاختاروا بإخلاص الإحراق بالنار على الرجوع إلى الكفر؛ فأجَلّهم الله وأيّد عملهم بذكرهم في القرآن الكريم. وفي عصر الإسلام اختار والدا عمار بن یاسر الشهادة على العود إلى الكفر ولم يتّقيا في ذلك حتّى قتلا [25] كما استشهد عاصم بن ثابت وستة من أصحابه بسبب امتناعهم عن الدخول في ذمة الكفار[26]؛ فلم يرد ولم يخطّئ النبي| عملهم بل أيّده[27].
كان لعمرو بن الجموح الأنصاري أربعة أبناء كالأسود قد شهدوا غزوات النبي’ وجاهدوا تحت لوائه؛ وعلى الرغم من كونه أعرجاً كان يتمنّى الشهادة. فأراد أولاده منعه من الجهاد في غزوة أحد قائلين له: لقد جعلك الله معذوراً عن الجهاد، فجاء إلى رسول الله وقال له: إنّ أولادي يريدون منعي من الخروج معك، وإنّي والله لأريد أن أرد الجنة بساقي العرجاء هذه، فقال رسول الله’: أنت معذور ولا يجب عليك الجهاد، وقال لأولاده: «ما عَلَیکمْ أنْ تَمْنَعُوهُ لَعَلَّ الله أنْ یرْزُقَهُ الشَّهادة». حمل عمرو سلاحه وقال: «اَلّلهُمَّ ارْزُقْنِی الشَّهادَةَ ولاتَرُدَّنِی إلی أهْلِی خائِباً»[28].
لو لم تكن الشهادة في حد نفسها مطلوبة ومحبوبة للرسول’؛ فإنّه ما كان ليقول ذلك. إلّا أنّ الظاهر بحسب رأي مؤلف (الشهيد الخالد) أن يقول له النبی|: «ما الفائدة من هكذا شهادة، ادع أن ترجع سالماً من هذه الغزوة كي تشارك في غزوة أخرى ويستفيد الإسلام من وجودك المبارك، ماذا سيستفيد الإسلام من قتلك الآن؟! وعليه يكون مفاد دعائك الذي دعوت به هو: أنّك دعوت الله حتّى يسلّط عليك الكفار فيقتلوك، فيا ترى ما معنى الشوق إلى الشهادة إذن؟» لو كان مصنف (الشهيد الخالد) معاصراً لتلك الحادثة لأورد مثل هذا الإشكال، ولم يتمن هو نفسه أبداً الشهادة[29].
إذن لقد صار معلوماً في الجملة أنّه في مواضع التعبّد بالقتل يتعيّن الامتثال حتّى مع الجهل بالمصلحة من طرف المكلّف، بل في بعض الأحيان يتعيّن ذلك بلحاظ حفظ المصلحة المهمة أو دفع المفسدة الكبيرة؛ وعليه فإنّ القطع بمرجحية ومطلوبية الشهادة ثابت، كما أنّ تعبّد النبي أو الإمام بها أكثر منطقية إذ يتعيّن أن يكونوا أكثر اشتياقاً وتمنياً للشهادة من غيرهم، وهذا هو معنى قول عقيلة قريش‘: «هَؤلاءِ قَومُ کتَبَ اللهُ عَلَیهِمُ القَتَلَ فَبَرَزُوا إلی مَضَاجِعِهِم».
5. إنّ ما ارتكبه يزيد وجهازه الحكومي من مفاسد ومظالم وجور لا يمكن ربطه بنتيجة الحركة والنهضة حتّى يقال: منذ قَتل الإمام والتجرّؤ على حرمته الشريفة لم يجن الإسلام إلّا الخسارة والضرر؛ ولذا لم يكن خروج الإمام إلى كربلاء للشهادة؛ أو أنّه لم يكن مطّلعاً على شهادته؛ وعليه فإنّ لقتل الإمام وشهادته حساباته ولمظالم بني أمية حسابات أخر.
فما المانع في أن يكون الإمام مكلّفاً بالثورة والامتناع عن البيعة والذهاب إلى كربلاء، على الرغم من أنّه كان من الممكن أن يدفع عنه القتل من خلال البيعة والتسليم؛ لكنه كان مكلفاً بإجراء هذا التكليف وآثر الشهادة التي كان يتوقّعها؛ وعليه تكون نهضته طاعة لأمر الله تعالى، ويكون عمل يزيد وجهازه عصياناً لله؟
ونحن مهما أمعنّا الفكر في هذه المقاربة فإنّنا لا نرى ارتباطاً ما بين هاتين الحالتين. فالإمام كان مكلّفاً بترك بيعة يزيد وتقبّل المخاطر المحدقة به وبأصحابه، والتسليم المطلق لما تؤول إليه الأحداث، وأن لا يدفع عن نفسه تلك المخاطر من خلال البيعة أو الفرار من الجهاد؛ بل بقبول الشهادة، وهذا التكليف أمر عقلائي لا يأباه العقل؛ إذ نظائره كثيرة حتّى فيما يتعلق بالأحكام العرفية للموالي والعبيد. كما أنّ يزيد وعمّاله بدورهم مکلّفون أيضاً بطاعة الإمام، وأن لا يقتلوه ولا يرتكبوا أي ذنب أو عمل شنيع آخر.
إذن لا إشكال في البين؛ فوجود الإمام هو مصدر للخير والبركة وسيكون في المستقبل منشأ للإصلاح والفلاح؛ فلماذا يجب أن يقتل ويذهب إلى حتفه بقدميه؟! كون هذا الإشكال موجّه لقتلة الإمام الذين أدخلوا المجتمع في هذا المأزق وحرموا المجتمع من هذا الوجود المبارك، إذ ما كان ينبغي بهم قتل الإمام بل كان عليهم التعاون معه من أجل بسط يده ونفوذ كلمته، وفي المقابل يتعيّن على الإمام أيضاً أن لا يدفع عنه القتل بالبيعة والتسليم.
وعليه، تبعاً للسياق نفسه نقول بأنّه لا يَرِد اعتراضٌ لماذا لم يرجع یاسر والد عمار أو الشيعة الذين قُتلوا بيد معاوية وزياد والحجاج إلى الكفر، وبالتالي الاستفادة من وجودهم لمستقبل الدين الإسلامي، حيث لم يعترض أحد على عاصم بن ثابت ورفقائه أيضاً، ولم يقل لهم النبي’: لمَ لم تقبلوا الأمان حتّى تحرروا أنفسكم ويتسنى لكم الجهاد في ركاب رسول الله’؛ فبطريق أولى أن لا يكون لأحد حق الاعتراض على الإمام؛ لأنّه كان مكلفاً ومأموراً بالنهضة والقتل في سبيل الله، وما ناله من درجة من خلال هذه الشهادة لا يمكن أن يحصل عليه بأيّ وسيلة أخرى.
6. بلحاظ آخر، لو كنّا لا نعلم أنّ نهضة الإمام تعبّد محض، فإنّه يجدر بنا توجيه ذلك بالقول: إنّ المصلحة المترتبة على عدم تسليم الإمام تقتضي أن تكون شهادته أولى من بقائه على قيد الحياة والتسليم لبيعة يزيد. فمفسدة البيعة والولاء ليزيد، وإفضاء المشروعية على حكومته هي زيادة في الفساد والإفساد ناهيك عن مفسدة حرمان المجتمع من بركات وجود الإمام أثناء المبايعة[30].
من هنا لا يمكنك القول: إنّ قتل الإمام كما يترتب عليه ـ باعتبار مصلحة وجوده ـ ضرر على الناس؛ فإنّه في الوقت نفسه سبب للمفسدة المترتبة على عدم وجوده، ولماذا خرج الإمام من المدينة إلى مكّة قاصداً الشهادة والقتل؟
لأنّنا سنقول: يتعيّن علينا أن نلاحظ تلك المفاسد المشخصّة من قبل الإمام والمترتبة على التسليم لحکومة يزيد ومبايعته من جهة، ومصلحة تواجد الإمام مع تسليمه وتمكينه لحكومة يزيد واعترافه الرسمي بحكومته التي عزمت على إفناء الإسلام من جهة أخرى. حيث يبدو جلياً في هذه الحال أنّ مفاسد مبايعة يزيد والتسليم له أكثر بمراتب من المصالح المترتبة على عدم مبايعته، كما أنّ المصلحة في الشهادة أكثر بمراتب من مصلحة الحياة مع يزيد؛ إذ ليس هناك أفضل من الإمام يمكنه إدراك هذا الأمر وتشخيصه.
إنّ الحياة مع البيعة ليزيد ستزيل أرضية كل نهضة إصلاحيّة من طرف أهل البيت^، وقطعها لآمال المجتمع من وقوف أهل البيت^ وحمايتهم للحق ودفاعهم عن الإسلام؛ وهذا ما جعل الإمام يختار الشهادة ولذا قوله: «لا أرَی المَوتَ اِلّا سَعادَةً، ولاَ الحَیاةَ مَعَ الظّالِمِینَ إلّا بَرَماً» صار لسان حاله ومقاله.
باختصار، لو كان للنبي أو الإمام مخرج من هذه المواقف لعملا به بما تقتضيه وظيفة الرسالة أو الإمامة، أو يقترح عليهم من قبل الكفار اقتراحاً والذي يفترض لهم عدم قبوله؛ فالتقية لا تجوز في ذلك، بل إنّ تركها مطلوب وأرجح وأفضل، وهذا أيضاً ما دعا الإمام لعدم قبول اقتراحات القوم مما جعل حياته في معرض الخطر، وكان ثابتاً على موقفه، ولم يستسلم حتّى استشهد، فنال النبي أو الإمام بمواقفهم هذه أعلى مراتب السعادة والشهادة، وأُصدر حكم الشقاوة الأبدية على أعداء الحق. وبالأخص حينما يكون الصمود ورفض الاستسلام للعدو سبباً في هداية وإحياء الآخرين، وملاكاً لتشخيص الحق من الباطل، وموجباً لإحياء الدين[31]. إذ من المتيقن أنّ هذا القتل والشهادة في سبيل إحياء الدين وأهدافه الإصلاحية وإعلاء مقاصد الأنبياء ورسالة الإسلام أكبر وأشرف أثراً من الحياة والقبول بتلك الاقتراحات المشينة غير المشروعة وبيعة فرد فاسق ومتجاهر بالسوء كيزيد.
أتظن أنّنا حين نقول: إنّ القتل كان مطلوباً للإمام، مقصودنا نفس القتل بقطع النظر عن الآثار والفوائد المترتبة عليه، وأنّ العمل الصادر عن شمر وسنان وخولى كان مراداً للإمام؟! فهذه مغالطة ولا يصح قولك: إنّهم بقتلهم الإمام قد قاموا بتنفيذ طلب نفس الإمام، ولو لم يقتلوه لترجّاهم وتوسّل إليهم أن يقتلوه، لا يا عزيزي، إنّ المنطق الذي تتكلّم به لعجيب حقاً!
حينما نقول: إنّ الشهادة كانت محبوبة للإمام وكان مشتاقاً إليها؛ فإنّنا نعني بذلك أنّه حينما يدور الأمر بين بيعة يزيد وقبول حكومته وبين الشهادة لا شك أنّ الشهادة هي المحبوبة «لا أرَی الْمَوتَ إلّا سَعِادَةً، ولا الحَیاةَ مَعَ الظَّالِمینَ إلّا بَرَماً».
7 . لا يجدر بنا التعامل مع موضوع النهضة الحسينية التي هي من الموضوعات الفريدة من نوعها وإبداء الرأي فيها بنفس المقياس الذي نتعامل به مع باقي الموضوعات، والصحوات السياسية أو الدينية الأخرى؛ لأنّها تختلف في جوهرها مع تلك النهضات السياسية كافة؛ كون هذه الأخيرة قد قامت من أجل طلب الحكم واستغلال واستعباد الناس؛ فضلاً عن اختلافها مع الثورات الدينية، فهي وإن اتّحدت معها في الجوهر والماهية إلّا أنّها تمتاز عنها بفوارق كثيرة، تلك الفوارق نفسها التي جعلتها أكثر نفوذاً وحماسة من غيرها.
وعليه، لا نستطيع الإدلاء برأينا حول هذه الواقعة العظيمة دون لحاظ خصوصياتها، فنفسرها ونصفها كأيّ ثورة عادية؛ لأنّنا إذا عددناها كذلك وجب علينا قبول القول بأنّ جميع تفاصيلها عادية؛ والحال أنّه بالقطع واليقين لا يمكن تفسير القسم المهم من مجريات هذه الثورة المقدّسة بصورة عادية.
في أيّ انتفاضة قد عهد ـ وبعد العلم بمصير المنتفض والتسليم لذلك ـ أن يؤذن لفتيان صغار كالقاسم بن الحسن÷ في الجهاد دون أيّ إلزام واجبار ظاهري، ولا أيّ احتمال للتأثير في موازين المعركة والنصر، ويرسل وسط أمواج من السيوف والسهام والرماح؟!
في أيّ ثورة عهد أن يبتسم مثل هؤلاء الصغار للموت ويسارعون إلى الجهاد واستقبال الموت بشوق؟!
و في أيّ ثورة عهد أن يقف ثلاثة وسبعون فرداً قد أنهكهم العطش ببسالة ورجولة واستقامة في وجه صحراء من الأعداء المتعطشين للدماء؟!
في أيّ ثورة عهد أنّ أتباع وأصحاب قائد الثورة يكونون على أهبة الاستعداد بأن يحلقوا كالفراش ويلتقطوا شموع وجودهم ليحرقوها جهاداً إلى آخرهم ويذوقوا حر السيوف والرماح مع علمهم بأنّ هدف العدو هو قتل قائدهم فقط؛ فإن تمكّن منه لم يكن له شأن بالبقية، بل مع علمهم أيضاً بأنّه لا جدوى ترجى من دفاعهم عن حياة قائدهم العزيز سوى إزهاق نفوسهم دونه؟!
في أيّ ثورة عهد أنّ الزوجة الرحيمة تُشوّق زوجها العزيز إلى التضحية والشهادة وتقول له: فِداك أبِی وأمّی قاتِلْ دُونَ الطَّیبینَ ذُرّیةِ مُحَمَّد’؟!
لدى أصحاب أيّ قائد ديني قد تجلّى كل هذا الإخلاص والوفاء والتضحية؟!
في أيّ ثورة قد عهد أنّ قائد تلك الثورة كان على يقين وعلم بأمر قتله وشهادته وصعوبة المخاطر المحدقة به، ومع ذلك يصحب زوجته وأطفاله وعياله إلى ميدان المعركة؟!
فالحاصل أنّ فوارق هذه النهضة وجهات تمايزها كثيرة جدّاً بالقياس إلى غيرها؛ إذ تحكي كل ميزة على حدة عن أنّ هذه النهضة ذات صبغة إلهية وأنّ لها سراً ورمزاً ملكوتياً استحق أن يفتديه الإمام بنفسه.
بعد بيان بعض هذه النقاط التي قد تكون مفيدة في وضوح المطالب القادمة ـ ومع الأخذ بعين الاعتبار ما تسمح به هذه الفرصة ومدى استعداد ودرك أفهامنا الناقصة لذلك ـ سنبحث الآن وباختصار بعض العلل والأهداف الموجبة لشهادة الإمام:
أوّلاً: إنّ المستفاد من الأخبار الصحيحة والمتواترة أنّ الإمام كان متعبّداً بالثورة والشهادة، فشهادته كانت مطلوبة ومحبوبة لله تعالى. وكما ذكرنا فإنّ التعبّد بالشهادة لم یکن أمراً غیر مسبوق، وليس هناك مانع من أن يتعبّد الإمام بالشهادة ويؤمر بها، مع أنّ قیامه سينتهی بشهادته وقتله. فذهابه إلى العراق هو طريق لا عودة فيه، كما أنّ عليه المشي قدماً إلى حيث القتل وأسر الأهل والعيال، والامتناع بكل ما أوتي من قوّة عن بيعة يزيد.
وبعبارة أخرى: إنّ الإمام كان مأموراً بالقيام على يزيد وإعلان بطلان حكمه وحكومته، وأن يعلن ويظهر امتناعه عن هذه البيعة المشؤومة؛ وعليه يكون الأمر بالشهادة والقتل في حقيقته هو أمر بالاستقامة والثبات في قبال البيعة والاستسلام التي هي بمثابة كبش الفداء لا وسيلة لدرء خطر القتل. وكما نرى فلم يكن أمراً بقتل النفس ـ وإن كان التعبّد بذلك جائزاً أيضاً ـ إنّما كان أمراً بالقيام بتكليف تقتضي أوضاعه المحيطة أن تكون خاتمته الشهادة، فيكون التعبّد به باعتبار المصالح والآثار المترتبة عليه لا إشكال فيه عقلاً وشرعاً. وبنفس الملاك يكون التعبّد بأسر الأهل والعيال وعلى أساس نفس الحِكَم والمصالح الملحوظة في الشهادة.
لقد امتحن الإمام الحسين× بهذا الامتحان العظيم، وقد أدّاه على أحسن وجه ممكن، متعبّداً لله بهذا التكليف ومسلّماً لأمره، فكان تالياً لهذه الآية في يوم عاشوراء والتي تبيّن العهد الذي قطعه مع الله وينتظر الوفاء به (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [32].
ثانياً: لم يكن هدف سيّد الشهداء× من نهضته إلّا أداء التكليف وإطاعة أمر الله تعالى؛ لأنّه يتعّين على كل مؤمن السعي إلى حفظ الدين والنواميس الإلهية والدفاع عن حريم الشرع وأحكامه؛ إذ كلما كان الدين فريسة للتغيير والتبديل والتعطيل، مهدداً من طرف المعاندين وشعائره في معرض الاضمحلال والزوال، فإنّه من الواجب على المسلمين النهوض لنصرة الدين ودفع الأخطار عنه وإنكار المنكرات.
لا شك أنّ حكومة شخص شرير، مشهور بالفسق والفساد والفجور، ملاعب للكلاب والقردة، متجاهر بالسوء واللهو واللعب والغناء مثل يزيد؛ هو ضربة للإسلام، بل هو أكبر خطر يحدق به. فإذا لم يوجد من يردعه ومن ينكر عليه مفاسده؛ سيكون ذلك خطأ لا يجبر وسبباً لمحو آثار الإسلام.
إنّ اعتلاء مثل هذا الشائن على مسند خلافة الرسول| سيكون سبباً في إضلال الناس وانحرافهم الفكري والعقديّ، فضلاً عن أنّه سيسوّغ للذين يعتقدون بالأصل القائل أنّ خليفة المسلمين هو أنموذج وممثل لأعمال وأخلاق الرسول وبعد ما يرونه من أعمال يزيد، في أن يسيؤوا الظن بساحة النبي المقدّس. فإذا لم ينكر شخص مثل الإمام الحسين× على يزيد ما يفعله، ويعد خلافته باطلة؛ فإنّ هذا الإضلال سيزداد رسوخاً في قلوب الناس؛ مما يجعل نظام الدين الإسلامي نظاماً ادّعائياً واهياً.
ومن جهة أخرى إذا كان الخليفة وصاحب زمام الأمر متجاهراً بالفسق والفجور عابداً لشهوته؛ فإنّه بالطبع سيكون أيضاً مصداقاً لحكم:
إذا کانَ رَبُّ البَیتِ بِالدَّفِ مُولِعاً فَشِیمَةُ أهْلِ البَیتِ کلُّهِم رَقُصٌ |
وسيغرق عالم الإسلام من رأسه إلى أخمص قدميه في وحل الفحشاء والفجور؛ حينها لا يمكن جبران الخطر المحدق بالإسلام من جرّاء مجاراة هذا الطريق.
أيّ خطر أفدح على أيّ قوم وأيّ أمّة من شيوع الفحشاء والمنكرات والفسوق؛ فكل أمّة مبتلاة بالفسق والفجور وعبادة الشهوة وحفلات الرقص والغناء هي أمّة ضعيفة عاجزة سيظهر عليها الاختلال والهوان حتّى تحذف من صفحات التاريخ وتنقرض.
لو لم ينكّس إناء فضايح يزيد على الأرض من خلال نهضة الإمام لكانت الدول الإسلامية اليوم غارقة في وحل الفحشاء والمنكر، ولن يبقى أثر لنواميس الإسلام والعفة والطهارة والتقوى. ناهيك عن أنّ لنهضة الإمام الحسين× أثراً أيضاً في تدمير يزيد في وجدان الناس، وجعله مدعاة للتنفر والتقزز عند الجميع لدرجة أنّ اسمه صار مرادفاً لكل عار وانحلال وقبح، كما أنّ اتّباعه صار عاراً وذلاً.
لقد ملأ أركان هذه الدنيا اسم وسمعة وشهرة الإسلام، وجلب انتباه العالمين إليه حتّى صاروا مفتونين من قريب أو بعيد بنظامه وبنيانه الداخلي. إلّا أنّ مكانته المقدّسة قد خدشت بانحراف الخلافة عن مسارها الحقيقي وتسلّط شخص مثل يزيد عليها، وتسلّم الحكومة الديكتاتورية بيد أراذل وأوباش القوم. فالأخبار الواردة حول يزيد وفسقه وعمّاله جعلت اسم الإسلام يبعث على الخجل والعار، والذين لا يمكنهم إدراك الحقائق كما هي عليه أصبحوا متنفرين من الإسلام؛ لهذا كان الاستنكار الشديد للإمام مقروناً بشهادته وأسر أهل بيته قد فصل بين الإسلام وبني أمية، ومسقطاً لأعمالهم وأقوالهم داخل دولتهم وخارجها.
إنّ الأخطار التي كانت تهدد الإسلام من قبل بني أمية والتي قد دفعها الإمام كانت أكثر من هذا، وفي الجملة لم يكن خطر على الإسلام أعظم من خلافة يزيد وتلك الأوضاع والأحوال الراهنة.
فلو فرض أنّنا لم نأخذ بعين الاعتبار مصلحة وهدفاً من وراء نهضة الإمام إلّا الإنكار العلني لذلك الوضع لكان قيامه أيضاً لازماً وواجباً، فحتّى وإن استشهد الإمام فإنّ حياته خالدة، ويكون قد علّم أمّة الإسلام أعظم درس في الحرية والتديّن، مذكّراً بالتاريخ الأسود لبني أمية واضعاً إيّاه في مرمى النقد ووجهات نظر الناس إلى يوم القيامة، والتي من آثاره فصل حكومتهم عن دائرة الحكومة الشرعية، وبحسب قول أحد الكتّاب من السنّة أنّه فضلاً عن اتّفاق أهل السنّة والشيعة على إنكار خلافة يزيد كان لنهضة الإمام الحسين× أثر كبير في المنظومة الفكرية السنية إذ شكّلت نقطة تحوّل في منهجهم الفكري؛ لأنّ الخلافة الراشدة ـ طبقاً لاصطلاحهم ـ قد انتهت بتولي الإمام الحسن× زمام الأمور لمدّة ستة أشهر، ويعتبرون حكومة بني أمية بداية الحكم الملكي[33].
ومنذ ذلك التاريخ وما بعده وإن كان يرى بعض العملاء وجوب إطاعة الأنظمة الجائرة لكن لا يعتقدون أنّ الحكومة هي مبدأ ومظهر للنظام الإسلامي والمحققة لأهداف الدين.
الآن قل لنا: ما المانع في كون الإمام قد نهض لأجل هذه المقاصد؟ وما الإشكال في كون الحق تعالى قد تعبّده بأن يستشهد في سبيل تلك المصالح السامية؟ وما المانع من خروج الإمام لأجل هذه الغايات الرفيعة وكان عالماً بانتهاء نهضته تلك بشهادته؟ ولمَ نجهد أنفسنا كل هذا الجهد دون نتيجة لإثبات أنّ الإمام لم يكن عالماً بمصير نهضته[34] ؟
سلام على ذلك العالم الكبير الذي عبّر عن هدف ونتيجة نهضة الإمام الحسين× بهذه الألفاظ البليغة:
«ولَولا نَهْضَةُ الْحُسَینِ× وأصْحابِهِ یومَ الطَّفِ لا قامَ لِلإسْلامِ عَمُودٌ ولا اخْضَّرَ لَهُ عُودٌ، ولأماتَهُ أبو سُفیان، وأبْناء مُعاوِیة ویزید فِی مَهدِهِ، ولَدَفَنُوهُ مِنْ أوَّلِ عَهْدِهِ فِي لَحْدِه» إلى قوله: «فَالْمُسْلِمُونَ جَمیعاً بَلْ والإسْلامُ مِن ساعَة قِیامِهِ إلی قِیامِ السّاعَةِ رَهینُ شُکر لِلحُسَینِ× وأصْحابِهِ عَلَی ذلِك المَوقِفِ الّذِي أقَلّ ما یقالُ فِیهِ:
لَقَدْ وَقَفُوا فِی ذلِك الیومِ مَوقِفاً إِلى الْحَشْرِ لا یزْدَادُ إلّا مَعالِیاً»[35]. ). |
يقول أحد المؤلفين من أهل السنّة بعدما ذكر الاختلاف بين الأوضاع والظروف في عصر الإمام الحسن المجتبى وعصر الإمام الحسين÷: يمكننا الجزم بأنّ الإمام الحسين× عزم على الامتناع عن بيعة يزيد وإن كان في ذلك قتله؛ لأنّه ليس من الممكن أن يبايع الإمام يزيداً، وأن يفوّت فرصة حفظ دين جدّه، ومن ثمّ قال: «إنَّ الْحُسَینَ فَدی دینَ جَدّهِ بِنَفْسِهِ وَأهْلِهِ وَوُلْدِهِ، وَما تَزَلْزَلَتْ أرکانَ دَولَةِ بَنی امَّیةِ إِلّا بِقَتْلِ الْحُسَینِ»[36].
نفس هذا المؤلف يقول في مكان آخر: لم تدم دولة بني أمية طويلاً بعد شهادة الإمام الحسين×، وطوي تاريخها بعد بضع وستين سنة. وقتل الإمام ذلك الألم القاتل استقر في بدن جهازها الحكومي حتّى أتى على نهايتها. فكانت صرخة الثأر لدم الإمام تدوي في قلوب وآذان الناس حتّى حقق الفتح[37].
فهل هناك من سيتردد في ضرورة ولزوم خروج الإمام بعد الوقوف على هذه المصالح والأوضاع والأحوال وملاحظة مقام الإمام؟ بل حتّى مع غض النظر عن مقام الإمامة فهل هناك إشكال في كون الإمام قد أدّى هذا التكليف مع علمه بما ستؤول إليه الأمور؟ فلا فرق في أن نعتبر فوائد وآثار النهضة الحسينية نتائج النهضة أو أن نعدّها أهدافاً لها؛ إذ لسنا في مقام البحث اللفظي. بإمكاننا استيفاء الكلام بقولنا: إنّ تلك الفوائد والآثار حكمة تعبّد وتكليف الإمام بالشهادة، أو أنّها كانت هدفاً لنهضة الإمام وقبوله للشهادة.
وعلى كل حال وبناء على الاختصار فإنّنا لا نرى حاجة في بسط البحث أكثر مما قلناه. وعلى من أراد الوقوف على أهداف وآثار وعلل ونتائج النهضة الحسينية بالتفصيل أن يراجع الكتب المؤلفة في ذلك مثل: أشعة من عظمة الإمام الحسين×.
3ـ الإمام الحسين× وتأسيس الحكومة الإسلامية
يعدّ تأسيس حكومة الحق والعدالة في الإسلام من الأهداف الرفيعة للدعوة الإسلامية، ومن العناصر الأساسية والمهمة في المجتمع الإسلامي، التي يقع على عاتق المسلمين في كل عصر أن يجعلوها في مقدّمة برامجهم الإصلاحية والإسلامية، وأن يكونوا ساعين لتحقيقها.
إنّ منطق فصل الدين عن الدنيا، والسياسة عن رجال الدين، والدولة عن التديّن وأنّ دائرة حاكمية النظام الشرعي خارجة عن حدود حاكمية النظام العرفي؛ لهو منطق الخونة للإسلام وحربة بيد أعداء القرآن، فالدين لم يكن ولن يكون بمعزل عن السياسة والحكومة والمجتمع، ولا اعتبار لأيّ نظام أوقانون وراء الإسلام.
إنّ هدف الإسلام هو حكومة الله وحاكمية أحكامه في الأرض، واستئصال أيّ حكومة استعبادية وأيّ قانون أو نظام غير إسلامي، ومن وجهة نظرنا فإنّ هذه الآية توضّح معالم تأسيس الحكومة الإسلامية: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ). لهذا فمن المتيقن أن تكون نهضة الإمام لتأسيس الحكومة الإسلامية مع توفر الظروف والأوضاع المساعدة واجبة.
لو قال أحد بأنّ الهدف من نهضة الإمام لم يكن تأسيس الحكومة الإسلامية؛ فإنّ ذلك لا يعني أنّ تأسيس الحكومة الإسلامية ليس من شؤون الإمام. كما أنّه لو قال آخر: إنّ خروج الإمام لم يكن سياسياً فليس الغرض أنّ السياسة بمعنى ولوج ساحة الأمور السياسية والإشراف على إجراء الأحكام وتأسيس نظام الحكم الإسلامي ليست من مهام الإمام، إنّما قصدهم نفي السياسة بالاصطلاح العصري المسانخة لطلب الجاه والسلطة والاستغلال الفردي أو الجمعي.
كما أنّه ليس من الصحيح تأويل الكلام القائل بفصل الدين عن السياسة بأنّه ينبغي على أهل الله ورجال الدين أن لا يتدخلوا في أمور السياسة، بل ينبغي لأهل الله التدخل وبقدر الاستطاعة الاهتمام بحسن إجراء الأمور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وولوجهم ميدان خدمة الإسلام والمجتمع بشجاعة وثبات، وهذه السياسة عين الدين، ومن أهم التكاليف الإسلامية التي لا يجدر بنا التسامح فيها أو التغاضي عنها.
فالإسلام يشمل جميع المسائل الحياتية الاجتماعية منها والفردية، فالدين والعقيدة والوطن والقانون والتدين والسياسة والصلح والحرب هي للجميع. وكل من ظن غير ذلك فهو لم يهتد إلى حقيقة الدين، ولم يأخذ تعاليم الإسلام الراقية من القرآن والسنّة وغارق في الضلالة والهلاك.
فلو قدّر للحكومة الإسلامية أن تتأسس، لتذوّقت الشعوب طعم الحرية واستعيدت حقوق المساكين والضعفاء والطبقات المحرومة، وسترى عن كثب تجليات النظام العادل والقوانين العالمية الراقية للإسلام، وحاكمية الأصول الصحيحة للمساواة والأخوة طبقاً لتعاليم القرآن. ونجاة الشعوب المحكومة بسلطة الظلم والفسق والفحشاء مثل سلطة يزيد، العيش في حكومة القرآن والأوامر الإلهية. وتبدّلت الحكومة الفردية وعبودية البشر والاختلاف في عبادة الله إلى الاتّحاد والأخوة الدينية والمساواة وإلغاء العصبيات القبلية والقومية والجغرافية وقيام حكومة الإسلام العالمية التي لا تنسب إلى أيّ قبيلة أو قوم أو شعب أو مدينة أو دولة إلّا لله راتق الأمور وفاتقها، ويحكم الحق والعدل والفضيلة، ويصبح مضمون إن الحكم إلّا لله عملياً بيّناً
لقد كان بنو أمية يسخرون من أحكام الله؛ محاولين جهدهم تغيير وتبديل تلك الأحكام حتّى العبادات منها كإقامتهم لصلاة الجمعة يوم الأربعاء وإقامتهم ليوم عرفة في يوم التروية وأيام عيد الأضحى في يوم عرفة (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [38].
حينما تتأسس الحكومة الإسلامية فإنّها ستقطع لا محالة الأيادي النجسة للكثير من أمثال زياد وابن زياد والمغيرة بن شعبة ومسلم بن عقبة وشمر وخولي الذين هتكوا الأعراض وجنوا على أموال المسلمين وخانوا وتصرفوا فيها بغير حق؛ وستحل محلّها الأيادي الطاهرة كأيادي أبي ذر والمقداد وسلمان وعمار وميثم ورشيد وقيس بن سعد وحجر بن عدي ومسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر
من المؤكّد أنّه لا إمكان لتحقق أهداف الدين الإسلامي بشكل كامل إلّا تحت ظل الحكومة الإسلامية؛ فهي الوحيدة الجديرة بإجراء أحكام الله والمجسّدة لأهداف القرآن الكريم. وهذا ما دعا الإمام الحسين× ـ الذي يجدر به أن يكون أوعى الناس بأهداف الإسلام ـ إلى العمل بوظيفته الشرعية، ألا وهي دعوة الناس إلى تأسيس الحكومة الإسلامية، وإنذارهم من عاقبة التسامح فيما يختص بهذا الموضوع الذي كان سبباً في انحطاطهم الأخلاقي وفقرهم الاقتصادي؛ فطلب العون منهم في النهوض بوجه الحكومة المستبدة وإسقاطها، وأعلمهم أنّه أحق الناس ـ باتّفاق جميع المسلمين وبنص وتعيين الرسول الأكرم| ـ بإجراء تلك التعاليم الإسلامية الإلهية الراقية؛ لذا وجّه دعوة لمسلمي ذلك العصر للنهوض في وجه الحكومة الجائرة ليزيد واسترداد حقوقهم منها.
إنّ الإمام أنكر تلك الحكومة وأتمّ الحجة على الناس من خلال رسائله وخطبه وخطاباته الصريحة وقيامه بوظيفته الشرعية (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ). فمع أنّ موضوع الإبلاغ والإرشاد وإتمام الحجة وإعلان بطلان حكومة يزيد، ولزوم الخروج على تلك الحكومة لإسقاطها، ودعوة جميع الناس لإحياء نظام الحكم الإسلامي يعد جزء من التحضير لنهضة الإمام الحسين×، إلّا أنّ عدم موافقة بعضهم على إسقاط حكومة يزيد وقلة الملبّين لندائه لم يفقده الأمل في تأسيس الحكومة الإسلامية؛ فضلاً عن أنّ علم الإمام وتلك الأخبار التي وصلته من قبل الرسول الأكرم| والظروف المحيطة تشير جميعها إلى عدم حصول ذلك. مع ذلك يتعيّن على الإمام القيام بالوظائف المنوطة به وجداناً وشرعاً تجاه الإسلام والقرآن بأکمل وأوفى نحو باعتباره إماماً، ودفع المخاطر التي تهدد المجتمع الإنساني من حكومة يزيد، وتنوير العقول والأفكار.
إنّ البحث الإجمالي والمختصر لكتب الحديث الشيعية والدقّة في مضامين الزيارات والروايات المتعلقة بعلوم الأئمة^، وكون الحق تعالى قد وهبهم علم الرسول الأكرم|؛ لكفيل بأن يثبت بشكل قطعي أنّ الإمام كان يعلم بما ستؤول إليه الأمور المستقبلية؛ لذا لم يتنبأ بتأسيس الحكومة الإسلامية والانتصار الظاهري. ومع ذلك فإنّنا وحتّى نكون قد درسنا الموضوع تاريخياً سنتابع البحث من خلال ما ورد في كتب التاريخ المعتبرة لدى الشيعة والسنّة من قبيل الإرشاد وإعلام الورى والكامل لابن الأثير وتاريخ الطبري واليعقوبي والأخبار الطوال.
بملاحظة الأوضاع والأحوال المحيطة بعصر النهضة كما أسلفنا فإنّ الإمام لو وجدها تساعد على تأسيس الحكومة الإسلامية ومهيّأة لذلك لأقدم عليه بكل عزم. ولكن هل كانت الظروف تساعد على ذلك؟ وهل بالفعل كان هناك إمكان لتأسيس الحكومة الإسلامية؟
هل توفرت للإمام قوة عسكرية تكفل تحقق ذلك، وتنتزع الحكم من أيدي الحكومة الظالمة التي غرزت مخالب ظلمها في أعماق الدول الإسلامية وإسقاطها؟ وهل يمكن الاطمئنان والوثوق بأهل الكوفة على رغم سوابقهم، وتشتتهم ونفوذ جواسيس الإرهاب الأموي بينهم واستخدام أساليب الرشى والتطميع؟ فهل تغيّرت الأوضاع الاجتماعية لأهل الكوفة؛ أولئك الذين أقرحوا قلب أمير المؤمنين× حتّى خاطبهم قائلاً: «یا أشْبَاهَ الرّجالِ ولا رِجالَ. حُلُومُ الأطْفَالِ وعُقْولُ رَبَّاتِ الحِجالِ لَوَدِدُتُ أَنّي لَمْ أَرَکم وَلَم أَعْرِفْکمْ مَعْرِفَة وَاللهِ جَرَّتْ نَدَماً وَأعْقَبَتْ سَدَماً قاتَلَکمُ الله لَقِدْ مَلَأتُمْ قَلْبِی قِیحاً، وَشَحَنْتُم صَدْرِی غَیظاً...»[39] .
ألم يسمع الإمام الحسين× قول أبيه ـ في ذلك الوقت الذي كان الخليفة الشرعي للمسلمين وتحت قيادته معظم الدول الإسلامية ـ في أهل الكوفة: «أیها النَّاسُ الْمُجْتَمَعَةُ أَبْدَانُهُمْ، المُخْتَلِفَةُ أَهْواؤُهُم» إلى أن قال: «أَصْبَحْتُ واللهِ لا أُصَدِقُ قَولَکم، ولا أَطمَعُ فِی نَصْرِکمْ، ولا أوعِدُ العَدُوَّ بِکم»[40].
ألم يسمع خطابه فيهم: «أَیها القومُ الشاهِدَةُ أَبدانُهُم، الغائِبَة عَنهُم عُقُولُهُمْ، المُخْتَلِفَةُ أَهْواؤُهُم. إلى أن قال: لَوَدِدتُ واللهِ أن مُعاوِیةَ صارفَنِي بِکم صَرفَ الدّینارِ بِالّدِرْهَمْ فأَخَذَ مِنّي عَشَرَةً مِنْکم وأعْطَانِی رَجُلاً مِنْهُمْ. إلى أن قال: یا أَشْباهَ الإِبِلِ غَابَ عَنها رُعَاتُها»[41].
فهل غيّر أولئك الناس طبائعهم أم أنّهم أوغلوا في الانحطاط الفكري والأخلاقي؟ وهل يمكن للإمام الوثوق ببيعتهم؟ ألم تثبت الأوضاع اللاحقة بأنّ أهل الكوفة باستثناء عدّة قليلة منهم هم أنفسهم المنافقون وعبيد الدنيا السابقون؟
ألم يكن الإمام سيلقى نفس المصير الذي لقيه مسلم بن عقيل؟ وعلى فرض اغتيال ابن زياد وصارت الكوفة تحت تصرف الإمام فهل سيكون انتصار الإمام قطعياً ويفتح جيش الكوفة الشام؟
ألم يستغل عبد الله بن الزبير الأوضاع بعد موت يزيد وضع الحكم الأموي وتزلزله متخذاً من ردود الأفعال على شهادة الإمام نقطة قوة لبسط سيطرته كخليفة على الكوفة والعراقيين وبلاد الحجاز ومناطق مهمة من بلاد المسلمين؛ لكنه في نهاية الأمر لم ينتصر؟
فهل أخطأ رجال السياسة الواعين والمعتقدين بوجوب تأسيس الحكومة الإسلامية من قبيل ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن جعفر ومحمّد بن الحنفية وجابر ابن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد وأبو واقد الليثي وعمر بن عبد الرحمان وعبد الله بن مطيع؛ في حكمهم على أهل الكوفة بعدم الوثوق؟ وهل كان توقعهم ذلك ناتجاً من فراغ؟
ألم يكونوا على اطّلاع بأمر الرسائل والرسل المؤيّدة للخروج التي كانت تتوافد من الكوفة؟
مهما كان الجواب على هذه التساؤلات من وجهة نظر أهل التاريخ وعلماء الاجتماع مختلفاً؛ إلّا أنّهم يؤكّدون جميعاً على أنّ الأوضاع والأحوال لم تكن مواتية لتأسيس الحكومة الإسلامية ألبتة، والإمام أيضاً لم يكن لديه هكذا هدف.
سنتعرض في ما سيأتي لتوضيحات منطقية فيما يختص بهذا الموضوع ونعرضها بين يدي القرّاء الأعزّاء. وخلاصة الكلام: أنّ عدم توفر الظروف المناسبة لتأسيس الحكومة الإسلامية في ذلك الوقت، وعدم إمكان رفع الموانع التي كانت حائلة دون تأسيسها، يؤكّد أنّه لم يكن هدف نهضة الإمام تأسيس الحكومة الإسلامية، بل إنّ كبار القادة المتمرسين في عالم السياسة اتّفقت كلمتهم على هذا الرأي؛ متوقعين شهادة الإمام. كما أنّ الإمام لم ينف ذلك في معرض الإجابة عن توقعاتهم، بل كان يؤيّدها في بعض الأحيان وأحياناً يقنعهم بما رآه في منامه.
ومع ذلك فإنّنا إذا أخذنا بعين الاعتبار مسألة إحاطة علم الإمام بما سيكون لكان الأمر مفروغاً عنه، بل إذا تفحصنا الموضوع بشكل عادي فإنّنا سنجد أنّ تنبؤات الإمام وإحاطته العلمية لم تكن أبداً لتقل عن تنبؤات الآخرين؛ إذ هو مثل الآخرين المتمرسين في دراسة الأوضاع السائدة وتوقع مآلاتها، فكيف يمكن أن يكون قصد الإمام تأسيس الحكومة الإسلامية؟! وكيف يقع الإمام وهو أنسب شخصية قيادية للأخذ بزمام أمور القيادة السياسة والاجتماعية والمعنوية في مثل هذا الخطأ؟! فتحتجب عنه حقائق الأمور، ويعتمد على وعود أهل الكوفة مع سوابقهم المخذلة، ومن خلال قوة زائفة ووعود مفترضة كاذبة، يطرح الإمام مخططاً لإسقاط حكومة بقبضتها كل الإمكانيات المادية والبشرية؟!
لا يمكننا القبول بأنّ الإمام كان له مثل هذا المخطط؛ لأنّ الآراء ووجهات النظر في مسألة علم الإمام كيفما كانت فإنّه بخصوص علم الإمام الحسين× بخبر شهادته على يد بني أمية في كربلاء بمنزلة اليقين. وبالنظر إلى الأخبار الكثيرة التي وصلته من جدّه وأبيه يعلم أنّ تأسيس الحكومة الإسلامية لم يكن من وظائف الأئمة^؛ باستثناء مدّة الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين والحسن المجتبى÷، فإنّ أمر تأسيسها قد أوكل لقائم آل محمّد×.
وتكفي الأخبار الواردة عن شهادة الإمام في كربلاء أن تكون مؤيّداً قطعياً لتوقعات ابن عباس والآخرين.
من وجهة نظرنا أنّ إخبار النبي| عن شهادة ولده الحسين× وبكائه عليه وتعزية ابنته الحبيبة الزهراء‘ بمصيبته لدليل كاف على أنّ الإمام لم يكن قاصداً تأسيس الحكومة الإسلامية ـ وأنّ ذلك ليس موكولاً إليه ـ إذ لو كان كذلك لأخبر النبي| بذلك؛ إنّما وظيفته وتكليفه هو القيام المتوّج بالشهادة؛ إذ لو كان للإمام مثل هذه الوظيفة التي تبعث على الابتهاج؛ لتعيّن على جدّه أن يسعد قلب ابنته السيّدة فاطمة الزهراء‘ بهذا الخبر المفرح بعد إخبارها مكرراً بأمر شهادة ابنها العزيز الذي أحزنها وأوجع قلبها.
فكيف لا يخبر النبي| بهذا الأمر وهو الذي أخبر بجهاد الإمام علي× للناكثين والقاسطين والمارقين، ووفاة ابنته فاطمة‘، وبما جرى من صلح الإمام الحسن×، وشهادة علي والحسن والحسين^، ومقتل زيد بن علي والحسين شهيد فخ[42] وبقية ذرية أهل البیت^؟ أوليس علة ذلك أنّ هذا الأمر لم يكن من وظائف إمامة الإمام الحسين× وأنّ الظروف لم تكن مواتية لذلك؟
سيّدي العزيز؛ كيف قبلت بهذا النظر القائل أنّ الإمام الحسين× لم يكن عالماً بخبر شهادته ولم يکن مطّلعاً على ما سيؤول إليه قيامه، إنّما كان هدفه تأسيس الحكومة الإسلامية، مع العلم أنّ الظروف لم تكن مساعدة على ذلك، فضلاً عن تلك الوعود الكاذبة لأهل الكوفة. فمن المؤكّد أنّه ومع هذه الأدلة والأمارات التي زخرت بها كتب الشيعة والسنّة لن يبقى لهذا الرأي وجه من الصحة.
إنّ الإنصاف يقتضي القول بأنّه وبعد تعب دام سبع سنوات ـ طبقاً لكلامكم ـ يتعيّن عليكم القبول بأنّ ذلك كان عبثاً؛ إذ لا يمكننا إبطال كل ما جاء في هذه الكتب والأمارات التي أثبتت بشكل قاطع بطلان أن تكون نهضة الإمام الحسين× لتأسيس الحكومة الإسلامية وأنّ الظروف كانت مساعدة على ذلك.
فعلى فرض أنّك تمكّنت من تضعيف كتاب اللهوف ولم تقبل بتاريخ ابن أعثم، فإنّه لا يمكنك إنكار كتب التاريخ المعتبرة وجوامع الأحاديث.
إليكم الآن نظر أحد العلماء المعاصرين من أهل السنّة، وهو يقول: إنّ الإمام كان عازماً على عدم بيعة يزيد وإن كان في تركه لبيعته شهادته؛ لأنّه بنظر هذا العالم بيعة يزيد لا تجوز، حتّى يقول: «لم يكن خروج الإمام من مكة متوجهاً إلى الكوفة من أجل جاه أو دنيا أو لتشكيل الخلافة الإسلامية، بل كان مراد الإمام إحياء أحكام الله التي وقعت محلاً للتجاوز والتغييب، وکان قیامه استجابة لنداء الإيمان»[43].
وفي مقام آخر ـ بعد شرحه لهذه المسألة ـ أفاد الكاتب أنّ الإمام قد قام بإجراء خطة محكمة للوصول إلى أهدافه المستقبلية، وقال: إنّ قولنا أنّ حركة الإمام كانت على أساس الوصول لهذه الأهداف والسعي إلى تحقيق تلك النتائج أصّح من دراستنا نهضة الإمام من منظار القدرة العسكرية لجيشه؛ لأنّه لو أراد الفتح والنصر العسكري لكان يجدر به تهيئة جيشه في الحجاز والخروج به مع أصحابه، ومن المستبعد أن يكون الحسين× متوقعاً للفتح وانتصار جيشه أكثر من توقعه لشهادته. كما أنّ النصر العسكري لم يكن حليف والده وأخيه÷ رغم أنّ أوضاع ذلك الزمان كانت مواتية إذا ما قيست بأحداث النهضة الحسينية، إذ ليس من المعقول أن يعتمد الإمام الحسين× على أهل العراق مع علمه بمكرهم وخياناتهم حتّى أنّه يقول: «فَضْلاً عَن أنّ خُرُوجَهُ عَلی یزیدِ لَم یکنْ هُناك مَحیص عَنْهُ؛ لِما فِي بَیعَةِ یزید مِنَ الإِثْمِ لا تُبْرِرُهُ تَقیةٌ، ولا یشْفَع لَه عُذْر»[44].
و يقول صاحب الكتاب في صفحة أخرى بعد جوابه على شبهات المستشرقين الضالين: إنّ الحسين× قد عزم عزماً صارماً على القيام مع أنّ هزيمة جيشه لم تكن محجوبة عنه[45][46].
5 ـ الإمام× كان عالماً
لقد دلّت المصادر التاريخية المعتبرة بأنّ الإمام كان مطّلعاً على أمر شهادته، وعدم حصول الانتصار العسكري، كما كان عارفاً بعدم توفر الشروط المناسبة لتأسيس الحكومة الإسلامية؛ وعليه يكون هدف الإمام من نهضته هو الإعلان عن بطلان حكومة يزيد، وإحياء الدين ورفع الأخطاء والانحرافات الفكرية، ونجاة نظام الحكم الإسلامي، والوقوف في وجه الضربات الموجعة للدين من قبل حكومة يزيد.
إنّ جمع مثل تلك الأدلّة والمدارك المذكورة يحتاج إلى تأليف كتاب مستقل وتتبع شامل ودقيق. لكننا وحتّى نقف على حقيقة أنّ الإمام لم يكن يهدف لتأسيس الحكومة الإسلامية؛ فإنّنا سنذكّر ببعض الموارد الدّالة على ذلك من خلال مجريات النهضة الحسينية.
1 ـ قال الإمام لعبد الله بن الزبير في مكّة: والله لو أقتل، و أنا على بعد شبر عن المسجد الحرام، أحب إليّ أن أقتل داخله، ولو كنت على بعد شبرين عنه وقتلت، لكان أحبّ إليّ: «وأیم الله لَو کنتُ فِي حُجْرِ هامَة مِنْ هذِه الهَوام لاسْتَخرَجُونِي حَتّی یقْضُوا بِي حَاجَتَهُمْ، واللهِ لَیعْتَدُنَ بِي کمَا اعتَدَتِ الیهود فِي السَبْتِ»[47].
نحن نترك لكم الحكم أيّها القرّاء الأعزّاء، ونسأل: هل يعقل أن يكون شخص يأمل في تأسيس الحكومة الإسلامية بعد إسقاط حكومة يزيد، وهو يقسم ويؤكّد أثناء توجهه إلى الكوفة على أنّه على علم بشهادته بهذا النحو من الخطاب؟
2 ـ کانَ الحُسینُ یقُولُ: «وَاللهِ لایدَعُونِي حَتّی یستَخْرِجُوا هذِهِ الْعَلقَةَ مِنْ جَوفِي، فَإذا فَعَلُوا سَلّط اللهُ عَلَیهِم مَنْ یُذلّهم حَتّی یکونُوا أذَلَّ مِن فرامِ الأَمَة». و«(الفرام) خرقة تَجعلُها المرأةُ فِي قُبُلِها إذا حاضَتْ»[48] فهل يتوقع ممن يعبّر بهذا التعبير، مع ما يقتضيه ظاهر جملة «كان الحسين» التي كررها كثيراً، انتصار معسكره وهزيمة عدوه؟
3 ـ حينما أصرّ عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد أخو والي مكّة المعظّمة على منع الإمام من الذهاب إلى العراق، أجابه الإمام: «إنّي رَأَیتُ رُؤیا، رَأَیتُ فیها رَسْولُ الله|، وأُمِرْتُ فِیها بِأمر أنا مَاضٍ لَهُ، عَلَيّ كان أو لِي، فَقالا: ما تِلْك الرُّؤیا؟ قال: ما حَدَّثت بِها أحَدَاً ومَا أَنَا مُحَدّث بِها أحَداً حَتّی ألقَی رَبِي»[49].
يتبيّن لك بعد واقعة كربلاء وما جرى على الإمام فيها من مصائب مأساوية، وأسر أهله وعياله، وما تجلى على رمضائها من صبر الإمام واستقامته، وشجاعته، وتفانيه، بأنّ هذه الرؤيا كانت تحكي نهاية هذا السفر، والبنود العملية لهذا الامتحان الفريد من نوعه وهذا الابتلاء العظيم.
4 ـ عندما تشرّف عبد الله بن مطيع بملاقاة الإمام وهو في طريقه إلى العراق، أصرّ وبكل وضوح على منع الإمام من الذهاب إلى العراق؛ فلم يجبه الإمام بأنّني مجبر على ذلك طالما قد توفرت مقدمات تأسيس الحكومة الإسلامية؛ إنّما أجابه ما نقله التاريخ: فَأَبَى إلّا أنْ یمْضي، وقال: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)[50]. أمّا في المرّة الأولى التي حاول فيها ابن مطيع منع الإمام فقد قال له:«یقْضِي اللهُ ما أحَبَّ».
فلو کان للإمام جواباً آخر في ردّه على كلام ابن مطيع الذي يفيد خوفه على الإمام من الشهادة والقتل، ويكون دليلاً مقنعاً مسانخاً لمنطقه، ومتضمناً لاحتمال نفي أمر شهادة الإمام أو على الأقل مُطمْئِناً له؛ لأجابه به وأقنعه بأنّ أمر قتله غير مطروح، وهذا احتمال ضعيف. بيد أنّنا نرى أنّه إمّا لم يجبه وإمّا أنّه أكّد ضمنياً على توقعات ابن مطيع، أو على الأقل وضّح حقيقة أنّ الإمام لم يكن مطمئناً للنصر[51].
5 ـ إنّ قصّة زهير بن القين لتوضّح أيضاً حقيقة عزم الإمام على الشهادة، وتستبعد تماماً احتمال الانتصار العسكري ومسألة موازين القوى بين الطرفين؛ لأنّ زهيراً ما لبث إلّا وقد خرج من عند الإمام بعدما كان مصرّاً على تفادي اللقاء معه، مستبشر الوجه مسروراً، فطلّق زوجته حتّى تلتحق بأهلها وقال لها: «فإنّي لا أُحبُّ أن يصيبك بسببي إلّا خير، وقد عزمتُ على صحبة الحسين× لأفديه بروحي وأقيه بنفسي» وقال لأصحابه: «مَن أحبّ أن يصحبني، وإلّا فهو آخر العهد منّي به». ثمّ حدّثهم بحديث سلمان وودّع من كان معه قائلاً لهم: «فأمّا أنا فأستودعكم الله»[52].
ماذا تفهم من هذه القصّة؟ لمَ انقلب حال زهير وتبدّل دفعة واحدة؟ بأيّ حديث قد حدّثه الإمام؟ ولمَ خرج من عنده بوجه مشرق ومسرور؟ فهل وعده الإمام بالنصر والإمارة والرئاسة، وقال له: تعال نذهب معاً إلى الكوفه ونستولي عليها، فتكون والياً عليها أو على مصر أو خراسان أو قائداً للجيش؟ من المؤكّد أنّ ما دار بين الإمام وزهير ابن القين من حديث غير هذا الكلام.
لماذا طلّق زهير زوجته؟ فهل يتعيّن على من يريد الذهاب إلى الجهاد تطليق زوجته، أو أنّ زهيراً كلما أراد الذهاب إلى الجهاد طلّق زوجته؟ ماذا كان يقصد حينما قال لزوجته: «فإنّي لا أُحبُّ أن يصيبك بسببي إلّا خير»؟ فأيّ شرّ وضرر كان سيلحق أمر تأسيس الحكومة الإسلامية من وجود زوجة زهير إلى جانب زوجها، ما دام الإمام قد خرج من أجل تأسيس الحكومة الإسلامية وموازين القوى بين الطرفين ـ بحسب قول مؤلف الشهيد الخالد ـ قد كانت محرزة؟ لماذا قال يومها لمرافقيه: «مَن أحبّ أن يصحبني، وإلّا فهو آخر العهد منّي به» ثمّ استودعهم الله؟
نقسم عليك بالله أن تنظر بدقّة إلى هذه القصّة، فهل تفهم منها غير أنّ زهير بن القين قد أدرك من خلال لقائه بالإمام وسماع مواعظه أنّ هذا الطريق سينتهي بالشهادة، وأنّ للإمام مهمة إلهية خاصّة تقوده إلى الشهادة والتفاني، وأنّ الشهادة في ركابه هي السعادة الخالدة؟ وغير أنّ زهير قد انقطع بقلبه عن زخرف الدنيا وزبرجها، وباع نفسه لله سبحانه متهيأً للشهادة؟
6 ـ إذا لم يكن الإمام قد خرج قاصداً الشهادة في كربلاء؛ فلماذا عندما وصله خبر شهادة مسلم بن عقيل وهو في منزل (الثعلبية)، وصار معلوماً بحسب الظاهر أنّ الأوضاع ليست مواتية لتأسيس الحكومة؛ وأنّ هزيمة جيش الإمام حتمية[53]، لم يعد أدراجه من ذلك المكان؟ وكيف واصل طريقاً مجهول العاقبة ـ بحسب قولك ـ من دون أن يكون له قصد وهدف معيّن؛ مع أنّه قد أذعن لبني عقيل بحسب النظرة البدوية والعاطفية والظاهرية؟ وطبقاً لرأي مؤلف الشهيد الخالد إذا كان عمل الإمام على وفق المجريات الطبيعية وكان محيطا ًومدركاً للأوضاع فكيف لم يخضع لرأي تلك الشخصيات البارزة والشخصيات السياسية في مكة والمدينة وخضع لرأي بني عقيل هنا؟ وأنّ الشورى التي ـ بحسب قولكم ـ قد شكّلها في الصحراء لم يشكّلها في المدينة أو مكّة؟
أولا تعدّ كل هذه الشواهد دليلاً على أنّ للإمام هدفاً ومهمة غير ما تعتقد؟
7 ـ حينما وصل الإمام إلى منزل (زبالة) وصله خبر شهادة عبد الله بن يقطر فأعلن أنّ من أراد منكم العودة فليعد؛ كونه يكره أن يرافقه شخص إلّا وهو على بيّنة بعواقب الأمور. فهو يعلم بأنّهم لو علموا فلن يرافقه إلا من يريد مواساته والقتل دونه. فعندما أعلن الإمام ذلك «تفرّق من حوله يمنة ويسرة.... »[54] ولم يبق معه إلّا أولئك الذين رافقوه من المدينة وقلّة أخرى، ورغم ذلك فإنّ الإمام قد تابع مسيره. واتّضح أنّ بني عقيل لا يستطيعون الأخذ بثأر دم مسلم بن عقيل.
فإلى أين كان يريد الإمام أن يتوجّه؟ وأيّ مقصد يريد؟ فإن قلت: كان مقصده الكوفة فمع تلك الأوضاع التي استجدّت لم يكن ذهابه إلى الكوفة ممكناً ولم يكن فيها سوى المشقة والتعب، فلن يبق احتمال سوى أنّ الإمام كان قاصداً كربلاء.
8 ـ لمّا أوصل رسول ابن الأشعث وابن سعد رسالة مسلم بن عقيل التي يطلب فيها من الإمام العودة، لم يرتّب الإمام أيّ أثر على اقتراح مسلم، ولم يتراجع، وقال: «كل ما حمّ نازل وعند الله نحتسب أنفسنا...»[55].
تفضّل أيّها المؤلف المحترم، ماذا يعني كلام الإمام هذا؟ لماذا يضحّي الإمام بنفسه في سبيل الله ويستقبل الشهادة، ويأبى الانصراف عن مواصلة وجهته. فهذه العبارات شاهدة على عزم الإمام في هذا الموقف الخطير واختياره طريق الشهادة عن علم وتصميم مسبق.
9 ـ عند بطن العقبة تشرّف رجل بملاقاة الإمام وأقسم عليه بالعودة، وقال: «فَوَاللهِ ما تَقْدمُ اِلّا عَلَی الأسَنَّةِ وَحَدّ السُّیوفِ...»؛ فأجابه الإمام: «إِنَّهُ لا یخفی عَلَيّ ما ذَکرْت ولکنَّ الله عَزَّ وجلَّ لا یغْلَبُ عَلیأمْرِهِ». وهذا الكلام أيضاً صريح في كون الإمام كان متوقعاً للشهادة وماض إلى حيث يلقاها؛ حيث قال: إنّه ليس بخافٍ عنّي ما قلت، وأعلم أنّني مقدم على أسنّة الرماح وحدّ السيوف، إلّا أنّ الله غير مغلوب على أمره[56]. وهذا الكلام فيه إشارة إلى أنّ الأمر أمر الله تعالى وعلى الإمام القيام بهذا الامتحان والاختبار الإلهي والتضحية من أجله، وأنّه سوف يقتل، أو أنّ مقصوده: أنّ ما قلته حق وأنّهم سيقتلونني إلّا أنّ بني أمية لن يتمكّنوا من إطفاء نور الله؛ إذ قد كتب الله لي النصر المؤزر والحقيقي في عين هذه الهزيمة الظاهرية. ولن يمكّنهم الله من الانتصار عليّ من خلال قتلي بأسنّتهم وسيوفهم، وأسر أهل بيتي وعيالي، بل سيضمن بذلك تحقق هدفي ألا وهو بقاء الإسلام وأحكام الدين. وهذا ما قاله الإمام طبقاً لرواية ابن الصّباغ: «لا یخْفی عَلَيّ شَيء مِمّا ذَکرَتَ، ولکنّي صابِرٌ ومُحْتَسِبٌ إلى أن یقضِي اللهُ أمْراً کانَ مفعُولا»[57] .
10 ـ روى المفيد والطبرسي وابن كثير أنّ الإمام قد قال في بطن العقبة: «واللهِ لا یدَعُونِي حَتّی یستَخِرجُوا هذِهِ العَلَقَة مِنْ جَوفِي فِإذا فَعَلوا سَلَّطَ اللهُ عَلَیهِم مَنْ یذلِهّم حَتّی یکونوا أذَلّ فِرَقِ الأمِم»[58].
11 ـ روى المفيد عن علي بن الحسين÷ أنّه قال: «خَرَجنا مَعَ الحُسَین فَما نَزَلَ مَنْزِلاً ولا ارتَحَلَ مِنهُ إلّا ذَکرَ یحیی بنَ زَکریا وقَتْلَهُ، وَقالَ یوماً: مِنْ هَوانِ الدنیا عَلَی الله أنَّ رأسَ یحیی بنِ زکریا أهدي إلى بِغيّ مِن بَغایا بَنِي إسرائِیل»[59]. قل: إنّ الإمام لم يكن متوقعاً لشهادته، قل: إنّه توجّه إلى الكوفه بقصد تأسيس الحكومة، لكن ما جوابك على هذا الحديث المعتبر الذي رواه المفيد والطبرسي؟
12 ـ روى الشيخ المفيد أنّ عمر بن سعد قال للإمام: يا أبا عبد الله إنّ من حولنا أناس سفهاء يظنون أنّني قاتلك؟ فقال له الإمام الحسين×: «إنَّهُم لَیسوا بِسُفَهاء وَلکنَّهم حلَماء أما إنّهُ تَقِرُّ عَیني أن لا تأکل من برّ العراق بعدي إلّا قلیلاً»[60]. كيف يكون الإمام جاهلاً بعاقبة سفره إلى العراق، وهو عالم بهذا النحو بما سيؤول إليه حاله وحال عمر بن سعد[61]؟!
13 ـ إنّ خطبة «خُطَّ المَوتُ عَلَى وُلُدِ آدم...» المعروفة والتي خطبها الإمام أثناء مسيره إلى العراق، صريحة في دلالتها على أنّ الإمام قد خرج من مكّة قاصداً الشهادة والقتل، وأيّ توجيه أو تأويل غير هذا في هذه الخطبة فهو غير صحيح، وسنردّ على الاعتراضات الباطلة لمؤلف كتاب الشهيد الخالد في وقتها.
14 ـ عندما حاول عمر بن عبد الرحمان بن حارث بن هشام منع الإمام من الذهاب إلى العراق؛ لأنّ الأوضاع لم تكن مواتية، مبرزاً قلقه وخوفه على الإمام من خلال ما عرضه بين يديه. ومع أنّ الإمام رحّب بنصيحته وأيّدها واعتبر كلامه حكيماً إلّا أنّه لم يعمل برأيه وواصل مسيره إلى العراق[62].
15 ـ لمّا حاول ابن عباس ثني الإمام عن الذهاب إلى العراق، عارضاً دلائله على مسامع الإمام المباركة، مقترحاً عليه الهجرة إلى اليمن، «فقالَ الإمامُ الحُسَین فِی قُوة: آه سبق السیف العذل» مشيراً إلى أنّ مثل هذه الاقتراحات والحرص على السلامة لن يكون لها تأثير، وعليه التسليم لأمر الله تعالى[63].
16 ـ قد كتب الإمام في رسالته إلى بني هاشم عند توجهه إلى العراق قائلاً: «أمّا بَعد فَإنّهُ مَن لَحِقَ بِي استُشهِدَ، ومَنْ تَخَلّف عَنّي لَم یبلُغِ الفَتْح»[64]، وكما هو واضح فإنّ هذه الرسالة قد بيّنت بصراحة ووضوح أيضاً أنّ الإمام كان مطّلعاً على عواقب الأمور، وأنّ هدفه لم يكن تأسيس الحكومة، كما أنّها قد أجابت عن التوجيه والتفسير الخاطئ الذي خطّه مؤلف كتاب الشهيد الخالد في كتابه، حيث سوف نعرضه على القرّاء الأعزاء في محلّه.
17 ـ قال الإمام قبل خروجه من المدينة وعند وقوفه على قبر جدّه في الروضة الشريفة: «کیف أَنْسى شِیعَتي، وَأنا سَأُضَحّي بِنَفسي مُختاراً فِي سَبیلِهم». ثمّ ترك القبر وخاطب نفسه قائلاً: «لَقَد وَجَدتُ وَراء هذا الحِجاب ما تاقَت إلیه نَفسي مُنذُ زَمَن طَوِیلِ، وَحانَ مَوعِدُ الخلاصِ وقَد غَسَلتُ یدي مِنَ الحَیاةَ، وعَزَمتُ تَنفِیذَ ما أرادَ الله»[65].
18 ـ روى ابن الصبّاغ أنّ الفرزدق قال للإمام: كيف تثق بأهل الكوفة بعد أن قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل؟ فقال الإمام: «أما أنَّه صارَ اِلى رَحْمِة الله تعالى ورضوانه، وقضی ما عَلَیه وبَقي ما عَلَینا» ثمّ أنشأ هذا الشعر:
وَإن تَکنِ الدُّنیا تعدُّ نَفیسَة فَإنَّ ثَوابَ اللهِ أغلى وأنبَلُ وإن تَکنِ الأبدان لِلموت أُنْشِئت فَقتلُ إمرءِ فِي الله بالسَیفِ أفضلُ |
... إلخ[66]
19 ـ روى بشر بن غالب أنّ ابن الزبير قال للإمام الحسين×: «إلى أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك، وطعنوا أخاك، فقال: لأن أقتل أحب إليّ من أن تستحل، يعني مكّة»[67].
20 ـ كتب ابن عمر رسالة إلى الإمام يخبره فيها أنّه مقبل على محل قتله، وقال: أخبرتني عائشة أنّها سمعت رسول الله| يقول: «يقتل حسين بأرض بابل»، فقال الإمام: «فلا بد لي إذاً من مصرعي»[68].
21 ـ روى ابن كثير والذهبي أنّ عمرة بنت عبد الرحمان كتبت إلى الإمام ـ لمّا عزم على الذهاب إلى الكوفة ـ تخبره أنّه إنّما يساق إلى مصرعه وتقول في كتابها إليه: «أشهد لحدثتني عائشة أنّها سمعت رسول الله| يقول: يقتل حسين بأرض بابل»[69].
مع أنّه لم تكن من عادة النساء التدخل في مثل هذه الأمور؛ إلّا أنّهنّ كنّ على علم بأنّ الإمام سائر في سفره هذا نحو الشهادة؛ وعليه من المتيّقن أنّه لم يكن خفياً على نفس الإمام.
22 ـ كما نقل الذهبي عن يزيد الرشك قال: حدثني من شافه الحسين، قال: «رأيت أخبية مضروبة بفلاة من الأرض، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه للحسين، قال: فأتيته، فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموع تسيل على خديه ولحيته. قال: قلت: بأبي وأمي يا بن بنت رسول الله، ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟ فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليّ ولا أراهم إلّا قاتلي، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلّا انتهكوها، فيسلّط الله عليهم من يذلهّم حتّى يكونوا أذلّ من قرم الأمة، يعني: مقنعتها»، وقد روى ابن كثير الحديث نفسه[70].
23 ـ روى حسين بن دينار عن معاوية بن قرة أنّ الإمام الحسين× قال: «وأیم الله لَو کنت في حُجْرِ هامَة مِنْ هذِه الهَوام لاسْتَخرَجُونِي حَتّی یقْضُوا بِي حَاجَتَهُمْ، وَاللهِ لَیعْتَدُنَ بِي کمَا اعتَدَتِ الیهود فِی السَبْتِ»[71].
24 ـ كما روى أيضاً الذهبي ثمان روايات أُخر تدل على أنّ النبي| وعلياً× ونفس الإمام وجمعاً آخرين قد كانوا على علم أنّ الإمام الحسين× سيتوجّه إلى العراق ويقتل في كربلاء[72] .
25 ـ روى الحاكم عن ابن عباس أنّه قال: «ما کنّا نَشُك، وأهل البَیت مُتوافِرون أنّ الحُسین یُقتَلُ بالّطف». أي أنّنا لم نكن في ريب في ذلك؛ كون أهل البيت قد كانوا متّفقين على أنّ الحسين× يستشهد بالطّف[73].
26 ـ كما روى الذهبي وابن كثير والمسعودي عن ابن عباس أنّّ الحسين× قال: «لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن أقتل بمكة وتستحل بي»[74].
27 ـ كتب ابن أبي الحديد: «أنّ ميثم التمّار كان محبوساً مع المختار بن أبي عبيدة الثقفي في سجن ابن زياد، وكانت شهادته قبل مجيء الإمام الحسين× للعراق بعشرة أيام، قد أخبر المختار بأنّه سيفلت من حبس ابن زياد ويخرج ثائراً يطالب بدم الإمام الحسين× ويقتل هذا الجبّار، أي ابن زياد الذي نحن في سجنه»[75].
حينما يكون ميثم التمّار الذي هو من تلامذة هذا البيت المبارك على علم بشهادة الإمام ومطّلعاً على كل هذه التفاصيل وعارفاً بمن سيثأر لدم الإمام ويقتل عبيد الله بن زياد، فهل يمكن أن يكون الإمام نفسه غير مطّلع على أمر شهادته؟!
28 ـ طبقاً لما رواه ابن أبي الحديد، وابن عساكر، وغيرهم عن الرسول| وأمير المؤمنين×، أنّهما قد ذكرا مواصفات بعض قتلة الإمام الحسين× إمّا اسماً أو رسماً من قبيل (سنان بن أنس)، و(شمر بن ذي الجوشن)، و(عمر بن سعد)، و(حبيب بن حمار)، و(خالد بن عرفطة). ويظهر مما روي عنه×[76] بشأن عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن أنّه كان أيضاً على معرفة بهم، فضلاً عمّا يستشف من نفس كلام الإمام بأنّه كان على معرفة بأرض كربلاء وأمر شهادته أيضاً، فهل من الممكن عقلاً أن يكون الإمام غير عالم بشهادته، وأنّ قصده من الخروج إلى العراق قد كان تأسيس الحكومة؟!
29 ـ روى ابن السكن، والبغوي، وابن مسندة، وأبو نعيم، وابن عبد البر، وابن الأثير، وابن حجر، وابن عساكر، وآخرون عن الصحابي أنس بن حارث (أحد شهداء كربلاء) أنّه قال: «سَمِعَتُ رَسُولَ الله| یقُولُ: إنَّ ابْنِي هذا ـ یعنِي الحُسَینَ ـ یُقْتَلُ بِأرض یقالُ لَها: کربَلاء، فَمَن شَهِدَ ذلك مِنکم فَلْینصُرهُ، فَخَرَجَ أنَسُ بنُ الحارِث فَقُتِلَ بِها مَعَ الحُسَین×»[77].
يستفاد من هذه الرواية بعض الملاحظات:
1 ـ إنّ أنس بن حارث وهو من أصحاب رسول الله| کان مطّلعاً على شهادة الإمام ويعلم بأنّه سيقتل في كربلاء؛ لهذا لحق بالإمام الحسين× كي ينصره إطاعة لأمر رسول الله|.
2 ـ إنّ مناصرة الإمام طبقاً لهذا الحديث الصحيح الذي بحسب القرائن لا شك في صدوره هو أمر واجب، والمشروع الذي قام به الإمام من بدايته إلى نهايته ممضى من قبل الله ورسوله.
3 ـ مع أنّ أنس يعلم وفقاً لهذه الرواية أنّ الإمام سيقتل؛ إلّا أنّه التحق به في كربلاء ليناصره ولينال فيض الشهادة معه، ولم يقل: ما فائدة قتلي؟ فعليّ البقاء على قيد الحياة حتّى أُشهر سیفي في الوقت المناسب بوجه بني أمية، كما أنّه لم يحتمل أن تقع شهادة الإمام الحسين× في وقت وسفر آخر.
4 ـ حينما يكون أنس بن حارث على اطّلاع بما سيجري من أحداث، ويعلم ما سيدفع الإمام للتوجّه إلى كربلاء، وما ستؤول إليه أمور هذه النهضة ومنتهاها، ويبقى منتظراً حتّى يحضر الإمام إلى العراق لينال سعادة الشهادة في ركابه، ولم يرتّب أثراً على احتمالات غير عقلائية رغم أنّ سماعه ذلك من رسول الله| قد لا يكون إلّا مرّة واحدة. فكيف يكون الأمر بالنسبة للإمام الذي سمع ذلك كراراً وتكراراً من جدّه وأبيه بواسطة ومن غير واسطة، ووضّحوا له خصوصيات تلك الأحداث، فضلاً عن علمه اللدنّي بلحاظ إمامته. فهل يعقل أن نقول: إنّ الإمام لم يكن لديه علم بشهادته من تلك الأخبار مع أنّ الأوضاع والظروف حاكية عن اقتراب موعدها ومع عدم توفر شروط تأسيس الحكومة يحتمل الإمام احتمالاً آخر غير الشهادة؟!
30 ـ نقل السيوطي، وابن حجر، وعلي المتقي الذين يعدّون من رجال الحديث لدى أهل السنّة، عن عظماء آخرين من قبيل: ابن سعد، والطبراني، وأبي داود، والحاکم، والبغوی، وأحمد بن حنبل، وأبي حاتم، وعبد بن حمید، وابن أحمد، والملّا ابن راهویه، والبیهقی، وأبي نعیم، خبر شهادة الإمام ووقوعها في كربلاء ضمن روايات عديدة عن الرسول الأعظم| وعن علي×[78]؛ ممّا يعلم منه أنّ شهادة سيّد الشهداء× في كربلاء كانت أمراً مسلّماً ومعروفاً، لدرجة صارت شهرتها سبباً في القلق الذي أبداه الرجال والنساء من سفر الإمام.
مثلاً قال ابن عمر أثناء وداعه للإمام: «أستَودِعُك الله مِنْ قَتِیل»[79]؛ فمع هذا التصريح يصبح احتمال أن تكون نهضة الإمام من أجل تأسيس الحكومة أمراً غير عقلائي، ومرفوضاً من أساسه.
31 ـ طبقاً لما نقله أبو الفرج المرواني الأموي الأصفهاني المتوفى سنة 356 ضمن روايات متعددة يحصل الاطمئنان لكل من راجع كتابه بصحتها، ففي الوقت الذي رُشّح فيه محمّد بن عبد الله بن الحسن× للخلافة وبايعه جماعة من كبراء بني هاشم، وكما ذكر فقد بايعه أيضاً المنصور العباسي مرّتين، وقد أخبر عنه الإمام جعفر الصادق× مراراً بأنّه لن يتوفق في ذلك وسيقتل هو وأخوه، كما هو حال حكومة السفّاح والمنصور وسائر بني العباس الذين أخبر الإمام عن مصيرهم بصراحة، حيث قال الإمام لعبد الله بن الحسن: «إنّها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهؤلاء، أي بني العباس وإنّ ابنيك لمقتولان»، وقال في رواية أخرى: إنّ هذا الأمر ليس لك ولا لأبنائك، إنّما هو لهذا (السفّاح)، ومن بعده لهذا، أي المنصور، ومن بعده لبنيه.
كما روى عن الإمام الصادق× أنّه كلّما رأى محمّد بن عبد الله بن الحسن، فاضت عيناه بالدموع، ثمّ يخبر عن مقتله، ويقول: إنّه ليس من خلفاء هذه الأمة في كتاب علي×[80].
حينما يكون الإمام جعفر الصادق× مطّلعاً وعالماً بمصير الآخرين، فهل يعقل أن يكون الإمام الحسين× غير مطّلع على حاله وحال حكومة يزيد؟! وهل هذا الكتاب الذي يعدّ من مواريث الإمامة وكان موجوداً لدى الإمام الصادق× لم يكن عند الإمام الحسين×؟! إذ بطريق أولى أن يكون سيّد الشهداء× على علم بتلك العلوم، وأن يكون ذلك الكتاب وكل مواريث الإمامة تحت تصرّفه[81].
32 ـ بالإضافة إلى ذلك فقد روى محدثو الشيعة الكبار، وعدّة من محدثي ومؤرخي أهل السنّة المشهورين من قبيل: الذهبي، والمقريزي، والبيهقي، والحاكم، والترمذي، وابن الأثير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، وابن جرير، والطبراني، والسيوطي في تفسير آية: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [82]، وآية: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [83]، أنّها تتعلق بملك بني أمية ومدّة حكومتهم، حيث ينتهي سندها لدى بعضهم إلى شخص الإمام الحسين× والإمام الحسن×[84]؛ وعليه فإنّ الإمام يعلم أنّه لم يحن بعد زمان نهاية حكم بني أمية، فكيف إذن يكون هدفه تأسيس الحكومة الإسلامية وإسقاط حكومة بني أمية؟!
33 ـ إنّ لدينا روايات كثيرة حول تفسير آية: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ) [85]،تذكر أنّ وقائع وأحداث كل سنة تعرض في ليلة القدر على الإمام، وهذه الروايات قد وردت وأخرجت في كتب الحديث والتفسير المعتبرة بحيث صارت غير قابلة للإنكار؛ وعليه من المتيقن أنّه قد كان من ضمن الحوادث التي عرضت على الإمام في ذلك العام تفاصيل واقعة كربلاء أيضاً، فمع وجود ذلك كيف يمكننا احتمال أنّ الإمام كان قاصداً تأسيس الحكومة الإسلامية، ولم يكن عالماً بشهادته[86]؟!
إنّ تلك الروايات والأخبار الدّالة على علم الإمام بشهادته في كربلاء ونهاية هذه النهضة والسفر إلى العراق لم تبق محجوبة؛ إذ قد رويت بكثرة في المصادر والموسوعات الحديثية الشيعية المعتبرة، كما أنّ الروايات التي تدلّ أيضاً على هذا الموضوع وترد بشكل غير مباشر على طرح مؤلف كتاب الشهيد الخالد لا تعدّ ولا تحصى، حيث انطوى كتاب كامل الزيارات المعتبر والمتقن للشيخ الأقدم أبي القاسم جعفر بن قولويه القميّ المتوفى سنة 367 لوحده على أكثر من سبعين باباً، قد ضمّت أخبار الرسول| وأمير المؤمنين× عن شهادة الإمام الحسين×، وأخبار الإمام نفسه عن شهادته، وفضيلة زيارته، والبكاء وإقامة العزاء على مصيبته، ونظم الشعر في مصائبه، وخصوصيات أخرى، لدرجة أنّ كل شخص يرى مثل هذه الأخبار التي بلغ عددها في هذا الكتاب ما يقرب من ستمائة حديث معتبر، فإنّه يدرك أنّ طرح مؤلف الشهيد الخالد هو طرح دون شأن مقام الإمام، وأنّه من غير الصحيح عرض هذه النهضة الفريدة من نوعها بالنحو الذي قدّمه هذا الكتاب، وهي التي كانت سبباً لنيل كل هذه الدرجات والمثوبة والبركات.
6 ـ إطلالة عابرة حول كتاب الشهيد الخالد
نحن لم نشأ ـ مع كثرة مشاغلنا ـ مناقشة هذا الكتاب وإبداء رأينا فيه؛ لأنّ العديد من الأقلام المقتدرة قد استوفت حق الكلام في هذا الموضوع حتّى أماطوا اللثام عن الاشتباهات والانحرافات، إلّا أنّه ونظراً لإصرار عدد من الفضلاء على إبداء الرأي واحتجاجهم عليّ بالحديث الشريف: «إذا ظهرت البدع في أمتي...» سنقوم بتحليل أبحاث هذا الكتاب ومناقشتها بالقدر الذي يسعه الوقت القليل والفرصة السانحة.
وبشكل مختصر يبتني هذا الكتاب على أنّه بعد موت معاوية عزمت حكومة يزيد على مواجهة الإمام، مصممة على أخذ البيعة منه عنوة بقوّة السلاح والتهديد بالقتل، إلّا أنّ الإمام امتنع عن البيعة وهاجر إلى مكّة المعظمة ليدرس الأوضاع نائياً بنفسه عن موطن الخطر، ثمّ بدأ بالتحضير إلى نهضته بعد وصول رسائل ورسل أهل الكوفة وتحصيله الاطمئنان بتشكيل الحكومة الإسلامية، وشرع أوّلاً بإرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة للتحقق أكثر ورفع درجة الاطمئنان، وبعد وصول مسلم إلى الكوفة ووقوفه على أوضاعها أرسل تقريره إلى الإمام القاضي بأنّ أهلها على استعداد لنصرة الإمام وتأسيس الحكومة الإسلامية، وطلب منه التعجيل في قدومه إلى الكوفة. وفعلاً اعتماداً على رسالة مسلم بن عقيل وموازين القوى العسكرية توجّه إلى الكوفة برفقة أطفاله ونسائه وأعزّته دون توقّع مسبق لشهادته وهزيمة جيشه، لكن انقلب الوضع بمجرد ملاقاته لجيش الحر من مقام المواجهة إلى مقام الصلح والسلم، فاقترح الإمام عليهم إخلاء سبيله حتّى يرجع إلى الحجاز، إلّا أنّهم وللأسف لم يقبلوا بهذا الاقتراح السلمي إلى أن حطّ برحله في أرض كربلاء، وهناك عرض الإمام أيضاً اقتراح الصلح على عمر بن سعد بناء على ما أشرنا إليه من اقتراحات ثلاثة في القسم الثاني لهذا الكتاب، ولم يلق أيضاً في هذه المرّة قبولاً، ولأنّ ابن زياد أراد إجبار الإمام على الاستسلام دون قيد أو شرط لأوامره فلم يستسلم الإمام، ولم يكن من الإمام إلّا الدفاع عن نفسه حتّى استشهد بكرامة وعزّة نفس.
خلص مؤلف كتاب الشهيد الخالد إلى النتيجة التالية:
1 ـ إنّ الهدف الوحيد الذي كان يروم الإمام تحقيقه من خلال نهضته هو تأسيس الحكومة الإسلامية، إلّا أنّ الوقائع غير المتوقعة والتي لم يكن من الممكن توقعها قد حالت دون وصوله لهذا الهدف، ولكن بعد وضوح تلك الأوضاع أراد الإمام تغيير مسار مشروعه، واجتناب النتائج الخطيرة والآثار الوخيمة التي كانت سترجع على الإسلام بأضرار جسيمة؛ وهذا ما دعاه إلى اقتراح الصلح إلّا أنّه قوبل بالرفض؛ وهذا ما يقضي بأن تلقى مسؤولية النتائج الوخيمة للنهضة على عاتق جهاز السلطة الذي رفض اقتراح الصلح.
وعلى كل حال، فإنّه لم يكن قصد الإمام من المقاومة التي قام بها نجاة الإسلام أو إعلان عدم مشروعية الحكومة اليزيدية والحيلولة دون حيلهم الخائنة، تلك المقاومة التي آلت إلى نهضة فاشلة مع ما انتهت إليه من وضع يبعث على الشفقة؛ كون النهضة على الحكومة من أجل رقي مقاصد الإسلام المتعالية قد كانت مطروحة ما دام لم تحدث المواجهة مع جيش العدو، أمّا حينما عاين الإمام جيش الحر وعلم ما آل إليه الوضع فقد عمد فوراً إلى تغيير خيار النهضة إلى خيار الصلح.
2 ـ لذلك لم يكن الإمام مطّلعاً على أمر شهادته في نهاية هذه النهضة، ولم يكن متوقعاً لهزيمة جيشه أبداً؛ وعليه يجب ردّ تلك الأخبار والأحداث التاريخية التي دلّت على علم الإمام وتوقعه لأمر شهادته أو تأويلها وتوجيهها.
3 ـ لم تكن مقاومة قوات الإمام في يوم عاشوراء من أجل نصرة الدين بالمعنى الذي نفهمه من الحروب الإسلامية وجهاد المجاهدين، ولا بقصد أن تترتب عليها الآثار والنتائج التي ضمتها الكتب وجرت على لسان الروايات والزيارات التي أوردها العظماء، إنّما كانت صرف مقاومة دفاعية غايتها عدم الاستسلام لابن زياد، فمن حيث المقاومة والصمود والإباء في وجه شخص حقير كابن زياد يكون عملاً يستحق المدح والثناء.
4 ـ من البداية لو لم يكن التنبؤ بإمكان تأسيس الحكومة الإسلامية حاضراً لبايع الإمام يزيداً أو على الأقل لسايره وحاول إرضاءه عنه؛ لأنّ الطريق الوحيد لتحقيق المقاصد الإسلامية هو تأسيس الحكومة.
5 ـ بنظر المؤلف أنّه لم يترتب على الشهادة والمظلومية المذكورة، ورفض البيعة، والصمود وعدم الامتثال للحكومة اليزيدية أيّ فائدة وأيّ ردّة فعل، وحتّى لو قلنا بوجود ردّة فعل فلكونها قهرية لا ترقى أن تكون هدفاً للنهضة.
6 ـ لمّا اعتقد المؤلف بأنّ هدف النهضة الوحيد هو تأسيس الحكومة الإسلامية، فإنّه حاول جاهداً ردّ كل مقاربة تخدش في هذا الرأي، مظهراً الإمام على أنّه عاجز عن التنبؤ بما ستؤول له تلك الأوضاع، بل ردّ حتّى احتمال أن تكون تلك النهضة والشهادة تعبّداً إلهياً ومهمة خاصة؛ مع أنّه قد صُرّح بذلك في كلمات العظماء من أمثال الشيخ المفيد والتي يستند إليها المؤلف.
7 ـ تارة يردّ المؤلف بعض الأخبار والأحاديث بتلاعب عجيب ومغالطة وبتبريرات لا يقبلها المنطق والعقل، وتارة أخرى نراه يتجنب إيراد بعض الأخبار والأحاديث التي يرى أنّها معارضة لرأيه، وأخرى يذكر بعض عبارات الحديث ويعرض عن نقل البعض الآخر.
8 ـ في النهاية خلص المؤلف بعد كل هذه الجهود التي استغرقت سبع سنوات من المطالعة إلى أنّ الإمام معذور في نهضته التي انتهت بشهادته وشهادة أصحابه وأسر أهله وعياله، مثله مثل شخص قد اعتمد على وسيلة ما في طريق سفر آمن من أجل تحقيق تجارة مهمة وفجأة أثناء سفره تتلف بضاعته إثر حادث لم يكن متوقعاً، بطبيعة الحال سوف يكون مثل هذا الشخص المبادر لمثل هذا السفر معذوراً؛ لأنّه أراد تحصيل ألف مليون كفائدة إلّا أنّ ما حدث له كان مانعاً من تحقق ذلك وخلاف ما كان ينتظره، فلم يجن ما كان يرومه من فائدة، بل لحقه الضرر والأذى قهراً.
7 ـ بطلان أساس كتاب الشهيد الخالد
مع أنّنا قد ذكرنا في مباحث الفصول السابقة لهذه المقدّمة بأنّه من الواضح أنّ كتاب الشهيد الخالد باطل من الأساس، إلّا أنّنا نشير هنا بنحو منفصل إلى عدّة من الإشكالات الواردة عليه:
1 ـ طبقاً لما انطوت عليه مباني مذهب الشيعة، وما ذكرناه سابقاً عن مضامين الأحاديث المعتبرة، فإنّه يتعيّن على كل واحد من الأئمة^ إجراء الوظيفة المنوطة به من قبل الله تعالى، والتي وصلتهم تفاصيلها من الرسول|، فصريح ما جاء في تلك الأخبار هو أنّ مشروع الإمام الحسين× لم يكن النهوض من أجل تأسيس الحكومة الإسلامية، وإنّما كان مشروعه هو النهضة والشهادة، والامام على علم تام بذلك. وطبقاً لما جاء في أحد أبواب كتاب الكافي الشريف فإنّ أيّ فعل صادر من الأئمة^ وكل ما يقومون به معهود ومأمور به من قبل الله تعالى.
2 ـ تبعاً لما جاء في تلك الأخبار فإنّ الرسول الأكرم| فضلاً عن إبلاغ الأئمة^ بمهمتهم الإلهية، فإنّه قد أخبر بخصوص ما سيجري على الإمام الحسين× وأمر شهادته في كثير من الأحاديث الشريفة، كما أنّ أمير المؤمنين× قد أخبر عن مكان شهادة الإمام الحسين×، حتّى صار أمر الشهادة معلوماً ومسلّماً.
3 ـ ما نقل من أخبار في كتب التاريخ المعتبرة يقضي بأنّ الإمام الحسين× بنفسه قد أخبر مراراً بأمر شهادته في مكّة وفي أثناء المسير، بل إنّ الحوادث والوقائع التي جرت في مكّة وأثناء الطريق تشير بأنّ المهمّة المنوطة بالإمام والتي يتعيّن عليه القيام بها لم تكن تأسيس الحكومة الإسلامية.
4 ـ إنّ المقاربة التي تصوّر بأنّ حركة الإمام قد كانت (والعياذ بالله) عن جهل، وحين التفاته إلى ذلك فسخ عزيمته الأولى وبادر إلى اقتراح الصلح، لا تنسجم أبداً مع مقام الإمام، فخصال الحسين× وشجاعته، وحميّته ورجولته تأبى وبشدّة اقتراح مثل هذا الصلح الذي يحمل في حقيقته خيار الاستسلام والخنوع، وطلب الصفح والرضا بالمذلّة. فالإمام لم يكن أبداً على استعداد للذهاب إلى شخص فاسق وفاجر مثل يزيد والتملّق له، ومناداته بلقب (أمير المؤمنين) فيلقي بذلك أمة جدّه في قعر الخطأ والاشتباه، ليعود إلى المدينة ويكتفي هناك بالدعاء.
إنّ مؤلف كتاب الشهيد الخالد أراد القول: إنّ الإمام كان طالباً للصلح دائماً، ونحن نقول أيضاً: إنّ الإمام كان كذلك طالباً للصلح والإصلاح، إلّا أنّك بهذا النحو لا يمكنك إثبات وقوع طلب الصلح الفعلي من الإمام؛ لأنّ اقتراح الصلح يجب أن يصدر عن جهة لم تقهر بعد ولا زالت تحتمل النصر ولو بنسبة ضعيفة، أو على الأقل يمكنها تأخير انتصار الجهة المقابلة ولو مؤقتاً، وجعلها تعيد النظر في أمر المواجهة، وأمّا اقتراح الصلح ممن وقع في قبضة العدو وليس أمامه أيّ خيار للخلاص ولم يتبق على نهايته سوى ساعات قلائل فلا يعني إلّا الاستسلام وطلب العفو.
والساحة القدسية للإمام منزّهة ومبرّأة عن مثل هذا الصلح، حيث يقول: «ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما»؛ فما أردتم إظهاره لنا من خلال مشهد اقتراح الصلح من قبل الإمام يشير إلى الضعف والوهن، والازدراء، ولا ينسجم مطلقاً مع روحية هذا الرجل الصنديد والشجاع الذي لا مثل له، وهو القائل: «لا وَالله لا اُعطِیهِم بِیدي إعطاء الذَلیل، ولا اُقِرّ لَهُم إقرار العبید...»، ونظم قائلاً:
أنَا ابنُ عَلِي الحِبْرِ مِنْ آلِ هاشِم کفانِی بِهذا مَفخَراً حِینَ أفخَرُ |
فنفس اقتراح العودة إلى الحجاز والذي كان إتماماً للحجة يكفي لإثبات أنّ الإمام رجل صلح.
5 ـ ما أورده من أنّ قوات الإمام في حال الصلح ستكون في مأمن حيث يمكن الاعتماد عليها مستقبلاً، لا يمكن قبوله بأيّ حال من الأحوال؛ لأنّ الإمام بمثل هذا الصلح الذي طرحته وخطّه عمر بن سعد لابن زياد يكون قد وضع حياته تحت رحمة عدوّه، وفقد وجاهته واحترامه ومحبوبيته التي كانت في قلوب الناس، وسقط من أعين الآملين فيه، ولن يكون في المستقبل أهلاً ليفجّر أيّ نهضة أو ثورة.
6 ـ من الممكن أن يستخلص بعض المطالعين لهذا الكتاب بأنّ الإمام أثناء شروع نهضته قد كان ـ والعياذ بالله ـ مستبداً برأيه، وغير مهتم بما يشيره عليه الآخرون من آراء.
وهنا نقول للمؤلف: طبقاً لرأيكم فإنّ الإمام كان قاصداً تأسيس الحكومة، فهل بإمكانكم أن توضّحوا لنا ـ على فرض أنّ الإمام كان يستقصي الوضع تبعاً للمجريات الطبيعية ودون الاعتماد على علمه الموهوب ـ لم لم يأخذ الإمام برأي أكابر القوم ومحنكيهم السياسيين الذين أجمعوا على أنّ أمر تأسيس الحكومة غير ممكن؟ بل اعتقدوا أنّه لا يجب الاعتماد على مشاعر أهل الكوفة في هذا الأمر، ولماذا لم يشكّل ما اصطلحت عليه بشورى الصحراء في مكّة؟
فماذا ستقول لأولئك الذين يرون نهضة الإمام بنفس منظارك على أنّها كانت من أجل تأسيس الحكومة الإسلامية، ويعدّونها انتحاراً في غير محله وعدم اكتراث بالآراء السديدة؟ غير القول بأنّني قد كتبت كتاباً وانكببت على المطالعة لمدّة سبع سنوات مضنية حتّى أثبت أنّ نهضة الإمام قد كانت ضمن شروطها المواتية. فلو كان هناك من هم أكثر اطلاعاً ومعرفة في مجال التاريخ وكانت آراؤهم أكثر مقبولية فقالوا: إنّ استنتاجاتك باطلة، فماذا تجيب؟
نعم، لقد كان الحدث المفاجئ الوحيد ـ بحسب قولك ـ أنّ الإمام أوشك على تحقيق النصر حينما سنحت الفرصة لاغتيال ابن زياد، إلّا أنّ هذه الفرصة على قولك لم تكن متوقعة حتّى يأخذها الإمام بعين الاعتبار، بل حتّى في حالة اغتنامه هذه الفرصة لم يكن انتصار الإمام عسكرياً معلوماً.
فإن قلت: كانت هناك أسرار لم يكن أمثال ابن عباس على علم بها، ولم يخبرهم الإمام بها؛ إذ لا يجدر بالإمام إفشاء أسرار الحرب، لهذا ظنّوا أنّ الشروط لم تكن مواتية.
والجواب هو: أوّلاً: إنّ هذا الكلام صرف ادّعاء؛ حيث لا يوجد خبر آخر غير خبر كتابة الرسائل من قبل أهل الكوفة وإرسالها مع رسلهم، وما أعلم به مسلم بن عقيل الإمام من مجريات الأحداث حتّى لا يعلم به ابن عباس. أضف إلى ذلك ما المانع من أن يعرض الإمام هذه الأسرار العسكرية على ثقاته من أمثال ابن عباس وعبد الله ابن جعفر ومحمّد بن الحنفية، فهم لم يكونوا جواسيس يزيد حتّى يخفي عنهم الإمام تلك الأسرار؟
وفي النهاية تدرجت في المسألة إلى مرحلة صرت تقول: إنّ الإمام قد كان معذوراً؛ لأنّه ما توقع تغيّر الأوضاع، وهم يقولون ـ والعياذ بالله ـ أنّه لم يكن معذوراً، وبعبارة مؤدّبة يقولون: إنّ ما جئت به من تحليل على معذرية الإمام ليس مقنعاً؛ لأنّ الوضع المستحدث لم يكن معقّداً لدرجة أنّه لا يمكن توقعه، فضلاً عن أنّه کان متوقعاً من قبل جميع أهل السياسة.
أو بتعبير آخر تقول: إنّ الإمام، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، ومحمّد بن الحنفية والجميع قد اجتهدوا في هذه المسألة، وكان لهم رأي وللإمام رأي آخر، وحيث لم يكن من الواجب أن يقلّد أحدهم الآخر تعيّن أن يكون اجتهاد الإمام مطابقاً للواقع واجتهاد الآخرين مخالفاً له، إلّا أنّ التطورات غير المتوقعة قد خلطت الأوراق، فصار اجتهادهم هو المطابق للواقع واجتهاد الإمام مخالفاً لما حصل؛ وعليه يكون الإمام معذوراً. إنّ هذا الرأي مخالف لعقائد الشيعة وللأحاديث المتواترة.
لو فرضنا أنّ تشكيكك في مسألة علم الإمام بشهادته قد أوصلت البحث فيه إلى مرحلة ما إلّا أنّك لم تقدّم أدلة مقنعة على صواب قرار الإمام ـ على فرض كون هدفه هو تأسيس الحكومة ـ بالخروج من مكان آمن مثل مكّة المعظمة معتمداً على وعود أهل الكوفة وأنّ الآخرين قد أخطأوا في تشخيصهم. فاستنباطك هذا ما هو إلّا استنباط شخصي، وهكذا استنباط في مثل هذه المسائل ذات الجنبة العامة والعالمية لا يرقى إلى هداية الناس وإرشادهم؛ لأنّك لا تملك الدليل المقنع على ذلك.
وعليه، فإنّ النتائج السلبية في هذا الكتاب أكثر من النتائج الإيجابية والتأسيسية، بمعنى أنّه من الممكن أن يتبنّى أحد رأيك هذا ويهتف بما تهتف به من أنّ غرض الإمام قد كان تأسيس الحكومة، إلّا أنّ مبناك في أنّ رأي الإمام قد كان أكثر صواباً من رأي ابن عباس والآخرين مع الأخذ بعين الاعتبار أمارات تلك الأحداث لن يقبل به أحد؛ لأنّك لم تقم أيّ دليل مقنع على ذلك.
أمّا نحن فنقول: لقد كان الإمام مؤيّداً لوجهة نظر ابن عباس والآخرين، ومتنبأ بما ستؤول إليه الأحداث في المستقبل، إلّا أنّ ما كان يخافه القوم عليه ولا يجرؤون على فعله هو الشهادة في سبيل الله وهذا ما يعتبره الإمام سعادة وفوزاً عظيماً.
يقول المؤلف الأستاذ محمّد رضا المصري: «لقد كان الذين نصحوا الإمام بعدم الذهاب إلى الكوفة على صواب؛ لأنّ في ذلك خطر عليه وكانوا متوقعين لأمر قتله. وكون الإمام لم يعمل بنصيحتهم ليس ناظراً لعلمه بخطئهم؛ بل لأنّه لم يكن يخاف الشهادة في سبيل الله وفي ساح الجهاد لذا لم يأخذ برأيهم»[87].
7 ـ حتّى وإن قبلنا آراءك في هذا الكتاب فإنّنا لا نرى نتيجة له سوى أنّ الإمام كان معذوراً، وهذا ما عليه جمهور أهل السنّة عدا بني أمية ومن يُكنّ العداء لأهل البيت^ أو من لم يكن له الاطلاع الكافي في المسألة؛ إذ لا نجد من ينسب المعصية والخطأ العمدي ـ والعياذ بالله ـ للإمام [88]؛ لأنّ تاريخ الإمام وسيرته ومناقبه وفضائله تأبى نسبة هذا الحكم له وترفض طرحه من الأساس، فحتّى من اعترض فإنّه يعتقد أيضاً أنّه كان معذوراً في اجتهاده ورأيه، إلّا أنّه ـ المعترض ـ تناول المسألة بلحاظ الواقع ومجريات الأحداث والخطأ ـ والعياذ بالله ـ الذي يحتمل وقوعه، فيرى أنّ أمثال ابن عباس قد كانوا على صواب.
إذن لم يكن أحد يخدش في لياقة الإمام وصلاحيته، فالجميع يقبلون هذا ويؤيّدون أنّ الإمام كان أهلاً للنهضة وتأسيس الحكومة الإسلامية بمساندة الناس والأمر بالمعروف. ولا يجرأ أحد على اتّهام الإمام بحبّ الرئاسة، فالإمام نهض طالباً للحق الذي هو له ولم يكن هناك من هو أصلح منه ليقوم بذلك، حيث كانت نيّته صادقة وهدفه نبيلاً، ولم ينكر أحد هذه الأمور.
يقول أحد علماء أهل السنّة: إنّ جمهور المسلمين اتفقوا على أنّ الحسين استشهد، بل هو أبو الشهداء[89].
إنّ ما جعل الذين يظنون مثلك بأنّ نهضة الإمام كانت من أجل تأسيس الحكومة يترددون، هو أنّ النهضة لو كانت تهدف لتحقيق هذا الهدف مع أنّ الظروف لم تكن مواتية، فهذا يعني أنّ الإمام لم يدرس ويبحث المسألة بالشكل الذي كان يجدر به دراستها. وفي جواب هذه الشبهة نقول: إنّ النهضة من الأساس لم تكن من أجل تأسيس الحكومة الإسلامية، وأنتم تصرّون على أنّ الأوضاع كانت مساعدة على ذلك؛ لهذا يكون الإمام معذوراً.
أولئك الذين يدّعون أنّ الظروف لم تكن مواتية يقولون: إنّ الإمام قد حصل عنده الاطمئنان على أنّ الأوضاع كانت مناسبة للنهضة وإن ظهر خلاف ذلك فيما بعد، إلّا أنّ تكليف الإمام كان يستدعي منه العمل بتشخيصه وإن خالف الواقع؛ وعليه تكون أنت ومن يقول بأنّ الظروف لم تكن مواتية قائلين بمعذورية الإمام، وكلاكما تنسبون الجهل ـ والعياذ بالله ـ له.
إذن أنت لم تضف شيئاً ولم تحل مشكلة، غاية ما سعيت إلى إثباته هو القول بصحة إقدام الإمام وفقاً لتلك الظروف والأحوال التي كانت مناسبة، إلّا أنّ عدم علمه بما ستؤول إليه الأوضاع خلط كل تلك الحسابات، وعليه يكون الإمام معذوراً لعدم علمه بذلك.
إنّ الشخص (ابن خلدون) الذي يقول أيضاً بأنّ الإمام كان على ظنّ من أمر انتصاره، فيكون جواز نهضته هو احتمال النصر وإن حصل ما يشير إلى الخطأ في التشخيص والحسابات فإنّه يقتضي بأنّ الإمام كان معذوراً. إذن جميع من يعتقد بأنّ النهضة قد قامت بقصد تأسيس الحكومة متفقون على أصل معذرية الإمام، وعدم نسبة الخطأ العمدي له؛ فما الذي أنجزته إذن بعد سبع سنوات؟ وماذا أضفت على هذه المسألة غير أنّك خلصت إلى أنّ الإمام قد كان معذوراً؟! سيّدي العزيز، إنّ الكلام حول معذرية الإمام مناف للأدب ومخالف لأصول مذهب التشيع.
لو قلت: إنّ ما توصلت إليه من نظر في المسألة ليس جديداً، فهناك رجال عظماء من قبيل السيّد المرتضى علم الهدى+ يؤيّد ذلك أيضاً. نقول في جوابنا: من المؤكّد أنّك لم تأت بشيء جديد، وهذا الرأي عن أيّ شخص قد صدر يحظى بالمقبولية متى ما اعتبرنا هدف النهضة هو تأسيس الحكومة الإسلامية فقط وعلى أساس الظن الشخصي للإمام بأنّ الظروف مؤاتية لذلك ويعدّ الإمام معذوراً بين العوام والذين لم يدركوا هدف النهضة، ولا يمكن قبوله متى اعتبرنا الظروف مؤاتية.
وعلى كل حال، فإنّ السيّد وأمثاله قد أوردوا هذا الكلام بنحو الاحتمال في كتاب تنزيه الأنبياء، حيث كان غرضه الوحيد من ذلك رفع الاعتراض الوارد على نهضة الإمام، وكون الإمام في كل الأحوال مظلوماً ومأجوراً، وأنّ بني أمية وقتلته كانوا مذنبين، لا أنّه أراد ـ مثلك وبإصرار ـ إنكار المفاهيم السامية والأهداف الواقعية للنهضة التي استنتجت في بداية الأمر، فالسيّد كان له رأي آخر مغاير لرأيك أنت، لقد أراد إقناع أهل السنّة ومن سار على نهجهم الفكري وأنس به بأيّ نحو من الأنحاء، والإدلاء بجواب يمكنهم من استساغة وجهة نظره، أمّا أنت فتريد أن تعكف الشيعة عن الرأي القاضي بأنّ شهادة سيّد الشهداء× كانت من أجل خلاص الإسلام والأهداف المتعالية للدين، وتنكر تلك الأهداف المحققة والحاصلة، فكم البون بينهما شاسع، وأين هذا من ذاك.
8 ـ لا يجب أن ندرج الآثار السيئة وغير المرغوبة المترتبة على مقتل الإمام في حسابات النهضة، فنقول: من المؤكّد أنّ مصلحة بقاء الإمام على قيد الحياة أهمّ من مصلحة قتله، بل إنّ حياة الإمام على رأس جميع المصالح، وأنّه لن يترتب على قتله أيّ ثمرة وأثر غير حرمان الناس من بركات وجوده المقدّس، فحياته هي معين الهداية والإرشاد والصلاح؛ وعليه كيف يكون موت الإمام أهمّ من بقائه حياً، ويكون الهدف من نهضته هو الشهادة والقتل؟
كما أشرنا سابقاً فإنّ ما ذكرتموه عين السفسطة والمغالطة؛ لأنّه يجب مقايسة مصلحة بقاء الإمام حياً في زمان الحكومة اليزيدية وحال بيعته ليزيد، ومناداته بأمير المؤمنين واستسلامه له، مع مصلحة إعلان بطلان حكومة يزيد، وإرشاد أذهان الناس والحيلولة دون الانحراف الاجتماعي، والدفاع عن الدين والامتناع عن البيعة، والمقاومة إلى حدّ بذل النفس وتلك المصائب الفجيعة التي حصلت. فالإمام قد اختار الشهادة على الحياة بلحاظ ما قاله: «لا أرى الموت إلّا سعادةً، ولا أرى الحياة مع الظالمين إلّا برماً» وجعله دستوراً لما يقوم به؛ لهذا لم يكن بإمكان الإمام لزوم بيته، وتعيّن عليه الانتفاض ضدّ الظلم، والقيام بوظائفه والوفاء بالتزاماته تجاه الدين الإسلامي.
يقول المؤلف المصري (توفيق أبو علم): «لم يكن للإمام خيار غير النهضة في مواجهة يزيد، حيث كان يتوجب على الإمام القيام بتلك النهضة اضطراراً؛ لأنّ في بيعته ليزيد معصية لا يجوّزها أيّ نحو من أنحاء التقيّة، ولا يقبل عندها أيّ عذر من الأعذار»[90].
9 ـ الاعتراض الآخر الذي نوجّهه لهذا الكتاب هو أنّه سعى إلى التعريف بنهضة الإمام على أنّها نهضة فاشلة ومهزومة وغير مثمرة، وأنّ قتل الإمام أيضاً كان أمراً جزئياً وعرضياً منشؤه عناد ابن زياد وحقده، وإباء الإمام ورفضه التسليم له. والحال أنّ هذا الكلام ـ بناء على فرض صحة مباحث كتاب الشهيد الخالد ـ في حدّ نفسه يحتاج إلى تأمّل؛ إذ كيف يكون الإمام مستعداً للاستسلام ليزيد والذهاب إليه بينما يمتنع عن التسليم لابن زياد؟
كيف يكون الإمام بعد كل تلك الشعارات التي رفعها وصور الشجاعة التي أبرزها يكون مستعداً للذهاب إلى الشام، وطلب الصفح رسمياً (والعياذ بالله) من يزيد حتّى يأذن له في العودة إلى بيته والمكوث فيه، ويرى بأمّ عينه انقراض الدين الإسلامي؟ وكيف لم يعر الإمام حينها مصلحة وجوده ـ بحسب قولك ـ اهتماماً، ورجّح قتله ـ الذي طبقاً لقولك أيضاً لم يترتب عليه أيّ أثر ـ على حياته؟ لماذا لا يقال هنا: إنّ مصلحة وجود الإمام أهم من مفسدة استسلامه لابن زياد، وأنّه لم تكن هناك فائدة من الأساس من قتل الإمام بحجة امتناعه عن الاستسلام؟ لماذا لم تأت هنا بالعبارات المغلطة؟
لو قلت: إنّ الإمام كان يعلم بأنّه سيقتل بعد التسليم لابن زياد، لقلنا: إنّكم ذكرتم بأنّ الإمام لا يعلم الغيب، فمن المحتمل أن لا يُقتل أو أنّ الحوادث المستقبلية قد تحول دون قتله. أضف إلى ذلك، كيف كان الإمام مطمئن البال ليزيد وأنّه سوف لن يقتله؟ إنّ مثل هذا الكلام لا يُعقل.
فالإمام كان يعلم بأنّ يزيد وابن زياد كلاهما سيضعان حدّاً لحياته سواء بايع أو لم يبايع، استسلم أو لم يستسلم. أولم يكن والد يزيد هذا معاوية بخداعه السبب في استشهاد الإمام الحسن المجتبى×؟! أولم يكن يزيد هذا هو المرتكب لكل تلك الجرائم؟!
خلاصة الكلام، أنّنا كلما تأمّلنا في خطّة كتاب الشهيد الخالد وجدناها غير منسجمة مع العقل والمنطق والبحث.
10 ـ يجب عند البحث عن علّة أيّ واقعة تاريخية وتشخيص الهدف منها ملاحظة انطباق علّتها وهدفها على جزئيات ومفاصل تلك الواقعة كافة، فلو كانت بعض تلك الجزئيات لا تنسجم مع العلّة والهدف المشخصين، فإنّه لا يصح اعتبارهما علّة وهدفاً لتلك الواقعة.
من موارد الاعتراض على كتاب الشهيد الخالد هو: أنّه من هذه الجهة ناقص وغير محكم، حيث لم يتمكّن من إيجاد علاقة بين مفاصل تلك الواقعة الأليمة من بدوها حتّى انتهائها وكونها تهدف لتأسيس الحكومة الإسلامية أو رفض الاستسلام لابن زياد.
فمثلاً كيف يعلل مؤلف كتاب الشهيد الخالد إرسال أبناء أهل البيت الصّغار إلى ميدان الجهاد وأخذهم الإذن في الجهاد وما لحقهم بعده من القتل؟
لماذا لم يمنع الإمام من كان معه من الإقدام على القتل بشكل صريح وملزم، ودفع تلك القوة إلى الهلاك والإتلاف؟ ولم يكن ـ بحسب قولكم ـ ليترتب على قتل كل واحد منهم ذوداً عن حياة الإمام سوى بضع دقائق أيّ أثر يذكر، بل ولم يترتب على قتلهم أيّ أثر يرجع لحفظ الدين ونجاة الإسلام.
والإنصاف أنّ جميع هذه التعليلات العليلة لا تتوافق مع مجريات واقعة كربلاء، وإنّكم لن تصلوا إلى المبتغى من خلال هذا الطريق الذي سلكته.
أيّها الأعرابي، أخاف أن لا تصل إلى الكعبة، إنّ الطريق الذي سلكته يوصلك إلى تركستان. إنّك لتجهد نفسك بلا فائدة ومن دون مبرر، وتفسد سمعتك وتزيد من عبء غيرك.
۱۱ ـ لا ریب أنّ الإمام الحسین× من بين شهداء طريق الحق له الريادة ومقام السيادة، فيصدق عليه بحق لقب سيّد الشهداء، وأبو الشهداء، ومولى المجاهدين، وأبو الأحرار، وسيّد أهل الإباء، وقائد الشهداء، وزعيم الأحرار. كما أنّ تضحيات أصحابه وأنصاره وقيمة شهادتهم لا تقل أهمية عن قيمة شهداء بدر، فمثل العباس له يوم القيامة درجة في الجنّة يغبطه عليها جميع الشهداء.
كما لا شك أنّ الإمام وأصحابه قد نالوا تلك الدرجة بتفانيهم وتضحيتهم، وحازوا كل هذا القرب والمنزلة. فإن حاولنا توجيه وتفسير عمل وإنجازات هؤلاء الرجال وقائدهم الفذ بما لا يتناسب مع درجاتهم ومقامهم، أو أطلقنا هذه العناوين عليهم مجاملة ومبالغة نكون قد ارتكبنا خطأً فادحاً وأجحفنا في حق هؤلاء الشهداء في سبيل الله، بل نسبنا الخطأ ضمناً وبشكل غير مباشر (والعياذ بالله) إلى الرسول|.
وعليه نقول: إنّ تلك الدرجات الواردة في الأخبار والأحاديث التي اختُصّ بها الإمام وأصحابه وأنصاره وشيعته ومعزّوه وزوّار قبره تتناسب مع المفاهيم المتعالية المدركة في تلك الواقعة الأليمة واعتبارنا أنّ الهدف من قيام النهضة قد كان أمراً جليلاً وصحيحاً.
والآن إذا أخذنا برأي مؤلف كتاب الشهيد الخالد وقلنا: إنّ الإمام قد قام من أجل تأسيس الحكومة، إلّا أنّه وبعد تغيّر الأوضاع وتبدد إمكانية تأسيس الحكومة انتقل إلى مقام طلب الصلح، ولمّا لم يقبل منه اقتراح الصلح خيّر بين القتل أو التسليم لابن زياد دون قيد أو شرط، فأبى الإمام التسليم لابن زياد واختار خيار المقاومة والثبات حتّى قتل برفقة أنصاره.
طبقاً لهذا الفرض فإنّ شهادة الإمام لم تكن في سبيل تأسيس الحكومة الإسلامية وإجراء الأحكام الإلهية؛ لأنّ أرضية ذلك قد انتفت، وبذلك يكون الإمام قد آثر التضحية على الاستسلام دون قيد أو شرط والثبات حتّى الشهادة. وبالطبع هذا المعنى الراقي حاكي عن إباء الإمام العالي الذي يحظى بقيمة وأهمية كبرى، وهذه الشهادة تستحق التبجيل والاحترام. إلّا أنّ هذا المفهوم العالي والواسع المتبادر إلى الذهن من الجهاد في سبيل الله الذي يدل عليه قوله تعالى: ( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا)[91] وقاتل مجاهدو بدر وأحد لأجله، لا يمكن دركه من حرب كهذه. كما أنّه من المسلّم أنّ ما فرضته جهاد وذلك جهاد أيضاً، إلّا أنّه ليس الجهاد في سبيل الله الذي حثّ عليه القرآن الكريم وحظي بكل ذلك الأجر والثواب، فمن قتل دفاعاً عن شرفه وحفظاً لماله وعياله فهو شهيد «مَنْ قُتِلَ دونَ مالِهِ وَعِیالِه فَهُوَ شَهید» غير أنّه ليس دفاعاً عن حرمة الدين وترسيخاً لأهداف الدين الإسلامي الرفيعة.
إنّ هذا الجهاد ـ بحسب قولكم ـ دفاع عن الشرف الشخصي وإباء عن التسليم والتذلّل لابن زياد، وليس جهاداً لإحياء الدين والأحكام ومصالح الناس؛ لذا لا يستوي من شارك في هذا الجهاد مع مجاهدي غزوة بدر وأحد.
إذن فليقُل مؤلف كتاب الشهيد الخالد: يجدر بنا بعد ألف وثلاث مئة سنة أن نسلب عن الإمام المظلوم جميع تلك الأوصاف والعناوين التي وسم بها نتيجة تضحيته في سبيل إحياء هذا الدين. بالله عليك إذا ضيّقت أفق تضحيات الإمام إلى هذا الحد بحيث لم يقصد من ورائها أيّ فائدة للدين ولم تفترض فيها ذلك فكيف تقايسها مع تضحيات ومجاهدات شهداء بدر وأحد، وتسمي الإمام بسيّد الشهداء، اللّهم إلّا أن تقول: إنّني لست في معرض المقايسة ولا أعتقد (والعياذ بالله) أنّ الإمام سيّد للشهداء! لو قلت ذلك ـ الذي من المؤكّد إن شاء الله أنّك لا تريد قوله ـ فماذا تفعل بكل تلك الأخبار والروايات المتواترة التي وصلتنا عن فضيلة ما قام به الحسين× وشهادته؟ ماذا تفعل بتلك المفاهيم القيمة التي انقدحت في أذهان الشيعة وغير الشيعة عن شهادة الإمام، وظلّت ثابتة منذ زمان الرسول| إلى عصرنا الحاضر، والتي تجسدت في نهضة الإمام الحسين×، فكان من خلالها مفخر شجرة الرسالة وسيّد الشهداء بحق؟
اُنظر أنت بنفسك وتأمّل ثمّ أخبرنا بمن يليق هذا اللقب؟ أيليق بالحسين× الذي عرّفته لنا على أنّه استشهد فقط من أجل عدم الاستسلام لابن زياد أن يستحق هذه العناوين والدرجات العالية؟!
نحن نعتقد أنّ الحسين× سيّد الشهداء وصاحب المكانة السامية؛ لأنّه أحيى الدين؛ لأنّه استشهد دفاعاً عن الدين.
ونعتقد أنّه أبو الشهداء؛ كونه قد حفظ جميع تلك القيم العالية التي بذل من أجلها الشهداء في سبيل الحق مهجهم، وحال دون انتهاك حرمة دماء الشهداء في سبيل الله وما رسّخه الأنبياء من قيم.
لقد جعل الله الدعاء مستجاباً تحت قبّته، والشفاء مخزون في تربته، وجعل الإمامة وقائم آل محمّد# في عقبه؛ لأنّه قد افتدى هذا الدين بنفسه «بَذَلَ مُهجَتَهُ فِیه لِیستَنقذَ عِبادَه مِنْ حیرَةِ الظَّلالَة وظُلْمَةِ الجَهالَة».
إنّ هذه الشهادة كانت شهادة قد خصّه بها الله تعالى «وَأکرَمتَهُ بالشَهادَة» وفاءً بعهد الله. فمن نصر دين الله يكون قد نصر رسول الله| وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسن المجتبى^ وغاياتهم النبيلة كافة. إنّه لا يليق بنا أن نحجّم المفاهيم ونحقّرها من خلال السفسطة والمغالطة.
8 ـ كتاب الشهيد الخالد ونهضة العلماء
إنّ الموضوع الآخر الملفت للانتباه والحساس هو أنّ هذا الكتاب عن قصد أو بدون قصد يساهم في الاستغلال والسياسات الاستعمارية ضدّ الإسلام، ويلوح ضمنياّ في القسم الثاني من الكتاب بعدم عقلانية النهضات العلمائية التي تمّت بلا دعم عسكري ومادي.
مع أنّنا سنجيب في ما سيأتي على مباحث هذا القسم، إلّا أنّنا نودّ التذكير هنا بأنّه على الأقل خلفية سياق القسم الثاني ومباحثه يمكنها أن توقع أفراداً في أخطاء تتعلق بالنهضات المستلهمة من تعاليم الإسلام والأئمة المعصومين^. وهذا بنظرنا أحد النواقص الموجودة في هذا الكتاب.
ومباحث هذا القسم لا يترتب عليها أيّ ثمرة إلّا ترويج الركون والسكوت والانطواء واختيار الانزواء وعدم الشعور بالمسؤولية المضر جدّاً للمجتمع الإسلامي في عصرنا؛ إذ من الممكن أن يستغل الأعداء هذا الكتاب كمسكّن ومخدّر للحماسة والعواطف الإنسانية الجيّاشة ومشاعر الحرية في المجتمعات الإسلامية، والتي تعلّمت من مدرسة الحسين الثورية دروس الفداء والشجاعة، وعلو الهمم ومقارعة الباطل وحماية الحق، والمقاومة والصمود ضدّ الاضطهاد.
إنّ هذا الكتاب ينذر بالخطر على جميع الشخصيات الوطنية في العالم والجهات المقاومة المعترضة على الحكومات الظالمة، ويقاضي الجميع بجرم الإخلال بالقانون وإثارة الشغب والانتفاضة على الظلم وهيمنة السلطة الظالمة على الأوضاع الطارئة، ويعرّف مقاومة الحكومات المستبدة كما كان يفتي به قضاة عصر بني أمية وبني العباس خروجاً على الأمن والمصلحة العامّة والإخلال بنظم الأمة.
إنّ حركات المقاومة الباسلة اليوم في الدول المستعمرة تعدّ حركات غير شرعية وغير عقلائية مع أنّها تكافح من أجل إزالة نير الاستعمار عن رقاب شعوبها مقدّمة آلاف الضحايا في سبيل حريتها، من قبيل نهضة رجل الدين المسلم في أفريقيا ضدّ سياسة التمييز العنصري والظلم والاستعمار التي انتهت بشهادته، وسطوع الأصول والمباني الإسلامية العالية المتعلقة بحماية حقوق الناس، وتوجيه ضربة محكمة في وجه الدعايات الكاذبة والاستعمار الماسوني المسيحي، والقائمين على التبشير الزائف، وإبراز حقيقة الدعوة الإسلامية بين المواطنين السود الأفارقة.
وكأنّكم تريدون مما طرحتموه في هذا الكتاب وللأبد محو فكر المقاومة والوقوف في وجه الظالم من مخيلة الناس.
لقد صُوّر الإمام الحسين× الذي يعدّ مظهر الحرية والشجاعة والمتصدّى للظلمة وحماية حقوق الضعفاء والمستضعفين والطبقات المحرومة، في هذا الكتاب (والعياذ بالله) بصورة ظهر بها مستعداً للذهاب إلى الشام والتفاوض مع فرد مجرم وخائن مثل يزيد، والإقرار له بلقب أمير المؤمنين وصاحب الجلالة حتّى يسمح له بالعودة إلى المدينة ويدعو إلى حكومته.
لقد أجهدت نفسك كثيراً، كن مطمئناً أنّ من ترمو الإجابة عن أخطائهم من المستشرقين الذين حملوا على عاتقهم مهمة تأليف ما يضعف السنن الإسلامية ويخدم استعمار حكوماتهم للشرق، سيرحبون أيما ترحيب بطرحك الفكري وكتابك هذا.
هذه مدرسة «قبلوا يداً تعجزون عن قطعها»، هذه المدرسة التي كان العالم الإسلامي تقريباً يتوجّه إليها في عصر معاوية ويزيد، وعلى هذا صارت أساساً لفتوى أهل السنّة القاضية بإطاعة خلفاء الجور وحرمة الخروج عنهم، هذه هي المدرسة التي وقف الإمام الحسين× في وجهها وبارزها. لكنك تحييها من خلال هذا الطرح وهذا الكتاب، وتخمد روح النهضة والثورة والعزم في نفوس المسلمين.
إنّك تقضي بهذا الفكر والمنطق السقيم على صوت الشيعة الذي ارتفع بنهضة الإمام الحسين× عالياً، حتّى صكت شعارات (الموت للظالمين)، (الموت ليزيد وأمثاله)، (الموت لأنصارهم)، (الموت للأنظمة المحاربة للإسلام) الأسماع.
سيّدي العزيز! إنّ هناك اختلافاً وتفاوتاً بين الثورات بلحاظ أهدافها وما يترتب عنها من نتائج وثمرات، كما أنّ شروطها وظروفها هي الأخرى ليست على وتيرة واحدة.
إنّ النهضة التي تكون ناظرة إلى تسلّط شخص معيّن أو من أجل تأسيس حكومة غالباً ما تحتاج إلى قدرة نظامية، وإن أمكنها الوصول إلى أهدافها بدونها أيضاً إذا ما اتّكأت على الآراء والأحاسيس الوطنية والنضج الفكري للمجتمع، خصوصاً في العالم المعاصر الذي يسوده الأفكار والعقل الجمعي والنضال السلبي.
إذا كانت الغاية من النهضة هو الإرشاد الفكري وإبطال الباطل أو تعبئة المشاعر أو إحياء الميل الديني وعزّة السيادة الوطنية أو القيام بالمقاومات المنهكة أو مقاضاة تيار من التيارات الاجتماعية والسياسية أو الحيلولة دون انتشار الانحلال الأخلاقي في المجتمع وفتور الأبعاد المعنوية والإيمانية والفضائل الأخلاقية لأفراده أو كما شبهتموها في الأخير بنهضة الأنبياء والأولياء، فإنّ جني ثمارها لا يتوقف دوماً على القدرة المادية، إنّما الشرط الأساس لنجاحها هو القدرة المعنوية، والاستقامة والشجاعة، والتضحية وجلب الأنظار، والنفوذ إلى القلوب؛ إذ لا يشترط أن يتوقف النصر في أيّ نهضة على امتلاك البنادق والمدافع والرشاشات والقذائف والحرب والقتال حتّى نقول: إنّه إذا لم تكن هذه الإمكانيات تحت تصرف قائد نهضة، فإنّ نهضته تكون غير عقلائية وغير منطقية.
لم يكن للمرحوم آية الله الشيرازي+ أسلحة وذخيرة تحت يديه حتّى يقوم بنهضة تحريم (التنباك) والوقوف في وجه التدخل الأجنبي في دولة الإسلام، إلّا أنّه بالاعتماد على نفوذ رجال الدين ومشاعر الناس وفكرهم الجمعي أقام تلك النهضة العظيمة، فأصدر حكم تحريم (التنباك) ومن خلال هذه الحركة منع الأيادي الأجنبية أن تمتد إلى سيادة الشعب الإيراني واستطاع الحيلولة دون توسّع نفوذهم. فمثل هذه النهضة لم تكن بحاجة إلى قدرة عسكرية.
حينما يتعهد قائد الإسلام بحفظ شرف الدين وكرامته والحفاظ على المجتمع الإسلامي، ويشخّص بأنّ الدين وأحكامه قد صار في معرض هجوم المعاندين أو أنّ خطراً حتمياً يحدق بشعائر الإسلام حیث یتمّ الترويج لما كان سائداً في عصر الجاهلية من عادات ورسوم للكفّار، فإنّ سكوته أو سكوت أيّ مسلم ووقوفهم متفرجين على هذا المشهد دون أن يحركوا ساكناً سيجعل العدو الذي يريد الوصول إلى مبتغاه أكثر جرأة وعزماً. فحفظ حرمة الإسلام ورعاية الأمانة الملقاة على عاتقنا لا يتسنى لنا إلّا بالنهوض للدفاع عن الدين وإبلاغ المجتمع بوظيفته الشرعية بشكل صريح.
وعلى سبيل الفرض لم ينتصر الميرزا على الاستعمار في انتفاضة تحريم التنباك، فإنّ إعطاء الامتيازات للأجانب وعملائهم يعدّ أمراً مشيناً وبغيضاً فضلا ًعن أنّه يعتبر غدراً وخيانة.
ومعنى ذلك هو أنّه لا يمكن دائماً الركون إلى الصمت بحجة عدم توفر القدرة والقوّة المادية، واتخاذ ذلك عذراً في ترك الدفاع عن الإسلام ضدّ الحملات التي يواجهها، واتّباع مثل هذا المنهج الذي يأباه العقل والشرع والتقيّة المشروعة. منهج يفتح المجال على مصراعيه أمام الأعداء ليفعلوا ما يحلو لهم بنواميس الدين الإسلامي وشعائره. ومن هنا تكمن الخطورة الشديدة لهذا الطرح الفكري، وتتجلى أيضاً الأهمية الكبيرة لنهضة الإمام في مواجهتها له.
لقد رأى الإمام أنّ شخصاً قد اشتهر بالفساد والفسق، والرذيلة والدنائة، والسکر وملاعبة الکلاب، جامع للقبائح والشنائع سيتقلّد كرسي خلافة الرسول وقيادة المسلمين، وسيكون الإمام وولي الأمر الذي تجب طاعته، بل سيعدّ الخروج عليه خروجاً عن الدين، وسيقال في حقه: «وَاعْتَصِموُا بِطاعَةِ اللهِ وطاعَةِ أئِمَتِکم». فلو نالت حكومته المشروعية دون اعتراض أو احتجاج، وعدّ إماماً واجب الطاعة، وجعلت طاعته في طول طاعة الله وصار مصداقاً لقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ)[92] فلن يبقى أيّ أثر للإسلام؛ لأنّه لا يعقل مع وجود شخصية فريدة مثل الإمام قد كانت نور المهتدين ورجاء المؤمنين، أن تكون زمام أمور المسلمين وأمر دينهم ودنياهم بيد يزيد من دون أن يستنكر أحد ذلك، حتّى تلحق إهانة بالإسلام لا يمكن رفعها إلى الأبد. وهذا ما دعا الإمام إلى عقد العزم على رفض بيعة يزيد والنهضة عليه حتّى لو واجهه وحيداً فريداً، ويدفع هذه الضربة بشهادته التي لها تلك الانعكاسات في أرجاء العالم الإسلامي وفي قلوب المسلمين، ومقاضاة هذا الفكر الذي يعدّ الخروج على حكومات الجبابرة خروجاً عن الدين وانتفاضة على الأمن العام، كما أعلن على الملأ عدم شرعية ما يقومون به، وهذا فعلاً ما أنجزه.
من خلال هذه النهضة المثيرة، وبواسطة شهادة الإمام وأسر أهل بيته وعدم الاستسلام ليزيد دفع الإهانة الموجّهة للعالم الإسلامي ونظام الإسلام. فلو أضفيت المشروعية على حكومة يزيد ولم تلق استنكاراً شديداً من الإمام من خلال حادثة كربلاء الدموية وواقعة الحرّة التي كانت واحدة من الجرائم الشنيعة لردة فعل بني أمية؛ للحق الخزي بالمجتمع الإسلامي ولأصاب المسلمون الصغار والذلة بين الملل الأخرى، ولفسّر ذلك بعجز التعاليم الإسلامية عن تربية أفراد مضحّين وغيورين، عبّاداً للحقّ وطلّاباً للفضيلة، وأنّ مدرسة النهضة والانتفاضة الإسلامية قد استبدلت بمدرسة الصمت والركون للاستغلاليين والتصالح معهم عملاً بأصل «قبلوا يداً تعجزون عن قطعها»، وسيكون مفاد هذا الشعر منطبقاً على إيمان الناس ودينهم:
فَإن تأتُوا بِرَمَلة أو بِهِنْد نُبایعُها أمِیرَة مُؤمِنینا |
لقد نهض الإمام ليغسل هذا الخزي والعار، وليعرّف العالم الإسلامي والدنيا بأجمعها بأنّ أولئك الأشخاص لم يتربوا في مدرسة هذا الدين، وأنّهم ليسوا بحكّام للمسلمين ولا منفّذين لأحكام القرآن، ولا يمتّون لهذه الأمور بصلة.
إنّه لموضوع ذو قيمة جليلة مما قد استدعى أن يتصدّى له الإمام وأصحابه في ميدان الشهادة، ويُعرّض من أجله أهل بيته للأسر حتّى لا يتمكّن من إخماد صوت الاحتجاج والإعلان عن عدم مشروعية الحكومات اليزيدية ويبقى صوتاً مدوّياً إلى الأبد. فالإمام من هذه الحيثية كانت موفقيته مذهلة وذو قيمة عالية، أضف إلى ذلك أنّه حفظ الفكر والمذهب الشيعي فضلاً لتركه بصمة مهمّة على نمط التفكير لدى جميع المسلمين. كما أنّ الخلافة الراشدة تعتبر عند أهل السنّة قد ختمت بالخلافة الظاهرية للإمام الحسن المجتبى×، وفصل بين ذلك وبين من يعتبر أنّهم يمثلون المرجعية الشرعية في المجتمع، ووجوب التأسي بأفعالهم وسلوكياتهم، وأنّ سياسة دولتهم هي نموذج لسياسة الحكومة الإسلامية.
إذن صار معلوماً أنّ ما ذكرته من شروط للنهضة الابتدائية أو الدفاعية في القسم الثاني من كتابك غير صادق على مثل نهضة الإمام الحسين× أو النهضات التي قام بها العلماء الأعلام إيماناً منهم بالمسؤولية الجسيمة التي على عاتقهم تجاه الإسلام، وليس الأمر كما رأيته من أنّه لو قتلت جماعة من الأفراد في أيّ نهضة وألقي القبض على قائدها أو قتل، فإنّ ذلك إذعان بهزيمتها، والمسؤول الأوّل عن تلك الهزيمة من منظور العقل هو القائد؛ لأنّه لم يكن يملك القدرة الكافية على سحق الخصم.
من وجهة نظر الأقلام والألسنة المأجورة إنّ كل شخص امتلك قدرة كافية وكانت له الغلبة يعدّ حافظاً للأمن ومانعاً للإخلال بالنظم، وكل شخص مغلوب فإنّه سيكون مخلاً بالنظم. لكن هذا المنطق الذي يقول: إنّ كل شخص لا يود التصويت لحكومة يرأسها مثل يزيد ويرفض بيعته فهو مخرب ومثير للفوضى ومخلّ بالنظم والأمن غير صحيح.
أيّ أمن؟ وأيّ نظم؟ إنّ النظم والأمن الذي يحرسه ابن زياد وشمر ومسلم بن عقبة وخولي وأمثال الحجاج هو عين الفوضى وانعدام الأمن. فهذا الأمن المختلق إذا غيّر بأيّ نحو من الأنحاء إلى فوضى فإنّ ذلك سوف يكون مقدّمة للوصول إلى الأمن الواقعي وحكومة القانون. فلا يعدّ تسلّط بني أمية على الأوضاع بسيوفهم المشهورة التي لم تفارق وجوه الناس لحظة أمناً أبداً. إنّه ليس من الأمن في شيء أن يجري حكم فرد على أرواح وأعراض الناس وأموالهم ويكون حكمه نافذاً فيهم، وأن يكون لذلك الحاكم ما يريد حتّى ولو أراد أن يأخذ ابنة أحدهم لنفسه أو يعطيها لغيره فهو الفاعل لما يشاء دون أن يحرّك أحد ساكناً والقوى العسكرية تتحكّم في الأوضاع وتحافظ على النظم بحيث لا تدع أيّ شخص ينطق ببنت شفة ويفتح باباً للشكوى.
لا أيّها السيّد المحترم، لیس الإمام الحسین× من يحترم مثل هذا النظام؛ لأنّ بقاء هذا النظام یعني بقاء الظلم واستعباد الناس. النظام الذي كان يريده الإمام ويستحق من وجهة نظره الاحترام هو ما يكون فيه الفقير والغني، ويزيد وأيّ أعرابي من البادية سواسية.
إنّ النظام الإسلامي ونظام التوحید، هو ذلك النظام الذي تعيش تحت ظلّه الطبقة المرفّهة والمحرومة لا أن تكون فيه جماعة حاكمة وجماعة محكومة. فهذا النظام يستحق التجليل والاحترام، والإمام الحسين× وكل قائد ديني يسعى إلى تحقيقه.
وخلاصة الكلام أنّ المعاییر التی وضعها مؤلف كتاب الشهيد الخالد لا تنطبق على النهضات والثورات التي يكون هدفها الرفعة والشرف وإحياء الفضيلة وتوطيد الحق، والحفاظ على جهود الأولياء والأنبياء، حيث لا تعدّ القوّة والقدرة المادية وتوازن القوى شرطاً في جواز القيام بتلك النهضات، بل في بعض الأحيان يجب القيام بالنهضة؛ لأنّ الهدف والغرض متحقق حتّى مع التيقّن بالهزيمة الظاهرية.
لما كان أساس كتاب الشهيد الخالد هو إثبات أنّ الهدف الحصري من نهضة الإمام هو تأسيس الحكومة الإسلامية حيث لم يكن هناك هدف غيره، فإنّه في حال هدم هذا الأساس سيكون معلوماً أنّ هذه النظرية وفقاً لأصول مذهب التشيّع وطبقاً للتحقيق والتدقيق في كتب التاريخ المعتبرة الشيعية والسنية، وبالالتفات إلى الأوضاع الاجتماعية ومبادئ علم الاجتماع غير صحيحة وغير مقبولة، كما أنّه لا يمكن إقناع أهل السنّة والمستشرقين بها وتفسير حوادث ومجريات هذه النهضة من بدايتها إلى نهايتها والتدليل عليها بناء على هذا الأساس.
من أنّ الإمام كان له في هذه النهضة مهمة فريدة من نوعها ومشروعاً يتعيّن عليه إنجازه؛ مما استدعى وقوفه في وجه حكومة يزيد المناهضة للإسلام. وهذا ما نجد مثيلاً له في النضال السلبي لبعض قادة حركات التحرر في واقعنا المعاصر ضدّ الاستعمار والديكتاتورية.
طبعاً حينما قلنا (مثيل) فإنّ ذلك كان من باب ضيق الخناق ومن أجل الإشارة إلى عرفية وعقلانية هذا النوع من المقاومة والنضال؛ إذ أنّ اعتقاد الآخرين بأنّهم ليسوا رجال هذه الواقعة لا يسد لسان مدحهم وثنائهم، ويرون عملهم عملاً إنسانياً ومظهراً للفطرة البشرية الطاهرة، كما أنّه لا يوجد قانون حقوقي يدين هذه المقاومة.
إنّه لم يعثر ولن يعثر في العالم بأسره لحدّ الآن وإلى الأبد على شبيه ونظير لتلك التضحيات التاريخية في كربلاء، فهي قد كانت مهمة إلهية للإمام، وكما قلنا مراراً: كان هدفها إطاعة الله وإنقاذ الإسلام وأحكام القرآن، وحفظ الدين من ضربة الحكومة اليزيدية القاضية، والحيلولة دون وقوع الانحراف الفكري والضلال والتيه، وفصل يزيد عن منصب القيادة الإسلامية.
لقد أخذت بعين الاعتبار جميع هذه المفاهيم والدروس الراقية التي تمثّل في نفس الوقت تجلياً لحقيقة واحدة وتحكي هدفاً واحداً في نهضة الإمام؛ لذا عرفت نهضته المباركة بأنّها دعامة الدين وسنده، وعلّة إحياء الإسلام وشعائر الدين. فمن البديهي أن لا تعدّ هذه النهضة فاشلة ومهزومة وغير مثمرة، بل إنّها تتعاضم يوماً بعد يوم، وتكبر في القلوب الراقية، وتتوجد لدى جميع عشاق ومتيمي ومريدي تضحيات الإمام الحسين×.
بل إنّ هذا المنطق وهذا التحليل بات يجد نفوذه يوماً بعد يوم بين أبناء أهل السنّة، فكبار علمائهم وخيرة مؤلفيهم قد وجدوا أنفسهم تحت تأثير هذه الواقعة الفريدة من نوعها مما دعاهم للنظر إليها بأهمية واحترام بالغين.
ليس لهذا الرأي الذي طرحه مؤلف الشهيد الخالد في عصرنا اليوم من مؤيّد؛ إذ أنّه لا يتناسب مع أفكار أحرار مسلمي العالم وإخواننا من أهل السنّة، فرأيه يتناسب أكثر مع أحقاب التضييق الفكري لبني العباس وتلك الفترات المظلمة التي في الأساس لم تعترف بهذه الأفكار التحررية وكل لفظ يشير إلى الحرية والنهضة والثورة والدفاع عن الحقوق ومكافحة الاستعباد والدكتاتورية والاستبداد، بل عدّتها جريمة يقاضي عليها القانون.
في ذلك الزمان وذاك الظرف لم يكن بإمكانهم تحليل حقيقة الإمام؛ لأنّ الناس كانوا سيتحرّكون ويحرّضون على مناهظة الخلفاء وظلمهم، وأجهزة السلطة لم تكن راضية أن يلقى هذا النحو من التحليل للنهضة قبولاً لدى أذهان عامة الناس ويعتبرونهم منفورين كيزيد وابن زياد، لذا في بعض الأحيان أنّ علماء الشيعة في كتاباتهم مع المخالفين يبحثون موضوع النهضة بشكلها الظاهري اضطراراً.
لكن أيّها العزيز، في أيامنا الأمر مختلف، فالعالم الإسلامي متعطش لمعرفة دروس تضحية الإمام، وجميع النوابغ وحاملي ألوية المقاومة الإسلامية الحقيقية ينهلون من هذه المدرسة. أمّا أنت فقد قدّمت لنا في هذا العصر ـ وبحسب قولك ـ باكورة سبع سنوات من الجهد المضني فكراً قديماً قد أكل عليه الدهر وشرب محاولاً إحياءه من جديد، لماذا؟ أنت أعرف بالجواب منّا.
يقول أحد علماء الأزهر (الشيخ محمّد عبد الباقي): إنّ الإمام الحسین× كان نافذ البصيرة ذو نظر بعيد، يزن كل شيء بميزان الحق وبدقة، فمع أنّه لا يملك قدرة يزيد العسكرية، ويعلم أنّه لا يملك جيشاً ومناصرين بما فيه الكفاية، وأنّ أهل العراق هم أولئك الذين خذلوا والده، أي أنّه كان على اطّلاع تام بالأوضاع والمجريات السياسية والاجتماعية والعسكرية إلّا أنّه قام ضدّ يزيد الذي كان تحت إمرة حكومته نصف العالم، ونصف مليون من العسكر تحت تصرفه.
لقد كانت نهضته من أجل حفظ كرامة الإسلام وشرفه التي هدرتها حكومة يزيد وغصبت كرسي خلافة المسلمين بالقوّة والخدعة والرشوة، فالحسين× انتفض؛ لأنّه شهم الإسلام في ذلك العصر، والمسؤول الأوّل عن حفظ ميراث الإسلام وأحكامه بعد والده وأخيه.
من المستحيل أن يعاين رجل مؤمن ومجاهد، غيور من عترة آل النبي’ كل تلك الإهانات والانتهاكات لتعالیم الدين الإسلامي ويسكت ويتغاضى عن الأمر؛ لذا قام ليقول للظالم: أنت ظالم وكي ينال فيض الشهادة، قام من أجل تحقيق الانتصار للحق وإزهاق الباطل[93].
بعد الفراغ من بحوثنا المختصرة حول كتاب الشهيد الخالد وصلتنا رسالة إيضاح من الكاتب المحترم، مفادها أنّه يعتقد بمقام علم وعصمة الإمام، وقد اعترف بأنّ النبي والإمام وطبقاً للروايات الكثيرة يعلمان بما كان ويكون، ثمّ قال: إنّ أحد أهداف هذا الكتاب هو الردّ على كلام أهل السنّة والمستشرقين ذوي الأفكار المنحرفة؛ لذلك فإنّ هذه المباحث طرحت بحسب المنحى الطبيعي لها، ومن دون التطرّق إلى علم الغيب لدى الإمام، وبالطبع هذا لا ينافي أنّ الإمام كان يعلم باستشهاده في سفره هذا، ومع ذلك فهو يسير بحسب المجرى الطبيعى، كما أنّ هذا الكتاب ليس فقط لم يقلل من شأن الإمام، بل إنّه باعتقاد العلماء وأصحاب الفكر قد رفع من مكانته بشكل أرفع مما يتصوّره الناس العوام، وقد جسّد حركة نضال سيّد المجاهدين بصورة حية وسلسة وقابلة للاتّباع... الخ.
وكان هذا إيضاح الكاتب بالنسبة لكتابه.
حري بنا أن ننبه إلى أمر وهو: أنّنا نرجو أن لا نكون ـ إن شاء الله تعالى ـ قد أسأنا بكم الظن بخصوص الشك في عصمة الإمام، فإنّه بالنسبة لعلم النبي والإمام بما كان وما يكون فإنّ كلامكم غير صريح بأنّ اعتقادكم مطابق لهذه الروايات، ومع ذلك فإنّنا نعتبركم من أصحاب الرأي السديد، ونشكركم على هذا الإيضاح، ولكن ننتظر منكم توضيحاً أكثر من ذلك، وأن تتفضلوا علينا بحل هذه الإشكاليات.
ولكي لا يكون إيضاحكم هذا سبباً في استحسان البعض للمباحث الموجودة في هذا الكتاب، لابد لكم من تبيين عدّة أمور تتعلق بهذه الرسالة الإيضاحية:
1 ـ ما هي الأغراض الأخرى التي دفعتكم لإبداء هذا الرأي؟
2 ـ إذا كان القصد هو الرد على أهل السنّة وإقناع المستشرقين، فلِم كل هذا الإصرار في كتابكم على ردّ النظريات الأخرى؟! ولم المبالغة في ردّ وتوجيه الأخبار الدالة على أنّ الإمام كان له هدف آخر وأنّه كان يعلم بشهادته آخر مطاف هذه النهضة؟! إن كنت بحثت الموضوع من حيث الظاهر والمنحى الطبيعي للأمور، فما الضرورة وراء ردّ الآراء والنظريات الأخرى؟! لماذا تسعى لإثبات أنّه لم يكن للثورة هدف إلّا تأسيس الحكومة، والتي لا تتناسب مع القول بعلم الإمام؟!
إنّ البحث في الثورة بشكل عادي لا دخل له في تضعيف هذه الروايات وتضعيف هذا الكتاب أو ذاك، وهل هناك منافاة ـ بحسب قولكم في الرسالة التوضيحية ـ بين كون هذه المباحث صحيحة وبين تحليل النهضة بالمستوى العادي؟
إنّ معنى التحليل وفق المنحى العادي والطبيعي هو على فرض عدم قبول أهل السنّة والمستشرقين بوجود هدف آخر للإمام وأنّه قد سار حسب الخطة التي رسمها، فحينئذ نسير معهم تنزّلاً ونتناول البحث بمستواه العادي والطبيعي، لا أن نأتي بالأدلة لنثبت أنّ هذا الموضوع كان أمراً عادياً في الواقع وقد انحصر هدفه في تأسيس الحكومة، ثمّ ندّعي أنّ الأخبار التي دلّت على علم الإمام بشهادته في هذه النهضة هي أخبار ضعيفة لا يعتمد عليها.
3 ـ لم الإصرار على أنّ النهضة لم تثمر ولم تؤثر؟
فهذا السيّد المرتضى+ يردّ على أهل السنّة في هذا الموضوع منتهجاً مستوى أدنى في البحث، ولم يتطرق إلى الأخبار والآراء والتعليقات الأخرى. وكان يمكنك أن تسلك طريقته في طرح هذا الموضوع إن استطعت أن تكمل التحقيق فيه طبقاً لجريان الأمور على طبيعتها وأنّ الظروف كانت مواتية للنهضة.
أمّا أن تثبت الرأي القائل بأنّ الثورة كانت بالمستوى الاعتيادي الطبيعي ولم تقع بمستوى آخر فهذا لا يخصّك ولايعنيك، وما عليك هو الردّ طبقاً لهذه الفرضية على أهل السنّة والمستشرقين.
4 ـ إنّ ما يقوله الشيعة حول هذا الموضوع هو صحيح ومعتبر من الناحية العقلية والقوانين الحقوقية أيضاً؛ لأنّ عالمنا المعاصر يمتدح هكذا ثورات وتضحيات مناهضة للدكتاتورية والاستعمار، التي تثمر تدريجياً مع عدم تعارضها مع القوانين الحقوقية، والتي قلت عنها: إنّك بحثتها وفق منحاها الطبيعي وعلى أساس المنهجية العقلية والقوانين الحقوقية، ما يعني أنّ الآخرين لم يبحثوها بطرق عقلائية وتركوها جانباً.
5 ـ إن كان هدفكم هو الردّ على أهل السنّة، فلمَ اعتبرت في الصفحة (7) أنّ هذه النظرية ليست من ابتكارهم وأنّها مجرد فرضية؟ إذ من الممكن لها أن تؤيّد لاحقاً كفرضية (غاليلو)، علماً أنّك قبلت في رسالتك التوضيحية أنّ هذا الرأي لا يتنافى مع علم الإمام باستشهاده في هذه المسيرة، أي أنّه رأي صوري قدّم لإقناع الخصم فحسب لذلك لا ينافي علم الإمام، فما معنى أنّه سيؤيّد في المستقبل؟
6 ـ إنّ ما ذكرته حول هذا الكتاب مدّعياً أنّه لم يقلل من شأن الإمام، بل رفع من مكانته أكثر مما يتصوّره الناس العوام يحتاج إلى توضيح، فإن كان قصدكم من الناس العوام أولئك الذين يظنون أنّ الإمام قد ثار من أجل الرئاسة الدنيوية فقط، إلّا أنّ الظروف لم تساعده، فرأيكم هذا من حيث الأصل صحيح ومقبول وهو أرفع من تصوّرهم.
وأمّا إن كان قصدكم من العوام هو عوام الشيعة الذين بكوا الإمام طوال حياتهم ولطموا صدورهم، واعتبروه شهيداً في سبيل الله والدين، ورمزاً للتضحية والعطاء ورجل الحق، فإنّ كتابكم هذا وللأسف قد قلّل من شأن الإمام.
7 ـ لقد أخطأت حين مدحت نفسك في رسالتك التوضيحية قائلاً: إنّ هذا الكتاب جسّد منهج الإمام بصورة حيّة وسلسة وقابلة للاتّباع؛ لأنّه لو أتيحت الظروف المساعدة لاستحكام هذا النهج لتحقق أهداف النهضة ومضت قُدماً حيث أراد الإمام العود عنه بناء على الظروف المستجدة وطلب الصلح، وهذا ما لا يحتاج إلى تعليم وتأسٍ وإعطاء نموذج؛ لأنّ كل شخص له هدف فإنّه سيقدم عليه إذا تهيّأت الظروف. كما أنّ الواثق بأنّ ثورته ستثمر انتصاراً سياسياً أو دينياً أو قومياً، فإنّه لن ينتظر حتّى يُعطى نموذجاً يحرّك عزائمه ويشحذ هممه وإنّما سيثور حتماً، وإذا كان ولا بد من نموذج فالأفضل إعطاء نموذج الفاتح والمنتصر.
إنّ هذا النهج الذي صنعته واتهمت به نهج الإمام وحملت عليه، فضلاً عن كونه لا يرفع من همة المقاتل، وإنّما سيورثه الوهن والتخاذل وسوء الظن بالمستقبل، وهذا يمنعه من العمل؛ لأنّ هذا الاحتمال قد يخطر ببالهم أنّ ثورتهم مهزومة وفاشلة كالثورة الفلانية التي فشلت لعدم التنبؤ بالمعطيات الموجودة ولم يكن هناك طائل منها. فقل لنا: ما هي تلك الصورة الحية الفاعلة والسلسة القابلة للاتّباع التي قمت بتجسيدها؟
وعليه فإنّ نتيجة هذا المنهج هي: أنّه في حال لم يكن الفتح والنصر الفوري حليف جبهة الأحرار والموحدين وطالبي الحق؛ فإنّه لا بد من مجاراة الظالم حتّى ولو كان يزيد، ومسايرته وإيجاد العذر المناسب لذلك، ويتعيّن على كل شخص مصافحة الظالم والمستعمر والدكتاتور بحرارة بحجة انتظار الفرصة المناسبة.
إنّنا مهما فكرنا وتأملنا في هذا المنهج الذي تدّعيه لا نجد محرّكاً ولا قابلية للاتّباع ولا ما يبعث على الفخر يمكن أن يوصف به عمل ونهج الإمام الحسين× المتحرك والقابل للاتّباع والمحيي للجهاد والصمود الذي أقل ما يوصف به هو:
إن كان دين محمّد لم يستقم
إلّا بقتلي يا سيوف خذيني
8 ـ إذا كان غرضكم من وراء هذا الكتاب هو دراسة النهضة الحسينية من حيث المنحى الطبيعي والعادي في مقابل ما طرحه أهل السنّة، فلماذا تحمّلتم مشقة سبع سنوات دون فائدة ترجى، ولم تؤيّد وتشرح رأي السيّد المرتضى+ منذ البداية؟
فما الذي حققتموه في هذه السنوات السبع سوى تضعيف أو توجيه بعض الأخبار؟ وانصبّت أكثر مناقشاتك وتحليلاتك لإثبات أنّ هدف النهضة كان منحصراً في تأسيس الحكومة، ثمّ تقول: إنّ ذلك لا يتنافى مع علم الإمام.
لقد بذلت مجهوداً لمدّة سبع سنوات دون أن تتحدّث عن الركن الأساس لهذا الجواب وهو: ما إذا كانت الأجواء مهيّأة لتأسيس الحكومة، ولم تقدّم لنا أيّ دليل مقنع، بل حتّى في مقام الردّ على أهل السنّة والمستشرقين قد اكتفيت بالحكم على تلك الظروف والأجواء من حيث كونها مساعدة أم لا بكلمة (صحيح) أو (باطل)، ولم تتجاوز ما قاله السابقون، فلا حاجة إلى سبع سنوات أو سبعة أشهر أو سبعة أيام أو حتّى سبع ساعات.
إنّ الحق والإنصاف يقضي بأن نقول لك: إنّ كل من يرى هذه الرسالة التوضيحية ويقارنها مع مواضيع الكتاب يقف أكثر على خطأك واشتباهك. عصمنا الله وإياكم من الزلل والخطايا والهفوات.
إلى هنا تنتهي مقدّمتنا ومناقشاتنا الإجمالية، وبالتوكل على الله تعالى سنشرع ببحثنا ومناقشاتنا التفصيلية لكتاب الشهيد الخالد بحسب ترتيب فصوله الخمسة، وسنتطرق إلى مقدّمته ضمن الفصل الأوّل.
الفصل الاول
وفيه عدّة أمور:
1 ـ يقول في إهداء الكتاب (ص5): أتقدّم بهذا الكتاب إليك يا ملاك الحرية والعدالة، يا من لم تستسلم أمام اعتداء قوى الشر الشيطاني المسلحة المنتهکة للقانون، ووقعت مضرجاً بدمائك أمام أهل بيتك رافضاً حكومة الطغاة المضادة للقرآن.
نسأل: لِمَ يخضب الإمام بدمائه كي لا تُضفى المشروعية على حكومة تخالف القرآن؟ أوليس أنّه يرى بأنّ دفع مفسدة شرعنة حكومةٍ مخالفة للقرآن أهم من حفظ حياته؟
لماذا قرّر الإمام الشهادة؟ أليس لأنّه كان يعلم أنّه لو بايع واستسلم حتّى لا يقتل سيخسر ما هو أغلى بكثير مما سيحافظ عليه، بينما لو قتل وتخضب بدمائه فإنّه سينال أموراً أهم بكثير مما قد يخسره؟
إنّ ظاهر هذه جملة هو أنّ الإمام اختار الشهادة والقتل على التسليم والبيعة ولم يستسلم لقوى العدوان الشيطاني المنتهكة للقانون حتّى قتل، والذين يقولون: إنّ الإمام خرج بقصد الشهادة، لم يقولوا أكثر من ذلك، وقد شرى بنفسه عدم شرعنة حكومة يزيد، وتلقى الشهادة مع أنّه كان يعلم أنّ نتيجة عدم البيعة والتسليم ستكون الاستشهاد. وبهذا يكون قد أنقذ الدين الإسلامي وأسس هذه المدرسة مدرسة الحماس والعطاء والفداء على طريق الدين والعقيدة.
أليست جملة مؤلف (الشهيد الخالد) هذه هي جواب أقواله في (ص8) من الكتاب؟ حيث يقول: إنّ الإمام الذي يجب أن يهب دمه المقدّس الملتهب الذي يغلي في عروقه للمجتمع الإنساني... لماذا أراد أن يريق دماءه الطاهرة على رمال الصحراء؟
أليست هذه العبارة جواباً على الأقوال التي اعتبرت أنّ الإمام رضي بكل هذه المصائب وبإراقة دمائه ودماء أنصاره من أجل عدم شرعنة الحكومة المضادة للقرآن؟
هل يطابق هذا الرأي الذي أيّدتموه هنا وهو أنّ الإمام اختار إراقة دمه على الاستسلام والبيعة بملئ إرادته الموازين العقلائية؟
فإذا لم يطابقها، واعتبرتم إضفاء المشروعية على حكومة مخالفة للقرآن عقلائية من طرف شخصية كالإمام الحسين× كي يحافظ على جريان الدم في عروقه وحتّى لا يراق على رمال الصحراء، فما معنى هذه الجملة إذن؟ ولماذا قبل الإمام في النهاية ـ طبقاً لقولكم ـ بعدم الاستسلام والرضى بإراقة دمه؟
وأمّا إذا طابقها، فماذا أنتم قائلون؟ لماذا تكتبون كتاباً تتحملون فيه عبء سبع سنوات بلا فائدة؛ كي تثبتوا أنّ عدم استسلام الإمام وبيعته لم تكن متوقفة على استشهاده، وقد أراد ـ والعياذ بالله ـ أن يضع يده في يد يزيد.
فإن قلت: إنّ الإمام أراد منذ بدء ثورته تأسيس الحكومة الإسلامية، ثمّ تبعاً لتغيّر الأوضاع غيّر خطته إلى الثبات على عدم الاستسلام والبيعة حتّى استشهد، فلماذا يا ترى اعترضت بكلّ تلك الإشكالات المخدوشة على من قال: إنّ خطته منذ البداية كانت كذلك؟
فما هو الفرق بينك وبينهم في عرض هذه الإشكالات؟ أنتم قلتم: إنّ خطة عدم الاستسلام وشرعنة الحكومة أمر طارىء، وهم يقولون: بما أنّ الأوضاع لا تنبئ عن تأسيس الحكومة الإسلامية فإنّ خطة الإمام كانت كذلك منذ البداية، وقد علم الإمام بهذا الأمر من خلال علم الإمامة ومن خلال الأخبار التي وصلته عن جدّه.
كما يرد على فرضكم أيضاً: أنّه لا معنى لتلك الضجة التي أثرتها بعد ما ذكرته من مفاوضات الصلح والاقتراحات الثلاثة في الفصل الثاني. ونشير هنا إلى أنّه يتعيّن بك الالتفات إلى أنّ القول الصحيح الذي جئت به هنا، وهي كون الإمام ولأجل أن لا يشرعن حكومة مخالفة للقرآن قد تخضب بدمه، يتنافى تماماً مع ما ذكرتموه في الفصل الثاني من أنّ الإمام كان مستعداً على أن يضع يده في يد يزيد إلّا أنّ ابن زياد لم يقبل، ولمّا طلبوا منه الاستسلام غير المشروط قاوم حتّى استشهد.
فهنا تذكر أنّه قتل لأنّه رفض إعطاء المشروعية لحكومة مخالفة للقرآن، وهناك تذكر أنّ الإمام مع أنّه اقترح الصلح والذهاب إلى يزيد إلّا أنّه لم يقبل منه، وأنّه قد قتل بسبب امتناعه عن الاستسلام لابن زياد.
2 ـ قد قلت في (ص6): كيف يتخذ الإمام ـ الذي يعلم أنّه مقتول ـ قراراً بسحق يزيد بقوّته العسكرية؟ نحن أيضاً نقول بأنّ قراره الجدي لا معنى له مع علمه بالهزيمة، وعندها إمّا أن تنكروا علم الإمام بشهادته، وإمّا أن تقولوا: إنّ الإمام لم يكن يريد قتال يزيد بالقوّة العسكرية. ولا يعني أبداً أنّ دعوته الناس أو طلبه النصرة دليل على أنّه كان مريداً وعالماً أو واثقاً من إمكان انتصاره بالقوّة العسكرية، بل غرضه من الدعوة كان الإرشاد والأمر بالمعروف وإبلاغ التكليف بالقيام ضدّ حكومة يزيد وإتمام الحجة، بل كان يعلم أنّ امتناعه عن البيعة سيضرب الفكر والتفكير اليزيدي، وأنّ الجرائم التي سيرتكبونها بحقه عند امتناعه عن البيعة ستوقظ ضمير الأمة وستكشف زيف بني أمية وأنّ حقيقة خلافتهم بعيدة كل البعد عن الخلافة الشرعية الإسلامية.
3 ـ لقد ذكرت في (ص7) من الكتاب عنواناً وسمته بـ (الفرضية)، ونحن نقول: إنّ إبداء الفرضية في المسائل الدينية بما يخالف العقائد المسلّمة يؤدّي إلى الانحراف والضلال والخطأ، فهي ليست مسألة كمسائل الطبيعة مثل الفيزياء والكيمياء والتاريخ والهيئة، وإنّما هي مسألة عقائدية ومذهبية؛ وعليه لا معنى لعنونتها بالفرضية هنا، حيث كان يجدر بك اعتبارها إمّا مرفوضة أو مقبولة؛ لأنّ المسائل الاعتقادية لا تقبل الانتظار، ولا يؤثر مرور الزمان في مثل هكذا مسائل.
4 ـ كل ما كتب في (ص 8) هو على وتيرة الإشكالات التي أوردناها في النقطة الرابعة من النقاط السالفة، والتي حللنا فيها أسباب النهضة، وقد قضينا فيها بأنّ هذه الإشكالات على فرض صحتها فإنّها ترد أيضاً على قصة ذبح إسماعيل ومثيلاتها، لذلك نحن نقول: أراد الإمام أن تراق دماؤه الزاكية حفظاً للإسلام، وإنقاذ دين التوحيد من الجفاف وآفات الحكومة اليزيدية.
الإمام أراد أن تسيل دماؤه الطاهرة على تلك الرمضاء حتّى يخلد أعظم مظهر للتوحيد ومفخرة البشرية، والقبلة الحقيقية للأحرار في كل العالم.
لقد تحمّل الإمام الحسين× سبي النساء اللواتي يمثلن أشرف خباء للفضيلة والعفة والطهر، حتّى يعلم كل العالم أنّ كل الاعتبارات والحرمات وكل شيء يرخص لأجل الإسلام ولحفظ الحقوق السامية للبشرية، وليعلم الجميع أنّ بني أمية لا يراعون أيّ حرمة للحرمات والمقدّسات والشعائر، ولا يتورّعون عن هتك الأعراف والنواميس كافة. من أجل هذا ضحّى الإمام بدمه وعرّض أهل بيته للسبي، فقد ثار بأمر من الله، وبأمر من الله اتّجه نحو العراق وکل ما قام به کان بأمر من الله.
فها أنت تغالط وتبالغ في إظهار التعجب والاستفهام، وتصوّر أنّ الإمام لم يكن له هدف وراء إراقة دمه وسبي نسائه، وأنّ المقصود بالذات في حركة الإمام هو القتل والسبي، ثمّ تسأل لماذا تسيل هذه الدماء الزاكية؟ ولماذا يجهز على حياة هي مصدر الخير والبركة؟ ثمّ تقول وبكل جرأة: لماذا يؤسر أهل البيت ويُجعلون عرضة لمرأى الأوباش النهم؟ فهل قال أحد هذا الأمر أم أنّك تغالط؟
إنّ الإمام لم يرد لنسائه ربيبات الطهر أن يكنَّ عرضة للناظرين، إلّا أنّه يعلم أنّ سبيهم سيخرج الناس من جهلهم، حينها ستستكمل نتائج نهضته وثمار استشهاده. إليك خطب الإمام السجاد والسيّدة زينب÷ التي كشفت الحقائق وأيقظت الناس من غفلتهم.
فإذا كان هدف الإمام هو فقط إراقة دمه دون الالتفات إلى الآثار المترتبة على رفضه البيعة واستشهاده وأسر أهل بيته، لكان أولى به البقاء في مكة ليقتل فيها، أضف إلى ذلك إذا كان مراد الإمام هو القتل فقط فلماذا جلب معه مجموعة من أهل بيته وأنصاره إلى والي المدينة حتّى إن حدث أمر ما وأرادوا قتله تدخلوا للدفاع عنه؟
إنّ الإمام لم يتخلف عن البيعة ليقتل، إنّما فعل ذلك لعلمه بأنّ هكذا بيعة هي إثم كبير ومشاركة في محو الدين الإسلامي، ومع أنّ الإمام كان يعلم أنّ هذا الامتناع سيؤدّي بحياته الشريفة إلّا أنّه تخلف عنها وعرّض نفسه للخطر.
لو بنينا على هذه الإشكالات الواهية فيمكن توجيه مثلها على أفعال الله والرسول، وتشكل أيضاً على الإمام لمَ سمح لشاب رشيد كعلي الأكبر الذي كان أشبه الناس بالنبي’، وشجاع مؤمن كأبي الفضل العباس، أو فتى لم يبلغ الحلم كالقاسم وسائر بني هاشم والأصحاب بالذهاب إلى الميدان، وبدل أن تجري دماؤهم في عروقهم سالت على رمضاء كربلاء، والحال أنّه لو بقي كل واحد من هؤلاء حيّاً لكان حصناً للإسلام والمسلمين. إنّ الجواب على كل هذه الأسئلة هو: وإن كانت هذه الدماء الملتهبة لا بد وأن تجري في العروق أحياناً ولكن يلزم جريانها عزيزة كريمة متى ما أحدق بهذا الدين الحنيف خطر المحو حفظاً لمصالحه السامية وأن تراق تلك الدماء على الرمضاء في سبيل الله لتصبح شهادة هذا الفارس المضحي والخالد ذخراً للإسلام والقرآن.
إنّ نهضة الإمام هي مشروع إلهي كانت الحكمة من ورائه فضح بني أمية وكشف زيفهم وفصل الحق عن الباطل، وغيرها من النتائج العليا.
3ـ مقدّمة كتاب الشهيد الخالد
5 ـ إنّ ما ذكر في المقدّمة من تقسيم المؤلفين إلى مجموعات بحسب آرائهم، فإن الكتاب الحاضر يؤيد الرأي الأوّل، مع أنّ مؤلف كتاب الشهيد الخالد ـ بحسب الظاهر ـ كان بصدد ردّه، لكن ـ وللأسف ـ نتائج كتابه تؤيّد ذلك الرأي، ولم تعر اهتماماً للتفكير والقصد الخيّر والثاقب للعظماء، مثل ابن عباس.
وكما ذكرنا مراراً وتكراراً فإنّ هذا الكتاب لم يقدّم أيّة أدلة مقنعة تؤسس للرأي الذي تبنّاه ويحتكم إليها في المباحث التي طرحها، ما يعني أنّه لم يورد أدلة مقنعة عمّا إذا كانت الظروف مساعدة لتأسيس الحكومة الإسلامية، وكان بحثه من هذه الناحية ناقصاً نقصاً تاماً، بينما تطرّق في الغالب إلى مباحث هامشية وردّ آراء الآخرين، مما يؤيّد في النتيجة الرأي الأوّل.
وأمّا أصحاب الرأي الثاني فإنّهم لا يعتبرون هذه النهضة عملاً لا فلسفة من ورائه ولا ثمرة مرتجاة منه، ولا هي أمراً تعبدياً كبقية الأمور التعبدية التي نفترض جهلنا بالحكمة والفائدة المرجوة منها. علماً أنّ الكتب التاريخية والحديثية والدعاء والزيارات والأدب والشعر مملوءة بفوائد وفلسفة هذه النهضة.
أجل من الممكن القول: إنّ هذه الجماعة قد حصرت عزم الإمام على القيام بهذه الثورة في السبب التعبدي، ما يعني أنّ الإمام قد ثار امتثالاً وطاعة لله سبحانه وتعالى فحسب، كما أنّ المقصود الأوّل للنبي الأكرم’ في حركته ونهضته ـ ومع كل ما ترتب على بعثته ورسالته من نتائج وآثار ـ كان هو امتثال الأوامر الإلهية وأداء الرسالة.
إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ ثورة الإمام كانت فوق طور الاستيعاب البشري، أو أنّها وبحسب اصطلاح العقول العادية التي لا تُجَوّز هكذا إجراء وتعتبره انتحاراً بلا فائدة والعياذ بالله غير عقلائية، وحتّى لا تخدش بمقام عصمته فإنّها تقرّ بعلو مقامه بلحاظ عقيدتهم في العصمة والإمامة فقط.
كلّا إنّ الأمر ليس كذلك، فنهضة سيّد الشهداء× أمر معقول ومفاهيمها وأهدافها في متناول الفكر البشري، وقد استفاد منها على الدوام، وأدرك حقائقها السامية والقيّمة، بل إنّ الفطرة وعقل الإنسان هما مفسرا هذه النهضة؛ لذا لا يُحتاج إلى منطقك السقيم وطرحك الناقص حتّى تجعلها معقولة ومنطقية.
وأمّا كلام السيّد ابن طاووس+ والذي أشكلت عليه في (ص10) فهو برأينا أمر تحقيقي للغاية، ولا يتعلق أساساً بعدم إدراك المصلحة في ثورة الإمام، حيث كان في مقام إثبات أنّ تقبّل الشهادة أمر شرعي ومطابق للموازين الشرعية وله نظائر، وقد أقر العقل والشرع بجوازه من أجل تحقق المصالح المهمة، ولا إشكال في أن يأمر الشارع المقدّس شخصاً ما بنيل كرامة الشهادة.
وطبقاً لأصول التحقيق فإنّ المرء حينما يراجع الكتب التاريخية والآيات والأخبار، يرى أنّ نيل الشهادة عن طريق الجهاد في سبيل الله أمر راجح ومهم، أي أنّ كل شخص يقصد من وراء جهاده الفوز بالشهادة يكون عمله ممدوحاً، حتّى أنّ الرسول| بنفسه قد شجّع الناس على مثل هذا العمل.
إنّ طلب الشهادة والشوق إليها يعدّ من الفضائل العظيمة، وكل مسلم هو طالب لها، وإن كان الهدف والفائدة من الترغيب والحثّ على هذه التضحية هو تحفيز الآخرين وشحذ هممهم للإقبال على الجهاد والثبات على الدين، إلّا أنّ المجاهدين الذين يذهبون للقاء الموت لم يكن نصب أعينهم شيء إلّا رضا الله وامتثال أوامره.
وعليه لا يحقّ لأمثال مؤلف الشهيد الخالد أن يقول لهم: لماذا أنتم مشتاقون لنيل الشهادة؟ وما هي الفائدة من الشهادة؟ كما أنّ قتلكم لن يترتب عليه غير الضرر.
إنّ مقصود السيّد ابن طاووس+ أنّ خروج الإمام كان طلباً للشهادة والتلبّس بفضيلتها والوصول إلى السعادة العظمى.
إن لم يستطع البعض أن يهضم فكرة طلب الإمام للشهادة ونظر إلى نهضة الإمام من زاوية ضيّقة فهذا ليس تقصير السيّد ابن طاووس، فهو يرى الإمام إماماً قد تربى في بيت الوحي وأهل بيت يفتخرون ويأنسون بالشهادة ويرحبون بها.
فلا مانع إذن من خروج الإمام من المدينة إلى مكة قاصداً الشهادة، مثل المجاهد الذي ذهب إلى الجهاد من أجل الشهادة وفي الوقت نفسه يدافع عن نفسه بطريقة ذكية، وإن كان التعبير بالدفاع عن النفس هنا غير صحيح؛ لأنّ من يذهب إلى الشهادة لا يدافع عن نفسه بل يدافع عن الإسلام.
6 ـ لقد تذرّع المؤلف في (ص13) بمنطق (فَلْتُصم ولْتُعم)، و(ما شأنك أنت) مريداً من خلال هذه العبارات النفوذ إلى قلوب بعض الأشخاص ممن تأثروا ببعض الدعايات والهجمات الخسيسة على الإسلام والعلماء، وقد حمل بهذا المنطق على الدين ومظاهره ليضرب بعصا الجهل وعدم المعرفة رؤوس المتدينين، ويظهر نفسه على أنّه ذو الفكر المتحرر، أمّا الآخرون فمتحجرون خشنون متعصبون، والواقع خلو الإسلام من هكذا منطق، وأنّ حرية البحث والتحقيق مكفولة على الدوام للجميع.
فقد اعتبر المؤلف أنّ هذا العصر عصر العلم والتحقيق وحرية المنطق والبيان، وأنّ العصور التي تسمى إسلامية هي عصور منطق (فَلْتُصم ولْتُعم)، و(ما شأنك أنت) ليعدّ نفسه من أهل الحضارة والتجديد، أمّا الآخرون فرجعيون متخلّفون، ومع كل ما يدّعيه فقد اختار المنطق الباطل والفارغ والكتابات والأقلام المسمومة التي تبلّغ ضدّ الإسلام.
4ـ الإمام والجو الإسلامي السياسي
7 ـ إنّ ما ذكره في (ص19)عن الاستعداد الإسلامي السياسي، كان على العكس تماماً، وقد أوضحنا في مقدّمة هذا الكتاب أنّ الأجواء لم تكن مهيّأة للنهضة وتشكيل الحكومة.
والسبب فيما يعتقده البعض من أنّ نهضة الإمام لم تكن في ظرفها المناسب راجع لافتراضهم أنّ تشكيل الحكومة الإسلامية هو الهدف من ورائها لذا لم يروا أنّ أسبابها وظروفها متوفرة في ذلك المجتمع، ولاحظوا موانعها التي يمثل كل منها سدّاً منيعاً يقف بوجه بلوغ هذا الهدف.
من أبرز وأهم الأدلة على أنّ الظروف لم تكن مساعدة لبلوغ الهدف، هو عدم تحقيق نهضة الإمام لذلك ولا نهضات الآخرين التي حالفتها الظروف كثورة ابن غسيل الملائكة وابن الزبير، إذ لم تصل إلى مرامها.
8 ـ إنّ ما ذكره في (ص22): (أنّ بيعة الإمام مع يزيد هي بيعة الأكثرية) صحيح؛ لأنّه لو ترك الناس أحراراً لما بايعوا غير الإمام. وحتّى من وجهة نظرنا فإنّه لو كان انتصار الإمام محتملاً بنسبة عشرين بالمئة لدخل في جمع الإمام كثير من مصاصي الدماء كعمر بن سعد وشبث بن ربعي، إلّا أنّهم كانوا يعتبرون انتصار الإمام أمراً مستحيلاً؛ وذلك لاطّلاعهم على الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، وهذا ما جعلهم يتركون الحق حفاظاً على دنياهم ومناصبهم، ويهرعون إلى معسكر الكفر والباطل.
إنّ الرأي العام كان مع الإمام، وبيعة الإمام ليزيد تعني بيعة الأكثرية، لذلك لم يمكن للإمام أن يقبل بمثل هذه البيعة، لذلك استعد للشهادة منذ البداية.
9 ـ لقد ذكر في (ص38 و39) أسباباً لعدم استطاعة الإمام قبول خلافة يزيد ومبايعته.
الدليل على أنّ الإمام لم يبايع يزيد ولم يؤيّد خلافته وإن كان الثمن بذل مهجته وإراقة دمه، ومنذ البداية كان مصمماً على ذلك حتّى الشهادة، هو ما أقمته من الأدلة الستة إضافة إلى تصريحك بعدها بأنّ الإمام لم يكن بوسعه أن يبايع يزيد، فكيف تأتي في الفصل الثاني لتدّعي أنّ الإمام قد اقترح البيعة؟
10 ـ في (ص40): قياس عصر الإمام الحسين× بعصر الإمام أمير المؤمنين× هو قياس مع الفارق من جوانب عدّة، أضف إلى أنّ أمير المؤمنين× لم يشارك في الهجوم والثورة على عثمان، ولم يقبل أن يقود الثائرين، ولم يعنهم على قتله، كما أنّه لما استعد لتشكيل الحكومة الإسلامية كان عثمان مقتولاً، ولم تكن هناك حكومة ولا معارض رسمي لها.
فلو كان الإمام قد قبل الحكومة بعد قيام الناس وقتل يزيد، أو على الأقل بعد السيطرة على الكوفة وإخراج والي يزيد منها ـ كما اقترحه البعض ـ حتّى وإن لم ينل مرامه في النهاية، لكان هذا قياساً صحيحاً، ولدفع الإشكال عن رأي هذا الكاتب ونظرته للأمور. لكن وللأسف لم يحصل هذا، فقد اقترح أهل الكوفة أن يأتي الإمام ويخرج عامل يزيد منها. بينما الثائرون على عثمان ـ وبعد إنجاز مهمتهم التي أسفرت عن إزاحة الخليفة غير اللائق ـ طلبوا من علي× أن يمسك زمام الأمور في ظروف كانت إلى حدّ ما مناسبة. فما العلاقة إذن بين هذين الأمرين؟
11ـ في (ص41) إنّ كل ما قاله عن أحرار الكوفة كان كلاماً فارغاً، وقد بيّن المستقبل أنّهم كانوا جميعاً كاذبين ومخادعين إلّا ثلّة قليلة لم تتجاوز أصابع اليد، والجميع يعرفهم فكيف أنّ الإمام لم يعرفهم واعتمد عليهم؟!
علاوة على ذلك، فالكوفة وإن كانت من المراكز الحساسة في العالم الإسلامي، إلّا أنّها لو قورنت مع العالم الإسلامي المتمادي الأطراف الذي كان تحت سيطرة يزيد المتجبر، وكان جيشه وخراجه تحت تصرفه، فلا تعدّ شيئاً حتّى يمكنها أن تكون مهداً لنهضة كهذه. ناهيك عن الاختلافات والأوضاع السياسية التي كانت سائدة آنذاك، التي كانت تولّد الأفكار المنحرفة والتي تمنع من اتّحاد الناس تحت راية واحدة.
وعلى فرض ثبات آلاف من أهل الكوفة فإنّ عاقبتهم ستكون القتل، كما حدث في واقعة عين الوردة، مع أنّ الأوضاع كانت مساعدة تماماً بعدما استيقظ الناس من غفلتهم إثر شهادة الإمام وسبي أهل بيته، ولكن أضحى جميع أولئك الشجعان والمضحون تحت شفرات السيوف.
12 ـ ما جئت به من تأويلات لكلام الفرزدق في (ص42) باطلة ولا أساس لها.
هل يشير مفاد جملة (سيوفهم مع بني أمية) إلى معنى غير أنّ الذين يحبونك في قلوبهم هم الذين سيسلّون السيوف عليك؟! وأنّهم مع بني أمية، ألم يكن يعني ما صاغه الفرزدق بشكل مؤدّب للإمام أنّه لا ناصر لك في الكوفة؟
يقول الفرزدق: إنّ الوضع الآن هكذا، فلا أمل بالنصر بأيّ وجه من الوجوه، والذين تتوقع منهم المساعدة سيوفهم الآن مسلولة في وجهك. فما معنى المنافق إذاً؟ فهل هؤلاء ـ الذين عبرت عنهم بالقوى القومية ـ هم الذين بايعوا الإمام الحسين×؟
سيّدي العزيز التفت أنّ الفرزدق أعلن وبشكل رسمي من خلال كلماته أنّه لا بصيص أمل يلوح في الأفق، وأنّ النهضة من أجل تشكيل الحكومة بالقطع واليقين لا طائل منها، والمسير نحو تلك السيوف المسلولة لن ينتج عنه إلّا القتل. فماذا تتوقع في هذه الحالة من الفرزدق أن يصرح بأكثر من هذا، وكيف يشرح الأوضاع؟ أو ماذا نفهم من هذه الكلمة؟
وإذا قيل لكم: إنّ هدف الإمام إن كان هو تشكيل الحكومة فعليه أن يفكر بشيء آخر، وأن يعيد النظر في قراره ولا يذهب إلى العراق، لا أنّه لا يعبء بقول أمثال الفرزدق ويذهب في طريقه، فما هو جوابك حينها؟
أفلا يكون كلامك تأييداً لأولئك الذين اعترضوا بجهلهم على نهضة الإمام، واعتبروه تصرفاً غير مدروس؟
قل لنا: هل قولهم أكثر مقبولية في الأذهان أم قولكم؟ الحُكم لكم!
13 ـ إنّ ما ذكر في (ص43) فيما يتعلق بضعف الحكومة مقبول إلى حدّ ما، يعني أنّ أيّ حكومة تستلم السلطة حديثاً مع ما لقائدها من سوابق سيئة ستكون حتماً حكومة ضعيفة، إلّا أنّ هذا الضعف لم يصل إلى حدّ أنّ حكومة مترامية الأطراف في أنحاء العالم الإسلامي كحكومة بني أمية، وعلى رأس كل مدينة ودولة منها والياً من ولاتها، يمكن إزالتها من خلال انقلاب أو انتفاضة في الكوفة، فضلاً عن أنّ الناس الرافضين لهذه الحكومة لم يكن لهم استعداد لخوض غمار انتفاضة واقعية.
إنّ هذه الحكومة وإن كانت ضعيفة من حيث إنّ واليها جديد، إلّا أنّها كانت في أوج قدرتها من حيث نفوذ بني أمية الذي ازداد توسعاً، وازداد مؤيدوهم سواء عن طريق الترغيب والتهديد، وقد ركّعوا سياسيين كبار، أو قتلوهم وأبادوهم.
برأينا أنّ سلطة معاوية في بداية خلافة الإمام علي× إلى حين استشهاده وبداية خلافة الإمام المجتبى×، كانت أضعف من سلطة يزيد بدرجات، والقدرة المادية والعسكرية لكلا الإمامين كانت أكبر من القدرة المادية والعسكرية للإمام الحسين×، ومع كلّ تلك الصعاب انتفض الإمام، إلّا أنّ أكثر الناس لم يبلوا بلاء حسناً.
والإمام المجتبى× كان يعلم أنّه مع هكذا أناس وفي تلك الظروف لا إمكانية لتشكيل حكومة إسلامية وقطع يد بني أمية بقوّة السلاح، فكيف يعتبر سيّد الشهداء× تشكيل الحكومة الإسلامية اعتماداً على هؤلاء الناس أمراً عملياً؟!
وأمّا ما كتبته بأنّ كثيراً من السياسيين المتمرسين لم يكونوا واثقين بسيطرة يزيد على الأوضاع، والحق كان معهم؛ لأنّه ومنذ البداية... الخ.
أيّ سياسي تقصدون؟ إنّ عبدالله بن الزبير الذي اعتبرته شاهداً مع أنّه أعلن نفسه مرشحاً للخلافة إلّا أنّه لم يكن يجرؤ على مخالفة يزيد واحتمى بالحرم وبقي هناك؛ كي لا يُلقى القبض عليه أو يقتل من قبل رجال يزيد، ومع ذلك لم يثر إلى أن استشهد سيّد الشهداء× فتهيّأ الظرف للثورة، ولو أنّ يزيداً لم يمت لأزاحه ولكان مصير مكة كمصير المدينة.
إنّ توسع نفوذ ابن الزبير بعد موت يزيد يعود للثورات المتعددة التي وقعت إثر شهادة الإمام الحسين×، مع أن عاقبته قتل بتلك الطريقة. وكذلك ثورة نجدة بن عامر حدثت بعد شهادة سيّد الشهداء× ووقعها في قلوب الناس.
الغرض أنّ هذه الأمور لا تصلح أن تكون شاهداً على أنّ تأسيس الحكومة الإسلامية طبقاً للموازين العادية والعسكرية كان أمراً ممكناً، وليست ردّاً على القائل بأنّ تأسيس الحكومة طبقاً للموازين العادية و العسكرية هو أمر غير ممكن.
14 ـ يعدّ الكاتب في (ص44) أذية الناس من الحكومة من أسباب الانتصار، لكن لم تكن لهذه الأذية قيمة بالقياس إلى الظروف المهيأة للحكومة المسيطرة على الأوضاع، حتّى يدفع الأقاليم والبلدان التي تحت حكم بني أمية للانتفاضة.
15 ـ عدّ في (ص45) الرأي العام من أسباب انتصار الإمام، ونحن نقول أيضاً: إنّ الرأي العام للمسلمين الذين لهم علاقة بالإسلام كان مع الحسين×، إلّا أنّ هذا الرأي لم يكن مؤثراً، وعند الامتحان لم يتمكن من عزل الناس عن مال وجاه وقدرة بني أمية.
في ذاك العصر كانت الأمور المادية ـ كما في هذا العصر ـ مغرية إلى أبعد الحدود، ومن أجل المال والجاه يصارع الناس معتقداتهم وإيمانهم، ويقتلوا ضمائرهم.
وقد وصل الحال إلى الحد الذي أنّ بعض من تضرر بشدة من حكومة معاوية ومع فتكهم بأبنائهم قد لجأوا إليهم طمعاً بأموالهم.
إنّ مسألة الرأي العام وأذية الناس لم تكن لتؤثر في هكذا ثورة عظيمة، التي لو قدّر لها النصر لكان المتوقع من خسائرها البشرية ما لا يقلّ عن مئة ألف شخص. ولم تكن أبداً لتؤسس لحكومة في هذا الزمان كحكومة علي× في مقابل معاوية، ولو أنّ علياً× أيضاً كان في هذا العصر لما عدّ تشكيل الحكومة أمراً عملياً.
وكلّما أمعنا النظر لم نجد دليلاً تاريخياً مقنعاً بحيث لو سيطر الإمام على الكوفة كما ادّعى مؤلفكتاب الشهيد الخالد، لهبّ العالم الإسلامي بأجمعه لنصرته ما عدا الشام.
ولكن الكاتب لأنّه يريد أن يقع رأيه مورد القبول، راح يتكلم ويستنتج كما يحلو له، ولا أعلم كيف قد استثنى الشام؟! إذ سيتسنى لك وفقاً للعلل التي ذكرتها ضمّ الشام والقول بأنّ يزيد وبني أمية يخرسون في بيوتهم.
16ـ أمّا الاستشهادفي (ص45 و46) بكلام شريك بن الأعور،فبرأينا أنّ توقعه غير صحيح،فحتّى مع قتل ابن زياد لن تتم السيطرة أيضاً على الكوفة، وأتباع بني أمية ومرتزقتهم لم يكفّوا عن إثارة الفتنة وتهديد الناس. وحتّى لو تمت السيطرة على الكوفة، فإنّ استعادتها سيكون بالأمر السهل مع وجود تلك النفوس المريضة. إنّ كلام شريك ابن الأعور وإن كان ينبئ عن صفاء روحه وخلوص نيته إلّا أنّه أكثر شبهاً بإثلاج قلب مسلم بن عقيل وتقويته.
وعلى أيّ حال، يتعيّن على المؤلف إجابتنا عن السبب الذي جعل نائب الحسين× لا يغتنم هكذا فرصة من شأنها أن تجعل العالم الإسلامي بأجمعه ما عدا الشام تحت تصرف الإمام، ولم يستمع إلى قول هاني أو النساء ويتخلص من ابن زياد بهذه السهولة؟
بحسب رأينا كان مسلم متنبه، وكانت الرؤية واضحة عنده، ويعلم أنّ بينه وبين النصر مسافات بعيدة، ولم يتوقع من شريك بن الأعور أو غيره القيام بعمل مهم.
إنّ اغتيال ابن زياد هو فعل مخالف للمروءة، ويخدش في كرامة وشجاعة وصراحة أهل البيت^، كما أنّ الأمر لن يتحقق دفعة، ولم يقع العالم الإسلامي تحت السيطرة بمجرد هذا العمل؛ لذلك امتنع وتمسّك بحديث (الإسلام قيد الفتك).
أضف إلى ذلك أنّ اشتراط تغيير أوضاع الكوفة والبصرة في كلام شريك بن الأعور على اغتيال ابن زياد وانتهاز فرصة قتله أمور لم تكن بالحسبان حسب قولك، حتّى ينهض الإمام لتشكيل الحكومة بملاحظتها.
17 ـ في (ص47) تقولون: إنّ أحد أسباب انتصار الإمام هو الجيش المتطوع.
في الواقع إنّنا لنتعجب من طريقة تحليل مؤلف الشهيد الخالد! عن أيّ جيش متطوع يتحدث؟ وعن أيّ قوّة عسكرية؟ لماذا تغالطون إلى هذا الحد؟
أين كان هذا الجيش المتطوع الذي بحسب قولكم جيش المواقف الصعبة وأنّه يفرق كثيراً عن الجيش المسخّر؟ حتّى أنّه لم يسمع في الكوفة أنّ رجلاً واحداً منهم بقي مع مسلم حين خروجه حتّى يُقتل.
أجل، كثيرون هم من ادّعوا وقالوا وبايعوا باللسان كأولئك الذين بايعوا الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن÷، إلّا أنّهم في مقام العمل ظهروا بنحو آخر وتركوا مسلماً وحيداً، بحيث لم يبق معه شخص واحد من هذا الجيش المتطوع يستضيفه في البيت في آخر ليلة من عمره.
من الظاهر أنّ المؤلف يولي أهميّة كبيرة للجيش والقدرة العسكرية ووعود أهل الكوفة، في حال أنّ السّاسة كمحمد بن الحنفية وابن عباس لم يحسبوا لهم أيّ حساب.
إنّ مثل هذه القدرة العسكرية والجيش المكوّن من مئة ألف أو حتّى مليون ينسحب في اللحظات الأولى من القتال، وإن كان مئة ألف بنظرنا فيه نوع من المبالغة؛ إذ لم يكن يخرج من الكوفة آنذاك مئة ألف مقاتل، وجيش علي× لم يكن من الكوفة فقط بل انضم إليه مقاتلون من مناطق أخرى.
وعلى كل حال، إنّ هذا ما كانت عليه أوضاع وأحوال وتصرفات الناس في الكوفة، بحيث لو حضر الإمام بنفسه إلى الكوفة لواجه نفس مصير مسلم بن عقيل أو أشدّ منه، ولرماه هذا الجيش المتطوع بالحجارة من فوق السطوح.
18 ـ تحدث في (ص49) أيضاً عن إمكان تحقيق انتصار عسكري، واستشهد برسالة شبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وفي آخر الأمر بخبر مسلم.
إنّ استشهاد المؤلف برسالة أمثال عمرو بن الحجاج وشبث بن ربعي لأمر عجيب؛ كونهم معروفين بالنفاق والوضاعة، وقد كتبوا كذباً أنّ الجيش جند مجندة لك فأقبل.
كيف يمكن أن يسيطر جيش قادته أمثال عمرو بن الحجاج وشبث بن ربعي مع ما لهم من سوابق مخزية كالأذان لسجاح؟ كيف صاروا أهلاً لمعاضدة ابن النبي وقائد الأحرار؟
ومسلم بن عقيل أيضاً برأينا قد تنبّه إلى عقائد وآراء وضعف نفوس وخبث هؤلاء الأشخاص، فمنذ دخوله إلى الكوفة التقى بعابس الرجل المخلص والمطّلع وخلال بيان استعداده للتضحية أطلع مسلم تلويحاً بأحوال أهل الكوفة السيئة وخذلانهم، وحذره من أن يكون متفائلاً بالمستقبل و هؤلاء الناس.
قال عابس: فأمّا بعد فإنّي لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم (وإذا قرأنا (لا أعلم) من باب الإفعال، يصبح المعنى لن أعلن عما في ضمائرهم)، وما أغرك بهم. والله، أحدثك عما أنا موطن نفسي عليه، والله لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حتّى ألقى الله، لا أريد بذلك إلّا ما عند الله.
إنّ التدقيق في هذا الكلام يوضح مقدار الأذى والاشمئزاز الذي كانت تنطوي عليه نفس عابس من ثرثرة الناس وتفاخرهم الكاذب، وأنّه لا يرى بصيص نور يلوح في المستقبل، ومن الواضح أنّ الوضع لم يكن يسمح له أن يتكلم بما هو أكثر صراحة من هذا[94].
وعلى أيّ حال إنّ ما يمكن قوله بالحدس القطعي: إنّه قد وصل إلى مسامع مسلم ما هو أكثر من هذه التحذيرات والتنبيهات الموضوعية، كما أنّ مسلم في رسالته إلى الحسين× قد استفاد من ظاهر تلك الأخبار التي وصلته وإبراز الأحاسيس والأخبار عن البيعة الكذائية، ومن البديهي لم يتمكّن مسلم من الإخبار بأنّ الناس لم يبايعوا، أو كانوا يكذبون، أو أنّه لا يعلم إلى أي حدّ سيوفون بوعودهم؛ لأنّه لا داعي للتذكير باحتمال غدر أهل الكوفة، وهذا ما ذكره كبار الأصحاب للإمام في مكة. وأفضل ما يمكن قوله عن وضع أهل الكوفة هو أنّه لا يمكن الوثوق بقولهم ولا بعهودهم بأيّ وجه من الوجوه.
فجميع حسابات مؤلف كتاب الشهيد الخالد لا أساس لها، والرسالة الأخيرة لمسلم هي التي حملت فقط شكواه من نفاق وكذب أهل الكوفة.
القدرة العسكرية للإمام أكثر من يزيد!
19 ـ في (ص51) إنّ المقارنة بين القدرة العسكرية ليزيد التى كان أفرادها جميعهم من مرتزقة وعملاء الحكومة الظالمة وممن باعوا أنفسهم للدنيا، وبين قدرة من كان مع الإمام، الذين لم يتجاوز كلامهم غير ألسنتهم، وأكثرهم ممن بُيّنت أوصافهم على لسان أمير المؤمنين×، حتّى لم يعلم من تلك الجماعة الكبيرة التي بايعت مسلم واحد قد استشهد معه هي مقارنة خاطئة.
إنّ يزيداً كان يملك قوّة عسكرية منظمة ومجهزة بحيث كانت بلاد المسلمين بما فيها البصرة والكوفة تحت قبضته وتصرفه، وأمّا قوّة الإمام فلم تكن سوى وعود من أهل الكوفة، تلك الوعود التي كانت أكثرها كاذبة ومزيفة كما أخبر عنها مسلم.
20 ـ بشكل عام إنّ كل الحسابات التي أجراها المؤلف في (ص51) على قدرة الإمام وموازنة قوى كلا الطرفين لا أساس لها؛ كونها مبنية على احتمالات ضعيفة وحدسيات واهية واستنتاجات غير مقبولة، ولا يمكن لهذه الحدسيات والحسابات المفترضة بعد ثلاثة عشر قرناً أن تعتبر دليلاً ووثيقة لمثل هذه النهضة العظيمة التي لا نظير لها.
21 ـ كل ما كرر في (ص52 إلى 54) تحت هذا العنوان وعنوان التاريخ هو عبارة عن خطابة، ولعب بالألفاظ والعبارات.
كان على الإمام أن يستجيب لأصوات المستغيثين، وقد استجاب لهم، وكان عليه أن يأمر الناس بالمعروف ويدعوهم للثورة على حكومة يزيد المعاندة للإسلام، كما توجب عليه أن يوقظ المسلمين ويوعيهم وأن يعلن استعداده للدفاع عن الإسلام بمساعدة المسلمين، إلّا أنّ إمكان وواقعية تشكيل الحكومة الإسلامية شيء وهداية الناس ودعوتهم وإتمام الحجة عليهم وأداء التكليف شيء آخر.
إنّ لمثل هذا الإجراء والاستجابة وإتمام الحجة سوابق عديدة في تاريخ الأنبياء والأولياء، وقد ذكرنا مراراً أنّ قياس وضعية الإمام مع وضعية أبيه هو قياس مع الفارق. والعجيب في كل هذا قياسه ثورة الإمام وقوّته مع قوّة جدّه في فتح مكة، والحكم بأنّ جيش النبي’ لم يكن أكثر من عشرة آلاف وجيش الحسين× كان أكثر من مئة ألف شخص! وأنّ قوّة جيش النبيّ| في فتح مكة كانت من الخارج، لكن قوّة الإمام العظيمة كانت في الكوفة!
في الواقع يتحيّر الإنسان في إطلاق تسمية على مثل هذا الطرح الفكري، وهذا النحو في تناول المباحث التاريخية، كما أنّه يتساءل عن الباعث والسبب الذي يجعل شخصاً يفكر بهذه الطريقة.
يا عزيزي، هل من الضروري أن تقول شعراً تعجز عن نظم قافيته؟! فأيّ جيش وأيّ قوّة كانت مع الحسين× حتّى تقاس إلى القوّة العسكرية للنبي’ يوم فتح مكة؟! أيّ خبير في التقنيات الحربية والعسكرية يقيس ذلك الجيش الفاتح والمطيع لأوامر النبي’، والذي فتح بقيادته كل الحصون وطوى معه حروباً كبيرة، إلى القوّة العسكرية وعدّة من أهل الكوفة؟! أيّ مئة ألف رجل كانوا مع الإمام في الكوفة؟ فلماذا إذن لم يثوروا ويسيطروا على المدينة؟ إنّ أيّ مدينة يوجد فيها مئة ألف جندي تكون بيد الجيش ولا تحتاج إلى فتح! إنّه لمن المخجل حقاً إبداء مثل هذا المنطق السقيم.
إنّ النبي’ عندما جاء لفتح مكة كانت قريش والقوى المضادة للإسلام ـ رغم كل جهودها وقواها ـ مهزومة، ولم يروا في أنفسهم قوّة المقاومة، فقط بقيت مدينة مكة ولكن استسلمت في الأخير بسهولة، ولكن الكوفة بالنسبة للإمام كانت هي المدينة الأولى التي يتعيّن عليه فتحها، ومنها ينطلق بإجراءاته. إنّ الإمام لم يكن له جيش وقوّة من الخارج مثل جدّه حتّى يذهب به لفتح الكوفة، وفي الداخل لم يكن غير الوعود الزائفة. لا يمكن مقارنة فتح مكة بفتح الكوفة.
أخي العزيز، إنّ مئة ألف جندي كان بإمكانهم القضاء على ابن زياد بأيّ شكل من الأشكال، وإدخال الإمام إلى الكوفة.
إنّك تختلق قوّة للإمام بسلسلة من الافتراضات؛ لو صار كذا لحصل كذا، فلو سيطر على الكوفة لفتحت البصرة، ولو سقطت البصرة لاستسلمت الحجاز واليمن، ولو استسلمت تلك الديار لسيطروا على آذربيجان ومصر وبقاع أخرى؛ وعليه لماذا تتحدث عن مئة ألف قل مئة مليون.
ومن المعلوم أنّ أيّ شخص له مئة مليون من الجند يلزم عليه محاربة يزيد، ويدفع شر هذا الخبيث عن الناس، إذن يحسن بك أن تقول: كان على الحسين× أن ينهي الاضطرابات والحراك العام بقوّة المئة مليون، ويمسك بزمام الأمور رسمياً. ولكن لا يثبت إمكان تشكيل حكومة إسلامية بهذه الألفاظ والحسابات، واالعقلاء والمفكرون وأهل العلم والتتبع لا يعتبرون رأيكم هذا منطقياً ومعقولاً.
22 ـ نسب المؤلف في (ص55) إلى علماء الشيعة العظام أنّ الإمام كان لديه أمل كبير بالنصر إلى أن قابل الحر بن يزيد.
إلّا أنّنا لا نعرف أحداً من علماء الشيعة أيّد هذا الرأي بشكل قاطع، وقال شيئاً خالف فيه مسلمات الشيعة. نعم، إنّ بعض العلماء الذين يأتون أحياناً بدليل إقناعي لردّ إشكالات أهل السنّة، ويجيبوا على اعتراضاتهم بحسب المباني المقبولة عندهم، قالوا ذلك.
ومؤلف كتاب الشهيد الخالد وإن كان قد نقل ذلك في كتابه بعنوان الرأي الأساس عن السيّد والشيخ رحمة الله عليهما، ويسعى أن يذكر أدلة تاريخية تؤيّد آراءهما، لكنه قد تقبّل في الرسالة التوضيحية التي نشرت مؤخراً، أنّ هؤلاء العظماء أجابوا بهذه الطريقة في معرض مناقشاتهم مع أهل السنّة؛ وعليه فإنّ الأدلة التي أقامها ساقطة تلقائياً باعترافه، وعلى فرض أنّ هناك حديثاً أو نقلاً يدل على هذا الأمر، فلا بد من توجيهه وحمله على الإرشاد والأمر بالمعروف والدعوة إلى الإصلاح والتعاون لخلع يزيد.
وعليه فإنّ ما قاله السيّد يكفي في مقام الردّ على أهل السنّة[95] والمستشرقين، وهذا ما يظهر من كلمات أهل السنّة أيضاً، وبهذا القدر من الاحتمال من أنّ الإمام ثار على أساس حصول الظن الشخصي بالانتصار أو استناداً على التحقيق ودراسة الواقع يسد باب الاعتراض. وفي المجال الذي يقول فيه أحد أنّ ثورة الإمام كانت لتأسيس الحكومة، فلا يمكن أن يكون غير هذا شرعاً وعقلاً، فإمّا أن يكون الظن الشخصي بالنصر حاصلاً للإمام أو بالاعتماد على التحليل وواقع الأمور وحصول الاطمئنان رأى شرعاً وجوب الثورة على نفسه وعمل بوظيفته.
لذلك لا ضرورة لبسط الكلام وجمع الأدلة وحتّى ردّ الآراء الأخرى في قبال من يرتضي هذا الفرض كأهل السنّة؛ لأنّه لإيجاد العذر للإمام يمكننا الاكتفاء بما جاء في بيان السيّد، فقط في حال افتراض ما لو كانت الأجواء مساعدة فإنّ احتمال الخطأ في الثورة سيرتفع أيضاً. ولكن يطرأ إشكال عدم الاطّلاع على الحوادث غير المتوقعة، بحيث لو اعتمدها الكاتب كرأي أساسي فلا بد أن يلتزم بها، وأن ينكر الأخبار المتواترة التي تدل على أنّ الإمام كان عالماً بشهادته.
وعلى كل حال، فإنّ غرضنا من إطالة الكلام هنا هو توضيح هذه الحقيقة، وهي أنّه لا أثر لمثل هذا الطرح أو الفرض ولا فائدة له إلّا أن يكون حيال أهل السنّة لأجل إقناعهم، وإضافة إلى إمكانية إقناعهم أو بالأحرى إلزامهم بالطرق الأكثر منطقية فهذا الطرح لا ينطبق على الواقع وما حدث في الخارج.
حتّى أنّنا لا نقبل هذا الكلام من السيّد+، وهو أنّ الإمام لما سمع بخبر مقتل مسلم ـ كما هو ظاهر التاريخ ـ استسلم لقول بني عقيل، ورضخ هو وعياله ونساؤه وأطفاله لهذا الخطر العظيم الذي لا ينسى.
فهل هذا العذر مقبول؟ علينا أن نوجّه السؤال لأولئك الذين قالوا: إنّ الإمام حتّى ذلك الوقت لم يكن متوقعاً لما ستؤول إليه الأمور! ويسأل: لماذا حينما اتضحت الأموروبانت أيضاً تابع الإمام مسيره؟
ونحن في المحضر المبارك للسّد، لا يسعنا إلّا أن نعرب عن كامل احترامنا، ونقول: من المستبعد أن يعطي مثلكم هذا الرأي جواباً لسؤال أيّ شخص؛ كونه جواباً ناقصاً. كيف يلتمس الحسين× العذر من القوم ويطلب الإجازة في ملاقاة يزيد ويضع يده في يده، وهو القائل: لو لم أجد لي من الأرض ملجأً في كل العالم فلن أبايع يزيداً؟ هذا أمر غير مقبول[96] .
خلاصة كلام السيّد المرتضى+ هنا: أنّه وإن تمسك بسلسلة من الأعذار تجاه العامّة لإثبات معذورية الإمام وفقاً لمبانيهم، واحتمال هذه الأعذار كافٍ لإثبات المعذورية وعدم ورود الاعتراض على النهضة. ولكن أدلته وكذلك توضيحات مؤلف الشهيد الخالد لا تثبت هذه المسألة، وهي أنّه في هذه الحال كان تشخيص الإمام أكثر واقعية وتسديداً من تشخيص الآخرين، ومنتهى الأمر هو أن يقولوا: ليس معلوماً أيّ الرأيين كان مطابقاً للواقع وظروف ذلك العصر، كما أنّه لا يلزم إثبات هذا المعنى عند الردّ على أهل السنّة.
إنّ كتاب الشهيد الخالد بأكمله يدور مدار كلام السيّد المرتضى في تنزيه الأنبياء، غاية الأمر لأنّه قال ذلك في قبال العامة وأهل السنّة، وهذا ما يقرّه مؤلف الشهيد الخالد نفسه، يتعيّن عليه قبول الإشكالات الواردة على ذلك بحسب الأسس الشيعية وكتب التاريخ المعتبرة؛ كون السيّد لن يردّ الأخبار القطعية التي رواها مشايخ الشيعة والدالة على علم الإمام بمآل النهضة واستشهاده.
وأمّا مؤلف الشهيد الخالد فإنّه يهدف من خلال طرحه هذا الرأي ـ بحسب زعمه ـ إلى أمور، مريداً بذلك تثبيته، معتبراً إياه رأياً صحيحاً وفريداً من نوعه، وهذا ما يجعل كل أنواع الإشكالات ترد عليه، ومن أهمّها أنّه بناءً على هذا الطرح سوف تسقط شهادة الإمام عن قيمتها واعتبارها ودرجتها، تلك الشهادة التي ترتبت عليها بحسب الأخبار المعتبرة كل هذه الآثار الدنيوية وبالخصوص الأخروية منها التي لم تترتب على شهادة أيّ واحد من الشهداء في سبيل الله.
وعلى كل حال، إنّ كل من يطالع المقاتل المعتبرة وكتب الحديث سيتيقن من أنّ الإمام كان عالماً بخاتمة هذه النهضة، وأنّ كل ما أقدم عليه من إرسال الرسائل والرسل ودعوة الناس واقتراح العودة إلى الحجاز كان لأجل إتمام الحجّة، وهو أمر له سابقة في سيرة الأنبياء والأولياء بل هو من السنن الإلهية، وأصدق بيان لهذه الحقيقة هو كلام الإمام نفسه: «من خادعنا في الله انخدعنا له»[97].
روى الشيخ الجليل جعفر بن قولويه القمي أستاذ أستاذ السيّد المرتضى والشيخ الطوسي في كتاب كامل الزيارات عن أبي جعفر×: أنّ الحسين لما خرج من مكة قال له ابن الزبير: يا أبا عبد الله قد حضر الحج وتدعه وتأتي العراق؟ فقال: «يا بن الزبير لأن أدفن بجانب الفرات أحب إليّ من أن أدفن بفناء الكعبة»[98].
وأمّا مسألة اقتراح قتل ابن الزياد لمسلم الواردة في كلام السيّد، فهي برأينا دالة على أنّ الأجواء لم تكن مواتية، والناس لم يكن لديهم من الشجاعة واللياقة ما يسمح بالاعتماد عليهم في تأسيس حكومة أو في اتخاذ موقف من ابن زياد أو قتل عامل يزيد، وكانوا متخوفين من عواقبها؛ لذا اقترحوا هذا الاقتراح على مسلم. مع أنّ ذلك لا يناسب مقام مسلم كنائب للإمام وقائد للقوات أن يصبح فجأة قاتلاً أو غداراً، وكان من اللازم أن يكلّف بهذه المهمة شخص من جيش المئة ألف الذي قال عنه كاتب الشهيد الخالد بأنّه كان أقوى من قوات يزيد المسلحة.
ألم يكن هناك أحد يتصدّى لهذه المهمة؟ ألم يكن من الممكن وجود شخص مؤتمن على السرّ وشجاع من بين هؤلاء المئة ألف ليأخذ هذا الأمر على عاتقه؟ إذ كان من الممكن أن يقوم به مولى هاني أو شخص آخر، ولكن الحق هو أنّ الوضع كان ينبئ بأنّه لا يمكن الاعتماد على شخص ليقدموا له مثل هذا الاقتراح، فلا ثقاة ولا أكثرية لتلك القوّة النظامية ـ حسب قول المؤلف ـ كانوا سيقومون بمهمة كهذه.
لقد كانت المعنويات ضعيفة، وكان الجميع مرعوبين من قوى الحكومة الأموية وجيش يزيد، إلّا القلة القليلة الذين لم يعرف أيضاً لماذا لم يتمكنوا ولم يقدموا على التضحية والذّب دون مسلم في هذا الظرف الحساس حينما بقي وحيداً مظلوماً. ألا يدلّ هذا على أنّ أهل الكوفة لم يكونوا أهلاً للتضحية من أجل الإمام وشحذ هممهم وقدرتهم لجعل أمر تأسيس الحكومة الغسلامية أمراً ممكناً؟
23 ـ إنّ الأدلة التي أقامها المؤلف في (ص55) لتأييد جواب السيّد المرتضى+ في ردّه على أهل السنّة تثبت بقدر كاف علم الإمام بشهادته، بغض النظر عن مقام الإمامة وعقائد الشيعة وحديث الثقلين والسفينة وغيرها من الدلائل المحكمة. ولكن هذه الأدلة ليست كافية لإثبات أنّ هدف الإمام من هذه النهضة كان تأسيس الحكومة، وأنّه لم يكن على علم بشهادته في نهايتها؛ كون جميع أفعال الإمام وأقواله وكتبه التي كتبها كانت كلها من باب إتمام الحجة. وعند الالتفات إلى الشواهد والقضايا والأخبار التي لدينا عن النبي|، والمطالب السابقة في فصل (الإمام كان عالماً) من مقدّمة هذا الكتاب، يتبيّن لنا أنّه لا يمكن جعل هذه الأمور دليلاً على أقوال السيّد، وكل تلك الأدلة التي أوردناها في هذا الكتاب قرينة على أنّه لو فرض أنّ ظاهر خبر ما يكون مؤيّداً لادّعاء مؤلف الشهيد الخالد، فإنّ ذلك الظاهر ليس هو المراد والمقصود، ويجب أن يوجّه طبقاً لهذه القرائن.
ويمكن حمل هذه الأخبار على إتمام الحجة ونحوها بشكل كامل، أمّا الأخبار التي تدل أنّ الإمام مع علمه باستشهاده قد ذهب إلى العراق فإنّها لا تقبل التوجيه أو التأويل. لماذا تفرون من أن يكون هدف الإمام هو إتمام الحجة، رغم أنّ القرآن المجيد وأفعال وأساليب الأنبياء تؤيّد ذلك؟
24 ـ إنّ ما ذكر في (ص62) من مقارنة بين أخبار ابن عباس وتحقيقات مسلم غير صحيح، فضلاً عن عدم وجود منافاة بينهما؛ لأنّه وإن كان ابن عباس بعيداً عن الكوفة إلّا أنّ أوضاع تلك المنطقة لم تكن لتخفى عليه، إذ كان محنّكاً خبيراً بصيراً وعالماً بالأوضاع السياسية والاجتماعية بشكل كامل، فإذا كان مسلماً قد اطلع على أوضاع الكوفة عن قرب، فإنّ ابن عباس كان مطلعاً وعالماً بجميع البلاد ومنطقة نفوذ الحكومة، فلا يمكن عدّه شخصاً غير مطلع.
لقد كان مطلعاً على تمام الفرق والأحزاب السياسية المهمة في الكوفة والعراق والشام، فكيف لا يمكنه الوقوف على التحولات الفكرية في العراق، وبحسب قولكم لم يكن له اطلاع على الجيل الجديد؟! إنّ ابن عباس قد حكم العراق (البصرة) وكان عارفاً بقبائلها ورؤسائها. إنّ الجيل الجديد إن لم يكن أتعس من القديم إلّا أنّه ليس بأفضل منه، فعلى امتداد عشرين سنة وإن كان قد تفطن بعض منهم، إلّا أنّ تعداد أنصار السياسة الأموية قد تضاعف وزاد نفوذهم في المجتمع بشكل كامل.
لا أعلم أيّ منطق هذا الذي انتهجه المؤلف، والذي أراد من خلاله تحريف الحقائق بناء على حفنة من الألفاظ الفارغة. ونعجب لاستماتته في الدفاع عن مسلم بهذا النحو واعتبار استطلاعاته صحيحة، وتعتبر بيعة أهل الكوفة واستقبالهم له أمراً واقعياً ومنشأ للأثر مع أنّ حقيقتهم واضحة وضوح الشمس وهي ما صرّح به مسلم نفسه في رسالته الأخيرة، وأيّد رأي ابن عباس، ومع ذلك تكتبون كتاباً تصوّرون فيه الإمام على أنّه كان معذوراً، معطين بذلك ذريعة بيد الأعداء ليحملوا حملة جبانة على شعائر التشيع.
لم يكن لفعل الإمام من جهاته العادية أسرار وتفاصيل لم يطلع عليها أحد، وابن عباس لا يعلمها، ما هذا الكلام؟ وما هذه الكلمات التي لا معنى لها؟ إنّ الجميع كان يعلم ويتنبأ مسبقاً بأنّ أهل الكوفة لن يسكتوا، وأنّهم سيدعون الإمام وأكثرهم يتظاهر بالوفاء والتضحية كذباً، ثمّ يتفرقوا عنه بعد ذلك، فهذه لم تكن مسائل سرية بحيث لا يعلمها ابن عباس يعلمها الإمام فقط، أضف إلى ذلك أنّه ما المانع من بوح الإمام بهذه الأسرار أمامهم ما دام متيقناً أنّهم ليسوا جواسيس ليزيد حتّى يشاركوه في أفكاره، بل يعينوه. مضافاً عن أنّ ما تقدّم به ابن عباس بين يدي الإمام لا يرد الأخبار والاستطلاعات التي توصل إليها مسلم؛ إذ لم يقل ابن عباس: إنّ أهل الكوفة لم يبايعوا مسلماً، أو لم يتعاطفوا معه، بل كان يقول: إنّه لا يتعيّن الاعتماد على تلك الانفعالات وتلك البيعة في مسألة تأسيس الحكومة وإسقاط يزيد، وهذا ما رآه مسلم في نهاية المطاف رأي العين وأخبر به، وابن عمر أيضاً كان يقول بهذا، والآخرون أيضاً كذلك، إنّهم كانوا على يقين من مقتل الإمام، وأنّ هذا الأمر سينتهي بشهادته.
فالنبي قد أخبر بهذا، وهؤلاء الأشخاص كانوا من المطّلعين على تلك الأخبار، والأوضاع كانت تشهد بذلك أيضاً؛ لذلك عندما ودّعه عبد الله بن عمر قال له بصراحة وقطع: أستودعك الله من قتيل، والإمام لم يعترض على هذا القول، ولم يقل له: ما هذا الكلام الذي تقوله؟ أو أنّ هذا الأمر لن يحصل في هذا السفر، أو أنّه من المحتمل أن لا أقتل في هذا السفر.
25 ـ إنّ ما ذكر في (ص65) تحت عنوان (خيال باطل) هو بالفعل خيال باطل؛ وذلك لأنّ مقارنة معركة أحد ومعركة صفين مع نهضة الإمام مقارنة غير صحيحة، ففي كلتا المعركتين كان لكل واحد من الطرفين جيش تحت إمرته، واحتمال انتصار واحد منهم على الآخر أمر عقلائي وعرفي، ولا علاقة بين توقعات واستطلاع الأوضاع العسكرية في هذه المعارك وبين الحوادث المفاجئة والمحجوبة، كما أنّه لا يمكن اعتبار عدم توقع هكذا حوادث دليلاً على ضعف توقعات القائد وجهله.
فمثلاً قد يتهيأ القائد لجميع الاحتمالات والتوقعات الضرورية، إلّا أنّه قد يفاجأ بدخول جيش جديد إلى ساحة الميدان لمساعدة الطرف المقابل، ومن هنا يمكن القول: إنّ توقع النبي’ في معركة أحد كان صحيحاً، وتوقع عبد الله بن أبي المنافق كان خاطئاً، بل لعله لم يتنبأ أصلاً، وكان هدفه تثبيط عزائم المسلمين.
لكنه ليس من الصعب التكهّن بوضع بني أمية من حيث قدرتهم العسكرية ونفوذهم وسلطتهم، وتوقع فشل الثورة ضدّهم استناداً إلى وعود زائفة وفارغة لأناس شيمتهم نكث العهود والغدر، وعلى فرض صعوبته فهو لم يكن خافٍ على رجال السياسة وخبرائها، ومع كل هذه التوقعات وكل هذه الأخبار الواردة عن النبي| بشهادة الحسين× في العراق وكربلاء، فإنّه لا يمكن أن تعطي شخصيتان خبيرتان بالأوضاع والأحوال مثل الإمام وابن عباس مثلاً رأيين مختلفين؛ لأنّ المقدمات كانت واحدة والأوضاع أيضاً تُنظر بنظرة واحدة.
وعليه أوّلاً: نحن نقول: إنّ كليهما قد توقع نفس الأمر إلّا أنّ الحسين× قد كان مكلّفاً بعدم البيعة والاستسلام، وأن يستمر ويثبت على ذلك حتّى الشهادة.
ثانياً: ليس صحيحاً أن يقال بأنّ النبي’ كان جاهلاً بوضع المعركة في أحد، ولم يكن مطّلعاً على مجريات الأحداث. إنّ النبي’ كان مطلعاً إلّا أنّه كان مأموراً بالتصرف في مثل هذه الأمور بما يقتضيه العرف والعادة والظاهر، ولا يعمل علمه الغيبي وإلّا لزم نقض الغرض، ولم يحصل مصداق لقوله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [99] .
إنّ علم النبي’ من هذه الناحية كعلم الله، فكما أنّكم اعترفتم بأنّ الله لا يلزمه إطلاع الأصحاب على أوضاع الحرب، فلا ضرورة كذلك أن يطلعهم النبي’ علي النتائج، ويعتمد في إدارة الحرب على الوحي وعلم الغيب، فيحارب متى رأى النصر ويجتنب الحرب متى علم الهزيمة، ويرسل إليه كل من لا يقتل، ويجنبها من يقتل. هذا المنهج ينافي مصلحة بعثة الرسل وتربية المجتمع، وكل جواب تقوله في مسألة علم الله بهذه الأمور، فإنّا نقوله في مسألة علم النبي والأئمة.
لذلك نقول: لا منافاة في أن يعلم النبي بمصير معركة أحد، لكنه في مقام الإقدام والعمل لا يتصرف إلّا كقائد عادي مطّلع وخبير بالفنون العسكرية؛ لذا لم يخبر بنحو القطع عن النصر ـ كما أخبر عنه في مواضع أخرى ـ [100]، إنّما قال: (لكم النصر ما صبرتم) بل إنّه طبقاً للأخبار المتعددة في تفسير الطبري كان متوقعاً للهزيمة ولشهادة عمّه حمزة. كما أنّ الإمام أيضاً قد توقع ما تؤول إليه الأوضاع في ثورته المقدّسة، وكان عالماً بأنّ النصر العسكري لن يكون حليفه، لا أنّ الإمام عاجز (حاشا وكلا) عن كشف تلك الحوادث المحجوبة عن توقعات الناس العاديين. فلا الهزيمة العسكرية للإمام متعلقة بتلك الحوادث المحجوبة ولا أنّ الإمام كان عاجزاً عن التنبؤ بها.
26 ـ إنّ ما كتبه في (ص72) عن جيش الإمام المتطوع لم يكن إلّا قياساً مع الفارق بالنسبة لجيش أمير المؤمنين×.
يا عزيزي، إنّك تزعم أنّ جيش الإمام الحسين× وقوّته العسكرية كانت مئة ألف شخص، وتقول: إنّ التسلّح في ذاك العصر لم يكن ممنوعاً، وأنّ كل هذه المئة ألف قد كانت مسلحة بسلاح ذاك العصر، وتقول: إنّ يزيد لو جهز كل جنوده لما تمکن من إرسال أكثر من هذا لمحاربة الإمام، وتقول: إنّ النفاق والاختلاف هو الذي قطع علاقة الجيش بالإمام علي× في حرب صفين، وكأنّك تريد القول بأنّه لم يكن في الكوفة وبين هؤلاء المئة ألف شخص ـ وكأنّما تسلّمت إحصائياتهم وبطاقاتهم الشخصية ـ أيّ منافق.
فتفضل وأعلمنا إذاً كيف أنّ جنود ابن زياد والذين لم يأتوا من الشام، ولا بد أن يكون هناك غير المئة ألف أناساً مخلصين وأوفياء مئة بالمئة فكيف استطاعوا السيطرة على مئة ألف مسلح دون أن يسمع لهم حسيساً؟!
وعليه إذا كانت القوّة المسلحة للإمام تبلغ مئة ألف شخص، فكم جندياً من غير هؤلاء كان يستطيع ابن زياد أن يهيئ؟ عشرة آلاف، أو عشرون ألفاً، أو ثلاثون ألفاً، لا يستطيع إرسال أكثر من ذلك وقد أرسلهم إلى كربلاء، فأين هذه المئة ألف من المبارزين؟ أكانوا موتى؟ لماذا لم يثوروا ويقضوا على ابن زياد الذي كان يمكن القضاء عليه في ذلك الوقت بعشرة آلاف، حيث إنّ أكثر جنوده كانوا في كربلاء؟
لو لم يكن هؤلاء منافقين ولم يقطع النفاق علاقتهم بالإمام، فعلى من احتج الإمام إذن بتلك الاحتجاجات يوم عاشوراء؟
لا يا سيّدي، لقد كانوا منافقين وكاذبين، إلّا الثلة المعدودة الذين حضروا كربلاء أو عدّة من الذين يفترض عجزهم عن الحضور، لقد كانوا جميعاً ممثلين، ولم يؤازروا الإمام في الميدان، وذلك الجيش الذي واجه الإمام في كربلاء كان متشكلاً منهم، غاية الأمر أنّكم تقولون بأنّه قد قطعت علاقة جيش علي× بسبب النفاق والاختلاف مع قائدهم، وهنا كان لأجل تغيّر الأوضاع، والتغيير في الأوضاع هو نكث البيعة والخيانة وسل السيوف على الإمام لقتله، وهذا عين ما أخبر به مسلم الإمام.
أتظن أنّ أولئك الناس كافة كانوا مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر؟ كلا فأولئك منذ أن تركوا مسلماً وحيداً وأظهروا خيانتهم، قد عادوا إلى أعمالهم، ثمّ التحقوا أيضاً بكربلاء ومنعوا الماء عن أهل بيت النبي| الذين نزلوا ضيوفاً عليهم، ولم يرحموا الصغار والرضع، ودفعوا بإمام زمانهم إلى الشهادة.
27 ـ إنّ ما كتبه في (ص71) عن مسلم صحيح من جهة كونه قائداً مقتدراً، جديراً وخبيراً، إلّا أنّ جيشه الذي اعتبرتموه قوّته العسكرية لم يكن قابلاً للاعتماد عليه. وقد قلت: إنّ أسلوب الاعتماد عليهم في الظاهر الذي سلكه الإمام معهم كان من باب إتمام الحجة.
إنّ القوّة العسكرية لمسلم كانت مكوّنة من أكثرية فاسدة ومرتزقة وطمّاعة وجبانة، وبمحض بدء حملات ابن زياد الإعلامية وتطميعاته وتهديداته، خسروا أنفسهم وباعوها وهرعوا إليه، حيث لم يكن هذا الأمر خفياً، بل كان متوقعاً؛ لأنّه قد شوهد مكرراً من قبل أهل الكوفة. ولا یحتاج قلب الورق إلى جهد كبير، فالتهديد والترغيب أدّى إلى تغيير الوضع، وأصبح من المعلوم أنّ القوّة التي ـ على حدّ زعمكم ـ قد بلغت مئة ألف شخص كانت أضعف مما توقعه السياسيون، وإلّا لما أدّى اعتقال شخصين أو رفع راية الأمان، أن يتصف مئة ألف مسلح بنكث البيعة وبيع الشرف، بهذه السرعة. وهذا ما كان قد توقعه ابن عباس وما لا يمكن أن ينفيه خبر مسلم، كما أنّه لم يكن خفياً على الإمام. وأمّا إذا أردت القول: إنّ الإمام لم يكن يتوقعه فإنّك تكون قد وقعت في زلل كبير، ليس فقط من حيث كونك قد أنكرت علم الإمام، بل من جهة أنّك اعتبرت رؤية الإمام للأوضاع وبصيرته أقل شأناً من رؤية ابن عباس لها.
28 ـ أتبعت كلامك في (ص77) بمشكلتين، مع أنّهما يرتفعان بأدنى تأمل.
المشكلة الأولى: إنّ جهة علاقة القصر مع الخارج قد تمظهرت في كون تلك القوّة التي كانت تحاصره غير منظمة مثلها مثل تلك التمردات العامة المفاجئة، التي تبدأ إثر غليان مؤقت في المشاعر، ثمّ ترعد وتبرق حتّى تنطفئ شيئاً فشيئاً، وهكذا كان شأن هذا التمرّد، كما أنّ مسلماً لم يستطع تعبئتهم والتحكم فيهم أكثر من ذلك ويحدّ من علاقة القصر بخارجه.
لقد عمل مسلم بكل ما أوتي من قوّة وأظهر شجاعته ورشادته حتّى أجبر الناس على الثورة والتمرد. إلّا أنّ هذه الانتفاضة لم تكن تمرّد جنود نظاميين، ولا يعلم كم جندياً مسلحاً من تلك المئة ألف قد شارك في هذه الانتفاضة، إذ يمكن أن يكون أكثرهم غير مسلحين.
إنّ مثل هذه الثورات لا يمكنها الصمود أو إنجاز شيء، وستهدأ وتخمد سريعاً. أضف إلى ذلك أنّ هؤلاء الثوّار ربّما لم يتعرّضوا لدخول وخروج رؤساء القبائل للقصر، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أنّ الناس لم يتخذوا قراراً بخلع وقمع عبيدالله بن زياد، وأرادوا بعض الحريات.
المشكلة الثانية: ويمكن أن تحل من هنا أيضاً، وهو أنّ مسلماً لم يكن يملك قوات معينة، وأمّا قوات النظام الحاكم فهي وإن كانت قد تراجعت إثر الاضطرابات التي وقعت في المدنية، إلّا أنّها كانت تُحكم السيطرة على الأوضاع، ولها نحو ارتباط مع أشراف المدينة وأعيانها، كما باستطاعتها عبر بسط سلطتها ونشر عمّالها وأدواتها التي انتشرت في كل مكان، أن ترضي الجميع وتسكتهم في ليلة واحدة من خلال التهديد والتطميع، وما عدا قلّة قليلة ممن لم يعلم في ذلك الوقت سبب تركهم لمسلم وحيداً، فإنّ البقية قد اختاروا نكث العهود والغدر، ولم يكن هناك من يُتوقّع منه الثبات والاستقامة، حيث انفصلوا عن مسلم ومولاه إلى الأبد.
على أيّ حال، لقد كان قدر مسلم أن يبقى وحيداً، كما لا يعلم هل قتل شخص في سبيل إعانة مسلم وهاني ممن له نفوذ واحترام في أهل الكوفة أم لم يقتل؟[101]
إنّ هذه الأحداث تشير أيضاً إلى أنّه ليس بإمكان أهل الكوفة أن يثوروا على بني أمية، وأنّ الكوفة تحت تصرف عمّال ومسؤولي الحكومة.
بعد استشهاد مسلم وما جرى على بدنه الشريف من إهانة من قبل هؤلاء الناس الذين ـ بحسب زعمكم ـ كانوا من المناصرين والمضحين، لم تسجل أيّ حركة وأيّ ردة فعل، وعلى فرض إمكانية لقاء مسلم بأشخاص مثل مسلم بن عوسجة وحبيب ابن مظاهر، فإنّ ذلك لم يكن ليحدث أمراً جديداً، ولا يشكّل جبهة جديدة، خلافاً لما تصوره هذا الكاتب، ولم يكن من الممكن أن يخلصوا مسلماً ليلاً من تلك المحنة.
أيّها السيّد العزيز، لقد كانت المدينة وأكثر الشخصيات النافذة فيها مع الحكومة، سواء كان ذلك من خلال الترغيب أم الترهيب فهذا أمر لا يهمنا، ولا يوجد فارس مؤمن وناصر مضحي وجندي بطل ليساعد مسلماً على الخلاص. لقد بلغ الانحطاط الأخلاقي في المجتمع والتعلق بالماديات لدى الناس إلى درجة المذلّة والمهانة، بحيث لم يكونوا على استعداد لتقديم أدنى تضحية، وعلى الأقل أن يضحي عدّة أشخاص من هؤلاء المئة ألف (بحسب زعمكم)، ويصمدوا كما صمد مسلم، لكنهم تنحوا جانباً، ووضعوا بيوتهم ومنازلهم تحت تصرف عمال الحكومة، وشاركوهم في مساعيهم، ورموا ذلك الرجل الربّاني والضيف العزيز بالحجارة من فوق سطوح البيوت.
وتقول مجدداً: إنّ جملة ـ الكوفي لا يوفي ـ لا أساس لها، إنصافاً كم كان وفاؤهم مذهلاً!
29 ـ إنّ ما ذكر في (ص80) فيما يتعلق بمعرفة الناس وروحية المجتمعات بهدف الدفاع عن أهل الكوفة غير صحيح؛ لأنّ التاريخ يشهد بأنّ الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية لأهل الكوفة قد كانت أكثر انحطاطاً من المدن الأخرى، وحينما نقيس انتفاضتها مع انتفاضات المدن الأخرى كالمدينة مثلاً فإنّنا سنجد أهل الكوفة أناساً مذبذبين وناكثين للعهود.
إنّ أولئك الذين قاتلوا في ركب علي× لم يكونوا كلهم من أهل الكوفة، إذ قد كانت تلك القبائل والعشائر الشجاعة والمضحية والمريدة لمولى المتقين× من القبائل المشهورة كقبيلة همدان. والجملة التي نقلتها عن مولى المتقين× هي في الحقيقة كانت خطاباً للمجاهدين والجند الحقيقيين في الحرب الذين كانوا من الكوفة وغيرها. أضف إلى ذلك لماذا نسيت خطب علي× المليئة بالشكوى والتذمر من هؤلاء الناس لدرجة أنّه كان يتمنّى أن يبادلهم مع معاوية فيعطى بدل كل واحد من الشاميين عشرة من الكوفيين؟!
هل معرفتك بالمجتمع أفضل من معرفة علي× به؟ ففضلاً عن مقام إمامته كان يرى الوضع المتزلزل والمتلوّن لأهل الكوفة ونفاقهم، وبعد علي× قد ساء الوضع أكثر مما كان عليه، فمعاوية استمال قلوب الكثير حتّى من مريدي الإمام، أو أسكتهم، بالمال والترغيب والرشوة.
لذلك كان يقول علماء الاجتماع: إنّه إذا كان الهدف هو تأسيس الحكومة الإسلامية فهذا الأمر لن يستتب ولن يستقيم بأهل الكوفة، ولا ينبغي الوثوق بهم، ولو كان ما ادّعاه مؤلف الشهيد الخالد صحيحاً؛ من أنّهم كانوا أشجع من جنود بني أمية لسيطروا على المدينة ولخلعوا عامل يزيد ومن ثمّ دعوا الإمام.
30 ـ أمّا ما أورده من الشاهدين التاريخيين في (ص85) فإنّهما لا يدلان أبداً على صدق مدّعاه؛ وذلك أوّلاً: إنّ سبب ازدياد هذه الثورات، بل سبب ظهورها هو نفس شهادة الإمام والأثر المترتب على مظلوميته وسبي نسائه في القلوب.
ثانياً: إنّ الثورات الأخرى مثل ثورة المدينة وثورة ابن الزبير كانت مشجعة لأهل الكوفة ومانعة من السيطرة على الأوضاع فيها؛ لهذا استقام المختار فترة من الزمن، لكنه في الأخير تجرع أيضاً من كأس غدر أهل الكوفة. وكيفما كان وعلى رغم أنّ الأوضاع قد كانت مساعدة تماماً لهذه الثورات من الناحية الفكرية والاجتماعية وحتّى السياسية، إلّا أنّها في النهاية انهزمت وصارت في طي النسيان.
31 ـ إنّ التصور الصحيح الذي ذكرته في (ص86) بعيد كلّ البعد عن الصحة والتحقيق؛ كون أكثر الذين بايعوا كانوا منافقين ما عدا الثلة الذين ثبتوا في كربلاء والعدّة ممن لم يستطع اللحاق بهم، أمّا البقية فلم يكونوا رجالاً أوفياء. ودليله أنّه لو أراد عشرون ألفاً من المئة ألف اللحاق بالإمام، لأوصل على الأقل عدّة آلاف أنفسهم للإمام في أيّ مقطع كان، إلّا أنّ الجميع قد آثر على الظاهر الابتعاد والمكوث في البيوت حتّى يصلهم خبر شهادة ابن رسول الله|، بل حتّى بعد ما جاؤوا برأس الإمام مع أهل بيته إلى الكوفة كان بإمكانهم أن يثوروا دفعة واحدة ويظهروا ردة فعل، لكنهم لم يفعلوا.
32 ـ تحدثت في (ص86) عن النصر العسكري للإمام وأنّه لو سقطت الكوفة لانتصر.
والجواب هو: على فرض أنّ الإمام سيطر على الكوفة، فليس من المعلوم أيضاً أنّه سينتصر، بل ما هو معلوم هو الهزيمة؛ وذلك أوّلاً: إنّ مدينة الكوفة لوحدها لم تكن لديها القدرة على مواجهة القدرة العسكرية للحكومة الأموية، وعلى فرض مساندتها من قبل البصرة فإنّ ذلك لم يكن كاف أيضاً للمقاومة، بل حتّى لو ثبتوا عدّة أيام فإنّ مصيرهم سيؤول إلى السقوط.
يعني أنّنا لو فرضنا أنّ الإمام وصل إلى الكوفة قبل ابن زياد، وأنّ الناس الذين بايعوا مسلماً بايعوا الإمام أيضاً؛ فإنّ ذلك لم يكن يكفي لمقاومة القوّة العسكرية للحكومة، وحتّى لو بالغنا كثيراً لأنّ شأن الإمام غير شأن مسلم، فإنّ المدينة قد تقاوم لعدّة أيام، ويثبت عدّة منهم حتّى الشهادة، لكنهم سيهزمون في النهاية، ولن يفي أحد بوعده غير تلك العدّة القليلة.
وهذا ما تشير إليه الحوادث اللاحقة التي أظهرت أنّه لا يمكن للكوفة وحدها أو بانضمام البصرة إليها أن توصل الثورة إلى ثمارها. وعبدالله بن الزبير الذي وقف ضدّ الحكومة، أوّلاً: لأنّه قد جعل محل إقامته في مكان آمن، وثانياً: استفادته إعلامياً وبشكل كبير من شهادة الإمام، فمع أنّه قد استفاد إلى حدّ ما من ذاك المكان المقدّس في صموده ومقاومته، إلّا أنّه لو لم يمت يزيداً لكان مصير مكة كمصير المدينة، ومع كل ذلك كانت عاقبته أيضاً القتل على يد الحجّاج.
33 ـ في (ص88) تحت عنوان (بعد يزيد) ذكر: أنّه مع أنّ موت يزيد لم يكن متوقعاً، إلّا أنّ مقاومة الحكومة الحسينية كان لها هذه النتيجة وهي: أنّه بعد ثلاث سنوات وهلاك يزيد سيكون العالم الإسلامي تحت تصرف الإمام ويکون الخلیفة بلا معارض.
والجواب هو: أوّلاً: إنّنا لا نقبل أنّ الإمام لم يكن متوقعاً لموت يزيد، أو أنّه كان غافلاً عن مثل هذه الأمور التي ستقع في المستقبل. أولم يخبر أمير المؤمنين× عن بقاء معاوية حياً إلى ما بعد استشهاده وأنّه سيتسلّط على الحكم؟ أولم يخبر الإمام الصادق× عن خلافة السفاح والمنصور، والإمام الرضا× عن موت هارون ومكان دفن نفسه وأنّه سيرحل عن هذه الدنيا قبل المأمون؟
فكيف تنكر هذه الأمور المسلّمة تلويحاً أو تصريحاً؟ وكيف تقول: إنّ موت يزيد لم يكن متوقعاً، يعني أنّ الإمام لم يتوقعه؟!
وثانياً: لو كان موت يزيد غير متوقع، فإنّ الإمام لم يكن بإمكانه أيضاً أن يأخذ ذلك بالحسبان في نهضته من أجل تأسيس الحكومة وأن يأمل انتصاره عليه؟
وثالثاً: إنّ الحكومة التي تتشكل من قوّة ضعيفة ومتهربة من أهل الكوفة ليس بإمكانها مقاومة دولة وحكومة يزيد العسكرية لمدّة ثلاث سنوات. وكيفما كان فإنّ قدرة السيف والجيش الذين سيدعون من جميع الولايات ستقمع الثورة والنهضة بسرعة.
ورابعاً: ما أوردته من أنّ عبد الله بن الزبير كان سيستسلم أمام قوّة الإمام العظيمة غير صحيح؛ لأنّ عبدالله بن الزبير كان من المحرّضين الأساسيين لمعركة الجمل والتمرّد على أمير المؤمنين×، ومنذ عصر أمير المؤمنين× كان يرى نفسه أهلاً للخلافة، فهو لم يكن بالشخص الذي يستسلم للإمام بسهولة، بل من المتيقن أنّه بناء على ما عرف عنه من مكر وخديعة، فإنّه كان سيقف ضدّ الإمام إذا ما رآه مشرفاً على النصر، وسيعمل على ذلك من خلال صلح مؤقت مع يزيد، كما أنّه ما كان ليسكت بعد موت يزيد، وكان سيقع صدام وقتال بينه وبين الإمام. هذه أمور يدرك تفاصيلها وتحليلاتها بشكل كامل من كان خبيراً بالتاريخ.
34 ـ إنّ ما ذكر في (ص89) تحت عنوان (الوحدة السياسية) صحيح، لكنه مجرد افتراض ومن باب القضية الشرطية، لو شكّلت الحكومة الحسينية لحدث كذا وكذا، ولو شكّلت أيضاً حكومة ابنه زين العابدين والحكومة الباقرية والحكومة الجعفرية والموسوية والرضوية، لتحققت كل هذه البركات والفوائد؛ إذ لا يشك أحد في ترتب هذه الآثار على حكوماتهم.
35 ـ من (ص89) فما بعد كان بصدد إثبات أنّه لو لم يكن النصر بحسب المسار الطبيعي للأمور أمراً مسلماً لما ذهب الإمام إلى الكوفة.
نحن نقول: مع أنّه كان معلوماً بأنّ الإمام لن ينتصر بحسب المسار الطبيعي للأمور، والإمام نفسه كان عالماً بذلك أيضاً ـ وقد أوضحنا هذين الأمرين بشكل كامل ـ إلّا أنّه توجّه إلى الكوفة، وطبقاً لتلك الأوضاع التي حصلت، والكتب التي وصلت، والبيعة التي كانوا قد عقدوها مع مسلم، كان على الإمام أن يتم الحجة عليهم ويقبل دعوتهم، وكل ما كتبه وقام به كان من باب إتمام هذه الحجة، وهداية الناس إلى الحقيقة. والأدلة التي أقيمت لا دلالة لها على المدّعى.
كان لا بد على الإمام أن يأمر مسلماً بالتراجع في حال أنّ أهل الكوفة لم يكونوا على استعداد للمؤازرة، وبهذه الصورة يكون قد أتمّ الحجة عليهم؛ كونه قد أرسل إليهم نائبه الخاص فلم يستجيبوا له. ولو تراجع مسلم وقال: إنّ أهل الكوفة قد نكثوا وعودهم، لما تحرك الإمام نحوهم. إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ الإمام لم يكن مطّلعاً على أحوال الكوفة، ولا يصح من مثله أن يقول لهم بأنّكم قوم تكذبون، كما لا يصح لمثله السرعة والتعجيل في الذهاب.
أضف إلى ذلك أنّ الأنبياء والأوصياء في مثل هذه الأمور العادية باعتبارهم عمّال الله في أرضه، فإنّهم مأمورون بالعمل وفق الظاهر وطبق مجريات الأمور، فمثلاً مع علم الله سبحانه بأنّ المسلمين سوف يهزمون في معركة أحد، إلّا أنّه لم يطلعهم على ذلك من خلال الوحي، حتّى يعتبروا بتلك الهزيمة ويستدركوا النصر، والحال نفسه بالنسبة للنبي’، حيث لم يكن مأموراً أيضاً بإخبار أيّاً كان عن تلك العلوم المتعلقة بالقضاء والقدر الإلهي. وكذلك الإمام له نفس الطريقة. ناهيك عن أنّ مثل هذه الأوامر المشروطة لا تدل على تحقق أو عدم تحقق الشرط؛ إذ قد يعلم الآمرأحياناً بتحقق الشرط وأحياناً أخرى بعدم تحققه، ونظير هذه الأوامر كثيرة في الأوامر الإلهية والقرآن المجيد.
إنّ جواب هذا الدليل معلوم من الجواب الأوّل، فهنا على أساس العلم بتحقق الشرط يقول الإمام: لو كتب مسلم لأتيت، من قبيل قوله تعالى: (وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) [102]؛ إذ القضية الشرطية في هذا المورد لا مفهوم لها حتّى تتمسك بمفهومها، وعلى فرض أن يكون لها مفهوم فإنّ صدق القضية الشرطية ليس مستلزماً لصدق الطرفين، بمعنى أنّه لو لم يكتب مسلم لما ذهب الإمام إلى العراق، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ مسلماً لم يكتب، وأنّ الإمام لم يذهب إلى العراق، فهذه القضية الشرطية لا تتنافى مع العلم بكتابة مسلم والذهاب إلى العراق.
ما نقلته من خطبة الإمام لم تكن ظاهرة في المقصود، بل ظاهرة في أنّ الإمام يقول: لماذا تخليتم عنّا حينما كان الأمر هكذا؟ وليس لماذا لم تتخلوا عنّا عندما كان الأمر هكذا؟ وعلى فرض أنّها ظاهرة في المعنى الثاني، فهي لا تدل على أكثر من أنّه إذا لم تأتونا فخلّوا سبيلنا؛ إذ لو لم تدعوننا لما جئناكم؛ لأنّه لم يكن لكم علينا من حجة، فإنّه ليس من الضروري أن يتوقف إتمامنا للحجة عليكم من خلال قبول دعوتكم. إنّ هذه الجملة ليس لها أيّ دلالة على أنّ الأوضاع كانت مساعدة لتشكيل الحكومة، وأنّ الإمام لم يكن يتنبأ بأنّهم سينكثون العهود ويغدرون.
36 ـ بالنسبة للسؤال الذي طرحته في (ص92)، أوّلاً: بالنظر إلى واقع الحال، فإنّ ما كان يرجوه النبي| في معركة أحد، وما كان يأمله علي× في معركة صفين، لم يكن مرجواً للإمام؛ لأنّ النصر في معركة أحد وصفين كان مظنون التحقق بحسب الأوضاع القائمة آنذاك، بل نسبته المحتملة تصل إلى تسعين بالمئة، أمّا احتماله في نهضة الإمام فلم تتجاوز الخمسة بالمئة، بل مئة بالمئة لم يكن هناك احتمال للنصر العسكري. ولو احتمل هذا النصر بنحو طبيعي لما اعتزل أشخاص مثل عبيد الله بن الحر.
ثانياً: كما قلنا مراراً: إنّ أولئك العظماء كانوا مأمورين بالعمل وفق المسار الطبيعي للأمور، والحكم نفسه يسري على ما أبرزوه من آمال بحسب تلك المسارات العادية. وإلّا فأنتم قد نقلتم عن النبي| في (ص66) قوله: «لكم النصر ما صبرتم»، ونحن قلنا: إنّ هذا الكلام فيه إشعار بالهزيمة. ناهيك عن أنّه يمكنكم مراجعة سيرة ابن هشام (ص6 و7) حتّى تقفوا على توقع النبي| لشهادة حمزة ومجموعة من المسلمين في تلك الغزوة، وأخبر عن ذلك إجمالاً. ويوجد في تفسير الطبري روايات متفرقة تدلّ جميعها على أنّ النبي| كان مطلعاً على ما ستؤول إليه الأمور في غزوة أحد، ومع هذا كيف كان يأمل الفتح في هذه الغزوة.
أمّا ما يتعلق بكلام أمير المؤمنين× حول احتلال مصر، فهو بيان لمقتضى الوضع العادي، وتوبيخ للناس على تقصيرهم وتهاونهم في إطاعة الإمام، أي أنّ وضعنا كان بنحو لو لم تقصروا وتتهاونوا وتهنوا لكان النصر حليفكم، لكن أصبحنا وقد ضيعنا هذه الفرصة المؤاتية من أيدينا.
إنّ مثل هذه العبارات ونظائرها نراها حتّى في كلام الوحي الإلهي، من قبيل قوله تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [103]، فهذه العبارة لا تتنافى مع العلم والاطلاع على واقع الأمر، كما أنّ النبي| قد أخبر الإمام علي× عن حربه ضدّ الناكثين والمارقين والقاسطين، وكل شخص يطالع مجريات خلافة الإمام علي× الظاهرية يدرك إلى حدّ ما ـ ولو بحسب العرف والعادة وظاهر مجريات معاركه ـ أنّ الإمام كان يأمل النصر والفتح، إلّا أنّه كان يعلم بعاقبة هذه المعارك، بل حتّى كان عارفاً بمن يقتل فيها، حيث كان يعلم مثلاً أنّ (ذي الثدية) سوف يقتل في معركة النهروان، وأنّ معاوية سيستولي على الحكم، وأنّ ما فعله كان بناء على التكليف والمسؤولية التي قد ألقيت على عاتقه، والمهمة التي يتعيّن عليه إتمامها؛ لأنّه بحسب الظاهر قد أتمّوا الحجّة على الإمام، فلو أنّه لم يقبل المسؤولية لترتب على ذلك مفاسد كثيرة، ولوقع من القتلى أكثر مما وقع في تلك الحروب، بل لربما كانت ستقع مجازر جماعية في المدينة بحيث يصبح الإسلام في خطر، ويخلو الأمر لمعاوية فيجري خططه وهو مرتاح البال. ناهيك أنّه لم تقع الامتحانات التي كان ينبغي أن تمر بها الأمة، وهذا ما قاله الإمام علي× في الخطبة الشقشقية: «أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها».
37 ـ إنّنا لا نستطيع بل لا نريد أن نبحث بعض االمسائل بشكل واضح، ولا نظهر هنا أسفنا الشديد وقلقنا لطريقة تفكير وتعامل مؤلف الشهيد الخالد مع الحقائق، وكلّما أمعنّا النظر لا نجد سبباً لمغالطاته.
لماذا يريد أن يوقع الناس في الخطأ والشبهة؟ ولماذا يريد إدخال رأيه المرفوض إلى أذهان الناس من خلال قلب الحقائق؟
لاحظوا أنّه في نفس هذا البحث ولأجل إثبات أنّ النبي| كان متأملاً بالنصر على العدو في غزوة أحد، قد غض الطرف عن كل تلك الأخبار المروية في تفسير الطبري والتي تدل على أنّ الرسول| كان مطّلعاً على ما ستؤول إليه أمور تلك الغزوة، متمسكاً فقط بخبر واحد في صدره دلالة على رأيه أمّا ذيله فيدلّ على عكسه، فاكتفى بذكر صدر الخبر وحذف ذيله.
ماذا نقول؟ هل نقول: إنّه حينما كان يطالع كانت عيناه تبصر إلى هذا الحد إلّا أنّهما توقفتا بعده؟ أو نقول: إنّه لم يلتفت إلى معنى ذيل تلك الرواية؟ الحكم لكم. وإليكم نص الحديث أضعه بين أيديكم: «إنّكم ستظهرون فلا تأخذوا ما أصبتم من غنائمهم شيئاً حتّى تفرغوا»، يعني أنّكم ستغلِبُون، ولكن لا تأخذوا من غنائمهم شيئاً، أي لا تنشغلوا بأخذ الغنائم حتّى تفرغوا وتنتهي المعركة بالفتح.
أيّها العزيز، إنّ كلام النبي| هذا لم يكن تمنياً، بل كان خبراً قطعياً عن النصر والفتح الذي كان من نصيب المسلمين بداية الأمر، ولأنّه كان يعلم أنّ الطّمع بالغنائم سيكون سبباً في ترك أصحاب عبيد الله بن جبير كمينهم؛ لذلك نهاهم عن ذلك. فجملة «إنّكم ستظهرون» مخبرة عن فتح ابتدائي متيقن للمسلمين، إلّا أنّ النبيّ| قد أتبعها بجملة أخرى فيها إشعار لأصحابه بأنّ الطمع في الغنائم هو سبب لافتتانكم وامتحانكم، فما ربطه بهذا البحث؟ لكن مؤلف الشهيد الخالد قد ترك ذيل الخبر وأورد بدايته حتّى يوقع القارئ في الخطأ!
38 ـ من (ص93) يلج هذا الموضوع وهو بما أنّه كان رائجاً بين الناس أنّ الإمام قد خرج من المدينة بهدف القتل، وظل يسعى وراء هذا الهدف إلى آخر المطاف، فإنّه يتعيّن علينا معرفة سبب هذا التصور وما هو منشأه؟
وعليه يقول: إنّ منشأ هذا التصور هو ظواهر النقل التي لا بد من دراستها وتحليلها، وثمّ يشرح تلك النقول التي ـ بحسب قوله ـ كان لها دور أساسي في انتزاع هذا التصور.
نحن نقول: لماذا تغالط إلى هذا الحد؟ ولماذا كل هذا التعتيم على الحقائق الواضحة؟ وتضليل أصحاب الأفكار البسيطة؟ فالناس الذين يقولون: إنّ الإمام قد ذهب قاصداً القتل لا يقولون: إنّ الإمام قد خرج ليلقي بنفسه إلى الموت ويضع كفه على كفه الأخرى حتّى يأتون لقتله، وقد كان جلّ همه أن يجد ضالته، أي الموت عند شمرٍ أو سنان أو خولي؛ كي يحققوا له هدفه المنشود!
لماذا تُظهر الوجه المشرق للشهادة في سبيل الله بهذا الشكل؟ إنّ قصد الشهادة والقتل هو أمل يجب أن يتمنّاه الجميع، وأن يجري على الألسنة في الدعاء «وقتلاً في سبيلك» هذا أمر، ورمي النفس في التهلكة المذموم عقلاً وشرعاً أمر آخر. لماذا تسعى جاهداً في هذا الكتاب لدفع الناس للخطأ من خلال الخلط بين هذين الأمرين في أذهانهم، وتجسّد الهدف المقدّس للإمام بهذه الطريقة؟
لقد ذهب الإمام لأجل الشهادة، وهو عالم بأنّه في نهاية هذه الثورة والنهضة وإعلان مناهضته ليزيد، سوف يكلّل طريقه بالشهادة في سبيل الله. إنّ كسب فيض الشهادة يكون من أعظم المثوبات وأفضل القربات لله تعالى، فهو قتل يحبّه الله ورسوله. إنّه قد حثّ النبي| الناس على الجهاد حتّى يقتلوا، ومن كان القتل في سبيل الله من نصيبه نال السعادة والغنم.
حينما تكون تضحية شخص سبباً لبقاء الدين، أو باعثة على تقوية قلوب المجاهدين وثباتهم، أو إيجاداً للرعب في قلوب المعاندين، فإنّ تلك التضحية وذلك القتل يكون محبوباً ومرغوباً لله تعالى. اقرأ تاريخ غزوات ومعارك صدر الإسلام حتّى تدرك كيف كانوا يتمنّون الشهادة، ويذهبون إلى الجهاد طمعاً في نيل هذا الفيض.
فلو ذهب شخص من المدينة إلى كربلاء، أو ذهب إلى البحر أو إلى السماء أو إلى أيّ مكان لأجل نيل مثل هذا الفوز لما كان ذهابه جزافاً. إنّ الشهادة في سبيل الله فضلاً عن كونها مطلوبة بهذا العنوان، فهي كذلك سببٌ لتحقق غايات الإسلام ونجاة الدين، ولا فرق بين أن يكون الأثر المترتب على تلك الشهادة فورياً أو في المستقبل، وسواء كان ذلك الأثر متمثلاً في انكسار جيش العدو، أو دحض فكره وعقيدته. وكيفما كان فكل ما يقع تحت عنوان الشهادة والجهاد في سبيل الله فهو من أعظم القربات. فالحسين× قد توجّه إلى كربلاء للجهاد في سبيل الله، فأين الخطأ في هذا الكلام وفي هذه العقيدة؟ وأيّ عقيدة أفضل تليق بكرامة مقام الإمام وهمته العالية؟ إنّ هذا هو ديدن المجاهدين كافة.
وعليه ما الإشكال فيما إذا كان خروج الإمام بهدف الشهادة والجهاد في سبيل الله؟ فإذا لم يضح الإمام ولم يبذل مهجته في سبيل الله فماذا سيتوقع من الآخرين؟ نحن لا نرى أيّ إشكال في هذا الإقدام، بل إنّنا نراه دليلاً على إيمان الإمام المحكم والتام الذي يجسد الإيمان والنية الخالصة والدعوة إلى الإسلام.
إنّ ما ذكرناه في مقدّمة هذا الكتاب مكرراً، وأوردناه ضمن ردودنا على مباحث كتاب الشهيد الخالد إلى حدّ الآن فيما يتعلق بمسألة عدم تهيؤ الأسباب والظروف للثورة، وعلم الإمام بالهزيمة العسكرية وباستشهاده، أمر واضح وجلي، والأدلة والشواهد المنطقية والتاريخية على ذلك كثيرة، ولا نحتاج إلى الاستشهاد بخبر رؤيا الإمام أو الملائكة وأمثالها التي ذكرها كتاب الشهيد الخالد، مع أنّ كتاب الشهيد الخالد باطل من الأساس، فلا فرق سواء كانت الروايات التي جاء بيها في مقام الرد، معتبرة أو غير معتبرة.
ومن البديهي بأنّ المؤلف لو أراد بيان رأي السيّد المرتضى+ وتقويته في قبال رأي أهل السنّة، لما كانت هناك حاجة إلى تضعيف تلك النقول.
لكن للأسف الشديد إنّ المؤلف لما كان يروم تغيير الصورة المشرقة التي تحتلها نهضة الإمام في وعي الأمة الشيعية بصورة أخرى وبحسب قوله مقبولة عند أهل السنّة (وإن لم يقبلوا بها أيضاً) قام بجرح هذا القسم من الأخبار. وما يفترق به المؤلف عن السيّد المرتضى هو أنّ السيّد يقنع أهل السنّة بمنطق في غاية الأدب، أمّا المؤلف فإنّه هب لمهاجمة الفكر الشيعي الخالص والمجتمع الشيعي بكلام غير منطقي لا طائل منه.
ولأنه يصرّ على التصرّف في الأذهان، وإخراج هذه المفاهيم العظيمة ـ التي يوليها العالَم المعاصر أهمية كبيرة ـ عن دائرة أهداف نهضة الإمام، واعتبارها ثورة مهزومة لم تصل إلى نتائجها المرجوة، فإنّه ارتأى الإتيان بتلك الأخبار هنا وطرحها؛ كي يظهر أنّ منشأ قبول الرأي الذي اتفق عليه جمهور الشيعة هو هذه الأخبار القليلة، مما دعاه إلى تضعيفها وردّها. ونحن مع أنّنا نعرب عن أنّ هذه النقول ليس لها دور أساسي في تجسيد الصورة المضيئة لشهادة الإمام في أذهان الشيعة، وأنّ الفكر الشيعي وعقيدته يستندان إلى غيرها من الأخبار المعتبرة وتواريخ أهل السنّة والشيعة، وعبارات الأدعية والزيارات، والمنطق الصحيح العقلاني، إلّا أنّنا سنتناول هذه النقول بالدراسة والبحث من أجل تنوير ذهن القرّاء وتوضيح المغالطات الواردة في هذا الفصل.
39 ـ لقد شرع المؤلف من (ص94) بتضعيف خبر رؤيا الإمام عند المرقد الطاهر لرسول الله|، وكأنّ كل نقل تضمّن رؤيا يراه ضعيفاً، وكأنّه في عزلة عن الرؤىا، بل لو لم يورد في الهامش توضيحاً مختصراً لظُن أنّه يعدّ رؤيا الأولياء والأنبياء غير معتبرة أيضاً. والمضحك في الأمر أنّه تفضّل علينا ولم يتدخل في تعيين تكليف الإمام، وإلّا اجتهد وأصرّ وقال: إنّه يتعيّن على الإمام اتّباع اجتهادي، وأن لا يرتّب الأثر على رؤياه مثلاً.
من ينقل هذه الرؤيا التي نبحثها يرى أنّ الإمام قد اعتبرها حجة وفهم منها لزوم أداء التكليف الشرعي، وأنّ رؤيا الأنبياء والأوصياء لا مانع من أن تتضمن أمراً، وهم يعلمون تأويلها أفضل من غيرهم، كما ورد في رؤيا إبراهيم حيث قال: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر) .
إنّ الأدلة التي أقامها على ردّ الرؤيا محل البحث نجيب عليها في الشرح التالي:
1 ـ إنّ المؤرخين الذين هم من نفس طبقة ابن أعثم أو قبله لم يذكروا هذه المطالب، ولأن ابن أعثم رجل من أهل السنّة ولم يكن موثقاً عند علمائهم؛ لذا لا يمكن الاعتماد على نقله.
جوابنا هو: إنّ مجرد تفرّد شخص في نقل خبر ما لا يوجب سقوطه عن الاعتبار، وعدم ذكر بعض المؤرخين خاصّة أهل السنّة لا يعد دليلاً على ضعفه. وابن أعثم وإن كان بحسب الظاهر من أهل السنّة إلّا أنّهم يضعفونه بجرم التشيع ونقله لروايات فضائل أهل البيت^، ومؤلف (الكنى والألقاب) قد نقل الحكم بضعفه عن (الياقوت) المعروف بعداوته للشيعة، أمّا العبارة التي نقلت عن معجم الأدباء فإنّها إن لم يكن فيها إشعار بمدحه فإنّها لا تدل على ضعفه[104].
إنّ محدثي العامة المتعصبين ضعفوا كل من كان شيعياً أو نقل أخبار الفضائل، علماً أنّه لا يوجد سبب آخر لتضعيف ابن أعثم غير كونه شيعياً أو نقل روايات وأحاديث الفضائل، ومع ذلك يمكن أن نستشف من عبارة الياقوت اعتبار كتب ابن أعثم تلويحاً. وأيّاً كان ابن أعثم حتّى لو كان ضعيفاً ومغرضاً إلّا أنّ اعتباره يفوق ابن كثير صاحب التاريخ وابن خلدون بمراتب.
2 ـ يقول مؤلف الشهيد الخالد: إنّ ابن أعثم قد خلط بين المباحث الخيالية والمباحث التاريخية، إلّا أنّ المؤلف لم يبد هنا أكثر من فهم شخصي، ولم يشر إلى موارد أخرى غير هذا المورد ورؤيتين أخريين، لكي يتسنى لنا أيضاً إبداء رأينا فيه. كما أنّنا كلما أمعنا النظر في عبارات مقتل الخوارزمي لم نخرج بحصيلة فيما يتعلق باختراع هذه القصة، وأنّ هؤلاء العلماء والأدباء الذين قرأوا هذه القصة إلى الآن مع ما يمتلكونه من خبرة في معرفة الكلام لم يفهموا فهماً كهذا.
إنّ ما ذكره المؤلف في الدليل (3 و4 و5) مرفوض أيضاً؛ لأنّه طبقاً لكلام المؤلف نفسه أنّ هناك تسع صفحات من مقتل الخوارزمي احتوت على مباحث وأخبار عديدة، ومن المتيقن أنّها نقلت عن مصادر مختلف، قد اعتبرها خبراً واحداً.
وفي ردّه لهذا القسم، أي موضوع رؤيا الإمام، جعل التعارض الموجود بين الأخبار ـ مع أنّها لا تتعارض مع موضوع الرؤيا ـ وذلك لأنّه فرضها بمثابة الخبر الواحد دليلاً على ردّه لها؛ كونه قد رأى أنّ خبر مجريات الشام ووصول الجواب وتوقف الإمام في تلك الفترة بالمدينة مخالفاً للروايات الأخرى، حيث افترضها جزءاً من خبر الرؤيا، وكان قد ردّ خبر الرؤيا أيضاً، والحال أنّه كان يتعيّن عليه فقط ردّ نفس ذلك الخبر إذا لم يكن قابلاً للجمع.
وعمدة الدليل الذي أقامه على ردّ خبر الرؤيا هو: أنّ الإمام بعد قضية الإحضار لم يبق في المدينة إلّا قليلاً، ما بين ليلة أو ليلتين. والحال أنّه طبقاً لما ضمّه إلى خبر الرؤيا كان لا بد عليه أن يتوقف ما يقارب خمسة عشر يوماً أو أكثر في المدينة بعد قضية الاحضار.
وجوابه: هو أنّك أخطأت؛ لأنّ هذا الخبر وخبر الرؤيا خبران لا يوجد بينهما ارتباط، وأنت فرضتهما خبراً واحداً، وعلى أساس ذلك التصور الباطل اصطنعت دليلك على ردّ خبر الرؤيا.
لقد دققنا في مراجعتنا لكتاب ابن أعثم المترجم إلى الفارسية ـ لعدم توفر النسخة العربية لدينا ـ فوجدنا أنّه قد قام بالربط والتلفيق بين المباحث كما هو ديدن الكثير من المؤرخين، فنقل خبر الرؤيا في مصاف مباحث أخرى. لكن المتيقن أنّ هذا الخبر غير متعلق بقصة الرسالة إلى الشام، ولا يستفاد منه تاريخ الرؤيا الذي بعد تلك الرسالة أو قبلها. كما أنّ صحة خبر الرؤيا لا علاقة له بصحة قصة الرسالة إلى الشام؛ لأنّ روايتها منفصلة عنه، والباعث على تصورهما خبراً واحداً انه نقله بعده مباشرة ـ عن سهو أو عمد ـ بل نقل عدّة صفحات بشكل خبر واحد. وإنّي لأتعجب لماذا يغالط المؤلف بهذا الشكل، مع أنّه من الواضح جدّاً عدم وجود علاقة بين رواية الرؤيا والمباحث السابقة.
والدليل الواضح على أنّ خبر الرؤيا غير متعلق بخبر إرسال الرسالة إلى الشام، وكونه لا يعدّ بالمجموع خبراً واحداً هو أنّ ابن أعثم أيضاً قد ذكرها بصورة مستقلة، وتحت عنوان مستقل.
فراجع (ص345) من ترجمة تاريخ ابن أعثم السطر الأخير حيث كتب: «ذكر شكوى أمير المؤمنين الحسين عند تربة سيّد العالمين محمّد المصطفى عليه التحية والسلام»، ثمّ ذكر بعد ذلك خبر الرؤيا.
حسناً أيّها العزيز، كيف تجعل هذا الخبر مع الأخبار السابقة خبراً واحداً؟ وكيف رددت هذا الخبر بردّك لتلك الأخبار؟ هذا هو التحليل والتحقيق العلمي والتاريخي؟!
إنّ هذا الخبر لا يعارض الأخبار الأخرى بتاتاً، اللّهم إلّا إذا اعتبر أنّ توقف الإمام قد دام ثلاث ليال، وهذا اختلاف جزئي لا يؤدي إلى ضعف أصل الخبر، وعلى الخصوص أنّ هناك تعارضاً طفيفاً أيضاً بين الروايات الأخرى؛ لأنّ خروج الإمام من المدينة كان في تلك الليلة بحسب بعض الأخبار، وفي غيرها بعدها بليلتين، وذكر في بعضها أنّه كان مع ابن الزبير في المسجد، بينما لم يأت ذكر للمسجد في أخبار أخرى. ووقوع مثل هذه الاختلافات كثير في النقول التاريخية والتي يمكن أن يكون منشؤها اجتهاد المؤرخ أو بسبب عدم الاهتمام بالحفظ الدقيق لجزئيات الوقائع أو خطأ بعض الرواة، إلّا أنّ هذا لا يسقط اعتبار نقل نصوص تلك الوقائع. وكيفما كان فإنّ هذا النقل لا يقل اعتباراً عن تلك النقول الكثيرة التي استند عليها الكاتب في مباحث كتابه.
والدليل الآخر على اعتبار خبر رؤيا الإمام، وكونه مغايراً لخبر إرسال الرسالة إلى الشام هو رواية الآخرين أيضاً لهذه الرؤيا بشكل مستقل.
وكيفما كان فإنّه يحصل الاطمئنان مما ذكر بأنّ نسبة جعل هذا الخبر إلى ابن أعثم وإلى تخيلاته كلام واه وغير منطقي، ولا داعي على قيام شخص كابن أعثم بجعل الرؤيا وتدوينها في كتابه.
40 ـ لقد تحدّث من (ص100) عن الكتب الأخرى التي نقلت رؤيا الإمام، ثمّ ردّها. ومن جملتها ما كتبه الصدوق (عليه الرحمة) في أماليه من أنّه روى عن محمّد بن عمر البغدادي الحافظ المعروف عن الحسن بن عثمان التستري، ثمّ يقول: إنّ الحسن بن عثمان هذا كذّاب بحسب نقل الغدير.
نحن نقول: وإن كنّا نرى أخطاء في هذا النقل إلّا أنّ وقوع مثل تلك الأخطاء خصوصاً فيما يتعلق بالأعلام والتواريخ كثير، ولا يخدش في نفس الأحداث. أمّا بالنسبة للحسن بن عثمان الذي اعتبر كذاباً بحسب نقل كتاب الغدير، فإنّه لا يخفى أنّ مستند الغدير هو كتب العامّة، وليس بعيداً أن يكون الطعن في هذا الرجل راجع إلى روايته أخبار الفضائل. وعلى فرض كونه ضعيفاً أو مجهولاً سيكون نقل مثل الصدوق بواسطة محمّد بن عمر البغدادي الحافظ، واعتماد الصدوق عليه سبباً في جبر ضعفه.
وعلى كل حال فإنّ هذا النقل مع أنّه مضطرب إلّا أنّ خبر رؤيا الإمام الذي رواه ابن أعثم والذي لا علاقة له بخبر إخبار الوليد ليزيد ووصول الرسالة يؤيّد إلى حدّ ما ما نقله، كما أنّ نقل روضة الصفا، والكاشفي، ومحمّد ابن أبي طالب الحسيني، ومعادن الحكمة، والقمقام وغيرهم دليل استنادهم على خبر الرؤيا.
41 ـ نتساءل عمّا كتبه في (ص105) عن ابن أعثم الذي كان من أهل السنّة، فهل كان أكثر تعصباً وفي كتابه أكثر أكاذيباً وافتراءات من ابن كثير صاحب البداية والنهاية؟ أو من ابن خلدون؟ هل هو روّج أكثر لمذهب أهل السنّة أو ابن الأثير صاحب الكامل، والطبري صاحب التاريخ والتفسير، والدنيوري، وابن قتيبة، والياقوت الحموي، والذهبي، ورشيد رضا الذين جعلت كتبهم مرجعاً يعتمد عليه مع أنّهم من أهل السنّة؟
فالذين حملوا على الشيعة مباشرة، وأنكروا فضائل أهل البيت^، حتّى أنّهم قد تفانوا في الدفاع عن يزيد بكل وقاحة جعلت كتبهم ورواياتهم مدركاً معتبراً، أمّا المؤرخون المنصفون من أهل السنّة والمحبّين لأهل البيت^، كصاحب روضة الصفا وابن أعثم، وكل من قال: إنّ الإمام قد ثار للجهاد في سبيل الله ونيل فضيلة الشهادة، فلا اعتبار لقولهم ونقلهم.
وأمّا جملة (والخلفاء الراشدون) التي اتخذت من نقلها من قبل شخص من السنّة دليلاً على عدم اعتبار كتابه، وأمارة على أنّه لم يتورع عن الكذب والتهمة لترويج أفكار أهل السنّة، وكأنّه لم تر في مصادر كتابك هذه الميول من قبل الآخرين .
أوّلاً: في كتاب ابن أعثم المترجم لم تترجم جملة (والخلفاء الراشدون) في مفاوضات محمّد بن الحنفية مع الإمام، فكيف أضيفت إلى مقتل الخوارزمي؟ الله العالم، نحن لا نستطيع أن ننسب إضافتها مثلك للخوارزمي دون تريث، مع أنّ هذه الجملة قد وردت في ترجمة ابن أعثم حينما نقلها ضمن كلام الإمام وفي مقام الوصية.
ثانياً: على فرض أنّ هذه الجملة من كلام الإمام، فما المانع أن يكون المراد من الخلفاء الراشدين في مثل هذه العبارة التي ذكر فيها اسم علي المرتضى× «أسير بسيرة جدّي محمّد وأبي علي بن أبي طالب وسيرة الخلفاء الراشدين» هم الأئمة الاثنا عشر الخلفاء الراشدون المهديون^؛ إذ أنّ كل شخص يعلم أنّ الحسين× لم يقل الكلمة التي امتنع أباه عن قولها في قضية الشورى وتعيين الخليفة بعد مقتل عمر، مع أنّه يعلم أنّها ستكون ذريعة لغصب الخلافة والعهد بها لعثمان.
وعدم حجية الخلفاء الثلاثة كان المقدار المسلم من مذهب أهل البيت^ في ذلك الزمان، ناهيك عن أنّ الجمع بين اتّباع سيرة علي× واتّباع سيرتهم أمر محال، وعلى فرض صدور هذا الكلام فإنّه ظاهر في المعنى الذي ذكرناه.
وعلى أيّ حال فإنّ هذا الكلام سواء كان موضوعاً أو مجعولاً أو لم يكن كذلك، فبهذا القدر ليس مهماً، ولا يسوغ إسقاط كتاب ابن أعثم الذي لم يختص بنقل مواضيع لا تروّج لفکر أهل السنّة، وتعتبر أدلة على فضل أهل البيت^.
وأمّا ما نقل من كلام للإمام مخاطباً به ابن عمر، فليس من المعلوم أنّه هو الذي وضعه، فليراجع كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي الذي اعتبره المؤلف مرجعاً يوثق به، لتروا ماذا فعلوا وإلى أيّ حدّ وصلت فضائحهم في الدفاع عن المجرمين وأعداء أهل البيت^، بل راجعوا ترجمة عبدالله بن عمر من (ص134 إلى ص161)، وانظروا كيف مدح وأثنى كذباً على هذا الشخص الدنيء والعدو لأمير المؤمنين×، واسماً إياه بالإمام والقدوة وشيخ الإسلام، فكيف يكون سير أعلام النبلاء مرجعاً وابن أعثم ليس بمرجع؟!
42 ـ من جملة الأعلام والعظماء الذين رووا رؤيا الإمام هو ابن شهر آشوب (عليه الرحمة)، وطبقاً لروايته فإنّ الإمام رأى الرسول| وقت الصلاة، وقد أخبره بما سيجري عليه، فقال الإمام: لا حاجة لي بالرجوع إلى الدنيا، فخذني إليك يا جدّاه، فقال النبي|: لا بد من الرجوع حتّى تذوق الشهادة[105].
إنّ مصادر كتاب مناقب ابن شهر آشوب وكما هو معلوم مما ذكر في بداية كتابه، هي مئات من كتب التاريخ، والحديث، والتفسير، وفضائل الشيعة والسنّة. وبما أنّ إحدى الطرق التي استند إليها تنتهي إلى ابن أعثم فإنّ مؤلف الشهيد الخالد قال بشكل قاطع: إنّ ابن شهر آشوب نقل رؤيا ابن أعثم بشكل مقتضب.
نحن نقول: إذا كان ابن شهر آشوب أخذ الرؤيا عن كتاب ابن أعثم، فلماذا اختصرها ولخّصها بهذا الشكل، مع أنّ مباحثها تدلّ على فضيلة للإمام. فما رواه ابن أعثم هو أنّ الإمام الحسين× خرج في ليلة من الليالي من محلّ إقامته متوجهاً إلى الروضة المطهّرة للنبي محمّد المصطفى|...الخ، بينما ما رواه ابن شهر آشوب هو أنّه قد كان يوماً يصلي...الخ.
وعليه لا يمكن أن يقال: إنّ مثل ابن شهر آشوب قد أخذ رواية المنام عن ابن أعثم، ومن ثمّ تصرّف فيها بلا مبرر. وإن كانت هاتان العبارتان قابلتين للجمع، إلّا أنّه لا يجوز التصرّف والتغيير عند النقل عن كتاب ما. إذن فمن المتيقن أنّ ابن شهر آشوب قد نقل هذه الرواية من مصدر معتبر آخر، وعلى فرض أنّ مصدره ومصدر ابن أعثم واحد، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ رواية رؤيا الإمام هي خبر منفصل ومستقل على خلاف ما تصوره المؤلف، كما أنّ ترجمة تاريخ ابن أعثم تنادي بصوت عالٍ بأنّه لا علاقة لها بخبر إخبار يزيد ووصول الرسالة إليه. وهذه هي النقطة الأساسية التي أخطأ فيها المؤلف، حيث لم يراجع ترجمة ابن أعثم، ولم يدقق النظر جيداً في نقل الخوارزمي، لذا عدّ تلك المباحث والنقول المتعددة نقلاً واحداً.
43 ـ ذكر في (ص107) أنّه على فرض محال أنّ رؤيا الإمام عند قبر رسول الله| كما نقلها ابن أعثم صحيحة ولكن لا يستفاد منها الأمر... الخ.
نقول: كيف لا يستفاد منها الأمر؟! عليك أن تقرأ رواية الرؤيا المذكورة في ترجمة ابن أعثم (ص346) مرّة أخرى بقليل من الدقة ثمّ أقضي هل يستفاد منها الأمر أم لا.
44 ـ لا يجدر بنا أبداً أن نأخذ الرؤيا التي رواها ابن أعثم وغيره على أنّها حجر أساس فكري؛ لأنّ المفاهيم القيمة التي استنتجت من شهادة الإمام، والأهداف المأخوذة بعين الاعتبار في هذه النهضة المقدّسة تتكئ على أسس عقائدية وفهم صحيح مستند ومستدل للشيعة قد أخذت عن الروايات الكثيرة الصحيحة والشواهد التاريخية المحكمة؛ وعليه سواء كانت هذه الرؤيا صحيحة أم لا فإنّها لا تؤثر في الرأي العام المحكم للشيعة.
نحن اكتفيا بهذا القدر من بحثنا للرواية فقط من منظور علمي وفني، كونه لا حاجة لنا لبحث هذه الأخبار ما دمنا قد أبطلنا طرح مؤلف الشهيد الخالد بما ذكرناه من إثبات لأصول المباحث في المقدّمة.
تأكيدنا يشير إلى أنّ المؤلف مع كل هذا الإصرار في هذا الفصل على عدم اعتبار تاريخ ابن أعثم، إلّا أنّه استند إليه في مواضع عديدة من خلال مقتل الخوارزمي، حتّى أنّه قد اعتمد عليه في الفصل التاسع الذي تضمن نقل رؤيا الإمام، بل قد استشهد واستدل بهذا القسم في (ص343) والذي قد ردّه هنا في (ص180 إلى ص189).
45 ـ كما ذكرنا في المقدّمة من أنّ الشيخ المفيد والجزري والطبري قد رووا أنّه عندما طلب عبدالله بن جعفر ويحيى بن سعيد أخو عامل مكة بإصرار من الإمام أنّ يصرف النظر عن الذهاب إلى العراق؛ إذ كانوا متخوّفين من أخطار هذا السفر على الإمام، أجابهم الإمام قائلاً: «إنّي رأيت رسول الله يأمرني بأمر وأنا ماض له سواء كان لي أو عليّ، فقالوا له: كيف كانت هذه الرؤيا؟ فقال الإمام: لم أبح بذلك لأحد ولن أبوح بها لأحد حتّى ألقى ربي»[106].
وقد نقل مؤلف الشهيد الخالد هذه الرؤيا عن الطبري باختصار في (ص107) تحت عنوان (تنبيه)، وقال: هذه الرؤيا غير تلك الرؤيا التي رواها ابن أعثم. ولكن لم يقدّم أيّ توضيح عن هذه الرؤيا.
نحن نقول أيضاً: بالطبع أنّ هذه الرؤيا غير تلك الرؤيا، ولكن كن منصفاً ألا يستفاد من هذه الرؤيا أنّ الإمام كان لديه مهمة ومشروع سري؟
ألا يُفهم بعد وقوع تلك الحوادث واستشهاد الإمام وسبي أهل البيت أنّ هذه المهمة السرية لها علاقة بتلك الحوادث؟
هل بإمكانك احتمال أن تكون هذه الرؤيا قد تعلقت بوجوب النهضة من أجل تأسيس الحكومة الإسلامية، وتعبئة القدرة العسكرية للكوفة لسحق يزيد، وتجريده وابن زياد من قوتهم العسكرية؟ إذا كان الأمر كذلك فلم لم يقم به الإمام؟
إذا كان ما رآه الإمام من سنخ المطالب التي ذكرنا فهل البوح بها لعبد الله بن جعفر فيه إشكال؟ مع أنّه يظهر من قولكم أنّ الإمام كان متوجهاً إلى الكوفة.
ألا نفهم من جملة «لي أو علي» أنّ الإمام أراد الردّ على أولئك الذين كانوا يرون أنّ حياة الإمام في خطر وكانوا يتوقعون استشهاده، بأنّ هذه المهمة لا بد أن تنجز؟
ألا تفهمون من هذه الجملة أنّ مشروع تأسيس الحكومة الإسلامية لم يكن مطروحاً؟ أو لا يفهم من جملة «حتّى ألقى ربي» بأنّ عاقبة هذا المشروع هي لقاء الله؟
هل هو غير أنّ بيان تفاصيل رؤيا الإمام والمشروع الذي كان له ليس فيه مصلحة؛ لأنّه محفوف بالمصائب، والهم والغم، والأحزان، وفراق الأحبة والشباب، وسبي الأهل والعيال، والعطش وغيرها من المصائب؟
ولكي لا يحزن ويروّع أهل بيته الأعزاء والنساء المخدّرات والأطفال الصغار قبل الأوان؟
يمكننا الحدس بقوّة والقول بكل ثقة: إنّ الأمر الذي أمر به الإمام هو نفس المشروع الذي أنجزه، وهو الأمر بالشهادة وبالأسر وبكل تلك المصائب، ومن المتيقن أنّ أيّ شيء كان فإنّه طبقاً لهذه الرؤيا (بغض النظر عن الأدلة الأخرى) كان الإمام عالماً بعاقبة هذا السفر. أمّا الشيء الذي لم يكن هدفاً للإمام فهو تأسيس حكومة إسلامية، وإلّا لماذا كان الإمام في أثناء الطريق يكثر من ذكر يحيى بن زكريا؟ ولماذا كان يقول: «إنّ الأمر ليس بخفيّ عليّ»؟
لقد تجرأت في (ص107، س6) على العلماء الورعين المتقين الذين رووا رؤيا الإمام، وتجاوزت الحد في ذلك، الأحسن بك قراءة هذين السطرين بدقة، وعليك الانتباه إلى رعاية حرمة القلم مع هؤلاء العظماء أمثال السيّد ابن طاووس، وابن شهر آشوب، والمحدث القمي، ومحمّد ابن أبي طالب الحسيني، ومؤلف معادن الحكمة.
46 ـ تقول عند نقلك في (ص108) لقصة الملائكة من كتاب (دلائل الامامة): إنّه من الممكن إذا رأى شخص هذه الرواية أن يظن أنّ الإمام الحسين× قد خرج من مكة وكان هدفه القتل، وثمّ تضعفه.
نحن نقول: إنّ مؤلف الشهيد الخالد هو مثل أولئك الذين يتتبعون الشواذ، ونقاط الضعف، بحثاً عن رواية يمكن الطعن في مضمونها، وعبر ردّها يغالطون في أنّه لا يوجد دليل آخر على علم الإمام باستشهاده في هذه النهضة، فيتراءى حينها أنّ الإمام قد كان ـ والعياذ بالله ـ عاجزاً وجاهلاً بالأحداث التي سوف تقع وما ستؤول إليه الأوضاع. لكنه لم يلتفت إلى أنّ مغالطته قد تنطلي على بعض الأشخاص الجاهلين بالتاريخ، أمّا من كان لديهم أدنى اطّلاع على التاريخ والحديث فإنّهم يعلمون أنّ هناك روايات كثيرة في كتب الشيعة والسنة تثبت ذلك، والإمام شخصياً قد سمع مراراً وتكراراً من جدّه ومن أبيه علي× أنّه سيقتل، وسوف يستشهد في كربلاء، وسيظلم. كما كان يعلم أنّه لو كان أمر تأسيس الحكومة الإسلامية ممكناً لأخبر به النبي’ على الأقل مرّة واحدة. وعليه فإنّ تضعيف خبر دلائل الإمامة أو أخبار أخرى لا يضر شيئاً.
فيما يخصّ موضوع قصة الملائكة هذه، لو فرض أنّ الحديث قد ضعّف من خلال ذيله، فما جوابكم على رواية أخرى؟ والتي قد رواها الشيخ المفيد بسنده عن الإمام الصادق×، بأنّه لمّا خرج الإمام من مدينة طيبة، سلّمت عليه أفواج كثيرة من الملائكة، وقالوا: إنّ الله قد أعان بنا جدّك في مواطن عديدة، والآن قد أرسلنا حتّى نساعدك، فقال الإمام: إنّ الميعاد هو محل دفني ومحل شهادتي وهي كربلاء، حينما أرد عليها تعالوا إلي... الخ[107] .
47 ـ لا بد أن يُعلم أنّ هناك أخباراً كثيرة فيما يتعلق بشهادة سيّد الشهداء× ومكان استشهاده قد روتها أم سلمة عن النبي الأكرم|، والتي قد أخرجها بالاتفاق محدثو ومؤرخو أهل السنّة والشيعة. وحينما نبحث في كتب التاريخ والحديث لا نجد من يشكك في صحة هذه الروايات، وأنّ حياة أم سلمة قد استمرت إلى ما بعد استشهاد الإمام.
لقد أخرج العلّامة الأميني+ جملة من هذه الروايات في كتاب (سيرتنا وسنتنا)، كما تتوفر المكتبة المتواضعة للعبد الحقير حالياً على كتب كثيرة عن أهل السنّة قد روت جميع هذه الأحاديث والروايات.
إذن أم سلمة كانت تعلم أنّ الإمام سوف يستشهد في العراق، ولا يعقل أنّ الإمام فضلاً عن مقتضى علم إمامته لم يكن مطّلعاً على كل تلك الروايات التي رواها الرجال والنساء عن النبي|، والتي سمعها هو أيضاً بنفسه من النبي|. هذا والأوضاع والأحوال كانت تنذر أيضاً بحلول خطر على حياة الإمام.
طبيعة هذه الظروف تقتضي أن تبعث أم سلمة ـ وبما تكنّه للإمام من محبة واحترام كأنّه أعزّ من ولدها ـ برسالة إلى الإمام حين عقد العزم على السير إلى العراق، تطلب فيها منه أن يعيد النظر في سفره إلى العراق بناء على ما سمعته من أحاديث عن النبي|.
روى المسعودي في (إثبات الوصية) هذا النقل أيضاً، الذي يستفاد منه أنّ الإمام كجدّه النبي| أيضاً كان عالماً بشهادته ومكانها وإلى أين هو متوجّه. لكن كل هذه الروايات قد صارت موضع إشكال لديك؛ لأنّها قد اشتملت على علم الإمام بشهادته وخاتمة هذا السفر. ولو كانت تدل على أنّ الإمام لم يكن متوقعاً لما ستؤول إليه الأمور وأنّ أم سلمة لم تكن أيضاً على علم بذلك، وأنّها قد أوصت الإمام بالذهاب إلى العراق من أجل تأسيس الحكومة، لما كان هناك إشكال طبقاً لرأيكم ولكان كتاب (إثبات الوصية) معتبراً لديكم، ولم يكن عدم وجود السند دليلاً على الضعف، بل لكانت آراء القائلين بأنّ تاريخ وفاة أم سلمة كان قبل استشهاد الإمام مردودة كلها؛ لأنّ ما يفهم من كلامك أنّ ملاك صحة وسقم الأحاديث والتواريخ في هذه الموارد هو مخالفتها لطرحك العليل هذا أو موافقتها له.
لا أيّها السيّد العزيز إنّ هذه الطريقة في التحقيق والبحث ليست صحيحة، فلا تُسىء إلى سمعة التحقيق العلمي.
أمّا الكلام عن صحة هذا الحديث وبشكل مختصر فهو: أنّنا ذكرنا مراراً وتكراراً بأنّ إحدى طرق الوثوق بالحديث هو وجود شبيه ونظير له في الروايات الصحيحة، وتعاضد سنده ونصّه بأسانيد ونصوص أخرى. فنص هذا الحديث وإن كان قد روي بدون سند إلّا أنّه بالالتفات إلى الروايات المنقولة عن أم سلمة والدالة على حياتها بعد استشهاد الإمام فإنّه يكون مورد اطمئنان. وعلى فرض أنّ هذا الكتاب (إثبات الوصية) لم يكن للمسعودي فليكن لأيّ شخص ما دام من المعلوم أنّ مؤلفه كان من أهل التتبع والدراية، وله إحاطة بالأخبار والأحاديث[108]. كما أنّ مجرد العثور على أخبار في هذا الكتاب لا توافق أخباراً أخرى، أو أنّه يعلم عدم صحتها، ليس دليلاً على عدم الوثوق بكل ما جاء في الكتاب، إذ قد ذكرنا سابقاً بأنّه قلّما يوجد كتاب خال من هذا النقص. إضافة إلى أنّ عدم ذكر السند في المسائل التاريخية لا يضر بوثاقة واعتبار ذلك النقل.
علاوة على عدم انحصار نقل هذا الخبر بكتاب (إثبات الوصية)، إذ قد رواه العلّامة المجلسي(عليه الرحمة) في (البحار)، والقطب الراوندي في (الخرائج)، حيث يتبيّن من النصّ المنقول عن هذين العلمين أنّهما لم يأخذاه من (إثبات الوصية)؛ وعليه يكون ردّ هذه الأحاديث مع تعاضدها بالشواهد والقرائن الأخرى أمر غير جائز. وبما أنّ المؤلف لم يستطع قول شيء بالنسبة لهذين الكتابين، ويشكك مثلاً في انتسابهما إلى العلّامة المجلسي والقطب الراوندي (عليهما الرحمة)، فإنّه يشير إليها إجمالاً وبنحو يوقع القارىء في الخطأ.
حقاً إنّ هذا المنهج في التحقيق العميق عجيب لم يسبق له مثيل! لماذا تخلّيت عن رواية البحار والخرائج، وعرضت رواية إثبات الوصية؟!
يقول المؤلف فيما يتعلق بمعنى الحديث في (ص115): لو قلنا: إنّ مضمون الحديث هو أنّ الإمام تحرك قاصداً محل مقتله في كربلاء منذ خروجه من مكة لكان ذلك مخالفاً لقول وفعل الإمام؛ لأنّه من المسلّم أنّ الإمام خرج من مكة قاصداً الكوفة وليس كربلاء.
إذا قال أحد: إنّ الإمام خرج قاصداً الكوفة من أجل تأسيس الحكومة؛ فإنّ هذا مخالف لقول وفعل الإمام، وأخبار استشهاده في كربلاء الواردة عن النبي| وأمير المؤمنين×، والأوضاع والأجواء السياسية والاجتماعية لذلك العصر.
عجبا! لقد قبلت رؤيا الإمام بناء على نقل الطبري وآخرين، حيث قال: وقد أمرني بأمور، سوف أقوم بها... ولم أخبر بها أحداً ولن أخبر، مع أنّ المهمة التي قام بها الإمام كانت بمثابة عملية إزالة الستار عن تلك الرؤيا، ومن الواضح أنّها كانت مهمة استثنائية من نوعها، ومع ذلك تقول: من المسلّم أنّ الإمام خرج من مكة قاصداً الكوفة!
إذا كانت مهمة الإمام الذهاب إلى الكوفة، مع أنّه أيضاً ـ بحسب زعمكم ـ كان على الظاهر يذهب إلى الكوفة، فلماذا لم يقل لعبد الله بن جعفر: إنّي مأمور بالذهاب إلى الكوفة، إذ ليس في هذا الأمر ما يستحق السريّة؟
في (ص116) ولأجل إثبات أنّ الإمام قد خرج قاصداً الكوفة وليس كربلاء، وضمنياً تهيئة الأذهان لتقبل فكرة جهل الإمام (والعياذ بالله) بمجريات وعواقب الأمور، قام بطرح تسعة أسئلة:
1 ـ إذا كان الإمام قد خرج من مكة قاصداً كربلاء، فلماذا أرسل مسلم بن عقيل إلى الكوفة؟
أفلا يستقيم أن يكون قصد الإمام كربلاء، ويرسل مسلماً إلى الكوفة؟ إنّ إرسال مسلم إلى الكوفة كان متضمناً لمصالح مهمة وبالنظر لذلك صار لازماً، فلتراجع ما عنونته في بداية الفصل الثالث من هذا الكتاب تحت عنوان (مصالح إرسال مسلم×).
2 ـ لماذا تحرك اعتماداً على رسالة مسلم؟ لأنّ مسلم عرض فيها استعداد الكوفة لا كربلاء.
طبقاً لاعترافك في (ص133) إنّ السبب الذي جعل الإمام يخرج من مكة هو أن لا یقع في محاصرة عمّال يزيد، أمّا بحسب الروايات فإنّه قد خرج كي لا يراق دمه في مكة، ولا تهتك بذلك حرمة الحرم.
ولو كان قد خرج معتمداً على رسالة مسلم، فلماذا مكث الإمام أربعة عشر يوماً في مكة بعد وصول رسالة مسلم ـ بحسب ما أقررتم به في (ص261) ـ، على الرغم من أنّه قد طلب من الإمام التعجيل في مسيره؟ ولماذا لم يتراجع بعد وصول رسالة مسلم الأخيرة والمتضمنة لخبر نقض أهل الكوفة عهودهم، حيث طلب منه العودة إلى مكة؟
3 ـ لماذا قال لعبد الله بن الزبير: إنّي أروم الذهاب إلى الكوفة؟
4 ـ لماذا قال ابن عباس للإمام: لا تذهب إلى الكوفة؟
5 ـ ولماذا قال عبد الله بن مطيع للإمام: لا تذهب إلى الكوفة؟
إنّ ما تضمنته ألفاظ مثل ابن عباس وابن مطيع بالمنع من الذهاب إلى الكوفة، يعود إلى علمهم بأنّ ذهاب الإمام إلى الكوفة والعراق محفوف بالمخاطر، ورؤيتهم من جهة أخرى أنّ الإمام متوجّه إلى مدينة الكوفة، ولم يكن هدفهم منع الإمام من الذهاب إلى الكوفة، بل محاولة ثني الإمام عن مسيره نحو العراق. فنفس عبد الله بن مطيع حينما أراد الإمام الخروج من المدينة قاصداً مكة ـ وبحسب قولك لم يكن عازماً على الذهاب إلى العراق ـ قال له: «فإياك أن تقرب الكوفة»[109]. كما أنّ السبب الذي دعا عدّة من الذين حاولوا منع الإمام من الذهاب إلى الكوفة هو تلك الأخبار التي سمعوها عن شهادته في كربلاء.
وكيفما كان فإنّ الهدف من محاولة منع هؤلاء الأشخاص الإمام من الذهاب إلى الكوفة لم يكن مدينة الكوفة، بل كان منعه من الذهاب إلى ولاية العراق؛ لذا استخدموهما كلفظين مترادفين فتارة قالوا: الكوفة، وتارة قالوا: العراق.
قال ابن عباس لابن الزبير: «هذا حسين يخرج إلى العراق»[110].
وقال للإمام: «قد أرجف الناس أنّك سائر إلى العراق»[111].
و قال أيضاً: «إنّ أهل العراق قوم غدر»[112].
و قال عبد الرحمن المخزومي للإمام: «إنّك تريد المسير إلى العراق»[113].
قال الإمام: «من أحبّ أن يمضي معنا إلى العراق»[114].
قول الإمام لابن الزبير: «لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة» موحياً بهذا المعنى أيضاً؛ لأنّه قال في ذيل هذا الخبر: «إنّ هذا ليس شيئ يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق»[115]. في الحقيقة إنّ دعوة أهل الكوفة يعني سادات العراق للإمام بأن «أقبل إلى العراق»؛ لأنّ الكوفة كانت تعتبر مركز العراق لذا أشير إليها في الكلام. فضلاً عن أنّ الذهاب إلى مكان ما والإتيان منه لا يستلزم الدخول إليه.
إذا دعا شخص آخر، وكان المدعو يعلم بأنّ من دعاه ليس أهلاً للضيافة، وسيغلق بابه ويهين ضيوفه، ومع ذلك يقبل دعوته لإصراره من باب إتمام الحجّة عليه، وليُعلم أنّه كاذب بإبرازه العلاقة والدعوة، حيث لا منافاة من أن يقول المدعو: إنّنى سأحضر إلى مدينتكم أو محلتكم في اليوم الفلاني، مع علمه بأنّه لن يسمح (الداعي) له بذلك وسيسد الباب في وجهه.
6 ـ لماذا كتب أثناء سيره لأهل الكوفة «أنّي قادم إليكم في أيامي هذه»؟
لم يقل في الرسالة المشار إليها: إنّي قادم في هذه الأيام إلى الكوفة، بل قال: فإنّي قادم عليكم في أيامي هذه[116]، ما يعني أنّني سأقبل عليكم في هذه الأيام. وقد عمل الإمام بما وعد، ودخل عليهم إلّا أنّهم قد تعاملوا مع هذا الضيف العزيز بخلاف العهود التي قطعوها على أنفسهم.
7 ـ لماذا بعد وصول خبر مقتل مسلم، وطبقاً لما روي في كتاب الإرشاد، قال الإمام لأصحابه مشاوراً إياهم: «أءذهب إلى الكوفة أم لا»؟
أوّلاً: بحسب نقل الدينوري، أنّه لما طُلب حينها من الإمام أن يتراجع؛ لأنّه لا ناصر ولا شيعة له في الكوفة، قال أولاد عقيل للإمام من دون أن يطلب منهم إبداء رأيهم: «ما لنا في العيش بعد أخينا مسلم حاجة ولسنا براجعين حتّى نموت»[117].
وبحسب نقل الطبري، حينما أوصل الرجلان الأسديان خبر مقتل مسلم وهاني، فإنّ أبناء عقيل ـ وأيضاً من دون أن يطرح الإمام الموضوع للمشورة ـ قالوا: «والله لا نبرح حتّى ندرك ثارنا أو نذوق كما ذاق أخونا»، فقال الإمام: «لا خير في الحياة بعد هؤلاء»، وقال البعض الآخر: «أنت لست كمسلم فلو ذهبت إلى الكوفة لهرع الناس إليك»[118]. كما نقل ابن كثير ما يقرب من هذا المضمون[119].
لكنك رأيت أنّك إذا أردت نقل هذه الأخبار، فإنّها ستبدو معارضة لنقل الإرشاد، وبالتالي ستنتفي أرضية ذلك المشهد الذي هيأته للمغالطة التي قمت بها في (ص273) باسم شورى الصحراء، وستعجز حينها عن إيجاد جواب لهذا الإشكال، وهو: لماذا لم يتراجع الإمام حين أصبح معلوماً أنّه لا يمكن تأسيس الحكومة؟ لذا صرفت النظر هنا وهناك عن التعرّض لهذه النقول، وأكملت تحقيقك العميق كما يحلو لك، مضافاً إلى أنّك تشكل أيضاً!
ثانياً: بحسب نقل الإرشاد فإنّ الإمام لم يشاور أحداً في أمر ذهابه إلى الكوفة أو عدم ذهابه، بل التفت فقط إلى أبناء عقيل وقال: ما ترون؟ وهم أيضاً أجابوا: «والله لا نبرح حتّى ندرك ثارنا أو نذوق ما ذاق»[120]. ومن هنا يتبيّن أنّه لا أمر الذهاب إلى الكوفة قد كان مطروحاً، ولا المقام كان يقتضي طرحه من طرف الإمام؛ لأنّ مدينة الكوفة كانت تحت حكومة ابن زياد بشكل مطلق، وكل سبل الدخول والخروج تحت سيطرته؛ لذا حينما قالوا للإمام: إنّك لست كمسلم، ولو ذهبت إلى الكوفة لهرع الناس إليك، سكت×؛ لأنّه كان يعلم أنّ دخول الكوفة أمر غير ممكن، ناهيك عن الكيفية التي سيتصرف بها الناس معه.
وعلى أيّ حال، بحسب رواية (الإرشاد) يكون مراد الإمام من طلبه إبداء الرأي الموجّه لبني عقيل، هو ملاطفتهم، وإتمام الحجة حتّى يتجهّز من معه للسير قدماً باتجاه المقصد، وعلى فرض أنّ بني عقيل قد أبدوا رأيهم بالعودة، لكان من الممكن أنّ الإمام يجعلهم في حلّ من بيعته ويجيز لهم الرجوع، ثمّ يواصل السير نحو المقصد.
لأنّنا قد ذكرنا مراراً أنّه كان للإمام مهمة عليه إنجازها: «إنّي رأيت رؤيا، ورأيت رسول الله أمرني بأمر وأنا ماض له، ولست بمخبر بها أحداً حتّى ألاقي عملي»[121]، وإلّا لو كان هدف تأسيس الحكومة الإسلامية متوقفاً على هذا الكلام من بني عقيل، لما كان من المعقول أن يقدم الإمام في تلك الأوضاع الطارئة على تحمل عاقبة هذا السفر، وتعريض حياته وحياة أعزائه للخطر مع علمه واطمئنانه بعدم حصول ذلك الهدف (يعني الحكومة الإسلامية)؛ وعليه تكون إجراءات الإمام هذه من باب إتمام الحجة والامتحان، وتهيئة الأصحاب أكثر للتفاني والتضحية، حتّى يُخلص أصحابه ومرافقيه من ضعفاء الإيمان المتزلزلين وعبّاد الدنيا.
لذا وبحسب نقل الذهبي هنا ـ وبحسب زعمكم أنّه قام باستشارتهم ـ قال لأصحابه: أترون ماذا حلّ بنا، إنّي لا أرى غير أنّ هؤلاء القوم يتركوننا، فمن أراد منكم الرجوع فليرجع[122].
8 ـ لماذا قال الإمام بعد تدهور أوضاع الكوفة وفي حضور الحر بن يزيد وأصحابه: سأعود؟
9 ـ لماذا وجّه الإمام قافلته للعودة إلى الحجاز، بعد يأسه من الحصول على موافقة الحر؟
إنّ اقتراح العودة، وتسيير القافلة نحو الحجاز ـ وكما أجبنا عن ذلك مراراً في هذا الكتاب ـ قد كان من باب إتمام الحجة، وإلّا فالإمام كان يعلم أنّهم لن يَدَعوه حتّى يُستشهد، وأنّه لو أراد العودة لعاد قبل مجيء الحر حيث لم يكن مانعاً من عودته. وكما قلنا مراراً: إنّ سيرة الأنبياء والأولياء، بل سنة الله مبنية على (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ) [123]، لذا قال في جوابه لعمر بن سعد: «من خادعنا في الله انخدعنا له»[124].
إلى هنا انتهت أسئلة (الشهيد الخالد) والأجوبة عليها، أمّا الآن فنحن أيضاً نرغب في طرح جملة من الأسئلة تتعلق بهذا الأمر لتوضيح موضوع البحث، وليُعلم أنّ الإمام خرج قاصداً كربلاء، ولم يكن قاصداً تأسيس الحكومة الإسلامية. ولأنّ مؤلف الشهيد الخالد قد كرر المباحث لهذا تكرر الإتيان بهكذا أسئلة في هذا الكتاب؛ لذا نلتمس العذر من القراء المحترمين في أن نطرح عليه بعض الأسئلة من بعض صفحات كتاب الأخبار الطوال[125].
1 ـ لو أراد الإمام التوجّه إلى الكوفة، فلماذا لم يرجع إلى الحجاز بعد سماعه خبر استشهاد مسلم وهاني، وصار معلوماً أن لا ناصر له في الكوفة؟ فلو لم يذهب إلى كربلاء فإلى أين يذهب إذن؟
2 ـ لماذا لم يتراجع الإمام بعد أن أتاه رسول ابن الأشعث وابن سعد بخبر شهادة مسلم وهاني وقيس بن مسهر في منزل (زبالة)، وأوصلوا إليه آخر رسالة بعث بها مسلم والتي تضمنت خيانة الناس ونكثهم للعهد، وطلبه من الإمام العودة إلى حرم الله مكة؟
3 ـ لماذا لم يتراجع حينما أخبره رجل من (بني عكرمة) أنّ ابن زياد قد وضع فيما بين (القادسية) و(عذيب) عمّالاً له وجنوداً؛ كي يعتقلونه فور وصوله، وقال له: «ارجع فديتك نفسي، والله إنّك لست مقبلاً إلّا على السيوف والرماح، فلا تثق بأولئك الذين كتبوا إليك برسائلهم؛ لأنّ أولئك هم أحرص على قتالك من الآخرين»؟ ومع أنّ الإمام قد صدّقه من خلال جوابه بجملة قصيرة: «قد ناصحت وبالغت فجزيت خيراً»، إلّا أنّه لم يعتن بنصيحته؟ هل كان مع ذلك سيذهب إلى الكوفة؟ أو أنّه يذهب إلى كربلاء؟ وهل كان عازماً على إنجاز المشروع الموكل إليه؟
4 ـ إذا كان الإمام قد توجّه إلى الكوفة من أجل تأسيس الحكومة، فلماذا كان زهير الذي كان كارهاً منذ البداية لملاقاة الإمام تشرّف بلقياه، وعاد مسرعاً إلى من معه مستبشر الوجه، ثمّ طلّق زوجته، وقال: «إنّي وطّنت نفسي على الموت مع الحسين×»، وقال لأصحابه: «من أحب منكم الشهادة فليقم، ومن كرهها فليتقدم»، فلم يقم منهم أحد وخرجوا مع المرأة وأخيها حتّى لحقوا بالكوفة؟
5 ـ لو كان الإمام متوجهاً إلى الكوفة، لما كان هناك داع في أن يرسل زهير زوجته مع أخيها إلى الكوفة.
6 ـ إذا كان الهدف هو تأسيس الحكومة الإسلامية، فلماذا قال زهير لأصحابه: من أحب منكم الشهادة فليقم؟
7 ـ من أين لزهير أن يكون متيقناً من أمر شهادته إذا لم يكن الإمام متوجهاً إلى محل مقتله؟ لم يكن هناك أيّ سبب آخر لتغيير قناعة زهير إلّا أن يكون الإمام قد وضعه في أجواء المهمة الموكلة إليه.
48 ـ بحث المؤلف في (ص 119) أنّه في بعض نسخ البحار ثبت فيها: «لما عزم على الخروج من المدينة»، ومن الواضح أنّه خطأ؛ لأنّ الإمام لما كان في المدينة لم يعقد العزم على السفر إلى العراق.
أقول: وإن كنّا لا نرى أهمية في كون هذه النسخة أو غيرها صحيحة، إلّا أنّنا نقول: إنّك على خطأ. كيف كُشفت لك نوايا الإمام؟ ففي موضع تقول: «لم يكن عازماً في المدينة»، وفي آخر تقول: «من المسلّم أنّ الإمام قد خرج من مكة قاصداً الكوفة»، وتقول في موضع ثالث: «لقد كان عقد العزم في كربلاء على المقاومة حتّى القتل».
كيف تخبر أنت ومن تثق به عما عقد عليه الإمام عزمه من عندك، ولا تحتمل أنّ جميع الإجراءات التي أنجزت من قبل الإمام قد تمّ تعيينها مسبقاً؟! رغم أنّ الإمام كانت له مهمة سرية طبقاً لرواية المفيد والطبري وابن الأثير والذهبي وابن كثير.
فما المانع في أن يكون الإمام مطّلعاً على هذه الوقائع ولو عن طريق روايات الرسول|، وإن كانت من خلال رؤياه؟! لماذا تصرّ في هذا الكتاب ـ مع وجود كل هذه الأدلة ـ على أنّ الإمام كان جاهلاً بتلك الأحداث الطارئة وبلا دليل؟! فكيف ستجيب الله ورسوله وفاطمة الزهراء والإمام على كل هذه الادعاءات؟!
أيّها السيّد العزيز، ألم تقرأ في المصادر التاريخية التي اعتمدتها، أنّ أهل العراق قد كانوا يرجعون إلى الإمام منذ زمن معاوية، ولم تكن هذه المرّة الأولى التي يرجعون فيها إلى الإمام، ولم تبدأ بعد موت معاوية.
إنّ خروج الإمام من المدينة هو إعلان عن توجهه إلى العراق تلقائياً، لذا طبقاً لما تقدّم حاول ابن مطيع ثني الإمام عن الذهاب إلى الكوفة عندما توجّه إلى مكّة؛ حيث من الواضح أنّ الإمام عندما يقدم إلى مكة فإنّ أهل الكوفة يدعونه، وقد ذهب الإمام إلى مكة، ليذهب من هناك إلى العراق، وينجز ما أوكل إليه من تكاليف.
إنّ أهل الكوفة ولمدة عشرين عاماً كانوا يدعون ويحتجون ويقترحون على أهل البيت^ الثورة على بني أمية، فها قد حان الوقت لدخول ميدان الامتحان.
لقد ذهب الإمام من المدينة إلى مكّة حتّى يتوجّه منها إلى العراق، وأم سلمة أيضاً كانت في المدينة، وعليه لا معنى لكل هذا الإصرار على أنّ لفظ المدينة قد أضيف في هذه الرواية إلّا إثبات أنّ الإمام (والعياذ بالله) لم يتنبأ بما كان واضحاً عند أم سلمة وآخرين حدوثه ويعلمونه.
ولأنّك رأيت أنّه ليس بإمكانك ردّ خبر البحار، وعليك القبول بأنّ الإمام قد خرج من المدينة قاصداً العراق، والحال أنّك تدعي أنّ الإمام قد ذهب إلى مكة لتقصي الأوضاع؛ لذا لم تجد مفراً من التشبث بهذه الأمور.
18 ـ حديث «إنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً...»
49 ـ لقد تناول المؤلف من (ص120) بحث حديث «إنّ الله قد شاء...إلخ»، ثمّ ردّه بناء على أنّه لم يرو إلّا في كتاب اللهوف، ولم يذكر في خمسة عشر كتاباً من المصادر التاريخية، كما أنّه يعارض ما نقله الطبري، ورواية كامل الزيارات، ودلائل الإمامة، فضلاً عن ضعف مضمونه.
الجواب
عدم التّطرق لهذا الحديث في الكتب المذكورة والتي أغلبها من كتب أهل السنّة ليس دليلاً على عدم ثبوته، کما أنّ الکتب التي لم تنقله أكثر منها ولكنّ ذلك لا يصلح دليلاً على ردّ هذا الحديث؛ لأنّ تلك الكتب لم تكن في مقام استقصاء كل المباحث، كما أنّ المباني الشيعية لم تكن في متناول أكثر هؤلاء المؤلفين، وعلى فرض أنّها كانت في متناولهم، فإنّهم لم ينقلوها لأسباب معيّنة.
ومن البديهي أنّه لا يمكن (والعياذ بالله) نسبة الوضع لمثل السيّد مع جلالة قدره وعلو شأنه، وزهده وتقواه، وصفاء روحه، فالسيّد حتّى وإن لم يذكر الأصل الذي أخذ منه هذا الحديث، لكنّا نقول: بأنّه قطعاً قد أخذه من مصدر وكتاب موثوق ومعتبر. وما كتبه مؤلف الشهيد الخالد: بعد عدم ذكره في هذه الكتب الخمسة عشرة نراه في كتاب اللهوف، ما هو إلّا قلّة أدب وجرأة على السيّد.
فالسيّد+ ومؤلف الكتاب أيضاً نقلا هذا الحديث عن أصل أحمد بن حسين بن عمر بن يزيد الثقة، الذي قد أخذه عن أصحاب الإمام الصادق والكاظم÷. وعليه يكون الكتاب الذي نقل منه السيّد هذه الرواية هو أقدم وأسبق وأكثر اعتباراً من الخمسة عشرة كتاباً التي ذكرها المؤلف، ويعلم من هنا شدّة احتياط السيّد الذي اشتهر به، كما يُعلم ذلك من كونه مع علمه أنّ ذلك الكتاب هو أصل أحمد بن الحسين إلّا أنّه نبّه إلى ما قد كتب عليه من أخطاء أيضاً؛ وعليه فإنّه لا يبقى شك في أنّ المصدر الأصلي لهذا الخبر ليس كتاب اللهوف، وإنّما هو أصل أحمد بن الحسين الذي يعدّ من الأصول المعتبرة.
فهذا الخبر وإن كان في الاصطلاح مرسل؛ لأنّ السيّد لم يذكر مشايخه إلى أحمد بن الحسين، إلّا أنّه في اصطلاح آخر أنّ نحو من أنحاء تحمل الحديث هو الوجادة وعليه فليس هذا الحديث مرسل، كما لو أنّنا نقلنا حديثاً عن الكافي والتهذيب، بل على مستوى أعلى من ذلك وأمتن؛ وعليه خلافاً لما ادّعاه المؤلف فإنّ الكتاب معتبر، والحديث معتمد وموثق، كما أنّ راويه ليس مجهولاً، وردّه غير جائز.
لقد ظنّ مؤلف الشهيد الخالد أنّنا تعهدنا بردّ كل ما رواه السيّد، وإن كان ذلك يؤدّي إلى تكذيب هذا العالم الجليل ونسبة الجعل والوضع له، حاشا وكلا لا يمكننا أن ننسب التّهم هذه لعظماء من قبيل السيّد.
أمّا ما يتعلق بمعارضة رواية السيّد عن أصل أحمد بن الحسين الثقة مع رواية الطبري، فجوابه: إن تحقق التعارض فحتماً سيقدّم نقل السيّد؛ لأنّ المصدر الذي نقل عنه يعتبر من أصول الشيعة ويقدم على نقل الطبري الذي لا يُعلم من هو ناقله الأوّل. وأمّا ما كتبته من أنّ نقل أبي مخنف مرسل أيضاً كنقل اللهوف، فهو ليس بصحيح؛ لأنّه أوّلاً: لا بد أن يلحظ في مقام المقايسة كتاب اللهوف مع تاريخ الطبري؛ كون اللهوف قد روى عن أصل أحمد بن الحسين الثقة، والطبري عن مقتل أبي مخنف، ومنه تكون رواية السيّد في مقام الترجيح معتبرة طبقاً لأصول الشيعة، ثمّ يُلحظ مقتل أبي مخنف مع أصل أحمد بن الحسين الثقة، فيكون حينها الترجيح للأصل، وقد نقل خبر أبي مخنف عن شخص مجهول الهوية ومجهول الاسم، وأنّ أحمد بن الحسين الثقة صاحب الأصل قد نقل مباشرةً عن الصادق×، إذن يتعيّن علينا طرح نقل الطبري واعتبار المدرك هو نقل اللهوف.
مضافاً أنّه يستفاد من نقل الذهبي (ج2، ص343) أنّ محمّد بن الحنفية قد جاء إلى مكّة بعد خروج الإمام من المدينة، وفي رواية أخرى لم يذكر أمر عودته بعد خروج الإمام من مكّة.
يوجد احتمال آخر أيضاً في نقل الطبري، وهو أنّ العبارة قد نقلت بالمعنى، وأنّ جملة «ومحمّد بن الحنفية في المدينة» قد أضافها بعض الرواة توضيحاً واجتهاداً منهم، وهذا الاحتمال غير بعيد؛ إذ قد شوهد أمثال ذلك كثيراً في كتب التاريخ والأخبار، وهذا ليس بخاف على أهل الخبرة، وأمّا المؤيّد لهذا الاحتمال فهو أنّه قد نقل في كتب أخرى مثل (الصواعق) لابن حجر و(الاتحاف) للشبراوي: «لمّا بلغ مسيره أخاه محمّد بن الحنفية كان بين يديه طشت يتوضأ فبكى حتّى ملأه من دموعه»، كما أنّ عبارة تذكرة الخواص ظاهرة أيضاً في أنّ محمّد بن الحنفية قد كان في مكّة حينما قصد الإمام الخروج إلى العراق.
وأمّا معارضة رواية اللهوف مع رواية ابن قولويه، فجوابها هو: أنّ رواية ابن قولويه لا تدلّ على أكثر من أنّ الإمام قد كتب من مكة مثل هذه الرسالة إلى أخيه، ولم يأت فيها على ذكر موعد خروجه، ومن الممكن بل المظنون أنّ الإمام قد كتب هذه الرسالة بعد دخوله مكّة، وأنّ محمّد بن الحنفية كما يستفاد من كلام الذهبي كان قد حضر مكّة.
ورواية دلائل الإمامة بحسب الظن القوي غير رواية ابن قولويه، وفي تلك الرسالة التي وردت لم يذكر اسم محمّد بن الحنفية، ومن جملة الشواهد على تعدد هذه الرواية وتعدد مضمونها أنّ لفظ رواية الدلائل هو «لما فصل متوجهاً إلى العراق»، ولفظ رواية كتاب الكامل «كتب الحسين بن علي من مكة»، ويستفاد من هاتين الجملتين أنّ الرسالتين قد صدرتا عن الإمام، وهذا الاحتمال قريب جدّاً، خصوصاً أنّ مكتوب الإمام هذا قد نقل في كتاب (بصائر الدرجات) أيضاً بنقل كتاب (البحار) في (ج 1، ص212)، كما أنّه نقل عن الكليني أيضاً في كتاب (الوسائل) بنقل البحار (ص175)، وكلاهما قد روى عن حمزة بن حمران عن أبي عبدالله×، وفي روايتهما كدلائل الإمامة لم يذكر محمّد بن الحنفية، تبقى فقط رواية ابن قولويه التي تنتهي إلى زرارة قد ذكر فيها اسم محمّد والتي يحتمل أنّها غير هذه الرواية. وعليه لا منافاة بينها وبين رواية اللهوف، ولا يمكننا أن ندمج مضمون هاتين الروايتين ونعتبرهما معارضتين لرواية اللهوف، كما أنّه ليس من البعيد أن تكون قد صدرت رسالتان عن الإمام إحداهما في مكّة والأخرى حين خروجه أو بعد خروجه إلى العراق.
يبقى أن نشير إلى نقطة مهمة، وهي: أنّ مؤلف الشهيد الخالد ولأجل ردّ رواية اللهوف قد استشهد بكتاب الكامل ودلائل الإمامة، إلّا أنّه نسي الروايات الكثيرة في هذين الكتابين والدّالة كلها على أنّ الإمام كان عالماً بمحل قتله وشهادته في هذا السفر، وأنّه لم يكن آملاً في تأسيس حكومة إسلامية، ولم يأت على ذكرها أصلاً.
19ـ جملة معترضة وورطة مؤلف كتاب الشهيد الخالد
50 ـ بعد أن ردّ خبر «إنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً» بالتمسك بروايتي كامل الزيارات ودلائل الإمامة، أدرك المصنّف أنّه قد وقع في إشكال أصعب ألا وهو أنّ الروايتين تدلان أيضاً مثل رواية «إنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً» على أنّ الإمام لم يخرج قاصداً إقامة الحكومة الإسلامية، وقد تنبّأ يقيناً أمر شهادته وشهادة أصحابه. هنا ولأجل أنّ صاحب الكتاب لم يشأ لجهود سبع سنوات من التحقيق أن تذهب هدراً ارتأى التصرف بما يحلو له في معاني ألفاظ الحديث تحت عنوان (جملة معترضة) (ص127) بطريقة لا يقبلها عقل ولا عرف.
يقول الكاتب: إنّ ما كتبه الإمام الحسين×: «فإنّه من لحق بي استشهد ومن لم يلحق لم يدرك الفتح» له احتمالان:
الأوّل: أنّ الإمام أخبر بشهادة من معه في قافلته ومن يلحق به.
الثاني: أنّ من يلحق بي فإنّه يكون في معرض الشهادة، أي بنحو الاحتمال.
ثمّ ردّ الاحتمال الأوّل وقبل بالاحتمال الثاني.
نحن نقول: إنّ مضمون رسالة «فإنّه من لحق بي استشهد ومن لم يلحق لم يدرك الفتح» يختلف عن الرواية التي نقلها الكاتب في (ص108) وأشكل عليها هناك، فلا يصح تكرار تلك الاشكالات على هذه الرسالة هنا، بل المخاطب بهذه الرسالة هو من لم ينضم إلى الإمام، فإن لحق قُتل؛ لأنّ هذا السفر سفر الشهادة، فإن لم يلحقوا لم يبلغوا الفتح، وعلى فرض قبولنا للاحتمال الثاني الذي أيّده المؤلف تكون الرواية أيضاً صريحة في أنّ الإمام كان ذاهباً للشهادة.
ثمّ ما المناسبة وبأي ملاك فسرت تعريض النفس للشهادة باحتمال القتل؟ ألم يعلم أحد هذا أو كان على يقين أنّ من يلحق بالإمام لا يقتل حتّى يحتاج إلى قول الإمام باحتمال الشهادة؟! أو لم يكن بنو هاشم قد تنبؤوا بشهادة الإمام؟!
وعليه يمكننا القول: إنّ الحديث الذي استندت عليه في بحثك وهذه الرسالة من الإمام يدلان ـ على أقل تقدير ـ أنّ الشهادة والموت كانت متوقعة لدى كل من رافق الإمام؛ لأنّه استخدم في قوله لفظ العموم: «من لحق بي استشهد» كما أنّ التعرّض للشهادة يدل كحدّ أقل على احتمال الشهادة، ولو كان الغرض هو الإخبار عن الاحتمال العادي لما اقتضت الحاجة إلى البيان، والشخص الذي لا يتوقع قتله وقتل أصحابه، ويأمل في تأسيس الحكومة لا يخاطب أهله وأصحابه بهذه الطريقة «فإنّه من لحق بي استشهد ومن لم يلحق لم يدرك الفتح».
فليس هناك بيان أبلغ للإخبار عن مصير هذه النهضة من هذا البيان، قبلت ذلك أم لم تقبل.
والشاهد على هذا المطلب ـ وإن لم يحتج إلى شاهد ـ عبارة صاحب كتاب بصائر الدرجات (محمّد بن الحسن الصفار) الذي يعدّ أقدم من ابن قولويه والكليني، حيث كانت وفاته سنة 290 هـ، وعبارته التي هي في غاية الاعتبار: «من لحق بي منكم استشهد معي».
51 ـ فيما يتعلق بمعنى الحديث الشريف الوارد في (ص128) آثر المؤلف استخدام طريقة الحشو في الكلام وإعادة تكرار المغالطات؛ فأخرج منطوق الحديث عن سياقه وعدّه غير قابل للفهم!
لقد ظن أنّ قول: «شاء الله أن يراني قتيلاً» يدل على أنّ قتل الإمام وسبي عياله ونسائه مطلوب بالذات لله تعالى، فقتله ليس ذنباً؛ وعليه يكون ما فعله شمر وبقية قتلة الإمام هو إجراء لحكم الله وطاعة له!
تهانينا على هذا الفهم والإدراك! تهانينا على هذا الذوق والفهم السليم! حقيقة لا يمكنني التصديق بأنّ هناك شخصاً عاقلاً يعمل فكره بهذه الطريقة الفوضوية والغريبة.
يا أخي، لماذا ابتعدت كل هذا الحد؟! وفسرت هذا الكلام الصريح تفسيراً خاطئاً، الذي لو عرضته على أيّ شخص لوعى معناه الصحيح والمنطقي والمعقول دون الحاجة لإعمال فكر. عند استظهار أيّ كلام أو محاولة فهمه إضافة إلى الألفاظ ينبغي الأخذ بعين الاعتبار القرائن الحالية والمقالية والعقلية.
من المعلوم أنّه لم يسبقك أحد إلى طرح مثل هذا الاحتمال الذي تعتبر فيه كلام الإمام ينبئ عن أمر تشريعي بقتله وسبي عياله وأهله، وأنّ الله قد أمر بقتل الإمام تشريعاً. ولم يقل أحد أنّ معنى الحديث هو أنّ وجود الحسين× مانع من انتشار الإسلام وازدهاره، وبحكم «إنّ الله شاء...» ينبغي أن يرفع هذا المانع.
إنّ مفاد الحديث هو: أنّه يجب عليك الدفاع عن الدين وحمايته حتّى الشهادة وإلى أن تقتل في هذا الطريق، يجب أن لا تبايع يزيد، وأن تقاوم وإن كان في ذلك إزهاق لروحك الطاهرة، إذ لا ينبغي لك التسليم ليزيد وعار البيعة له، وما دمت لن تبايع يزيد فإنّهم سوف يقررون قتلك؛ لذا عليك تحمل هذا القتل ورفض البيعة.
إنّ هذا القتل مطلوب، أي بذل النفس وتحمل كل البلاء والمصائب، ورفض التعامل مع يزيد أمر محبوب ومطلوب، والجهاد نصرة لدين الله وإطاعة لأمره. وهذا عين ما كتبه في (ص131): أنّه لو أراد رسول الله| توجيه أمر يجب أن يقول: اذهب لحماية الإسلام؛ لأنّ الله شاء أن يراك حامياً للإسلام. وهذا أيضاً ما تفيده جملة «إنّ الله قد شاء...» ولكن ببيان أوفى وآكد، ويفهم أيّ شخص منها أنّه اذهب فالله شاء أن يراك شهيداً في طريق حفظ الإسلام.
وأمّا ما كتبه من أنّ هذا لا يحتاج إلى أمر جديد، فجوابه: أنّ السبب في صدور أمر جديد راجع إلى أنّ الحسين× وأصحابه وأعزاءه كانوا يواجهون خطراً قطعياً لا يمكن دفعه إلّا بالرضوخ إلى حكومة يزيد ومبايعته وإمضاء كل تلك الانحرافات والمفاسد الكبرى، فكان مضطراً إمّا أن يمضي في الطريق الذي ينتهي إلى الشهادة، وإمّا البيعة ليزيد وعدم مقارعة تلك المظالم والضربة التي وجهتها الحكومة المشركة القذرة والكافرة للإسلام.
لقد أصبح الإمام في أخطر وضع؛ لذا أكّد منهجه الذي يتبناه بجملة بليغة، والتي تضمّنت أرفع قاعدة للتضحية في سبيل الدين «إنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً»، وأنّ الجملة الذهبية والنورانية «إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا» كانت في محلها، وقد أوضحت حقيقة وروح المشروع الحسيني. إنّ الواقعة التي حصلت، وما رآه الناس من مظاهر مظلومية الإمام وأسر أهل بيته، وردّة الفعل الشديدة في نفوس عامة الناس، والخطب والتصريحات البليغة لأهل البيت^، والحكم المتعالية والمنقطعة النظير كلها أظهرت هذه المشيئة الإلهية.
52 ـ أشكل في (ص132) على هذه الجملة: «فلمّا كان في السحر ارتحل الحسين×»؛ لأنّ الإمام طبقاً لرواية الإرشاد والطبري قد أتى بالعمرة يوم التروية، وعند الظهر خرج من مكة بحسب نقل الطبري؛ إذن هذا النقل الذي يقول: إنّ الإمام تحرّك من مكة في السحر لا يتطابق مع عمل الإمام.
1ـ إنّ جملة «فلمّا كان في السحر إلخ» ورواية الإرشاد والطبري جميعها حاكية عن عمل الإمام، إلّا أنّك تنتقي منها ما يحلو لك ثمّ تصف النص الآخر بعدم المطابقة مع عمل الإمام، فلو أنّك أخذت برواية «فلمّا كان في السحر» لقلت: إنّ رواية الإرشاد والطبري لا تطابق فعل الإمام، ولا تتفق أيضاً مع كلام الإمام الصادق× الذي نقل عنه هذا الحديث، وليس هكذا استدلال إلّا مجرد تكرار للدعوة.
2 ـ طبقاً لرواية الطبري عن أبي مخنف عن أبي جناب عن عدي بن حرملة عن عبد الله بن سليم ومذري بن مشمعل الذين رووا أنّ حرکة الإمام من مكّة كانت في ظهر يوم التروية. وقد كان أوّل محل التقى فيه عبد الله بن سليم والمذري الإمام هو ما بين الحجر والباب[126].
وفي رواية أخرى للطبري عن أبي مخنف بنفس السند أنّ أوّل محل لملاقاتهما قد وقع في (الصفاح)[127].
وعليه فإنّه من المؤكّد أنّ إحدى هاتين الروايتين مخالفة للواقع، فيسقطان عن الاعتبار بسبب تعارضهما، ويصبح الكلام القائل: إنّ حركة الإمام كانت عند الظهر لا اعتبار له من الأساس. كما أنّ احتمال أن تكون ملاقاة عبد الله بن سليم والمذري مع الإمام عند (الصفاح) بعد رجوعهما من الحج أو انصرافهما منه والتحاقهما بركب الإمام لا يتوافق مع رواية الطبري الأخرى التي رويت بهذا السند عن المذري وعبد الله ابن سليم[128]؛ لأنّ كلا الشخصين بحسب هذه رواية قالوا: بعد أداء الحج لحقنا سريعاً بالإمام عند منزل (زرود).
وعليه بناء على هذه الرواية، لا يصح رفع تعارض روايتي الطبري بواسطة الاحتمال المذكور، وتصير رواية خروج الإمام عند الظهر ساقطة عن الاعتبار وغير قابلة للاعتماد، ويجب الاعتماد حينئذ على رواية أصل أحمد بن الحسين عن الإمام الصادق×.
3 ـ ليس من المعلوم أنّ الإمام قد جاء بعمرة في يوم التروية؛ لأنّ رواية معاوية بن عمار[129] لا تدل على أكثر من أنّ الإمام قد أتى بعمرة في ذي الحجة، بل إنّها ظاهرة في أنّه قد أتى بالعمرة قبل يوم التروية، وتدل على أنّ الإمام لم يكن مريداً لأداء الحج، لا أنّه قد استبدل الحج بعمرة مفردة كما هو ظاهر عبارة الإرشاد. مضافاً أنّ رواية أبي الجارود عن أبي جعفر×[130] ورواية إبراهيم بن عمر اليماني[131] تدلان على أنّ الإمام قد توجّه إلى العراق قبل يوم واحد من يوم التروية.
وعليه تكون جملة «فلما كان في السحر ارتحل» قابلة للانطباق على أيّ واحدة من هذه الروايات المعتبرة، ولا يرد عليها أيّ إشكال.
4 ـ ولو فرضنا أنّنا أخذنا بنقل الطبري فلا منافاة في أن يكون الإمام قد تحرك من بيته نحو العراق وقت السحر، وثمّ كان خروجه من مكّة ظهراً للطواف والوداع مع الكعبة المعظمة ولقاءات الأشخاص معه، ولأنّه قد تلبّس بالارتحال وقت السحر حقيقة أو مجازاً بقرينة المشارفة قال في الخبر: «ارتحل».
53 ـ أشكل في (ص133) بإشكال آخر قائلاً: إنّ ما جاء في رواية اللهوف من أنّ محمّد بن الحنفية قد تشرّف بخدمة الإمام في الليلة التي قصد فيها الإمام الخروج من مكّة وقت الصبح، لا ينسجم مع ما ذكره المؤرخون من أنّ الإمام قد أحرم للحج يوم التروية حتّى يقف بعرفات كباقي الحجاج، ولأنّه أحسّ فجأة بالخطر قطع حجّه مستبدلاً إياه بعمرة مفردة، ومن ثمّ تحرّك.
1ـ وإن كان بالتأمل في جواب الإشكال السابق يتضح الجواب على هذا الإشكال، إلّا أنّنا نقول: عجباً لك، كيف تردّ رواية السيّد المنقولة عن أصل أحمد بن حسين الثقة عن الإمام الصادق× اعتماداً على كلام المؤرخين، وتترك أصول الشيعة في اعتبار الأخبار جانباً؟!
من يكون هؤلاء المؤرخون الذين أقوالهم ـ بحسب رأيك ـ مرجّحة على حديث معتبر قد نقل عن الإمام؟! إذا كنت تقصد أبا مخنف اعتماداً على الطبري، فعلى الرغم من أنّنا أثبتنا عدم اعتبار روايته في هذا الموضوع في جوابنا على الإشكال السابق، فإنّ كلامه لا يدلّ على أنّ الإمام قد أحرم للحج، ثمّ عدل عنه إلى عمرة مفردة، بل إنّ جملة «وقصّ من شعره وحلّ من عمرته» ظاهرة في كون الإمام قد قصد العمرة منذ البداية.
وإذا كان قصدك من المؤرخين شيخ الشيعة وفخر الفرقة المحقّة الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه[132]، فإنّه من البديهي أن نعتذر عن قبول وجهة نظره مع كامل احترامنا لآرائه؛ كونها لا تطابق الروايات المعتبرة، فضلاً عن أنّنا لا نعدّ أيّ كلام ـ في حدّ نفسه ـ حجّة غير كلام المعصومين^.
2ـ سواء قبلنا رواية اللهوف أم لم نقبلها، فإنّ الإمام طبقاً لرواية الكافي والاستبصار وكامل الزيارات، لم يكن قاصداً للحج ولهذا جاء بعمرة؛ لأنّه لم يكن مريداً للحج.
3 ـ إنّ ما روي من كون الإمام قد عزم على السفر يوم التروية فجأة مخالف لتاريخ (الأخبار الطوال: ص221) إذ يقول: إنّ ابن عباس وبعدما أخبره الإمام بعزمه على التوجه للعراق حضر مرّة أخرى عند الإمام في اليوم الثالث. ومخالف أيضاً لجواب الإمام لابن عباس حسب نقل الطبري[133]، حيث قال: «إنّي قد أجمعت المسير في أحد يوميّ هذين»، أي أنّني عقدت العزم على السفر إمّا اليوم أو غداً.
ومما يُعلم من لقاء آخر لابن عباس بالإمام طبقاً لرواية الطبري هو أنّ كلام الإمام هذا قد كان قبل توجهه إلى العراق بيوم واحد[134].
إذن يتبيّن أنّ العزم على الحركة لم يكن يوم التروية ولم يكن الدافع هو الإحساس بالخطر يومها.
4 ـ نقول بالنسبة إلى اعتماده على نقل اللهوف وحجة السعادة [135]عن مقتل أبي عبيدة النحوي معمر بن المثنى ولعله باعتبار أنّ اللهوف ذكره بالاسم وحجة السعادة بالكنية فقد ظنه شخصين، هنا مؤلف الشهيد الخالد لم يورد أيّ إشكال، ولم يذكر أنّ هناك تواريخ أخرى لم تذكر هذا الموضوع المهم، أي مجيء عمرو بن سعيد بجيشه الجرار يوم التروية، وصاحب اللّهوف متفرد بهذه الرواية، ومأخذ حجة السعادة على الظاهر هو كتاب اللهوف؛ لذا لا يمكن الاستناد إليه.
فالمؤلف هنا سار على غير عادته مع ابن أعثم وتاريخه فنجده لم يتطرق هنا بشيء، ولا يقول: إنّ أبا عبيدة النحوي كان من الخوارج من فرقة الإباضية، وحين موته لم يحضر أحد في تشييع جنازته[136].
في هذا المورد عدّ مؤلف الشهيد الخالد رواية السيّد عن معمر بن المثنى الخارجي معتبرة، أمّا ما نقله السيّد عن أصول الشيعة المعتبرة عن أئمة أهل البيت^ في مثل حديث «إنّ الله قد شاء» فهو غير معتبر.
لو كانت هذه الرواية قد أشارت إلى علم الإمام بشهادته لكان مؤلف الشهيد الخالد قد أطبق السماء على الأرض، وجمع الإشكالات من هذا الكتاب وذاك الكتاب ليغدقها علينا، ولن ينزع يده عن أبي عبيدة ولن يقبلها أبداً. لكنه لما ظنّ أنّ رواية أبي عبيدة تؤيّد إشكاله على الحديث المروي عن الإمام الصادق× استند إليه متغاضياً عن التحقيق العميق في هذا الموضع.
54 ـ نستنتج ممّا مر أنّ حديث «إنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً» هو موضع وثوق واعتبار، وما طرح عليه من إشكالات في غير محلها، وحديث ابن قولويه في (الكامل) والطبري في (دلائل الإمامة) والكليني في (الوسائل) ومحمّد بن الحسين الصّفار في (البصائر) (رضوان الله تعالى عليهم) كلها تَرُدُّ بشكل صريح وقاطع وجهة نظر مؤلف الشهيد الخالد القاضية بأنّ الإمام قد خرج قاصداً تأسيس الحكومة الإسلامية، وأنّه لم يكن على علم بأمر شهادته.
20 ـ خطبة: خطّ الموت ودلالتها الصريحة على علم الإمام بشهادته
55 ـ من (ص136) أطلق عنان قلمه حول الخطبة المعروفة «خطّ الموت على ولد آدم إلخ» وسعى في عناده وخطه للباطل والمغالطات قدر المستطاع وأنكر الحق بشكل سافر وتمسك بسلسلة من الاحتمالات البعيدة وغير العقلائية.
لا ريب في كون الخطبة تدلّ بصراحة على أنّ الإمام قد خرج من مكّة وهو عالم بشهادته ولو كان له ذرة من الإنصاف لقال بدل قوله: «من خلال ملاحظتنا لهذه الخطبة، من الممكن أن يُتصور بأنّ الإمام الحسين× قد توجّه من مكّة قاصداً محل مقتله في كربلاء، ولم يكن قصده الكوفة وتشكيل الحكومة» هذه الجملة: «من خلال ملاحظتنا لما ورد في هذه الخطبة يستحيل أن يحتمل شخص أنّ الإمام لم يكن عالماً بمحل مقتله في كربلاء أو أنّه كان قاصداً تشكيل الحكومة الإسلامية، بل يحصل لنا يقين بأنّ الإمام كان عالماً بشهادته في سفره هذا ونهضته في كربلاء، ولم يكن هناك ما يبعث على الأمل في تأسيس الحكومة والانتصار العسكري على العدو». ومع ذلك فإنّنا سنتعرض لإشكالاته على هذه الخطبة واحداً تلو الآخر مفنّدين لها حتّى يتبيّن للقرّاء الأعزاء الفكر السقيم لهذا المؤلف.
أوّل إشكال طرحه هو: أنّ الخوارزمي قد أورد هذه الخطبة في مقتله ضمن حوادث يوم عاشوراء، لكنّه لم يورد جملة «ومن كان باذلاً فينا مهجته» التي أوردها صاحب كتاب (اللهوف)، ثمّ قال: إنّه بسبب توفر العوامل الطبيعية للنصر كانت حركة الإمام بقصد تشكيل الحكومة لا بقصد الشهادة، وطبقاً للقرائن فإنّه في يوم عاشوراء كان خطر الموت متيقناً لدى الإمام؛ لذا أخبر في هذه الخطبة عن نبأ شهادته في يوم عاشوراء لا في مكة؛ حيث كانت الشهادة حتمية باعتبار المجريات الطبيعية للأمور.
أوّلاً: لقد ذكر السيّد ابن طاووس في (اللهوف)، والعلّامة الجليل علي بن عيسى الأربلي في (كشف الغمة)، والشيخ الجليل حسين بن محمّد بن نصر الحلواني في (نزهة الناظر) (ص30 و31) وبشكل قطعي أنّ الإمام قد ألقى هذه الخطبة أثناء عزمه على الخروج إلى العراق.
وثانياً: إنّ عبارات وألفاظ هذه الخطبة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار على أنّها قد أنشئت أثناء خروج الإمام من مكّة، وليس لها أيّ ارتباط بيوم عاشوراء.
وثالثاً: إنّ جملة «وخير لي مصرع أنا لاقيه» تنبئ عن المستقبل والحوادث الخفيّة والمصرع والمكان والزمان الذي يبعد عن مكان وزمان إنشاء الخطبة، لا عن الحوادث التي ستحدث بعد ساعة من الزمن أو ساعتين، ولا عن المصرع والمقتل الحاصل والمشهود.
ورابعاً: لم تكن جملة «کأنّی بِأوصالِي تُقَطّعُها عُسلان الفَلَواتِ بَینَ النَواویس وکربَلاء، فَیملأنّ منّی أکراشاً جوفاً وأجرِبةً سغباً» خبراً مجهولاً في يوم عاشوراء حتّى يخبر به الإمام؛ لأنّه في ذلك اليوم كان الموضوع معلوماً للجميع، أضف إلى كون الإمام قد أخبر عنه أيضاً في ليلة عاشوراء وما سبقها، وجملة «بَینَ النَواویس وکربَلاء، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم» التي وردت في رواية كشف الغمّة واللهوف ونزهة الناظر صريحة في التنبؤ والإخبار عن المستقبل؛ إذ لمجرد عدم وجودها في كتاب الخوارزمي لا يصح إنكار اعتبارها، وبحسب الموازين العلمية أيضاً فإنّ أصالة عدم الزيادة مقدّم على أصالة عدم النقصان، فلا يمكننا القول بأنّ هاتين الجملتين من وضع صاحب كشف الغمّة ومؤلف اللهوف ومؤلف نزهة الناظر والذين هم من أعلام القرن الخامس.
وخامساً: من العجيب أن يكون نقل الخوارزمي مؤيّداً بأنّ عوامل الانتصار قد كانت مواتية في مكّة، وأنّ الإمام قد خرج قاصداً تشكيل الحكومة. والأعجب من ذلك قوله: إنّ خطر الموت في يوم عاشوراء قد صار قطعياً للإمام، يعني أنّ الإمام لم يكن عالماً بشهادته قبل يوم عاشوراء، والحال أنّ واقع الأمر يقضي بكون الإمام كان عالماً بذلك، وأنّ خطر الموت قد كان قطعياً منذ البداية وهذه الخطبة شاهد على ذلك.
إنّك تتمسك في ردّ هذه الخطبة بأصل مدّعاك، والحال أنّ هذه الخطبة ترد وتبطل مدّعاك من أساسه.
وسادساً: فيما يتعلق بجملة «من كان فينا باذلاً مهجته» التي هي في غاية الوضوح والصراحة بكون حركة الإمام قد كانت من أجل الشهادة، وقد جعل نقل الخوارزمي دليلاً على أنّ هذه الجملة ليست جزءاً من الخطبة، وأنّ الإمام قد قالها في محل آخر، مثلاً بعد وصول خبر مقتل مسلم وبعدما جمعت خطب الإمام في العصور التالية أدرجت تلك الجملة بعد هذه الخطبة وتدريجياً ضمّت إلى الخطبة وعدّت جزءاً منها. ثمّ يقول: إنّ كتباً من قبيل (نهج البلاغة) و(تحف العقول) لم يؤخذ فيها بعين الاعتبار ذكر المحل والتاريخ في جمع خطب المعصوم×، فجاءت خطبهم متتالية، ومن ثمّ أشار إلى مثال ذلك من كلمات الإمام الحسين× التي ذكرت في (تحف العقول).
والجواب هو: قد يحدث مثل ذلك في الجملة ويختلط الأمر على من لم يكن حاذقاً أو ماهراً في فن معرفة الخطاب وعلم الحديث، وأمّا في هذين الكتابين المذكورين لم يقع هكذا خطأ من أحد ولم يذكر مورداً لذلك، بل لم يقع الاشتباه حتّى في المثال الذي ذكره. وكل من نقل خطبة «إنّ هذه الدنيا» عن الإمام الحسين× لم يعدّ خطاب «إنّ الناس عبيد الدنيا» ذيلاً لها، وعدّها خطاباً آخر.
نعم، أمثال مؤلف الشهيد الخالد قد يلقي مثل هذه الاحتمالات؛ إمّا لكونه لا يملك معرفة كافية بالتاريخ والأحاديث، أو لأنّه أراد تحريف الحقائق وإبداء رأيه المبتني على سلسلة من الظنون والاجتهادات الواهية والزائفة. وكيفما كان فإنّ هذه الاحتمالات ليست عقلائية ومنطقية مما يقضي وبدون أدنى شك بأنّ جملة «من كان باذلاً» هي جزء من هذه الخطبة.
أمّا فيما يتعلق باحتمال كون هذه الجملة قد قيلت في محل آخر كأن يكون بعد وصول خبر شهادة مسلم، نقول:
لم ينقل في أيّ كتاب من كتب المقاتل أنّه قد ذكر مثل هذا الخطاب بعد وصول خبر شهادة مسلم، كما أنّه لا وجه لصدور هذا الكلام «فَلْیرْحَل مَعَنا فَإنّي راحِلٌ مُصبِحاً إن شاءَ الله» من الإمام وهو في حال الرحيل، والسير والحركة. وهذه الجملة تناسب فقط مقام خروجه من مكّة، ولا وجه لإنشاء هذه الخطبة في أثناء الطريق وحين التوجّه إلى العراق وفي يوم عاشوراء. ولکن بما أنّ مؤلف الشهيد الخالد قد أغلق عينيه فيقول كل ما يحلو له. ويكفينا دليلاً على وهن منطقه وتحقيقه هذا القسم من كتابه.
56 ـ ما كتبه في (ص140) تحت عنوان دليل آخر على ردّ ذيل هذه الخطبة لم يكن صحيحاً أيضاً؛ لأنّه لم يقل أحد أنّ الإمام قد أنشأ هذه الخطبة يوم خروجه، بل أنشأها قبل خروجه بيوم. وما قلتموه من أنّ الإمام لم يكن حتّى يوم التروية ـ أي نفس يوم حركته ـ عازماً على الذهاب إلى العراق، وأنّه في ذلك اليوم أحرم بإحرام الحج ثمّ انصرف وأتى بعمرة مفردة، قد أجبنا عنه سابقاً وذكرنا بأنّ الإمام لم يكن محرماً بإحرام الحج في ذلك الوقت؛ ولأنّه قد كان مستشعراً للخطر لهذا لم يكن له إرادة للحج. وهذه الخطبة أيضاً دليل على أنّ الإمام كان مستشعراً للخطر قبل يوم خروجه وعازماً، وعليه لا يمكن أن تكون رواية (الإرشاد) مقدّمة على حديث معتبر وحجة.
57 ـ وأمّا ما ظنه من أنّ حركة الإمام بما أنّها وقعت في حدود الظهر طبقاً لما نقله الطبري، وهذا ينافي ما ذكر في الخطبة من أنّ ذلك كان أثناء وقت الصبح؛ وعليه فإنّ هذه الخطبة أو الجزء الأخير منها على الأقل لم ينشأ في مكّة.
الجواب هو: أيّها الرجل، إذن أخبرنا أين أنشئت هذه الجملة «من كان باذلاً فينا مهجته»؟! وأيّ مكان غير مكّة قد أناخ عنده الإمام رحله، عازماً على الرحيل عنه وقت الصبح؟ فإمّا أن تقبل بكلام صاحب (كشف الغمّة) و(اللهوف) و(نزهة الناظر) الذين قالوا بأنّ هذه الخطبة من أوّلها إلى آخرها قد أنشئت في مكّة حينما كان الإمام عازماً على التوجّه إلى العراق، أو أنّك تكشف لنا بنفسك عن المكان الذي يتناسب مع إنشاء هذه الخطبة.
إنّ الإنسان ليبقى متحيّراً واقعاً في الطريقة التي ينبغي التعامل بها مع هذا المنطق، مضافاً إلى أنّ هذه الخطبة خطاب الإمام نفسه، فأيّ اعتبار لما يقابله من نقل الطبري وبعدما ذكرناه حوله من توضيح في الفصل السابق، مضافاً إلى أنّ رحلة الإمام عند الصباح مع كونها نحو الهدف والخروج عن مكة والوداع مع الأشخاص والكعبة المعظمة التي طالت إلى قريب الظهر كما ذكرنا سابقاً لا يتنافى مع العرف؛ إذ من الممكن أن يكون تهيؤه للرحيل عند الصباح إلّا أنّ تشرّف أعيان الناس وعوامهم بلقائه وتوديعه قد حال دون ذلك إلى ما يقارب وقت الظهيرة.
وعليه فإنّ مثل هذه المضامين والألفاظ لا يمكن عدّها منافية لبعضها البعض أو أنّ أحدها دليل على ردّ وإبطال الآخر.
58 ـ في (ص142) يتحدث المؤلف تحت عنوان (فرض آخر)؛ ولأنّه كان مصرّاً على إثبات عدم علم الإمام بشهادته، خوّل لنفسه توجيه وتأويل هذه الخطبة التي صريحة في الدلالة علم الإمام بشهادته، فكتب أخيراً: لقد أسفرت استشرافات الإمام التي دامت بضع شهور على أنّ أمر تشكيل الحكومة ممكن التحقق، وإمكان المواجهة العسكرية، لذا قرأ هذه الخطبة حتّى يُعِدّ أصحابه للجهاد والتضحية.
نحن نقول: في مثل ذلك الموقف الذي كان فيه الإمام ـ بحسب قولكم ـ عازماً على التوجّه إلى الكوفة من أجل تأسيس الحكومة مع حاجته للجيش والجند، يا ترى أيّ أثر كان يُرجى من ذكر هذه الخطبة غير إيجاد اليأس وفقدان الأمل من تأسيس الحكومة؟! وأيّ ارتباط بين جملة «وخير لي مصرع... بين النواويس وكربلاء» وكون الإمام ذاهباً إلى الكوفة وأنّ كربلاء كانت قريبة من الكوفة، وكذلك جملة «لا محيص» وجملة «رضا الله رضانا...» وجملة «من كان باذلاً» التي تعدّ جميعها شواهد جليّة على العلم بالقتل والشهادة والنهاية الفجيعة التي ستنتهي لها هذه الحركة وبين استشرافات الإمام ـ بحسب قولكم ـ التي قد دامت شهوراً.
إنّ هذا لبعيد كل البعد عن البلاغة، فمن يريد تشكيل الحكومة ويعتقد بتوفر عوامل الانتصار کيف له أن يقول مثل هذا الكلام؟!
59 ـ كتب المؤلف في (ص144) تحت عنوان (ملاحظة): إذا كان الإمام ذاهباً إلى الكوفة وكتب له النصر واستشهد بعد ذلك بعشر سنوات لكانت هذه الخطبة أيضاً معقولة.
الجواب هو: أنّه في هذه الحالة لن يكون هناك موضوعية لتلك الخطبة، وبلاغة الإمام تأبى أن يأتي بتلك الخطبة في تلك الحالة ويعلن مقتله بصراحة وهو قائد الجيش.
60 ـ آخر اعتراضات المؤلف هي: أنّ هذه الخطبة لم تَرِد في مصادر أخرى لذا يقل الاطمئنان بنقل اللهوف.
وجوابه هو: أنّ هناك كثيراً من الأمور الأخرى المسلّمة لم تذكر في تلك الكتب خاصّة في مصادر أهل السنّة، وبناؤهم لم يكن على الاستقصاء، وفي تلك الأزمنة لم تكن فيها جميع الكتب والمصادر تحت أيدي الجميع مثل زماننا. مضافاً إلى أنّ کتاب (كشف الغمّة) روى هذه الخطبة عن كمال الدين محمّد بن طلحة الشافعي المتوفي سنة 652 مؤلف (العقد الفريد) و(مطالب السؤول)، كما رواها العلّامة الجليل حسين بن محمّد الحلواني أيضاً.
وما يمكن أن يقال بثقة: هو أنّ هذه الخطبة التي يكشف نصّها عن منطق وقوّة تصميم الإمام في غاية الاعتبار، حيث لم يظهر لحدّ الآن أيّ من العلماء وأرباب الفن تردده فيها؛ لذا لا تخدش مثل هذه الاحتمالات الواهية وغير المنطقية في اعتبارها.
21 ـ تحقيق حول عبارة زيارة الأربعين
61 ـ في (ص145) يقول فيما يتعلق بهذه العبارة من زيارة الأربعين «وبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِیك لِیستَنْقِذَ عِبادَك مِنَ الجَهالَةِ وحِیرةِ الظَلالَةِ»: لو قال شخص: إنّه يُفهم من هذه الجملة بأنّ الإمام كان مريداً منذ البداية أن يسيل دمه في سبيل الله، وأنّه تحرك نحو القتل، نقول له: إنّ هذه الجملة صادقة أيضاً على «حمزة» مع أنّه لم يكن غرضه أن يسيل دمه حينما شارك في معركة أحد، وإنّما كان مريداً لكسر شوكة عبّاد الأصنام إلخ.
الجواب هو: إنّ هذه الجملة وبحسب معناها الحقيقي ظاهرة في كون بذل النفس والإقبال على الشهادة قد كان عن علم واختيار، وكون إنقاذ العباد من الجهالة والضلالة يحصل ببذل المهجة وتعريض الروح للإزهاق. وبعبارة أخرى: إنّ سبب نجاة الناس كان بذل الإمام لمهجته، أي «استنقذ العباد ببذل مهجته في الله».
وعليه تصدق هذه الجملة حقيقة على شهيد قد بذل مهجته عن علم واختيار، ويعلم أنّ بذل نفسه سبب لنجاة أمّته، ولكن تصدق مجازاً على من استشهد في سبيل الله ولم يترتب هذا الأثر على بذل نفسه وشهادته.
وبعبارة أخرى: من الشهداء من يشهر سيفه للجهاد في سبيل الإسلام وحفظ حصونه وأهدافه السامية حتّى يقتل، فتترتب آثار جمة على تضحياتهم ودفاعهم، وصمودهم في وجه حملات العدو وغاراته.
وتارة نجاة الدين وصونه يحتاج إلى بذل النفس والاستقامة والقتل، كحال حامل الراية إذا رأى أنّ عدم صموده وفراره سيدفع جميع الجيش للفرار، وإذا استقام وحفظ الراية فإنّه يقتل ويقطع إرباً إرباً ولكن يرفعها شخص آخر ويدفع الخطر (مثل ما حدث في غزوة مؤتة والتفاني العجيب لجعفر الطيّار وزيد بن الحارثة وابن رواحة)، أو يتحمس المسلمون ولا يتركون الميدان، ويكون عمله مثالاً يحتذى به.
هنا تتعيّن التضحية بالنفس، وهنا يمكننا القول حقيقة: «بذل مهجته فيك ليستنقذ الإسلام». لقد كان لشهداء كربلاء مثل هذا الموقف، شهداء جرّدوا سيوفهم ليؤدّوا وظيفتهم في الذود عن قائد الإسلام وولي الله، فآثروا وتفانوا في بذل مهجهم دونه حتّى الشهادة، ولعبوا دوراً بارزاً محيّراً في ذلك الميدان الذي لم يشهد التاريخ له مثيلاً، فرفعوا راية الإسلام وأحكموا لواءه.
في الواقع إنّ هذه الجملة صادقة على كل فرد منهم، إذ من الممكن أن يكون هذا التفاني والإيثار من أجل نجاة الدين هو سرّ تمايز هؤلاء الرجال الصناديد عن سائر الشهداء وحصولهم على تلك الدرجات. إنّ الميدان الذي برز إليه هؤلاء المضحّين هو ميدان بذل النفس وتقديم المهج من أجل حفظ الدين الإسلامي.
أمّا فيما يتعلق بمثل حمزة وشهداء بدر وأحد، فإنّ هذه الجملة تصدق عليهم حقيقة لو كان لبذل نفوسهم هذه الآثار وكان بذل النفس عن علم واختيار، وإلا فهي صادقة عليهم مجازاً. وحمزة باعتبار المقام العالي الذي له بين الشهداء، فإنّه حائز على هذا المقام وتلك الفضيلة[137].
وعليه يتبيّن أنّ هذه العبارة من الزيارة حول الإمام هي عين الواقع؛ كونه كان مطّلعاً على أمر استشهاده، وعالماً بأنّ الإعلان عن بطلان الحكومة اليزيدية والثورة والامتناع عن البيعة يعني بذل النفس والإقبال على الشهادة، عالماً بأنّ استشهاده بهذا النحو من المظلومية والظمأ مقارنة لأسر أهل بيته ستكون منشأ لهذه الآثار والبركات ونجاة الإسلام من الضربة القاضية لحكومة يزيد.
وعلى كل حال، فمع صرف النظر عن هذا التحقيق الدقيق، لو اعتبرنا حسب فرضكم أنّ الإمام مثل باقي الشهداء الآخرين لم يكن عالماً بشهادته، ومن هذه الجهة نقول: إنّ إطلاق هذه الجملة على الجميع بالسوية، وليست دليلاً على أنّ الإمام كان متوجهاً نحو الشهادة عن علم، فإنّه طبقاً للأساس والطرح الذي اعتمدته في هذا الكتاب فإنّ الشهادة وبذل نفس الإمام لم تكن لنجاة الناس من الضلالة، وهذه الجملة وإن كانت صادقة في حق الشهداء الآخرين ولكنها لم تكن صادقة على الإمام؛ لأنّ الإمام طبقاً لنظركم بعد يأسه من تأسيس الحكومة اقتراح الصلح مع تلك الشروط الثلاثة لكنها لم تقبل، وخيّر بين التسليم لابن زياد أو القتل، ولكي لا يستسلم الإمام لابن زياد فقد قتل، إذن قل لي إنّ «بَذَلَ مُهْجَتَهُ فِیك لِیستَنْقِذَ عِبادَك مِنَ الجَهالَةِ وحِیرةِ الظَلالَةِ» كيف تنسجم وتصدق مع رأيكم؟ أيّ علاقة بين عدم استسلامه لابن زياد وقتله، وبين قتله من أجل هداية الناس ونجاتهم من الضلالة والجهالة.
لقد حططت من مقام الإمام إلى ما هو أدنى من مقام الشهداء الآخرين كحمزة وجعفر الطيّار، بل من سائر شهداء بدر وأحد (إن شاء الله قد غفلتم) [138].
مضافاً أنّ ظاهر هذه الجملة هو أنّ هذا الأثر، أي نجاة المجتمع من الضلالة والجهالة مترتب على شهادة الإمام؛ لأنّ سببه بذل المهجة، وإذا حصل السبب حصل المسبب أيضاً. والحال أنّك تدّعي أنّ الإمام لم يقصد من الشهادة وبذل النفس سوى عدم الاستسلام لابن زياد، وأنّ نهضة الإمام قد باءت بالفشل ولم تترتب عليها أيّ نتيجة ـ نعوذ بالله ـ.
62 ـ من (ص146) عنون قصّة الملائكة والجن، ولكي يهيئ أرضية إنكارها بزعمه نقلها أوّلاً عن كتاب (نور العين)، ثمّ أشار إلى نقلها في (اللهوف) عن كتاب (مولد النبي ومولد الأوصياء) للشيخ المفيد، ظاناً أنّ ذلك يردّها.
نحن نقول: إنّ ما ذكره عن كتاب (نور العيون) ومؤلفه ليس مورداً للإشكال، ونحن أيضاً لا نراه كتاباً معتبراً، أمّا رواية (اللهوف) عن كتاب (مولد النبي ومولد الأوصياء) فلا يمكن ردّها؛ لأنّه علاوة على كون اللهوف قد رواها فإنّ محمّد بن أبي طالب الحسيني قد رواها أيضاً في كتابه بهذه العبارة عن المفيد، قال شيخنا المفيد بإسناده إلى أبي عبد الله×[139]، وما كتبه حول عدم قبول هذه الرواية غير كاف.
والآن نبحث في الوجوه التي بها ردّ تلك الرواية:
1 ـ لقد نسب إلى الإمام الكذب في هذه القصة.
الجواب: إنّه ليس كذلك، فمعنى (لا سَبیلَ لَهُم عَلَي، ولا یلقُونِي بِکریهَة أو أصلَ إلی بُقعَتي) لا تدل على أكثر من أنّهم لن يتمكّنوا من قتلي ولن يمسّوني بسوء حتّى أصل إلى بقعتي، أي كربلاء. وهذه الجملة لا تنافي وظيفة الحر في محاصرة الإمام وجلبه وانزعاج أهل البيت.
2 ـ لازم ذلك عدم اهتمام الإمام بالإسلام؛ لأنّ حفظ الدين لما صار ممكناً بمساعدة الملائكة فلماذا رفض الإمام ذلك ولم يؤسس الحكومة الإسلامية؟!
الجواب: إنّ الملائكة كانت مأمورة بطاعة الإمام، وفی الواقع کان هذا أيضاً نوعاً من الامتحان للإمام حتّى تتجلى أكثر قوّة عزمه ودرجة ثباته، والإمام كان مخيّراً في ردّ وقبول مدد الملائكة، ومن المحتمل أن لا تكون هناك مصلحة في تشكيل الحكومة الإسلامية بمدد القوى الغيبية، واقتراح الملائكة كان لأجل حفظ نفس الإمام ورعاية شخصه أو الامتحان، والإمام كان يعلم أن لا مصلحة في تأسيس الحكومة بواسطة القوّة الغيبية؛ لذا لم يقبل مؤازرة الملائكة له حتّى يحفظ نفسه.
خلاصة الكلام: أنّ الإمام كان يعلم بأنّ قبول اقتراح الملائكة لم يكن واجباً، كما أنّه ليس بإمكان أيّ شخص القول بأنّه كان يلزم على الإمام القبول حتّى يحفظ الإسلام؛ لأنّه لو كان لازماً لقبل. إنّ المسلّم هو أنّه لو كان للإمام قدرة مادية كافية على تأسيس حكومة الإسلام وإجراء أحكامه، لوجب عليه القيام بذلك، ولكن بواسطة القوّة الغيبية وعن طريق الإعجاز لا يجب عليه القيام بذلك، وما حصل من انتصار في مواطن بمدد جنود الغيب هو من المستثنيات.
وعليه ليس صحيحاً القول بأنّه هل من الممكن أن يرفض الإمام العون من القوى الغيبية في حفظ الدين الإسلامي متى تيسر له ذلك؟ وهل وهل؛ لأنّ الجواب هو: نعم من الممكن ذلك؛ لأنّ الإمام أعلم بالسنن الإلهية من غيره، حيث يُعلم من عدم قبوله هنا بأنّ التوسّل بالسبل غير العادية من أجل الانتصار لم يكن ضمن مشروع الإمام. فلو كان هذا الإشكال وارداً على الإمام فيجب عليه أن يشكل على الله (العياذ بالله)، ويقول: هل من الممكن أن يترك الله الإمام حتّى يهلكه الأعداء، ويُذلّ الإسلام وهو القادر على خلاصه من قبضة الأعداء وقطع دابر الظالمين؟ هل من الممكن أن يدع الله يزيداً وابن زياد وشمراً وأعوانهم أحياء حتّى يرتكبون كل تلك الجرائم، وهو القادر على إهلاك يزيد وإزاحة الموانع عن تأسيس الحكومة الإسلامية؟ هل من الممكن عدم اعتناء الله بالإسلام والإمام؟ هل من الممكن أن يطلب الله الذي لا يعلم عدد جنوده إلّا هو من عباده نصرة دينه؟
جواب هذه التساؤلات كلها معلوم، وفي هذه الاستفهامات التي منشؤها الجهل بالسنن والقواعد والقوانين الإلهية لا فرق بين فعل الله وفعل الرسول والإمام؛ لأنّهما عاملان ومجريان أيضاً للسنن الإلهية. إذن لا يكون عدم قبول العون من الملائكة عدم اكتراث بالإسلام، كما أنّ عدم إعمال الله لقدرته في إبادة الظلمة لم يكن أيضاً إهمالاً للدين.
3 ـ يكتب في (ص150): نحن نشك في كون كتاب (مولد النبي ومولد الأوصياء) للشيخ المفيد لعدّة أسباب.
الجواب: لا قيمة لشكك؛ لأنّ السيّد ابن طاووس قد أتى على ذكر اسم هذا الكتاب، ونقل عنه الحديث، ويقول: روى المفيد بإسناده عن الإمام الصادق×، فتكون نسبة الخطأ إلى السيّد مبالغة واضحة.
لا يُشتبه في كتاب الشيخ المفيد الذي ينقل فيه الأحاديث عن شيوخه، ومن نفس الشيوخ يُعلم كتاب المؤلف، ولقد كان السيّد ابن طاووس من أهل الدراية في هذا المجال، كما أنّ نابغة علم التراجم والرجال العلّامة النحرير الشيخ آقا بزرك الطهراني+ قد قال في حقه: (خرّيط صناعة معرفة الكتب)[140].
فأنت ومن دون أن تدقق في العبارات والألفاظ تشك لأنّ الرواية لم توافق رأيك، كما أنّ مجرد نسبة الكتب خطأ من قبل بعض الأشخاص غير المطلعين إلى غير المؤلف لا يعدّ دليلاً على أن نشك في أيّ كتاب. أضف إلى أنّه في تلك المواضع التي يدعي البعض الخطأ يبيّن المدعي مؤلف الكتاب، ولكنه يسوق القرائن المقنعة من نفس الكتاب أو كلمات أرباب الفن التي تشير إلى أنّه قد نسب خطأً إلى الغير.
أمّا كتاب (المواليد) فلم ينسب إلى غير الشيخ المفيد، فكيف إذن يعترينا الشّك في نسبته إليه؟! كما أنّ عدم ذكر هذا الكتاب ضمن فهرس كتبه ليس دليلاً على العدم، بل دليل على أنّه لم يُعدّ فهرس كامل، مضافاً إلى أنّ نقل السيّد مؤيّد بنقل محمّد بن أبي طالب الحسيني؛ وعليه لا ريب في كون هذا الحديث قد أخذ من كتاب الشيخ المفيد.
4 ـ لم يرتض الشيخ المفيد في جوابه على المسائل العكبرية علم الإمام باستشهاده؛ فكيف نقل رواية الملائكة التي تدلّ على علم الإمام بشهادته.
الجواب: إنّ ما أفاده الشيخ المفيد في مقابل الأحاديث المعتبرة القطعية التي تدلّ على أنّ الإمام كان عالماً بشهادته ليس بحجّة، مضافاً إلى أنّ صدور هذه الكلمات من أمثاله كما ذكرنا مراراً هي في مقابل العامّة والذين يدورون في فلكهم ويأنسون بأفكارهم، فما جاء على لسان الشيخ المفيد والسيّد ابن طاووس (رضوان الله عليهما) يندرج ضمن الجواب الإقناعي لهؤلاء حتّى لا يرتابون في قدسية هدف الإمام؛ لأنّه لو أجابا بنحو آخر لكان بعيداً عن فهم البعض منهم لضيق أفق إدراكهم واطّلاعهم المعرفي، وهذا ما جعل الشيخ المفيد+ بعد ذلك الجواب الإقناعي أن يجيب أيضاً على فرض علم الإمام بشهادته وفقاً لما صرّحت به الأخبار والتواريخ المعتبرة وعقيدة الشيعة، وأيّد صراحة أصل صحة التعبّد بالشهادة والاستسلام للقتل، وبعد قبول هذا الأصل لم يبق وجه لردّ الأخبار التاريخية الدّالة على علم الإمام بشهادته.
وإليك كلام الشيخ المفيد بنفس ألفاظه في جوابه على المسائل العكبرية: «وَلَو کانَ عالِماً بِذلك لَکانَ الجَوابُ عَنهُ ما قَدَّمناهُ فِي الجَوابِ عَنْ عِلمِ أمیر المُؤمِنین×»، وأمّا ما قاله بشأن علم أمير المؤمنين× فهو: «إذ کانَ لا یمتَنِعُ أن یتَعَبَّدهُ اللهُ تَعالى بِالصَبر عَلَی الشَهادَةِ والاِستِسلامِ لَلقَتْلِ لِیُبلِغَهُ بِذلك عُلُوَ الدّرَجاتِ ما لا یُبلغَهُ إلّا بِه، ولِعِلمِهِ بِأنَّهُ یطِیعُهُ فِي ذلك طاعَة لَو کلَّفَها سِواهُ لَم یرِدها، ولا یکونُ بِذلِك أمیرالمُؤمِنینَ مُلْقِیاً بِیدِهِ إِلِى التَّهلُکةِ، ولا مُعِیناً عَلی نَفَسِه مَعُونَة تُسْتَقبَح فِي العُقُولِ».
هذا هو كلام الشيخ المفيد+ الذي ذكّرنا به القرّاء الأعزاء في مقدّمة هذا النقد، والحكم للقرّاء الأعزّاء في كون هذا القسم من كلمات الشيخ المفيد (عليه الرحمة) يجيب على استبعادات وأساس بحث مؤلف كتاب الشهيد الخالد أو لا؟ وهل تؤيّد صحة تعبّد الإمام الحسين× بالشهادة والقتل أو لا؟ وهل يستفاد منها جواز الاستسلام للقتل أو لا؟
كما أنّ هناك شاهداً آخر على أنّ ما أفاده الشيخ المفيد كان من باب الإقناع وفي مقابل العامة، وهو أنّه ذكر في الإرشاد في ثلاثة فصول علم أمير المؤمنين× بشهادته، وروى أخبار الإمام عن الشهادة، معتبراً إيّاها من الأخبار المتواترة[141].
5 ـ يقول بأنّ الشيخ المفيد في (الإرشاد) قد ذكر جميع الحوادث إلّا أنّه لم يأت على ذكر هذه القصّة.
الجواب: من المعلوم أنّ الشيخ المفيد على ما ذكره في مقدّمة الإرشاد لم يكن بصدد استقصاء الحوادث والوقائع في كتاب مختصر مثل الإرشاد؛ لأنّ استقصاء تاريخ حياة أمير المؤمنين× وسائر الأئمة^ في كتاب مثل الإرشاد محال، كما أنّه من الممكن أن يكون كتاب (مولد النبيّ ومولد الأوصياء) قد ألّفه بعد الإرشاد فيكون هذا الحديث قد وصله بعد تأليف الإرشاد. هكذا وجوه عليلة لا تكون مدركاً ومستنداً لردّ الحديث والكتاب.
23 ـ خطبة «لا أرى الموت إلّا سعادة...»
63 ـ هذه الخطبة إذا أنشئت بعد مواجهة الإمام لجيش الحر في (ذي حسم) طبقاً لنقل الطبري أو صدرت في يوم عاشوراء طبقاً لنقل الذهبي، فإنّها لا دلالة لها على علم الإمام بشهادته قبل إنشائها، ولكن تدلّ على عزم الإمام على الشهادة أثناء قراءته لها وحينما أدرك أنّه لا يوجد أيّ أمل في تأسيس الحكومة الإسلامية، مضافاً إلى أنّه مع الوضع الحادث من قبيل شهادة مسلم وهاني وعبد الله بن يقطر ودخول جيش الحر ومحاصرته للإمام قد تبدل الأمل في تأسيس الحكومة يأساً.
ومع ذلك لا نعلم ما السبب الذي جعل مؤلف الشهيد الخالد يبذل قصارى جهده لإنكار دلالة هذه الخطبة، ويقول في هذا الموقع أيضاً برجاء أو (العياذ بالله) بجهل الإمام بالمستقبل، وهذا ما دعاه للورود في شرح هذه الخطبة والاستشهاد بكلام أمير المؤمنين×. حقاً، إنّ هذا الإصرار لعجيب جدّاً، بل يستفاد من بعض عبارات الكتاب أنّه يريد القول بأنّ الإمام حتّى في يوم عاشوراء وحین إتمامه للحجة عليهم وإذا لم نبالغ حتّى آخر رمق من حياته لم يخرج فكرة تأسيس الحكومة الإسلامية من ذهنه وكان متأملاً بتأسيسها،
حقيقة إنّ هذا النحو من الاستنتاج والاجتهاد والتحقيق في المسائل التاريخية لعجيب وفريد من نوعه!
إذا كان غرضه من هذه البيانات عدم دلالة الخطبة ـ على فرض صدورها قبل المواجهة مع جيش الحر ـ على العلم بالشهادة، فإنّها كاشفة أيضاً عن علم الإمام بالشهادة والعزم على الموت والقتل في سبيل الله.
«فَإنّي لا أرَی المَوتَ إلّا شَهادةً ولا الحَیاةَ مَعَ الظّالِمِینَ إلّا بَرَماً»، إنّ هذا المنطق ليس منطق من يأمل الانتصار العسكري، إنّه منطق شخص مصمم وقوي القلب وثابت ومؤمن بهدفه، آبياً أن يدفع عن نفسه الموت بأدنى ضعف أو ذلّ أو تسليم.
وأمّا ما يقوله في ( 158) من أنّ الإمام قالها في مقام المقايسة بين الشهادة والتسليم لا أنّ غرضه هو الرغبة في الموت، كما قال يوسف الصدّيق: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [142]، فهو لم يرد القول بأنّه راغب في السجن.
جوابه هو: أنّه في مقام دوران الأمر بين تلوث العِرض والوقوع في السجن، يكون السجن أحب ليوسف، كما أنّه في مقام دوران الأمر بين البيعة والقتل يكون القتل أحب إلى الإمام. لم يقل أحد: إنّ السجن حال الحصانة من الوقوع في خطر الفحشاء يكون مرغوباً ليوسف×، أو أنّ القتل مطلوب للإمام حتّى مع استقرار الأوضاع والأحوال وعدم توجيه صدمة للإسلام من الحكومة اليزيدية.
أضف إلى أنّنا ذكرنا مراراً من أنّ الشهادة كانت مطلوبة للإمام، ومن ذهب إلى الجهاد طالباً للشهادة فهو مأجور، لكن ذلك لا يعني أن يقف طالب الشهادة في وسط الميدان وسيفه في غمده ويستفز الأعداء ـ بحسب قولكم ـ كي يأتوا إليه ويقتلونه.
لقد قال الإمام أيضاً: إنّ الموت بيد هؤلاء القوم شهادة، ويتعيّن على المؤمن أن يكون في هذه الأوضاع راغباً في لقاء الله، أي يجب أن يكون لقاء الله والاستشهاد في سبيله مطلوباً للمؤمن، فعلينا الصمود حتّى الموت وعدم مسايرة غايات بني أمية، فعاقبة هذا الصمود هو الموت، وهكذا موت فخر وعزّة.
هذا هو معنى هذه الجملة ونظائرها التي كما تدلّ على كون الشهادة مطلوبة للإمام كذلك تدلّ على العلم بوقوعها.
64 ـ في (ص160) شرع أيضاً بالمغالطة واستمر في ذلك إلى (ص162)، مما يغرق الإنسان حقاً في الحيرة أنّه من أين حصل له هذا النوع من التفكر وهكذا تفكير وتحقيق.
يقول: إنّ روح هذا التصوّر يكمن في أنّ الإمام قد طرح مشروعاً إلخ، لا أيّها السيّد العزيز! إنّ الإمام قد طرح مشروعاً الذي إنجازه بيده، مشروع يعلم أنّه سيُواجه بردّة فعل شديدة من قبل الحكومة، وسينعكس أثر ردة الفعل تلك على نفس بني أمية.
لقد كانت وظيفة الإمام النهضة ضدّ بني أمية وإنجاز مشروعه النهضوي مع علمه بأنّه سيقتل من قبل بني أمية، ويعلم بأنّه لو ألبست الحكومة اليزيدية لباس العمل والمشروعية في المجتمع الإسلامي وشخصية مثل الإمام وآخرين يمضون ذلك بسكوتهم أو بيعتهم فإنّ ذلك يكون بمثابة الطعنة لقلب الإسلام ونظامه، لذا يجب الانتفاضة والاعتراض وإيصال صوت الحق إلى الناس وإن حصل اليقين بأنّ الحكومة سترد بقوّة وتضع الجميع تحت وطأة السيف.
إنّ هذه النهضة نهضة لأجل القتل وانطلاقة من أجل الشهادة، لكن ليس بالمفهوم الذي تودّ تصويره، فهو قتل من أجل نجاة الإسلام، قتل لامتثال أمر الله، ليس قتلاً بمعنى أنّه إذا لزم يزيد وشمر وابن زياد بيوتهم ولم يتدخلوا في أمور المجتمع الإسلامي، فإنّ الإمام سيبعث وراءهم ويقول: تعالوا واقتلوني وأسروا زوجتى وأولادي لأنّي مصاب بهوس القتل!
لا يا سيّد، إنّك تفكر خطأ، وتتصوّر بنحو سيء، وتناقش يطريقة غير سليمة.
لقد كان مشروع الإمام هو النهضة، والمقاومة، ورفض البيعة، وإظهار المظلومية، وجلب الأهل والعيال إلى ساحة هذا الجهاد المقدّس، والشهادة. أمّا مشروع حكومة يزيد المانعة للحريات فهو الإرهاب، والإرعاب، والجريمة، والجهر بالسوء، وتجاهل الدين والقوانين الشرعية، والظلم، والقتل، والأسر، فلا ارتباط بين هذين المشروعين إلّا بالمواجهة والتصادم. لقد كان مشروع الإمام من أجل الدين، من أجل الإسلام، من أجل إحياء المجتمع، من أجل التعريف ببني أميّة، مثمراً.
إنّك بمغالطتك هذه كأنّك تقول: بما أنّ الغاية من إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية هو قطع العذر وإتمام الحجّة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) [143]، و(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ) [144]، فإنّه إذا رجع الكفار والمعاندون وآمنوا يقول الله لهم: لا ترجعوا وابقوا على كفركم؛ لأنّ الغرض هو إتمام الحجّة، وحتّى يكون هلاككم عن بيّنة، فإذا لم تهلكوا صار نقضاً لغرض الله.
أو أولئك الذين قال فيهم: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) [145]، أو يقول: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [146]، وإن عادوا إلى الحق يقال لهم: ابقوا على ما كنتم عليه حتّى يحصل غرضنا.
أنتم تقولون نظير هذا الكلام بالنسبة للإمام، بأنّه كان ساعياً للشهادة فلو أنّ شمراً وعمر بن سعد لم يسعيا في قتله لما أثمرت مساعي الإمام.
لا أيّها المؤلف، إنّ الإمام كان يعلم بقتله، ولم يسع لتحقق هلاك نفسه، بل دافع عن نفسه إلى آخر رمق من حياته. ولكن بقى صامداً ولم يستسلم ولم يبايع وقاوم حتّى مضى شهيداً.
لو أنّ بني أمية وجنودهم قللوا من ارتكاب تلك الجرائم، فمثلاً لم يأسروا أهل بيت الإمام أو أنّهم لم يقطعوا عنهم الماء، فمن المؤكّد أنّ ردّة فعل تلك المظالم كانت ستقل، ولكن مشروع الإمام لم يكن هو ارتكاب بني أمية تلك الأعمال غير الإنسانية، حتّى تقول: إنّ من نفذ مشروع الإمام هم بنو أمية.
لقد كان مشروع الإمام هو أنّه يعلم بأنّ بني أمية سيقتلونه، بل حتّى لو استسلم فإنّهم لن يدعوه حيّاً؛ لذا يجب أن ينتفض ويثبت ويستقم حتّى يقتل. وكما أيّد الشيخ المفيد رضوان الله تعالى عليه أيضاً، أنّ الله قد عبّد الإمام بالشهادة وأسرالأهل والعيال، فنفذ الإمام هذا التعبّد بالنسبة لأولاده وأهل بيته وأصحابه.
65 ـ تقول في (ص162) تحت عنوان (تأييد آخر):
س ـ إذا كان الإمام قد توجّه قاصداً القتل فلماذا أرسل مسلم إلى الكوفة؟
ج ـ لأجل إتمام الحجة والأمر بالمعروف والدعوة إلى النهضة وأخذ البيعة، فهل تقول: يجب على الإمام أن لا يقوم بوظائفه الملقاة على عاتقه التي هي من وظائف مقام الإمامة والتكاليف الإلهية ما دام قد تحرّك طلباً للشهادة؟!
س ـ هل كان يريد أن يدفع مسلم إلى القتل؟ وهل كان يريد ذلك أيضاً بقيس بن المسهّر؟
ج ـ إنّ ما قام به الإمام كان طبقاً لأمر الله وتكاليفه الشرعية، فهل يا ترى قد أراد النبي| في غزوة مؤتة دفع جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة للقتل، مع علمه بأنّهم سيقتلون؟
هل أوامر الجهاد وإن كانت بشكل عام تشمل المجاهدين الذين استشهدوا في سوح الجهاد أم لا؟ وهل الإرادة الواقعية لبعثهم نحو الجهاد حاصلة أم لا؟
لو قلتم: هم لم يكونوا مأمورين بالجهاد، والعمومات هي ضرباً للقاعدة والقانون، فماذا تفعلون بالآيات والروايات الدّالة على أنّ الأوامر تشملهم أيضاً حقيقة، وكيف تقولون: إنّ أمثال حمزة سيّد الشهداء وجعفر الطيّار لم يكونا ممتثلين للأمر الواقعي.
وإن قلتم: إنّ أوامر الجهاد تشملهم أيضاً، فبهذا المنطق الذي سلكته عليك القول: إنّ الله قد دفعهم إلى القتل، ونفس كلامك الذي قلته حول جملة «إنّ الله قد شاء...» كرره هنا أيضاً. بكل أسف أقول: إنّ هذا المنطق لا يختلف عن منطق معاوية في قضية قتل عمار رضي الله عنه.
هل الإمام لم يكن عالماً بأنّ الحرّ بعد التوبة والجهاد سيستشهد؟ إذن فقل: لماذا قبل توبته وأرسله إلى القتل؟
وقل: لماذا أذن لسائر الأصحاب بالجهاد وأرسلهم إلى القتل؟
لماذا لم يأمر العباس بقبول الأمان الذي عرض عليه، ودفع به إلى القتل؟
لماذا أذن للقاسم بن الحسن في الجهاد وهو لم يبلغ بعد، ودفع به إلى القتل؟ فما الإشكال لو وقع القاسم في الأسر؟
أليس هذا الأمر یعدّ مهمة إلهية غير عادية قد تعبّد الله بها الإمام بجميع جزئياتها؟
س ـ لماذا حينما ألقي القبض على مسلم طلب من ابن الأشعث وابن سعد أن يكتب رسالة إلى الإمام حتّى لا يقدم إلى الكوفة؟
ج ـ إنّ مسلماً نفذ المهمة الموكلة إليه من طرف الإمام، وعليه إرسال آخر تقرير للإمام عن أحواله وأوضاع الكوفة. وأمّا أنّه طلب كتابة كتاب للإمام يدعوه فيه إلى الانصراف عن القدوم إلى الكوفة، فهذا كان اقتراحاً طرح على الإمام منذ البداية، وما قاله مسلم في الكوفة قد قاله الآخرون في مكّة.
قال مسلم: أرسلوا شخصاً حتّى يقول للإمام: «إنَّ ابنَ عَقیلَ بَعَثَني إلیك وَهُوَ أسیرٌ فِی أیدِی القَوم لا یری أنَّه یمِسي حَتّی یقْتَل وهُوَ یقُولُ: ارْجَعِ فداك أبِي وأمّي بِأهلِ بَیتِك، ولا یغُرُّك أهلُ الکوفةِ فَإنَّهُم أصحابُ أبیك الَذِی کانَ یتمَنی فِراقَهُم بِالمَوتِ أوِ القَتْل، إنَّ أهَل الکوفَةِ قَد کذَبُوك ولَیسَ لِمَکذُوب رَأی»[147].
إنّ هذا الاقتراح هو نفس اقتراح ابن عباس ومحمّد بن الحنفية الذي عرضاه في مكّة ولم يُقبل. وهذا الكلام يوضح أنّ أهل الكوفة لم يكونوا أهلاً يمكن بمساندتهم إسقاط حكومة بني أمية الظالمة.
فی الواقع إنّ استقصاء مسلم للأوضاع ـ لو قلنا بأنّ ذهابه إلى الكوفة كان من أجل ذلك ـ يكون قد وصل إلى غايته، وصار معلوماً أنّه ليس هناك أيّ أرضية لتأسيس الحكومة الإسلامية، وما ورد في بيان مسلم يهدم كل مطالب كتاب الشهيد الخالد.
س ـ أولم يكن مسلم ـ الذي هو خزانة أسرار الإمام ـ مطّلعاً على أنّ الإمام قد خرج من أجل القتل؟
ج ـ قد كان مسلم خزانة أسرار الإمام، إلّا أنّه ربما لم تكن هناك مصلحة في اطلاعه على جميع الأسرار، وعلى النهاية المفجعة لمهمته. أولم يقل الإمام لعبد الله بن جعفر: إنّ رسول الله قد أمرني في المنام بأمر أنا ماض له، ولم أقله لأحد ولن أقوله[148].
إنّ هذا الأمر من وجهة نظرنا لم يكن متعلّقاً إلّا بتلك الأحداث المأساوية التي حدثت، والإمام من خلال تلك الرؤيا قد اطّلع على كل ما يجب العلم به. أضف إلى ذلك أنّ الإمام لو خرج قاصداً الكوفة وتأسيس الحكومة، ولم يكن قاصداً الشهادة، فلماذا إذن لم يتراجع حينما وصله خبر مسلم من رسول ابن سعد وابن الأشعث لما أخبراه بنبأ مقتل هاني وقيس؟ مع أنّ كافة طرق وأبواب مدينة الكوفة ومداخلها ومخارجها قد وقعت تحت أنظار الجنود ورقابتهم الشديدة، فلِمَ لم يتراجع حينما صار معلوماً أنّ الذهاب إلى الكوفة غير ممكن؟ إذن من الواضح أنّ الإمام لم يكن قاصداً الكوفة، وما كان توجّهه إليها بحسب الظاهر إلّا من باب إتمام الحجّة وقطع العذر، ولذا اتّخذ الطريق المشترك بين الكوفة وكربلاء.
24 ـ نهاية الأجوبة على القسم الأوّل والنتيجة
هنا نكون قد وصلنا إلى نهاية الأجوبة على القسم الأوّل، والنتيجة هي:
إنّ أعمال حكومة يزيد قد تمثّلت في فرض نفسها على المجتمع الإسلامي وانتهاك مقدّسات الإسلام وسحق التعاليم المتعالية ومدرسة التوحيد الإسلامية، وإخماد صوت دعاة الحريّة والشخصيات الوجيهة والمحبوبة، والعدوان على المدافع والحامي الوحيد للإسلام قائد الهداة ونور المؤمنين الإمام الحسين×.
أمّا أعمال الإمام التي كانت روحها التعبّد بالشهادة والاستجابة للأوامر الإلهية والامتثال والإخلاص في النية والتسليم في مقابل أوامر الله فهي عبارة عن عدم الاستسلام للحكومة، والامتناع عن البيعة، والإعلان عن عدم مشروعية الأوضاع السياسية والحكومية، والدعوة إلى النهضة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد، والإعلان عن الاستعداد للإمساك بزمام الأمور بمساعدة المسلمين إتماماً للحجّة، والسعي والمثابرة والتفاني وبذل النفس والنفيس في طريق حفظ الدين ونجاة الإسلام وإعلاء راية المظلومية، وجلب الأولاد والأحبة إلى ساحة الشهادة وتعريض الأهل والعيال للأسر.
لقد كان هذا هو خلاصة مشروع الإمام الذي تعجز ألفاظ وعبارات أمثالي عن وصفه، كما قام كل واحد من العلماء والعظماء والكتّاب بوصف هذه النهضة بألفاظ تشير إلى بعد من أبعادها[149].
لقد كانت كل خطوة في مشروع الإمام مدروسة بدقّة، وعلى أساس رؤية وعلم خاص، ووفقاً لأطر وتعاليم خاصّة التي عليها كل واحد من الأئمة في هداية الناس وحفظ الدين، ولم تكن محض صدفة واتفاق وحركة عمياء غير مدروسة (العياذ بالله) هي التي أوصلته إلى كربلاء وتحمّله لکل تلك المصائب المؤلمة. وتأسيس الحكومة الإسلامية لم يتنبأ به ضمن مشروع الإمام، ونهضة الإمام لم تكن من أجل ذلك.
وكيفما كان فإنّ ما قام به الإمام قد كان مخططاً له، ومجريات الأحداث ـ كما يظنها مؤلف الشهيد الخالد ـ لم تکن لتغيّر أيّ شيء في المشروع المعلوم للإمام، وبعبارة أخرى: لقد نفّذ الإمام مشروعاً بحيث تكون كل الوقائع والحوادث الطارئة لا تخرج عن دائرة رؤيته. اني
الفصل الثاني
إنّ خلاصة هذا القسم من كتاب الشهيد الخالد تتمثل في أنّ نهضة الإمام قد بدأت إثر مصادرة الحكومة لحريته، ورفض الإمام للبيعة، فنهض ليدافع عن نفسه، فلجأ الإمام إلى مكة حتّى تهيأت أرضية النهضة على الحكومة، وتوفرت ظروف تأسيس الحكومة الإسلامية بمساعدة أهل الكوفة.
توجّه الإمام نحو الكوفة ولما انقلبت الأمور وتبيّن جوهر أهلها، فارتأى الإمام التسوية والصلح، واقترح عدم منعه من العودة إلى أن أوصل مباحثات الصلح معهم بأن اقترح السماح له إمّا بالعودة أو الذهاب إلى إحدى الثغور أو أن يذهب شخصياً للشام عند يزيد ومبايعته (العياذ بالله). إلّا أنّهم لم يقبلوا بهذه الاقتراحات، وطلبوا من الإمام التسليم غير المشروط إلى أمر ابن زياد، لكن الإمام لم يقبل بهكذا استسلام حتّى استشهد الأهل والأصحاب، وفي النهاية قتلوا الإمام بطريقة مفجعة، والإقدام التاريخي للإمام ونهضته لأجل تأسيس الحكومة ـ على قول مؤلف الشهيد الخالد ـ لم تصل إلى المقصد، وحرم الإسلام والمسلمين منها، وإن كانت النهضة قد بدأت اتكاء على الظروف المساعدة لتأسيس الحكومة الإسلامية، إلّا أنّ هناك أحداثاً ووقائع غير مرتقبة وغير متوقعة (ولم يُعلم ما هي) قد حالت دون ذلك، فكانت النتيجة القهرية لهذه النهضة هي استشهاد سادات أهل البيت وعلى رأسهم الإمام، وكبّد الإسلام بذلك خسارة عظمى.
يسعى المؤلف في هذا القسم إلى تبرئة الإمام في محاكمة التاريخ ـ طبقاً لرأيه طبعاً ـ، والردّ على كلام المعترضين، إلّا أنّ منطقه في هذا القسم ضعيف للغاية لدرجة أنّ كلامه يؤيّد ما ذهب إليه المعترضون.
نحن نقول: إنّ نهضة الإمام لم تكن نهضة سياسية باصطلاحنا الحاضر، أي لم يكن هدفها تشكيل الحكومة، وإرضاء الرغبات النفسية والمصالح الشخصية. لقد كانت نهضة الإمام نهضة إلهية ودينية، كما أنّه لم يكن الغرض منها تأسيس الحكومة الإسلامية.
إنّ المحرّك والمجوّز لهذا النوع من الثورات دفاعية كانت أم ابتدائية سيكون داع إلهي، فتارة تقام في حال توفر الظروف المادية والعسكرية وتارة من دون قوّة مادية وعسكرية، والهدف من النهضة من الممكن أن يكون تأسيس حكومة الحق والعدل، كما أنّه من الممكن أن يكون هداية المجتمع والأمر بالمعروف وشجب الباطل أو إتمام الحجة أو الابتلاء والامتحان.
إنّ الله أرسل أنبياءه للدعوة لكنهم قد قتلوا في نهاية الأمر، ومع ذلك قاموا بثورات ابتدائية رغم علمهم بأنّهم سيقتلون. ولا يحق لأحد أن يدين ثوراتهم ضدّ الكفر والشرك والظلم والاستغلال، أو يعتبرها غير مثمرة وعديمة الفائدة.
لقد خيّر أصحاب الأخدود المؤمنين بين الرجوع إلى الكفر أو الإحراق بالنار، لكنهم اختاروا الحرق بالنار وصمدوا حتّى احترقوا. فأنبياء الله وأولياؤه هم منفذو المشيّة والسنن الإلهية، ونحن لسنا مجبرين على تبرير أفعالهم وأعمالهم و إسنادها في أيّ موضوع إلى العلل الظاهرية والعادية. كما أنّنا لسنا ملزمين فيما يتعلق بنهضة الإمام أن نعتقد أنّها كانت من أجل تأسيس الحكومة الإسلامية، وأن نغض الطرف عن باقي العلل والأهداف الراقية والمعقولة.
2 ـ النهضة الابتدائية، النهضة الدفاعية
66 ـ قسم في (ص166) الثورة المسلحة إلى قسمين: ثورة ابتدائية وثورة دفاعية، واعتبر أنّ جواز الثورة الابتدائية متوقف على توفر القدرة المادية والعسكرية، ومع عدم توفر الشرط تكون الثورة الابتدائية غير جائزة، بل عدّها غير جائزة حتّى مع وجود القدرة، إلّا أن يكون لها هدف مثل هدف الأنبياء والأولياء.
أوّلاً: لم تكن نهضة الإمام من أجل تشكيل الحكومة، وهذا القسم من الكتاب سينتفي تلقائياً بعد مراجعة مقدّمة هذا الانتقاد والجواب على القسم الأوّل منه، ولم يبق له موضوع؛ لأنّه من المعلوم أنّ نهضة الإمام سواء أطلقنا عليها وصف المسلحة أم غير المسلحة لم تكن من أجل تشكيل الحكومة، كما أنّه لم تتوفر ظروف النهضة المسلحة بهدف تشكيل الحكومة.
ثانياً: يجب أن تتحقق كل نهضة مسلحة أو غير مسلحة في ظروف يكون الهدف فيها أو الجهة التي يدافع عنها ـ ابتدائية كانت أو دفاعية ـ ممکن التحقق عقلاً وعادة، سواء كان الهدف منها تشكيل الحكومة، أو إظهار الاستياء ورفع التوهم ودفع تهمة التعاون مع الحكومة والمسؤولية المشتركة، أو الدعوة من أجل النضال السلبي، أو إتمام الحجة، أو حفظ أيّ مصلحة ودفع أيّ مفسدة. كما يجب أن تكون الوسائل اللازمة للنهضة تحت تصرّف القائم عليها، إلاّ أنّه لا يلزم أن تتوقف كل نهضة على أسلحة ومعدّات حربية، بل لا يلزم ذلك حتّى في النهضة من أجل تشكيل الحكومة.
ومؤلف الشهيد الخالد لأنّه افترض أنّ نهضة الإمام كانت نهضة مسلحة ومن أجل تأسيس الحكومة؛ لذا يقول: يجب أن لا تكون النهضة ضعيفة من الناحية المادية والعسكرية، والنهضة الابتدائية فلا يجوّزها كلياً إلّا إذا كان هدفها مثل هدف الأنبياء والأولياء.
ولكن لا يقول: لمّا النهضة الابتدائية التي هي غير جائزة للغير مع توفر القدرة العسكرية، هي جائزة للذي هدفه هدف الأنبياء والأولياء.
لماذا لا تكون النهضة جائزة مع عدم إمكان الانتصار العسكري حينما تكون من أجل أهداف قيّمة ومصالح عالية أخرى، لمن كان عمله عمل الأنبياء والأولياء وهو ولي الله؟ فهل كان لسيّدنا إبراهيم× أسلحة ومعدّات؟ وهل الأنبياء الذين لم تقبل دعوتهم وكذّبوا من قبل قومهم واستشهدوا وكانت نهضتهم بأمر النبوة ومن أجل ردّ العقائد الباطلة والمشاريع الضالة متكأة على الوسائل المادية وتوفر الظروف المناسبة للانتصار الظاهري؟
وخلاصة الكلام أنّ النهضة إذا كانت من أجل تأسيس الحكومة فهي تكون منطقية ومعقولة فيما إذا كانت وسائلها مهما كانت أسلحة وتجهيزات أو كفاحاً سلبياً تحت تصرّف القائم بها، وإذا كانت من أجل أهداف أخرى فيجب طرح مشروع النهضة بطريقة يمكن الوصول إلى الهدف عقلاً وعادة، وهنا الانتصار العسكري غير مطروح، فمن المحتمل في المشروع شهادة الشخص الثائر وأصحابه.
لقد أُمّن هذا الأمر في نهضة الإمام الحسين× تأميناً كاملاً، لقد كان المشروع مشروعاً يأمّن جميع الأهداف السامية للإمام، فإنّه يدين الحكومة اليزيدية، ويعلن التعامل معها أمر محرم، ويسلب اعتبار شخص خليفة شرعاً وحاكماً قانوناً التي تكون حكومته واجبة الإطاعة، ويلفت نظر المسلمين إلى التكاليف الخطيرة التى بموجبها يحفظ الإسلام ونظامه.
إنّ شهادة الإمام وكل ما قام به، بالنظر لوضع الأعداء وقدرتهم وقساوة قلوبهم وجهات أخرى كان متوقعاً في هذا المشروع، وكان معلوماً أنّ تنفيذ هذا المشروع دون تتويجه بالشهادة أمر غير ممكن، لذا تعيّن على الإمام الاستعداد للشهادة منذ الخطوة الأولى، وألّا يكون عنده هلع واضطراب عند تنفيذه هذا المشروع الذي سينتهي بشهادته، والسير بإرادة وعزم قاطع نحو الهدف.
ثالثاً: ما كتبه من أنّ هكذا ثورات لا يمكن أن تقوم بأيّ إصلاح، ويصير كذا وكذا. إنّما تكون صحيحة متى ما كان هدفها الانتصار العسكري وتأسيس الحكومة، وعليه وطبقاً لهذا الرأي المرفوض لكاتب الشهيد الخالد فإنّ ثورة الإمام قد فشلت ولم تصل إلى هدفها، ولم يتحقق أيّ إصلاح بها (العياذ بالله)، وكل ما نتج عنها إنّما كان قهرياً غير اختياري.
أمّا إذا لم يكن هدف النهضة تأسيس الحكومة والانتصار العسكري، وكان من ورائها أهداف أخرى، فلماذا لم تتحقق تلك الأهداف؟ لماذا لم تصبح تلك الثورات منشأ للإصلاحات؟
أيّ نهضة أصبحت منشأ للإصلاحات الاجتماعية والفكرية والأخلاقية والسياسية كنهضة الإمام الحسين×؟
أنتم ترون أنّ الثورة المثمرة فقط الثورة المسلحة من أجل تأسيس الحكومة، وتظنون أنّه لا يحق لمن لم يكن عسكرياً أو لا يحمل سلاحاً أن يثور، وتصوّرون نهضة الإمام بهذا الشكل أيضاً، ولكي لا تقعوا في إشكال أنّ انعدام توازن القوى العسكرية قد جعل هذه الثورة في غير محلّها وإلقاءً للنفس في التهلكة، رحت تسوق كل تلك المقدّمات وتخلط الكلام صحيحه بسقيمه، حتّى تثبت من خلال طرح مسألة توازن القوى ما تقوله بتهيؤ الظروف ومساعدتها على نهضة الإمام، ولكي لا يقول أحد ما هي المصلحة في الثورة الابتدائية قلت: إذا كان الهدف هدف الأنبياء والأولياء فهي جائزة.
إنّ من يعترض علىكم في هذا الطرح يقول أو فقل: إنّ نهضة الإمام لم تكن لتأسيس الحكومة، وإذا تقول: إنّها لأجل الحكومة، فلا يقبل كلام أنّ القوى كانت متوازنة، والإشكالات التي أوردتموها على الثورة المسلحة مع عدم القدرة العسكرية، من قبيل إلقاء النفس في التهلكة وفشلها ومسؤولية الهزيمة وسفك الدماء سترد جميعها على هذا الطرح. ولكن لو اعتبرتم هذه النهضة كما هي بل وأقدس مما يجول في خاطركم ـ كما أشرنا إلى ذلك أكثر من مرّة ـ ما كنتم لتنحرفوا عن الصواب، ولأمكنكم التعرّف أيضاً على الحقيقة المنطقية والمعقولة لها في أعلى درجاتها، وما كان ليرد عليكم أيضاً إشكال إلقاء النفس في التهلكة وهزيمة الثورة؛ وذلك لأنّ إلقاء النفوس الغالية في المخاطر لأجل الأهداف الرفيعة والمصالح الأهم ليس بالأمر المذموم أبداً، والعقل والشرع والفطرة الإنسانية السليمة تجوّزه وتستحسنه.
فمثلاً لو أنّ أمّة بدأت بمثل هذا الجهاد حتّى تنال حريتها وتقطع أيدي المستعمرين، ودخل أفرادها الفدائيين ميدان الجهاد والمقاومة مع علمهم المسبق بالقتل والأسر وشتّى أنواع العذاب، فعلى فرض أنّها ستنال حريتها بعد نصف قرن، لا يعدّ هذا من ناحية المنطق العقلي والعرفي إلقاء للنفس في التهلكة وخسراناً وضلالاً، بل هو بيع للنفس بأغلى الثمن.
في مقام الحفاظ على المصالح الدينية والإسلامية الحقيقية، والتى هي أغلى من الأموال والأنفس، لا بدّ من التضحية بكل شيء، بل تصبح في بعض الأحيان هكذا تضحيات واجبة من أجل حفظ الدين وبقاء الشريعة ودفع كيد المعاندين، وعدم القيام بهذا الأمر سيؤدي إلى ضياع المصالح السامية (ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ)[150].
67 ـ في (ص170) إنّ ما كتبه تحت عنوان (عرض خاطئ) غير صحيح.
فإنّ واقعة كربلاء الفجيعة لم يتسبب بها الإمام، ولا أنّها كانت هدفاً له، ولا أنّ ثورته تتلخص في تلك الحرب ذات السويعات القليلة والمنازلة العسكرية لنصف نهار، ولا أنّ ثمرة تلك الحرب كانت مقتل الإمام وأصحابه، ولا أنّه سعى لإيجاد تلك الحرب.
إنّ حادثة كربلاء الفجيعة كانت متوقعة ضمن خطة الإمام، وكان الإمام يعلم وبدقة مهامه ووظائفه في قبال جرائم العدو، ومن أوجد تلك الحادثة الدامية هم بنو أمية ومعاوية وكل من كان يؤيّد حكومة يزيد، وهم من قتلوا الإمام ومنعوا الماء عنه وعن نسائه وأطفاله. الإمام لم يرم بسهم على نفسه ولم يسل سيفاً في وجه أبنائه وأصحابه، فهم من قتلوا علي الأكبر، وجيش الكوفة قتلوا العباس، فكيف تقولون: إنّ الكثير يعتقدون أنّ الإمام هو الذي هيّأ الأسباب لمقتله هو وأصحابه، فماذا تعنون بهذا؟ وكيف تتهمون؟ وكيف تنسبون هذا الزلل إلى أولئك المخلصين المحبين للإمام.
لا، الأمر ليس كذلك، فأنتم من يبثّ هذه الأفكار الخاطئة، والآخرون يقولون: إنّ الإمام صمد وقاوم ولم يستسلم ولم يبايع ولم يتحمل الخزي، فقد دافع عن الإسلام حتّى استشهد وسبي أهل بيته.
إنّ حصيلة عدوان الجيش الأموي هي قتل الإمام وسبي عيال الرسالة، وثمرة نهضة الإمام هي استشهاده والإعلان عن خطر الحكومة اليزيدية، وعدم أهليتها لتسلّم خلافة المسلمين، ودروس للاعتبار وأهداف سامية أخرى. فالإمام ومن أجل منع الحرب وسفك الدماء بذل قصارى جهده وعرّف عن نفسه إتماماً للحجة.
إنّ منزلة الإمام أعلى وأشرف من أن يقبل باقتراح الصلح الذي قبلتموه، والذي هو من وجهة نظرنا وكل شريف حقيقته طلب للعفو والمذلة. فأين الإمام وأين الذهاب إلى يزيد ووضع يده بيده والبيعة معه؟!
68 ـ بالنسبة إلى ما كتبه حول تصوّر صحيح في (ص171) فإنّه غير صحيح أيضاً، وذلك نظراً إلى أنّ الإمام كان متوقعاً لشهادته وعالماً بها، وأنّ فكرة تأسيس الحكومة لم تكن جزءاً من مشروع عمل الإمام، فبالتالي سيكون كل ما كتبه في دائرة هذه المراحل الأربعة بلا أساس وكالنقش على الماء، وكل هذا الشرح والبسط الذي قدّمه في هذا الفصل فإنّ جوابه يختم بهذه الجملة. ومع ذلك لأنّنا نريد أن نمضي في النقاش مع الكاتب إلى آخر الكتاب رغم أنّ الأجوبة الآتية على مطالبه أكثرها فرعية وجزئية، ولكن لأنّه يوضّح عدم استقامة طرح هذا الكاتب نستمر في الكلام.
ونستعرض هنا ما جاء في كلامكم في المرحلة الثانية بأنّه لما صارت القوّة وظروف النصر مواتية، حينها برز مشروع الخروج وفكرة تشكيل الحكومة، ماذا تقصدون بهذا الكلام؟
فإذا كان تهيئة القوّة هو نفس دعوة أهل الكوفة ورسائلهم ورسلهم، فهذا لا يحتاج إلى دراسة؛ لأنّ الإمام والآخرين كانوا يعلمون جميعاً أنّ أهل الكوفة سوف يطلبون هذا الأمر، حيث إنّهم قد طلبوه في السابق أيضاً في زمن معاوية، فكيف عرضت فكرة تشكيل الحكومة في مكة، وفي المدينة كانت الفكرة تحتاج إلى دراسة؟
إذا كان الإمام معتمداً على وعود الناس ودعواتهم، فهذه الوعود كانت في المدينة أيضاً، وإذا لم تكن هذه الوعود والدعوات مهيّئة لأرضية تأسيس الحكومة الإسلامية كما كان يتوقعه الجميع، فكما لم تكن في المدينة لم تكن في مكة أيضاً.
69 ـ في (ص173) إنّ ما كتبه تحت عنوان دليل عقلي، من أنّ علم الإمام وبصيرته واطّلاعه بالنسبة للأوضاع والأحوال السياسية والاجتماعية كان أكثر من هذا، وحتّى طبقاً للمجاري العادية فإنّ معلوماته كانت أكثر اتّساعاً من الآخرين، ولكن استنتاجه لم يكن صحيحاً؛ لأنّه يقول: من المستبعد على الإمام بما لديه من عقل ودراية أن يقدم في المرحلة الأولى والثالثة مع عدم القوّة الكافية على ثورة ابتدائية تكون نهايتها انكساراً مريراً.
ونحن نقول كذلك أيضاً، إنّه في كل المراحل الثلاث بالنسبة لاطلاع وعلم الإمام على الأوضاع كان من المستبعد أن يتصوّر أنّ الظروف في المرحلة الأولى والثانية والثالثة مساعدة للثورة الابتدائية لتأسيس الحكومة؛ لأنّ الظروف لم تكن مساعدة، والثورة لم تكن عاقبتها إلّا الهزيمة، ولكن لاعتمادك على الفروض الثلاثة الباطلة:
1 ـ إنّ الإمام لم يكن مطلعاً على عاقبة هذه النهضة.
2 ـ إنّ النهضة كانت من أجل تأسيس الحكومة.
3 ـ إنّ الأوضاع كانت مساعدة للنهوض مع وجود توازن في القوى.
وتفرض أنّ وضع الإمام في مكة قد تغيّر عن وضعه في المدينة، وأنّ الرسائل والدعوات الكاذبة من أهل الكوفة (إلّا القليل) التي بدأت في مكة هي التي كانت نقطة تحوّل وتغيير في هذا الوضع، ولا تعلمون أنّ هذا الأمر ليس بالجديد وأنّ وصول تلك الرسائل كان متوقعاً في المدينة.
وتقولون: إنّ النهضة في المرحلة الأولى والثالثة لم تكن ابتدائية؛ لأنّه لم تكن عقلائية، وفي المرحلة الثانية حيث إنّ الأجواء صارت مساعدة فأصبحت عقلائية، لقد جعلت نطاق الكلام يطول بسبب اشتباهاتك هذه والتي قد بيّنا بطلانهاً مكرراً.
وللإيضاح نقول: إنّه لو فرض أنّ مشروعية الثورة وعدم البيعة مشروطة بعدم الخطر على نفس الإمام كما تفرضون وتقولون: في نهاية المطاف لكي لا يقتل اقترح عليهم أن يسمحوا له بالذهاب إلى الشام ليبايع يزيد. ففي هذه الصورة الثورة من دون تجهيزات عسكرية أمر غير عقلائي سواء كان في المرحلة الأولى أو الثانية أو الثالثة، ومن المعلوم أنّ هكذا شخص لم يكن ممتنعاً عن البيعة بشكل مطلق وثابت ونهائي ولم يصمد إلى حدّ التضحية بالنفس.
ولكن الحقيقة ليست هذه، بل الحقيقة هي أنّ الإمام أراد أن لا يبايع يزيد، فقد كان عالماً بتكليفه بعدم السلام عليه كأمير وخليفة للمؤمنين ولو من باب التقية، ويبيّن خطورة الأمر، ويعلن (بالطرق المتعارفة) في ذلك الزمان أنّ خلافته فاقدة للشرعية، ومن أجل هذا نهض، وصمد على هذا الموقف بما له من عواقب وخيمة ولم يبايع، سواء دعاه أهل الكوفة أم لا.
إنّ الإمام كان يعلم أنّه لو بايع وبحسب قول الشهيد الخالد أراد بالمهادنة أن يحدّ من جرائمهم، سيخسر بتأييده لحكومة يزيد أكثر بآلاف المرات مما سيجنيه من بيعته، أضف إلى أنّ حكومة معاوية أظهرت أنّ جرائم بني أمية وظلمهم لا تنتهي بمجرد المهادنة. وزمن أمير المؤمنين× بعد وفاة النبي| وصلح الإمام الحسن× مختلف تماماً عن هذا الزمن، ووجوه افتراقه كثيرة جدّاً، وأحد الأسباب التي من أجلها لم يثر أمير المؤمنين× على الخلفاء وخصوصاً في بداية الأمر هو ذلك الخطر الذي كان يهدد بيضة الإسلام والتوحيد، ولو ثار لنشب حرب داخلية في ذلك الوقت، وارتدت أكثر القبائل، ولكان الوضع مختلفاً تماماً. وكذلك أحد أسباب صلح الإمام الحسن× هو أنّه مع سيطرة معاوية وما حصل من أوضاع وأحوال، لو أنّ الحرب فرضاً استمرت فسيكون القتلى عشرات الآلاف من الأفراد والجند المسلح، وفي النهاية ستلحق الهزيمة بجيش الإمام من دون الحصول على أيّ ردة فعل لصالح لأهل الحق، وسينتهي الموضوع ويصبح منسياً كسائر الحوادث التاريخية.
بينما الأمر في عصر الإمام الحسين× وحكومة يزيد لم يكن هناك أيّ من هذه الموانع يقف بوجه الثورة، ورفض بيعة الإمام ليزيد لم يستلزم تلك المحذورات، وأنّهم كلّما ضيقوا الخناق على الناس كلّما انعكس الأمر لصالح النهضة وتعاطفت معها القلوب بنحو أكثر إيجابية، لا أن نقول: إنّ الإمام يهلك نفسه حتّى يحدث ردّة فعل مساعدة على استمالة القلوب للوصول إلى أهدافه، وأخرى مخالفة لبرامج يزيد. إنّما غرض الإمام كان العمل بدقة مع دراسة جميع الجوانب، وكان يعلم أنّه يحسب لعمله حسابٌ، وأنّ مشروعه هذا سيكون له آثار جيدة ونتائج مشرقة.
70 ـ إنّ ما كتبه في (ص180) من أنّ الإمام ما دام قادراً على الدفاع فإنّه لم يكن بإمكانه العمل خلافاً لعقيدته ولما هو الواقع ويعطي المشروعية لحكومة يزيد ويستسلم له بلا قيد أو شرط، ما يعني أنّه لو لم يكن الإمام قادراً على الدفاع، ويعلم بعاقبة الأمور، لكان قد أعطى المشروعية لحكومة يزيد الغاصبة والمعارضة للإسلام وقبل بها خلافاً لعقيدته والواقع.
وهذا الكلام غير صحيح أيضاً؛ لأنّ كل شخص يقرأ التاريخ يعلم أنّ الإمام كان مصمماً على رفض بيعة يزيد تحت أيّ شرط كان، وأن لا يوافق على سقوط الدولة والمجتمع الإسلامي. وهذا الزمان يختلف عن زمان معاوية، فمعاوية حتّى وإن كان أسوء من يزيد إلّا أنّ يزيداً أشد من أبيه بالرذائل وشهرته بالفسق والفجور وملاعبة القرود والكلاب واللهو والغناء.
لقد كانت شهرة يزيد بارتكاب المعاصى معروفة لدى الخاص والعام، وبيعته بمثابة الوداع مع الإسلام، كما جاء في الرواية أنّه قال: «وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمّة براع مثل يزيد»، فيزيد لم يكن يملك أيّ أهلية لأدنى شيء؛ لذلك قرر الإمام عدم مبايعته، وبالفعل لم يبايعه، ولم يكن في الحسبان أمر القدرة الدفاعية والعسكرية وإمكان تأسيس الحكومة.
وكما عبرتم بأنّ دين وشرف الإمام ومسؤوليته لا تجيز له تأييد حكومة يزيد، ويجب أن تضيف أيضاً: وإن كان ثمن ذلك نفسه الطاهرة وإن لم يكن له ناصر ولا معين.
فلو بايع الإمام ما كان ليفرق في تفكير العوام من الناس، سواء كان هناك قوّة عسكرية أو لم يكن، وفي كلا الصورتين الأفكار الضالة وضدّ الإسلام ويزيد يباشر باطمينان بمحو الإسلام.
وبحسب فرضكم أنّ هذا الفرق كان موجوداً وهو أنّه لو هادن منذ البداية وغض النظر عن هذا الاحتمال الضعيف وهو تهيئة القوّة العسكرية؛ لكان يزيد ممتنّاً له، ولكان من الممكن أن يقبل ببعض وصايا وإرشادات الإمام (وإن كان هذا احتمال غير مطروح بحسب اعتقادنا)، لكن المهادنة اللاحقة التي اقترحها الإمام ـ بحسب قولكم ـ كانت مشوبة بالذل ولا تليق بشأن الإمام.
وعليه فما هو مسلّم أنّ الإمام في امتناعه عن البيعة لم يكن له أيّ شرط، ولم يخطر بباله إطلاقاً المهادنة مع يزيد، وبقي ثابتاً على هذا الرأي، ولم يكن أبداً ليبايع ويذل نفسه من أجل الحفاظ على روحه، ويغض الطرف عن دين الله معطياً المشروعية لحكومة يزيد.
71 ـ في (ص182) وبتنمق زائد كتب شرحاً يعود لهجرة الإمام، مفاده أنّ الإمام اتخذ طريق الهجرة إلى مكة لأنّه كان يريد أن يجد طريقاً للفرار من الفتنة التي ابتلي بها، حتّى يكون هناك في مأمن من الخطر، وليمنع وقوع الفتنة وسفك الدماء، وليراقب الأوضاع أيضاً.
إنّ هذا الأمر لم يكن يشغل فكر الإمام بهذا المقدار، وقد كان طريق انتخبه عبد الله ابن الزبير قبل الإمام.
72 ـ في (ص184) يكتب: هل يمكن اتّباع خطة عمياء وغير منظمة، وخالية من التخطيط الصحيح والتدبير الدقيق، والإقدام على إجراء يؤدّي إلى الندامة.
إنّه من الصحيح أنّ الإمام لم يكن ليذهب طريقاً بصورة عمياء أو يقدم على إجراء يندم عليه، فالأعمى هو من لم ير الخطة الحقيقية للإمام، ويرسم خطة للإمام في الأمر الواقع.
إنّ خطة الإمام لم تكن مبهمة ولا مربكة، وإنّما ما خططتموه للإمام مبهم، وبرأي سياسيي العصر أيضاً هي محبطة للآمال وباعثة على الندامة.
لأنّه وبحسب فرضكم أنّ الإمام حينما قدّم الاقتراحات الثلاثة والتي من بينها البيعة ليزيد، وبعدما خاب أمله في تشكيل الحكومة الإسلامية التي كانت هدفه، لا جرم أصبح نادماً من هذه الثورة وهذا الإقدام (العياذ بالله)، وأنتم كذلك لابدّ لكم في هذا الفرض أن تندموا وتعتذروا، وتقولوا: ليت الإمام لم يمتنع عن البيعة، ولم يفكر في تشكيل الحكومة، وليتهم أخذوا منه البيعة تحت بريق السيوف في المدينة، وعلى الأقل تقولوا: ليتهم قبلوا اقتراحه حتّى يذهب إلى يزيد ويبايعه ولم تقع هذه الحادثة الفجيعة.
ولكن بناءً على ما علل به الآخرون أسباب شهادة الإمام، فإنّنا لا نستطيع أبداً قول هذا الكلام، لا نستطيع أن نقول: ليت الإمام بايع يزيد، ليته استسلم، ليته اقترح البيعة وقُبل اقتراحه؛ لأنّ هذه البيعة وهذا الاستسلام يتنافى مع مقام الإمام، والإمام لم يندم على فعله أبداً، ونحن أيضاً لسنا منزعجين من فعل الإمام وثباته ومقاومته بل نفتخر، وإن كنّا ننتقد في مجالس العزاء ظلم بني أمية وجورهم، ونقيم العزاء على المصائب التي لحقت بأهل البيت^ من قبل هؤلاء الأشقياء.
فلو اقترح الإمام البيعة وقُبل منه وذهب إلى يزيد و(العياذ بالله) طلب منه العفو؛ لسحق الإسلام والشريعة شريعة يزيدية والدين دين أبي سفيان، ولسلبت كل بركات هذه الأمّة، ولم يكن اليوم كربلاء ولا سيّد الشهداء ولا أبي أحرار ولا هذا الإسلام المحفوظ بالنهج الحسيني ولا قصيدة الفرزدق ولا قصيدة دعبل والكميت ولا آلاف الكتب ولا كل هذه المشاعر الجياشة.
ولو صار هذا الطرح الذي تقوله عملياً، وإن بقي الإمام على قيد الحياة، إلّا أنّه يدفن كل فضائل ومفاخر سلالة أهل البيت^ في الشام، ولعاد إلى المدينة خالي اليدين.
73 ـ في (ص185) يكتب أنّ أوّل ما قام به الإمام لأجل الدفاع هو خروجه مع عائلته وأقربائه إلخ.
هنا يمكن أن یسأل هذا المؤلف، لماذا أخذ معه أهل بيته وعياله وأقربائه، علماً أنّ خطر المواجهة مع القوات العسكرية للحكومة من أجل إعادتهم إلى المدينة كان مطروحاً، مع أنّهم كانوا مرتاحين في المدينة ولم يكن أحد يعترضهم؟
لو لم يكن «إنّ الله شاء أن يراهن سبايا» فما السبب إذن ليأخذ النساء والأطفال معه؟ من يتلُ حين خروجه آية (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)[151]لماذا يشرك النساء والأطفال في هذا الخوف والقلقوالاضطراب؟ أيّ شيء يمكن أن يكون سبباً لهذا التصرّف غير الأمر الإلهي ومقتضيات المشروع المكلّف بإنجازه؟
74 ـ في (ص187) يقول: وعليه إذا كانت حكومة يزيد عائقاً إلخ.
نقول: إنّ الأوضاع لم تكن بحاجة للتحقيق والتحليل من قبل شخصية كشخصية الإمام الحسين×، ومن المعلوم لأيّ شخص أنّه كان من المستبعد توفير قوّة عسكرية معتد بها تكون قادرة على ضرب قوّة الحكومة. إنّ الشيء الذي كان هو أنّ الإمام وسائر القادة والكبار وقعوا في محذور شرعي وأخلاقي وعرفي كبير لا يجوز لهم ولا يليق بهم ارتكابه فما بالك بالإمام، وهو بيعة وتأييد خلافة يزيد.
إذ قد لاحظ الإمام أنّه لا يستطيع أن يبايع يزيد من جهة، كما رأى من جهة أخرى أنّه لا تتهيأ القدرة العسكرية الكافية لكي يهزم قوّة الحكومة المخالفة للإسلام؛ وعليه يكون مضطراً على اختيار رفض البيعة وعدم الاستسلام، وتحمّل كل تبعاته الخطرة وعواقبه المؤلمة.
أمّا أنّكم تقولون: ما هو المشروع الذي كان سيقوم به الإمام لو أنّ حكومة يزيد لم تعتد عليه؟
فالجواب هو[152]: أنّ حكومة يزيد كانت حكومة عدوانية، أي أنّ طبيعتها طبيعة عدوانية؛ لأنّ العدوان غير منحصر في طلب البيعة والانتخاب وأخذ الرأي بشكل صوري ترغيباً وترهيباً.
إنّ حكومة يزيد اعتدت على كل الحريات الإسلامية، والحريات الفكرية والفردية والاجتماعية، إذ قد سلبت الحق المسلّم لكل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد كان التضييق والمنع في كل مكان، وكان مقربو الحكومة ومشاوروها من الغرباء والمسيحيين.
لذلك على فرض أنّه لم يطلب من الإمام البيعة، فإنّه ما كان ليتورّع عن تضييق الخناق عليه كما هو ديدن تلك الحكومات؛ وعليه فإنّه من حق الإمام وكل مسلم أن يثور من أجل الدفاع عن حقه وعن كافة المسلمين في فك الخناق واسترجاع الحريات المسلوبة، وأن يدفع عدوان الحكومة اليزيدية.
وعليه إذا درسنا نهضة الإمام في أيّ ظرف سنجدها دفاعية، بل لن يتحقق مصداق للنهضة الابتدائية إلّا عند طالبي الرئاسة والسلطة. نعم، إنّ شدّة العدوان واقتراب الخطر كان سبباً بحسب الظاهر في هجرة الإمام من المدينة إلى مكة.
75 ـ لم يكن هناك داع لكتابة ما ورد في (ص 188 إلى ص191)؛ لأنّه كان معلوماً أنّ الإمام على الظاهر قد هاجر إلى مكة دفعاً للخطر الذي كان يحدق به في المدينة.
اعتماد مؤلف الشهيد الخالد على تاريخ ابن أعثم
76 ـ في (ص188 وص189) استند على خطاب سليمان بن صرد الذي رواه مقتل الخوارزمي (ج1، ص193) عن تاريخ ابن الأعثم، وابن أعثم الذي هو وكتابه كانا غير معتبرين عند مؤلف الشهيد الخالد صارا معتبرين، وصار لنقل مقتل الخوارزمي عن ابن أعثم كلّ هذه الضجة، حتّى أصبح من الأدلة المحكمة للمرحلة الأولى، وتتحدث عنه وكأنّه مؤتمر هام جداً ويبين رجالات السياسة.
إنّ هذا الخطاب قد نقله مقتل الخوارزمي عن ابن أعثم وهو موجود أيضاً في (ص349) من ترجمة تاريخ ابن أعثم، وبناءً على حدس مؤلف الشهيد الخالد فإنّ (مثير الأحزان) أيضاً قد أخذه عن ابن أعثم. نحن لا نتكلّم في اعتبار هذا الخطاب ولا في نصّه، غير أنّنا نريد فقط أن نسأل مؤلف الشهيد الخالد كيف أسقطت الاعتبار عن ابن أعثم وتاريخه في موضوع رؤيا الإمام، إلّا أنّك استند إليه هنا ومن دون أن تذكر أنّه نقل لابن أعثم؟! وهذا أيضاً نموذج آخر من تحقيقاتك العميقة.
الاعتماد مرّة أخرى على تاريخ ابن أعثم
77 ـ في (ص190) استند على ما رواه مقتل الخوارزمي (ج1، ص191) عن ابن أعثم حول ما قاله الإمام في جواب ابن عباس، وقد اعترف للمرّة الثانية في هاتين الصفحتين (ص189وص190) باعتبار تاريخ ابن أعثم.
هذا الكلام موجود في (ص347 من ترجمة تاريخ ابن أعثم، وقد نقله الخوارزمي في (ص190) بهذه العبارة (قال الإمام أحمد بن أعثم الكوفي) التي كانت أمام عين مؤلف الشهيد الخالد. ومع ذلك فإنّ المؤلف ـ وبعد هذه السنوات السبع من التحقيق العميق ـ غض الطرف عنها مكتفياً بالنقل عن الخوارزمي، وبذلك يكون قد خرج عن حدود الأمانة الأدبية والعلمية. وهذا أيضاً تحقيق عميق آخر!
78 ـ في (ص192 إلى ص193) ما كتبه عن أدلة المرحلة الثانية في القسم المتعلق بمحاولة اغتيال الإمام متفق عليه تاريخياً، لكن لا بدّ أن نقول: بأنّ الإمام قد تعرض لمحاولة الاغتيال في المدينة أيضاً، وطبقاً لنقل اليعقوبي[153] فإنّ يزيد كان قد أصدر أمراً صريحاً بقتل الإمام؛ لذلك هاجر الإمام إلى مكة، ولما تعرض لمحاملة الاغتيال في مكة أيضاً اضطر للخروج منها أيضاً، وسافر إلى العراق، ونفس السبب الذي كان بحسب الظاهر سبباً للهجرة من مكة صار سبباً للخروج منها.
نعم، تأتي هنا مسألة اقتراح أهل الكوفة ودعوتهم بتلك الألسن المتملّقة، وإتمامهم للحجج البالغة على الإمام، والأيمان التي قطعوها، جعلت الإمام مضطراً إلى إجابتهم، حتّى يتجلّى معنى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [154]، و (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)[155].
ومع أنّه لم يكن أمل أبداً في تأسيس الحكومة الإسلامية، إلّا أنّه من باب إتمام الحجة وعملاً بوظيفة الإمامة و(مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ) [156] دعا الناس وكتب الرسائل وخطب وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، كدعوة النبي’ كفاراً كأبي جهل إلى الإسلام، وأمر الله نوحاً وأنبياء آخرين بدعوة كفار مع علمه بأنّهم لن يؤمنوا.
إنّ كلام الإمام ورسائله وخطبه لا تدل بأيّ وجه على قصد تأسيس الحكومة، خاصّة أنّ بعض العبارات الصريحة الأخرى من الإمام تظهر بشكل واضح لا يشوبه شك أنّ هذا القصد لم يكن ضمن مشروع النهضة، مضافاً إلى ذلك فإنّ كلام الإمام (من خادعنا في الله انخدعنا له)[157] يكشف عن سرّ إجابة دعوة أهل الكوفة.
اعتراف آخر باعتبار تاريخ ابن أعثم
79 ـ لا أعلم فيما إذا كان مؤلف الشهيد الخالد قد نسي حقاً ما كتبه عن عدم اعتبار تاريخ ابن أعثم وكتاب اللهوف أم تعمد التظاهر بنسيانه؛ إذ قد اعتمد مرّة أخرى في (ص193) على نقل مقتل الخوارزمي عن ابن أعثم، ونقل اللهوف ومثير الأحزان اللذان بناء على حدسياته مأخذهما في مثل هذا المورد هو تاريخ ابن أعثم أيضاً.
ما الذي يمكن قوله لهكذا مؤلف؟! إذا كان تاريخ ابن أعثم لا اعتبار له فلماذا تستند إليه؟ وإذا كان له اعتبار فلماذا تردّ اعتباره حينما لا يوافق ميولك؟
80 ـ بدأ من (ص196) بأدلة المرحلة الثالثة، وبحسب تسلسل الأحداث لا بدّ وأن تبدأ المرحلة الثالثة من حين وصول خبر شهادة مسلم وهاني وتغيّر أوضاع الكوفة واليأس من مساعدة أولئك الناس، أو إذا لم ير هنا أيضاً أنّ الأمل قد تبدّل إلى يأس؛ إذ طبقاً لقوله فقد تشكّل شورى الصحراء، ففي منزل زبالة حيث وصل خبر شهادة عبد الله بن يقطر، وبحسب نقل التواريخ المعتبرة فإنّ رسول ابن سعد وابن الأشعث قد أوصلوا رسائلهم ورسالة مسلم، وحتّى لو كان هناك أدنى أمل لتأسيس الحكومة والانتصار العسكري لانتهى، والإمام أعطى الإذن لأصحابه بالرجوع، وتفرّق عنه جمع كثير.
وعليه بناءً على هذا الطرح والمراحل الأربعة لكتاب الشهيد الخالد، فإنّ المرحلة الثالثة لا بدّ وأن تبدأ من منزل زبالة، ولكن قد رأى أنّه لو جعل موضوع عدم إمكان الانتصار العسكري قبل اللقاء بجيش الحر فسيقع في إشكال وهو: لماذا إذن لم يرجع الإمام؟ ولماذا لم يرسل عياله إلى المدينة؟
وإذا كان في عودتهم احتمال مواجهة قوات حاكم المدينة، فإنّ هنا المواجهة مع جيش ابن زياد الذي كان في قمة الوضاعة والخيانة حتمياً، فلماذا إذن الإمام ـ الذي حسب قولكم لم يصمد على عدم البيعة إلى حدّ الشهادة ـ لم يرجع من هنا ويدفع هذا الخطر الحتمي؟ لماذا من يقترح العودة في منزل آخر حين لقائه جيش الحر لم يرجع من هنا حيث لم يكن مانع؟
لأنّ مؤلف الشهيد الخالد قد رأى أنّه ليس بإمكانه الردّ على هذه الإشكالات، فعمد إلى البدء بالمرحلة الثالثة من حين المواجهة مع جيش الحر تبعاً لهواه، ولم يحترز أن يكون بذلك خائناً للتاريخ.
مع أنّه ومن هنا يتضح بطلان رأي مؤلف الشهيد الخالد، ولا حاجة للاستمرار معه أكثر، لذا نتجاوز ما تبقى ونذهب إلى ما جاء في آخر الكتاب، فنقول بناء على فرض أنّ المرحلة الثالثة بدأت من حين المواجهة مع جيش الحر: ما قلتموه من أنّ كل تكليف مشروط بالقدرة، وأنّه لما كان التكليف بتشكيل الحكومة غير مقدور فإنّه قد تلاشى تلقائياً في المرحلة الثالثة، أمر صحيح. فنحن نقول هذا أيضاً، إلّا أنّنا نرى أنّ هذا التكليف لم يكن مقدوراً منذ البداية، أمّا أنت فتقول: إنّه أصبح غير مقدور من المرحلة الثالثة، وهذا بحثناه معكم سابقاً وأثبتنا مكرراً بطلان رأيكم.
وأمّا الأدلة التي قدمتموها، فخلاصة الدليل الأوّل والثاني والثالث هو أنّ الإمام قال مكرراً: إذا كنتم تكرهون، فافسحوا لي المجال حتّى أعود، أو آوي إلى مكان آمن. وهذا المقترح للمصالحة قدمه من أجل أن لا يصل إلى حالة الصدام، ويدّخر قواه إلى فرص أخرى.
الجواب هو: أنّه لا بدّ على الإمام أن يقدّم هذا الاقتراح، ولو لم يمنعوه لعاد الإمام، ولكنّ الإمام كان يعلم أنّهم سيمانعون، ولن يتحقق الرجوع أبداً.
هذا المطلب لا يخرج عن وجهين: إمّا أنّ الإمام لا يعلم واحتمل أنّ اقتراحه سيقبل، أو أنّه يعلم أنّ اقتراحه سيرفض، حينها سيترتب على ذلك إعلان المظلومية وطلب الصلح وإثبات عدوانيتهم ووحشيتهم. فلو لاحظنا القرائن المتعددة والأدلة التي أقمناها مكرراً على أنّ الإمام كان يعلم باستشهاده في هذا السفر، فإذا لم نقل أنّ الصورة الثانية فقط هي الصحيحة، فعلى الأقل يكون الاحتمال الأوّل غير راجح. ولا يمكن أخذ كلام الإمام هذا كدليل على أنّه كان يتقدّم مرحلة بمرحلة ويوماً بيوم من دون أيّ رؤية سابقة، وأنّه كان يغيّر مشروعه.
في الواقع إنّ هذا بيان صريح لمظلوميته، حيث قال: أنتم من دعوتموني وكتبتم الرسائل وأقسمتم عليّ بالمجيء، فإن لم تستقيموا على هذه الدعوة، أعود من حيث أتيت، فلماذا تحاصرونني وأنا ضيفكم؟! وقد كان مخاطب الإمام في هذه الخطابات هم أهل الكوفة. فهذا الخطاب وبعكس ما ظنّه المؤلف لم يكن خطاباً سلمياً، بل كان خطاباً ثورياً لشحذ الهمم وإتمام الحجة.
فالإمام بهذا الكلام أوقف هؤلاء الناس وقفة ضمير، ونبههم حيال الموقف الخطير والامتحان الذي يواجهونه، وقد طلب منهم أن يكونوا محايدين على الأقل، ويتركوه وشأنه. فالأمر لم يكن خارجاً عن هذين القسمين: لو أنّهم خلّوا سبيل الإمام لتعيّن عليهم ترك ابن زياد ويزيد، وإلّا سيشتروا بذلك الخزي وعذاب الضمير.
فهذا المنطق ليس منطق الصلح، بل منطق الثورة، ومنطق شحذ الهمم والعقول ضدّ الحكومة الظالمة الغاصبة، ومنطق إعلان المظلومية للأجيال القادمة، وإظهار نفاق وقسوة أهل الكوفة.
و على كل حال من المعلوم أنّ الإمام وإن كان قد ألقى خطاباً على أهل الكوفة في مثل يوم عاشوراء، إلّا أنّ ما جاء في كلامه ليلة عاشوراء وفي خطابه الصريح والموقف المؤكّد الذي وصل من الكوفة، لم يكن هناك أمل في تغيير الأوضاع، حتّى يكون هذا الاقتراح للصلح اقتراحاً حقيقياً.
إنّ الإمام كان يعلم أنّه لن يقبل هذا الاقتراح في مثل يوم عاشوراء؛ وعليه بالقطع واليقين تكون هذه الخطابات من باب إتمام الحجة.
إنّ الإشكال الذي أورده على إتمام الحجة في (ص200) غير صحيح أيضاً؛ لأنّ الغرض من إتمام الحجة هو: كي لا يقال لو قدّم هذا الاقتراح لقبل، كإتمام الحجة من قبل الله على الكفار، حيث مع علمه بأنّهم لن يؤمنوا، مع ذلك فقد هداهم ودعاهم من قبل الأنبياء. فلا يتصورهنا بأنّهم لو قبلوا لم تتم الحجة عليهم؛ لأنّه لا معنى لإتمام الحجة على هكذا أناس، فإتمام الحجة إنّما يكون على من يصرّ في عناده ولجاجته.
أمّا أنّكم تقولون: إنّ كلامه لو كان واقعياً فلا معنى للتوجيه.
الجواب هو: إنّ كلام الإمام كان واقعياً، أي أنّه يقول: لو خليتم سبيلي لعدت، فهذا صدق وواقعي إلّا أنّ صدق القضية الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها. إذن مع صدق هذه القضية وواقعيتها كان يعلم أنّهم لن يخلو سبيله، ولن يعود، ثمّ كل ما يجاب به ردّاً على هكذا إشكال في موضوع إتمام الحجة لله والأنبياء يسري هنا أيضاً.
81 ـ في (ص200) تحت هذا العنوان يلخص ما كتبه:
الجواب: ملخص الردود التي قلناها في الجواب هي: إنّ مخاطر عدم البيعة ليزيد كانت معروفة منذ البداية، وأنّ امتناع شخص كالإمام الذي يملك كامل الأهلية والجدارة لقيادة وزعامة المسلمين لم يكن مستساغاً ليزيد؛ لذلك أصدر الأمر بقتل الإمام منذ البداية بحسب نقل اليعقوبي، وقد وظّف أشخاصاً خفية في مكة لقتل الإمام، وتوجّه الإمام من مكة إلى العراق.
الهجوم بهذا المعنى كان في جميع المراحل، التي قررت الحكومة التخلص من الإمام بأي نحو من الأنحاء، كما أنّ الإنذار بوجوب البيعة يمكن أن يكون حجّة لقتله؛ كونه يعلم أنّ الإمام لن يبايع، ولو افترضنا محالاً بأنّه يبايع، فإنّه لن يأمن أيضاً من جور بني أمية، ولأنّه لم يستطع أن يكون في صف معاونيهم ومتملّقيهم ومؤيّدي أعمالهم وأفعالهم، ستكون نهايته الشهادة، ولم تكن الظروف في أيّ من المراحل 1و2و3 مساعدة لتشكيل حكومة قويّة قادرة على إسقاط حكومة يزيد التي وضعت العالم الإسلامي تحت نير ظلم وقهر عمّاله وجلاوزته.
وإن كان كلام الإمام ونصائحه تدعو إلى الصلح وترك الحرب، إلّا أنّه لم يكن اقتراح يأمل قبوله، ولا أثر لتلك النصائح سوى إقامة الدليل على ظلم وعدوان بني أمية وأهل الكوفة، وإتمام الحجة وإبراز المظلومية.
82 ـ نقول بخصوص الحرب الاضطرارية في (ص201):
من البديهي أنّ حرب الإمام كانت اضطرارية، بل لم تكن حرباً بالمعنى الواقعي وإنّما كانت دفاعاً، وبعد إتمام الحجة من قبل الإمام صار معلوماً: أنّ جيش الكوفة وجنود الحكومة كانوا محاربين وسافكي دماء وحاقدين ولا حظّ لهم من الإنسانية، ويسعون إلى قتل وسبي أهل بيت النبي|. وبالفعل فإنّ تصوّر هذا المشهد وهو أنّ الإمام لو انكسر في قبال تلك المصائب التي انهالت عليه ـ والتي تکفی الواحدة منها لهدّ كبار أبطال الشجاعة والفضيلة ـ وأنهك واستسلم، ثمّ أُخذ به إلى الكوفة أو الشام لملاقاة ابن زياد أو يزيد وهو على تلك الحالة من الاستسلام، لكانت المصيبة أعظم وآلم درجة مما جرى عليه في كربلاء.
فالسلام على الإمام الذي حافظ على شرف ومكانة أهل بيت النبوة، وعلى سمعة جدّه النبي، وأمّه الزهراء، وأبيه على، والبيت الهاشمي، كما صان كرامته وعزّته فقال: «ألا وَإنَّ الدَّعِی ابن الدَّعِی، قَدْ رَکزَ بَینَ اثنَتَینِ: بَینِ السّلَّةِ والذّلَة، وهَیهاتَ منّا الذّلة، یأبَی اللهُ ذلك لَنا ورَسُولُه والمُؤمِنُونَ وحُجُور طابَتْ وطَهُرَتْ وأُنُوفٌ حَمیةٌ ونُفُوسٌ أبِیةٌ مِنْ أنْ تُؤثِرَ طاعة اللِئامِ علی مَصارِعِ الکرام». رُوحِي وأرواحُ العالمین لَك الفِداء یا أبا عبد اللهِ وَبِأبِي أنتَ وَاُمّی یابنَ رَسُولِ الله.
من المؤكّد أنّ الإمام لو استسلم لكان قد استشهد في نهاية الأمر بعد سلسلة من الإهانات التي هي أصعب من حرقة فراق الأبناء، والإمام كان يعرف بني أمية أكثر من أيّ شخص آخر إذ لا وجود للعهد والوفاء والإنسانية والشرف واحترام مقام النبوة في قاموسهم.
وأمّا ما كتبه مؤلف الشهيد الخالد من أنّ عاقبة المقاومة في المرحلة الرابعة لا يخرج عن أحد أمرين: إمّا النصر أو الشهادة بافتخار. فلا بدّ أن يقال: إنّ الشهادة بالنسبة للإمام تعدّ نصراً، وأنّ احتمال النصر العسكري لم يكن مطروحاً إلّا عن طريق الإعجاز، كما أنّ الإمام لم يقاتل محتملاً الانتصار في الحرب بل كانت ذات منحى دفاعي فقط، غاية الأمر أنّ المؤلف راق له كثيراً الكلام عن أنّ قصد الإمام تأسيس الحكومة؛ لذا راح يصرّ على أنّ الإجراءات التي قام بها الإمام كانت غير مدروسة ومتردد فيها، ويدّعي أنّ فكرة تشكيل الحكومة الإسلامية كانت تراود ذهن الإمام حتّى يوم عاشوراء.
83 ـ في (ص202) وتحت عنوان (جواب على تساؤل) بدأ يُعبّد الطريق أمام إلصاق تهمة تمس كرامة وقدسية نهضة الإمام.
السؤال الذي لم يخطر على بال أيّ مفكر هو: لماذا حينما صار النصر العسکری مستعصیاً على الإمام لم يقدم على الصلح ولم يقترحه حتّى تبدأ مفاوضات الصلح في أجواء هادئة؟ ثمّ يجيب على هذا السؤال وهو: أنّ العلاقة في المدينة كانت مقطوعة بين الإمام والحكومة، وكان الانتصار العسكري في مكة ممكناً، وبعد لقاء جيش الحر اقترح الإمام الصلح والسلام مراراً.
أمّا الجواب عن أصل السؤال فهو: أنّ اقتراح الصلح مع حكومة يزيد تبعاً للأوضاع التي كان يعيشها الإمام ونسبة قوى الطرفين التي كانت أقل من الواحد في مقابل المئة، خاصة بعد مواجهة الإمام لجيش الحر ووقوعه تحت السيطرة المباشرة لعمّال الحكومة، وتقريباً قد ألقي عليه القبض، فالاقتراح اقتراح الاستسلام وطلب العفو والتوافق مع حكومة يزيد، وكل ذلك يتنافى مع شأن الإمام ومصلحة المسلمين، وحتّى أنّ المؤلف لأنّه لم يستطع أن يتلفظ بهذا الأمر بوضوح وصراحة عبّر عنه بالصلح، كما أنّ اقتراح العودة الذي تكرر من الإمام لم يكن اقتراح صلح مع الحكومة، وإنّما كان مع أهل الكوفة، الذين إن كانوا نادمين على دعوتهم فليخلوا سبيل الإمام. فهذا الاقتراح وإتمام الحجة كيفما كان فإنّه كان موجّهاً لأولئك الذين دعوه، وإلّا فإنّ هذا لا يُعدّ اقتراحاً للصلح مع الحكومة التي ثار عليها الإمام بأن يقول لها: دعوني أذهب من هذا المكان إلى آخر، ومع هذا الوضع لا يقع صلح بين الحكومة والإمام.
وأمّا الرد على جواب مؤلف الشهيد الخالد:
أوّلاً: إنّ انتصار الإمام منذ البداية لم يكن ميسراً عادة، فلو أراد الإمام المصالحة لكان يتعيّن عليه إعلان ذلك قبل تغيّر الأوضاع والأحوال، وقبول البيعة في مجلس الوليد في المدينة، ويطمئن الجهاز الحاكم.
ثانياً: حتّى مع انقطاع العلاقات فإنّ اقتراح الصلح يبقى قائماً، إذ لو أنّ الإمام عاد إلى مكة أو المدينة قبل أن يلتقي جيش الحر لكان هناك إمكانية لتحقق نوع صلح من خلال وساطة أشخاص مثل: ابن عباس وابن عمر، مع أنّه باعتقادنا هو استسلام أيضاً، ولكن الإمام لم يرجع وسار إلى كربلاء.
ثالثاً: كما قلنا فإنّ اقتراح الإمام لم يكن اقتراح صلح؛ لأنّ اقتراح الصلح الحقيقي ممن لا يملك أيّ قدرة وقوّة مادية ومحاصر من قبل الأعداء ومتى ما شاؤوا قتلوه هو ومن معه، يُعدّ مهزلة؛ لذلك لم يقترح الإمام الصلح؛ لفقدان أرضيته، وما اقترحه لم يكن اقتراح صلح مع الحكومة، بل دعوة وإتمام حجة على أهل الكوفة أظهرت بشكل واضح خبث سرائرهم وحبهم للدنيا وغدرهم.
84 ـ توضيح بالنسبة للمفاوضات (بحسب كلام المؤلف) الممهدة للصلح:
1ـ حيث إنّ المؤلف لم يرغب بترك الكلام عن أنّ الإمام كان طالباً للحكومة في أيّ موضع، مع كونه مسلماً أن النصر العسكري بعيد المنال نراه يقحم تلك القناعة ويقول: إنّ الإمام في مفاوضات الصلح السريّة مع عمر بن سعد ـ ممثل الحكومة وكان بيده أمر ولاية الري ـ قد طلب المساعدة في إسقاط الحكومة، والحال أنّ طرح مثل هذا الطلب ـ بحسب رأينا ـ أثناء مفاوضات الصلح عادة ما يبعث على التوتر، ويثير الشك لدى الطرف المقابل في جدية المقترح للصلح.
وعليه إمّا أن لا تقول بأنّ تلك المفاوضات كانت مفاوضات صلح، وإنّما تذكير وموعظة وإرشاد وإتمام حجة ودعوة إلى الحق، وأمّا إذا اعتبرتها مفاوضات للصلح فلا ترسم لها خطة بهذا الشكل.
2 ـ إنّ المعلوم عند ملاحظة أجواء وظروف المسير إلى كربلاء أنّ الإمام لم يقصّر في دعوته للحق وإتمام الحجة التي هي من أبرز شؤون الأنبياء والأولياء، ولم يغض الطرف حتّى عن دعوة شخص واحد، ودعوة زهير كانت من هذا المنطلق، وعبيد الله ابن الحر الجعفي بعد أن رفض دعوته ذهب من هذا المنطلق إلى مقابلته شخصياً، وهذا ما انتهجه أيضاً مع الحر وعمر بن سعد وجيش الكوفة، وقد قبل توبة الحر لأنّه اهتدى وإن لم يكن لالتحاقه بالإمام أثر في الانتصار العسكري.
الإمام هو تلك الشخصية التي ذهبت إلى عبيد الله بن الحر ولا ترى مانعاً من اللقاء بابن سعد وإتمام الحجة عسى أن يهتدي للحق أو لا أقل يعتزل الحرب كما فعل عبيد الله بن الحر.
3 ـ الظاهر أنّ التحاق عمر بن سعد على فرض وقوعه لم يكن ليصبح كالتحاق الحر سبباً في التحاق المعسكر؛ لأنّ أمراء الجيش لم يطيعوه، باعتبار أنّ هذا الجيش قد أرسل من قبل عبيد الله بن زياد إلى كربلاء، وعلى سبيل الفرض لو تنحى عمر بن سعد كان الآخرون يحلون محله، تماماً كما هو ديدن الظلمة ومعاوينهم، حيث يطيرون فرحاً. ولم أر في كتب المقاتل أنّ الإمام قال لعمر بن سعد: التحق بي أنت وجيشك حتّى نذهب معاً إلى الكوفة ونزيح ابن زياد ونسقط يزيد؛ لأنّ الإمام يعلم أنّه سيجيب بأنّ إمرة الجيش بيد ابن زياد، وأنّ السيطرة على الكوفة وإسقاط حكومة يزيد أمر غير ممكن حالياً.
85 ـ إنّ الشخص المطّلع والعالم كعقبة بن سمعان يقسم بشدّة على تكذيب تلك الاقتراحات المنسوبة للإمام، إلّا أنّ المؤلف وبتنمق قد أيّدها جميعها من (ص204) فما بعد، واعتبرها اقتراحاً للصلح، مستخدماً حيلة عجيبة؛ كونه يعلم أنّه في المحيط الشيعي وغیره من العارفين بثبات روحية الإمام وتصميمه الصارم وأهدافه وأخلاقه يُعدّ سبباً للقلق والانزعاج وتوهيناً لمقام الإمامة، ولا يستطيعون تصديق هذا الأمر بأنّ حسين الشجاعة والحميّة والفضيلة والرجولة يخضع لهكذا ذل وعار (العياذ بالله)، إذ بعد انتشار خبر نهضته في العالم الإسلامي من قبل الحجيج وغيرهم، وبعد كل تلك الأخبار التي ذكرها عن استشهاده، ورفضه لاقتراح كبار القوم لرجوعه عن السفر إلى العراق، وإخبارهم أنّ التكليف الذي على عاتقه لا بدّ أن يقوم به[158]، كيف له أن يقترح الاستسلام الآن، ويلتمس من القوم أن يسمحوا له بالذهاب إلى يزيد ليسترضيه ويبايعه؟!
من البديهي أنّ هذه الاقتراحات لو كانت قابلة للطرح، ولم يُسقط كتابه عن الاعتبار في نظر العموم، للزم أن يورده في الكتاب كما هو حتّى يتسنّى للقرّاء أن يقتنعوا بكلامه أكثر، لا أن يشير إليه فقط ويمر عنه، ولكن لأنّه يعلم بأنّ إدراجه سيعرّضه لسيل من الانتقادات، وسيعلم الجميع فساد رأيه، وسيصبح كتابه منبوذاً أكثر مما هو عليه، فمع كل هذا الشرح والتفصيل فيما يتعلق بهذه الاقتراحات الثلاثة إلّا أنّه تجنب إدراجه كما هو، حتّى يُدخل بهذه المنهجية رأيه الفاسد إلى الأذهان ولا ينكشف[159]. هذا أيضاً نوع من التحليل والتحقيق.
وحتّى يقف القرّاء الأعزاء على هدف هذا الكاتب من إدراج هذا الفصل، ونزيل الستار عن هذه الشبهة، سننقل لكم أوّلاً نص الاقتراحات الثلاثة من تاريخ الطبري مع كلام عقبة بن سمعان، وسنذكر بعدها ما يؤيّد كلام عقبة بن سمعان، ومن ثمّ نجيب الكاتب على كلامه.
قد روى الطبري في تاريخه[160] عن أبي مخنف أنّ الإمام قال: اختاروا منّي خصالاً ثلاثاً:
إمّا أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه.
وإمّا أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه (حاشا وكلا أن يكون هذا الكلام من الإمام).
وإمّا أن تسيروني إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلاً من أهله لي ما لهم وعليّ ما عليهم (حاشا وكلا...).
ثمّ روى في (ص413 وص414) عن أبي مخنف أنّه قال: إنّ عبد الرحمن بن جندب نقل لي عن عقبة بن سمعان أنّه قال: كنت مصاحباً للحسين فخرجنا من المدينة إلى مكة ومنها إلى العراق ولم أفارقه حتّى استشهد، فلم يقل شيئاً لا في المدينة ولا في مكة ولا في الطريق ولا في العراق ولا في العسكر وإلى يوم استشهاده إلّا سمعته أنا.
أقسم بالله أنّه لم يقل ولم يقبل ما تقوله الناس وما يعتقدوه من أنّه وضع يده في يد يزيد أو أن يسيرونه إلى ثغر من ثغور المسلمين، بل قال: دعوني أمضي في هذه الأرض الواسعة حتّى أرى إلى ما سيؤول أمر الناس.
إنّ هذا الاقتراح، أي الاقتراح الأوّل والثاني الذي كذّبَه عقبة بن سمعان لم يكن إلّا تسليماً وطلباً للعفو (العياذ بالله).
1 ـ عند مراجعة كلام الإمام وتمسكه برفض بيعة يزيد، ومخالفته منذ زمن معاوية حتّى الآن نجد أنّ هذا المعنى لا يوافق العقل ولا شأن الإمام بأن يسير إلى الشام بذلة وتحت رقابة جنود الحكومة كالأسير، حتّى يصفح ويعفو عنه يزيد ويقبل بيعته (العياذ بالله).
يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون. إنّ هذا كان منطق الإمام، وهذا النداء والصوت المملوء بالحمية والإباء لا زال يدوي إلى الآن في العالم، ليبطل احتمال طرح مثل هكذا اقتراح.
لعل مؤلف الشهيد الخالد قد تأثر بالحملات الإعلامية للحكومات والأقلام المأجورة لها التي شوهت كل ثورة قامت على الحكومات الظالمة بحجة وجوب حفظ النظام واستتباب الأمن والصلح والابتعاد عن سفك الدماء، وحتّى يُسعدوا ويُرضوا السذج الذين انطوت عليهم تلك الحملات، عدّوا الأمان المتوفر تحت لواء الحكومة اليزيدية أماناً محترماً، وأوجبوا الدفاع عن النفس على الإمام وإن كان ثمنه ذل وعار البيعة ليزيد وطلبه تسليماً، ويضعون الإمام في موضع لا يتناسب وشأنه. إذن ما معنى (لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً)؟
2 ـ إنّ الاقتراح الثاني لا يفترق عن الاقتراح الأوّل فهو طلب للاستسلام، ومن المعلوم أنّ الإمام لم يُدل بهكذا اقتراح يضعه تحت رحمة ابن مرجانة حتّى ينفيه إلى أيّ مكان أراد.
3 ـ إنّ هذين الاقتراحين لا يفترقان كثيراً عن اقتراح الاستسلام لابن زياد عملاً، والذي أُجمع على أنّ الإمام لم يوافق عليه؛ لأنّه إن أصبح من المقرر ذهاب الإمام إلى الشام أو إلى ثغر من الثغور فمن المحتم عندها سيظل تحت رقابة جنود ابن زياد وهو استسلام تلقائي له، ولاستطاعوا أن يقودوه إلى أيّ مكان حتّى إلى ابن زياد ويوجهون إليه ما يريدون من إهانات.
فكيف يخفى كل هذا عن الإمام؟! وكيف يعتمد الإمام على كلامهم؟! وأيّ عسكر وجيش كان تحت إمرة الإمام حتّى يطمئن أنّهم سيأخذونه إلى الشام وليس إلى مكان آخر؟!
لقد كان متوقعاً من هذا الاقتراح الاستسلام والبيعة وأنواع الإهانات، مضافاً إلى ما قلناه من أنّ الاستسلام ليزيد لا يفرق عملاً عن الاستسلام لابن زياد، كما أنّ المخاطر المترتبة على الاستسلام لابن زياد مترتبة على الاستسلام ليزيد أيضاً.
إذن قل: إذا كان الإمام يبحث عن الصلح كما تدّعون، ولأجل هذا الصلح الموهوم (العياذ بالله) كان قد استسلم ليزيد، فلماذا لم يستسلم لابن زياد؟ ويدفع بذلك عنه وعن أهل بيته تلك المصائب الفجيعة، حتّى يعدّه الأشخاص الجهّال وقليلي المعرفة أكثر طلباً للصلح؟
فعُلم أنّه يجب أن نضع رواية الطبري والجزري المعقولة والمنطقية والمعتبرة عن عقبة بن سمعان الذي كان حاضراً في تلك الوقائع، وكان على اتصال بالإمام وإخوته وأبنائه وأصحابه نصب أعيننا ونعتبرها عين الواقع. ولو لم ينطو هذان الاقتراحان على التوهين لشأن ومقام الإمام الرفيع لأمكن احتمال صدورهما عنه لا على نحو الجدّ والحقيقة وإنّما إتماماً للحجّة، إلّا أنّ نفسية الإمام وإباءه للذل والهوان، وحزمه في إعلان الرفض لحكومة يزيد وامتناعه عن بيعته، كل ذلك يأبى أن يكون الإمام قد اقترح مثل هذا الاقتراح (الذي يتضمّن جواز بيعته ليزيد) ولو من باب إتمام الحجة، حاشا وكلا.
86 ـ بما أنّ المؤلف رأى أنّ عقبة بن سمعان ردّ وبشكل صريح وبمعلوماته الوسيعة هذين الاقتراحين، ولم يعلّق أيّ مؤرخ على ردّه، من أبي مخنف إلى الطبري وابن الأثير، فإنّهم في نقلهم لتكذيب عقبة بن سمعان الصريح، لم يؤيّدوا نقل الاقتراحات ضمنياً، بل ردّوها، فقد شرع تحت عنوان (تقرير غلام جاهل) من (ص 206) في إقامة الدليل بالردّ على عقبة بن سمعان، واعتبر ـ بعد ألف وثلاث مئة وثلاثين عاماً ـ الشخص الذي عايش كل أحداث نهضة الإمام جاهلاً، وعدّ نفسه مطلعاً.
وأمّا الأدلة التي أقامها بعدما اختصر كلام عقبة بن سمعان المقرون بتأكيداته البليغة وقسمه والاقتراحين الذين ردّهما عقبة، لكي لا ينتبه القارئ الجاهل فقد أسقطهما فهي كالتالي:
1 ـ إنّ كلام عقبة بن سمعان يخالف كلام الحر، حيث يُعلم منه أنّ الإمام كان لديه عدّة اقتراحات، وليس اقتراحاً واحداً، ومما لا شك فيه أنّ معلومات الحر عن المفاوضات السرية لكونه قائداً في جيش عمر بن سعد كانت أكثر مما لدى عقبة بن سمعان الذي كان مبعوثاً.
أوّلاً: إنّ هذه الجملة لم ترد ضمن خطبة الحر في بعض المقاتل المعتبرة مثل الإرشاد.
ثانياً: إذا كانت هذه المفاوضات سرية وعلى فرض أنّ الحر كان مطلعاً عليها، فكيف اطلع عليها الآخرون وجيش عمر بن سعد؟ لأنّ جملة «ألا تقبلون من الحسين» التي هي خطاب لجيش الكوفة صريحة في كونهم جميعاً يعلمون بهذه الاقتراحات، وكيف يكون جميع من في العسكر على اطلاع بهذا الأمر ولا يعلمه عقبة بن سمعان؟!
ثالثاً: عادة ما تبقى مثل هذه المفاوضات سرية إلى حين تحديد نتائجها، ولكن يكشف عنها بعد الوصول إلى النتيجة أو فشلها، وبذلك يعلم بها شخص كعقبة بن سمعان، وعليه يعدّ تكذيب هذا الأمر الجاري على الألسنة والأفواه وبعد سنين من قبل شخص لازم الإمام في غاية الاعتبار.
رابعاً: إنّ عقبة بن سمعان وإن كان غلاماً إلّا أنّ معلوماته عن مجريات الأمور كانت أكثر من معلومات الحر؛ لأنّ الغلمان عادة كانوا معتمدين وموضعاً للأسرار، ومن المتيقن بحسب العرف والعادة أنّه في المدّة المتخللة بين فشل المفاوضات إلى يوم عاشوراء وفي أمور كهذه باعثة على القلق، يكون هو وغيره من النساء والرجال مطلعين عن المفاوضات.
خامساً: وكما كتب فإنّ الحر قد كان إلى يوم عاشوراء من قادة جيش عمر بن سعد، فما يعلمه فإنّ مصدره الحكومة، ومن المعلوم أنّ عمر بن سعد لمّا كتب رسالته لابن زياد، وعرضت في الكوفة واشتهرت بين أجهزة الحكومة صدّقوا كذب عمر بن سعد المفتعل.
وتحقیقاً إذا كان مقصود الحر من كلامه هذه الاقتراحات الثلاثة، فإنّ مصدره نفس رسالة عمر بن سعد لابن زياد، ولم يأخذ هذا الأمر من الإمام؛ لأنّه عندما التحق بالإمام في يوم عاشوراء لم يكن هناك وقت يسمح لتلقي المعلومات من الإمام؛ وعليه إذا قبلنا كلام الحر فهو إشارة إلى الاقتراحات الثلاثة، التي منشؤها رسالة عمر بن سعد وجيشه.
سادساً: إنّ محمّد بن أبي طالب بحسب رواية نفس المهموم (ص114) يروي أنّ عمر بن سعد لم يُر الإمام الرسالة التي كتبها له ابن زياد، التي تضمّنت أخذ البيعة من الإمام ليزيد؛ لأنّه كان يعلم أنّ الإمام لن يبايع يزيد أبداً.
سابعاً: إنّ هناك جملة في خطبة الحر يستفاد منها أنّه لو كانت مقترحات الإمام متعددة، فإنّها لم تكن خارجة عن طلب عدم المزاحمة وترك التعرّض له، ولم يذكر فيها أيّ شيء عن التسليم أو الذهاب إلى يزيد أو التسيير إلى ثغر من الثغور، وتلك الجملة هي التي يخاطب فيها العسكر: «فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتّى يأمن ويأمن أهل بيته»، إذ من البديهي أنّه لو كان له طلب آخر غير عدم التضييق والحرية ولم يُقبل لأشار إليه الحر هنا.
وعليه من الممكن من خلال هذه القرائن أن نقول: إنّ الاقتراحات التي أشار إليها الحر كانت شيئاً آخر، من قبيل:
1 ـ العودة إلى الحجاز.
2 ـ الذهاب إلى ثغر من الثغور مختاراً لا تسييراً أو نفياً من قبل عمّال الحكومة.
3 ـ التوجّه إلى البلاد العريضة كاليمن.
2 ـ قال المؤلف في ردّه على كلام عقبة بن سمعان: إنّ تلك الثلة التي التحقت بالإمام والمقدرة بثلاثين شخصاً، قالوا: يعرض عليكم ابن بنت رسول الله ثلاث خصال... الخ.
من الممكن أنّ هذه الخصال الثلاث غير تلك الاقتراحات الثلاثة التي تقصدون، والتي قد ردّها عقبة بن سمعان، وعلى فرض إشارتها لتلك الاقتراحات الثلاثة، فإنّ منشأها هو نفس رسالة عمر بن سعد والشائعات المتداولة بين العسكر.
ودليله الثالث هو كلام إبراهيم بن مالك الأشتر لما كان يحرّض جيشه على القتال ضدّ ابن زياد.
جوابه هو: أنّ كل ما قاله إبراهيم كان مبنياً على تلك الشائعات والأقاويل التي نفاها عقبة بن سمعان كلها، والمعلومات التي يمتلكها أمثال إبراهيم في هذا الموضوع مستقاة من تلك الشائعات، وإلّا لم يصلنا معلومة مثبتة من الإمام وأهل بيته، أضف إلى أنّه لا أستبعد أن يكون ما جاء على لسان إبراهيم في هذا الموقع كان المقصود منه تجييش المشاعر والأحاسيس ضدّ ابن زياد، من دون أن يتقصّى صحته وسقمه.
وكيفما كان فمن المسلّم أنّ التكذيب الصريح والمؤكّد لتلك الشائعات من قبل عقبة بن سمعان، الذي كان واقفاً بالقطع على جميع مجريات الأحداث، وكان غلاماً ومحرماً للأسرار، وقد استقى معلوماته مما سمعه ورآه، مضافاً إلى أنّه كان على اتصال دائم بجميع الأصحاب والمناصرين وكبار وصغار أهل البيت، حجة وفي غاية الاعتبار، وخبره مقدّم على غيره من الأخبار المجملة والمبنية على الحدس والشائعات.
وعلى فرض أنّه لم يكن مطّلعاً على مجريات تلك المفاوضات في حينها؛ لأنّها ـ بحسب زعمكم ـ كانت سريّة، إلّا أنّه بعد فشل المفاوضات قد علم بها كل أصحاب ومناصري الإمام؛ لوجود الداعي إلى إفشائها، وعقبة بن سمعان أيضاً قد علم كذلك بمجريات تلك المفاوضات.
11 ـ ثمرات الصلح والاستسلام، وأدلة عدم اقتراحه من قبل الإمام
87 ـ في (ص208) ذكر أربعة بنود كثمرات لهذا الصلح الفرضي أو طلب العفو والاستسلام، ولأنّه لا حاجة لردّها؛ لذا سنكتفي بالتحليل العميق للمضار المترتبة عليها بدقة على فرض تحققها.
1 ـ إنّ الصلح لو تمّ على هذه الحالة المخزية والمهينة التي ذكرها مؤلف الشهيد الخالد، فإنّ الإمام الذي هو الخليفة الإلهي وزعيم أهل بيت الرسالة سيواجه إهانة وإذلالاً ليس لها مثيل من أمثال: ابن زياد ويزيد، وهذه الوقاحات منهم لن تتحملها نفس كالنفس المقدّسة والشريفة للإمام، كما لم يتحملها نائبه مسلم. فسواء ذهب إلى يزيد أو إلى ابن زياد أو إلى أيّ مكان آخر، فإنّه سيقدم للملأ على أنّه المـُهان والطليق الذي شمله عفو حكومة يزيد وابن زياد، ومن الواضح جدّاً كيف ستكون عليه المعاملة المهينة لعمّال الحكومة مع هكذا شخص.
وعليه ستنهار قابليته لقيادة الأمّة الإسلامية بشكل كامل، وسيفقد محبوبيته ومكانته الاجتماعية الفريدة التي كان يتحلّى بها بين الناس.
2 ـ من المسلّم أنّ حياة الإمام مع هذا الاستسلام الحقير الذي تعتبره صلحاً لن تخرج عن شيئين:
إذا فرضنا أنّهم لم يتعرضوا له واطمأنوا أنّه (العياذ بالله) ستكون حياته كمرتزقة الحكومة، وهكذا حياة ستكون مليئة بالذل والعار له ولأهل بيته، وسيفتخر يزيد بأنّه إذا كان الرسول قد عفا عن آبائي وأجدادي وقبيلتي وجعلهم طلقاء؛ فإنّني أيضاً فعلت نفس الشيء والحسين هو طليقنا، وكلما يقترب الإمام من الحكومة سيبتعد عن الله والناس (العياذ بالله). ومن المعلوم تماماً أنّ هكذا وضع لا يطيقه الإمام شرعاً وعقلاً، والصلح الذي يسفر عن هكذا نتيجة لن يكون أبداً مطلوباً للإمام.
وأمّا إذا تعرضوا له، فإنّهم سيجعلونه تحت رقابتهم، ويقودونه إلى الكوفة أو الشام، ولا يتورعون عن الجرأة والإساءة إليه، وسيفعلون ذلك حتماً، وبما أنّ الإمام سوف لن يسكت عن إهاناتهم ووقاحتهم لذا سيستشهد في نهاية الأمر، وبعد استسلامه وقبول البيعة سوف لن يكون لقتله أثر كبير في القلوب.
وعليه ففي كلتا الصورتين يكون المتضرر من هذا الصلح هو الإمام، وكذلك الإسلام والمسلمين؛ لأنّ عظمة الإمام وشخصيته الروحية ستفقد قيمتها أمام الناس على الأقل، وسيصدق توقع الإمام عندما قال: (ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً).
3 ـ إنّ القوى التي افترضها الكاتب للإمام في هذا الصلح الموهوم، ستفقد روحيتها حين ترى قائدها ذليلاً وخائباً بهذا الشكل، وستنتفي وتسقط مسألة قيادة الإمام، فيجب أن يستلم زمام الأمور شخص جديد وحديث العهد وعلى الأقل غير مجرّب. ولو استسلم الإمام وصالح بحسب زعمكم فحينها لم يعد هناك مسوغ لقيام التوابين وابن الزبير وعبد الله بن غسيل الملائكة، ولأدانت الأفكار المنحرفة كل ثورة.
إنّ الآثار المترتبة على شهادة الإمام هي التي أوجدت روح الإيثار والفداء والاستقامة في الناس، حتّى قال مصعب بن الزبير لسكينة بنت الحسين×: إنّ أباك لم يبق لابن حرّة عذراً.
4 ـ وعلى خلاف ما تقولون: إنّه كان بإمكانه تنظيم قدراته بعيداً عن الجواسيس. ففی وقت التسوية ستكون يداه مقيدتين ولم يكن بوسعه أن يقوم بأيّ نشاط سياسي؛ وذلك لأنّه:
أوّلاً: إنّ عيون وعمّال الحكومة كانت تراقب الإمام.
ثانياً: إنّ هذا الصلح والاستسلام الكذائي سيسقط شخصية الإمام عن عظمتها التي هي محط أنظار ومحل آمال أحرار المسلمين.
ثالثاً: إنّ هذا العمل دون شأن الإمام، وغدر وخيانة بأن يصالح ويعمل في الخفى على خلافه، إلّا أن يكون الإمام (العياذ بالله) مثل معاوية غدّاراً وخائناً يسحق كل بنود الصلح.
5 ـ إنّ هذا الصلح سيقضي على أرضية النهضة للإمام حتّى بعد موت يزيد، ومن الطبيعي حينها أن تنصرف الأذهان إلى شخص آخر. إنّ هذا الصلح سيؤثر سلباً على شخصية الإمام بحيث لا يمكنه أبداً رفع راية الإسلام من جديد، خاصّة مع هذه التجربة التي خيّبت آمال الناس فيه. ولربما كانوا يقولون: إنّه لو قاوم لاجتمع الناس حوله ولثارت الكوفة ولسقط ابن زياد.
العجيب هنا أنّ الكاتب مع قوله بأنّ موت يزيد لم يكن متوقعاً إلّا أنّه يأتي في الأثناء بكلام حول أثره القهري، ولم يقل: إنّ حياة الإمام أيضاً لم تكن متوقعة بعد موت يزيد. وعلى أساس كلا الموضوعين غير المتوقعين ـ بحسب زعمه ـ لا يمكن الدخول في مفاوضات للاستسلام وطلب العفو أو الصلح.
إنّ الشخص الذي لا يتوقع أمراً لا يستطيع أن يبني عمله على أساسه، ويجب عليه الإقدام وفقاً لافتراض بقاء الوضع الموجود.
ولكن نحن نقول: إنّ الإمام وإن كان يعلم أنّ يزيد سوف يموت عاجلاً، إلّا أنّه لم يسلك طريق الصلح الذي فيه طلب العفو والاستسلام؛ لأنّه مضافاً إلى أنّه سيقضى على أرضية نهضة الإمام، فإنّ بيعة يزيد هي عمل مخالف للتكليف الذي لا يسوّغه أيّ خطر وتقية ومصيبة.
وعليه طبقاً لهذه الأدلة أيضاً فإنّ الإمام الذي باعتراف مؤلف الشهيد الخالد أحد نوابغ العلم والفكر والعقل منزّه ومبرء من طلب هكذا صلح الذي طبيعته طلب العفو والاستسلام، ناهيك عن عواقبه الوخيمة.
88 ـ في (ص209) تحت عنوان سؤال، فإنّ ما كتبه في جواب هذا السؤال: لماذا الإمام لم يقترح الصلح حينما كان في مكة؟ ساقط عن الاعتبار من عدّة جهات:
1 ـ إنّ هذا الصلح الذي قد بينته لا معنى لطرحه في مكة؛ لأنّ هذا الصلح هو قبول للبيعة وإعلان عن شرعية حكومة يزيد، ومفاد هذا السؤال هو: أنّ الإمام إذا كان مريداً للبيعة فلماذا لم يبايع ولم يستسلم من أوّل الأمر إلى أن حوصر وتمكّن منه الأعداء؟! وجوابه هو: أنّ الإمام لم يكن مريداً للبيعة، ولم يقترح البيعة والاستسلام أبداً، والصلح بمعناه الواقعي لم يكن قابلاً للطرح لا في مكة ولا في كربلاء؛ لأنّه في مكة كان عنوانه البيعة والقبول بخلافة يزيد، وفي كربلاء طلب العفو والاستسلام.
2 ـ لم تكن الأرضية مهيأة في مكة لانتصار الحق على الباطل انتصاراً عسكرياً.
3 ـ قياس ما هنا بحرب صفين وصلح الإمام الحسن× قياس مع الفارق؛ لأنّ النصر في حرب صفين مع وجود ذلك الجيش المجهّز، ومع أنّ جميع البلاد الإسلامية قد بايعت أمير المؤمنين× ما عدا الشام كان أمراً ممكناً، وحتّى بعد حادثة رفع المصاحف أيضاً والصلح الذي وقع بين الطرفين المتخاصمين، استطاع الطرف الأقوى والذي هو علي× أن يقترب من الانتصار، وكان يستطيع إلى حدّ ما أن يجري شروط الصلح وبنوده، فضلاً عن أنّ اقتراح الصلح الذي هو قبول للهزيمة قد كان من طرف معاوية.
كما أنّ صلح الإمام الحسن× قد تمّ أيضاً باقتراح من معاوية، وتقريباً في ظروف متساوية مع وجود قوّة يعتدّ بها؛ وعليه يصح إطلاق عنوان الصلح عليه، وبعبارة أخرى: كان صلحاً لا تسليماً.
وأمّا اقتراح الصلح في كربلاء والذي نسبتموه للإمام فليس بصلح، بل هو استسلام وقبول للبيعة وطلب للصفح، كما أنّ الإمام الحسين× لم يكن ممن يقترح هكذا اقتراح، أو لا يدرك ما ينطوي عليه هذا الاقتراح وما يستلزمه من عواقب وخيمة وآثار سيئة.
وعليه ليس هناك فرق في الأسلوب السياسي للإمام وأسلوب أبيه وأخيه إذا تساوت الظروف، أمّا عند اختلافها فإنّ الأساليب ستختلف، وفيما لو كانت الظروف في عصر الإمام تختلف عن الظروف في عصر أبيه وأخيه، فإنّه لا يعدّ اختلافاً في الأسلوب السياسي.
فالاختلاف في الأسلوب السياسي هو أن يتخذ كلا الشخصين أسلوبين منفصلين رغم تشابه الظروف وتساويها.
89 ـ في (ص211) تحت عنوان انحراف عجيب، أدرج شرحاً، وعاود الكرّة للحديث عن طلب الإمام للصلح.
وجوابه هو: أنّ الأنبياء والأولياء ورجال الله كافة كانوا مسالمین ومجرین لأصل (والصلح خير)، إلّا أنّ ما نسبته هنا إلى الإمام تحت عنوان الصلح يقدح في شخصية وعظمة وشجاعة ومروءة واستقامة الإمام، وساحة الإمام منزّهة عنه. وليس جواب هذه الشبهة وهذا الانحراف الادّعاء بأنّ الإمام الحسين× أيضاً اقترح الصلح كي يقول صاحب الشبهة أنّه لم يكن اقتراحاً للصلح وإنّما طلباً للعفو والاستسلام، بل الجواب هو أنّ هؤلاء العظماء كافة يريدون الصلح متى ما توفرت ظروفه. والسر في أنّ الإمام الحسين× لم يقترح الصلح؛ لأنّ ظروفه غير متوفرة، ولم يكن صلحاً بمعناه الواقعي.
مضافاً إلى أنّ صاحب الشبهة لو كان شيعياً لأدرك أنّ كل ما فعله هؤلاء العظماء كان يصب في مصلحة ذلك الوقت وخير الإسلام والمسلمين، وأنّهم مأمورون من قبل الله بتطبيق مشروعهم.
90 ـ إنّ ما كتبه في (ص212) في رفع تخوّف لم يكن في محله، متفرّع على ما سبق وتكرار للمكررات.
وجوابه هو: أنّ الأئمة^ لم يكن فيما بينهم اختلاف في الأسلوب السياسي، كونهم يتبعون سياسة طلب الحق والعدالة الإسلامية، وكل ما كان يصدر عنهم من فعل وإجراء كان يصب في دائرة الحق، فنهضة الإمام الحسين× وصلح الامام الحسن× بهذا الاعتبار يمثلان حقيقة واحدة، أي أنّ كليهما عمل لله ولهما هدف واحد وهو الحق وأداء التكليف، إلّا أنّ طلب الحق ونصرة الدين يتجلى تارة في ظروف بصورة الصلح وفي ظروف أخرى بصورة النهضة، ولكن لو دققنا في الظروف والموانع في عصر هذين الإمامين، لأدركنا أنّ كل ما صدر عنهما في تلك الظروف كان مطابقاً وموافقاً لما تقتضيه المصلحة.
وكما لا يجدر بنا التغاضي عن قيمة صلح الإمام الحسن× بالنسبة للإسلام ومصلحة المسلمين إثر وقع مظلومية الإمام الحسين×، كذلك لا ينبغي أن ندنس ونتهم نهضة الإمام بأمور لا تليق به.
91 ـ تحت هذا العنوان في (ص213) عاد وكتب شرحاً مسانخاً لما ذكره من مطالب سابقة، ومنافياً أيضاً لأخبار أخرى، إضافة إلى أنّ واقع الأمر يخالف ما تصوّره.
لا شك في أنّ الإمام كان يرى نفسه الأولى والشخص الوحيد اللائق لتولي زمام الأمور من قبل الله، فهو ولي الأمر الحقيقي، ولا شك أيضاً في أنّه يجب أن يدعو الناس للحق ويرشدهم إليه، ويحثّهم على القيام ضدّ الحكومة الخطرة والمعادية للإسلام، وعدم الانصياع لأوامرها، وهو من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
إنّ تصريحات الإمام من قبيل (نحن أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء) مضافاً إلى أنّها بيان للواقع، يمكن عدّها أيضاً دعوة للاصطفاف معه وإتماماً للحجة.
فلو أنّ الإمام لم يصرح بهذه الأمور، وجلس في داره والتزم الصمت، أو أنّه بايع يزيد، لبطلت معنى الإمامة، ولأمكن أن يقول الجميع: إنّ خلافة يزيد شرعية ولا إشكال فيها، حيث لم يدع أحد غيره الصلاحية والاستعداد لتحمل مسؤولية رئاسة وقيادة العالم الإسلامي، كما أنّنا لم نجد شخصاً وجيهاً لائقاً ليثور عليه حتّى ننصره، لذلك وضعنا يدنا في يده وبايعناه.
إنّ هذه التصريحات للإمام هي أجوبة وردود على هذا الكلام، فهي لا تدل على أنّ الإمام كان يريد تأسيس حكومة إسلامية أو أنّه كان يراها أمراً ممكناً.
لا، إنّ هذه التصريحات مثل احتجاجات أمير المؤمنين× عند بدء خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ومثل الخطبة الشقشقية، تهدف إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل، وبيان وظيفة الناس في قبول إمامة أئمة الحق.
البيانات الأخرى للإمام أيضاً كقوله: (دعوني أنصرف) لم تكن للصلح، بل إتماماً للحجة وتجييشاً للمشاعر وإظهاراً لقسوة وخسّة وغدر أهل الكوفة؛ لأنّ هذه التصريحات ـ كما ذكرنا سابقاً ـ المخاطب بها هم أهل الكوفة الذين دعوه وعليهم القيام بوظيفة الضيافة. الإمام يطلب منهم إذا كنتم تتجنبون استقبال ضيف عزيز مثلي فدعوني أرجع، لماذا كل هذا الاجتماع والاتفاق على قتلي؟!
إنّ هذا الاقتراح لم يكن مرتبطاً بالصلح مع الحكومة، كما أنّه يجب صدور هكذا اقتراح من قبل الإمام، وليس دليلاً على عدم وضوح المستقبل للإمام أو طلب الصلح، إنّما هو دليل على شقاء هؤلاء الناس. نعم، لو ضممنا إليه الاقتراحين الذين لم يطرحا من قبل الإمام والذين ردّهما عقبة بن سمعان، فإنّ اقتراح الحكومة والذي قلنا مراراً بأنّه لو كان جدياً ولم يقصد به إتمام الحجة، لكان اقتراحاً للاستسلام وطلب العفو، لا صلحاً.
وجواب ما كتبتموه بأنّ جملة « إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة» تتعلق بالدرجة الثالثة، هو ما ذكرناه مراراً وأيّدناه بشاهد من بيان الإمام نفسه، ومفاده أنّ الإمام كان يعلم وهو في المدينة ومكة، وأثناء مسيره، وبعد شهادة مسلم إلى يوم عاشوراء أنّهم لن يتركوه ما لم يقتلوه. وهذه الجملة أينما ذكرها كانت لسان حاله في تلك الأماكن والمنازل؛ كون الأمر منذ بدايته كان دائراً مدار البيعة والاستسلام أو الشهادة. والأسباب التي بينها الإمام لرغبة المؤمن في لقاء الله تعالى، وهذه الجملة إحدى الجمل التي تضمّنتها تلك الخطبة، كانت منذ البداية، أي في المدينة، وهذه الخطبة تثبت أنّ الإمام قد اختار الشهادة على الحياة، ومن يتكلّم بهذا المنطق لا يقدم اقتراحاً للصلح والاستسلام والبيعة، فضلاً عن وجود جملة أخرى تلي هذه الجملة، وهي «ولا أرى الحياة مع الظالمين إلّا برماً».
تفضّل لنعلم أنّ هذه الجملة مع أيّ مرحلة من المراحل الأربع والدرجات الثلاث التي ذكرتها غير منطبقة. هؤلاء الظلمة الذين يقول عنهم الإمام إنّ الحياة معهم خزي وعار هم غير يزيد ومرتزقته وعمال حكومته الظالمة؟ أو ليست هذه الجملة صريحة في كون الإمام قد اختار الشهادة على الحياة مع هؤلاء الظلمة وهيمنتهم على الأوضاع؟
لو کان الصلح مع يزيد ممکناً حتّى بمعناه العرفي، أفلا يخالف هذا الإعلان القاطع «فإنّني لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً»؟ فاقتراح الصلح يعني الحياة مع يزيد، الحياة مع والي المدينة، الحياة مع مسلم بن عقبة المجرم التاريخي، والحياة مع جميع الظلمة مرتزقة يزيد.
وهذه الجملة الذهبية للإمام تعني: الموت للحياة مع يزيد، اللعنة والعار على الصلح والتسوية مع الخليفة الشارب للخمر الملاعب للكلاب. نعمة الشهادة والخلاص من نير عار قبول بيعة يزيد، نعمة الشهادة وترك الدنيا على رؤية مشاهد الكفر والشرك والفحشاء والفساد والباطل.
كيف تقولون: إنّ هذا الكلام يتعلق فقط بمقصد الدرجة الثالثة للإمام، وأنّه يرى فقط الحياة مع الظلمة في هذا الموضع ذلة وخزياً؟ أفكان واجباً عليك قول شعر لا تحسن نظم قافيته؟ لماذا لا تتكلّم مثل جميع العلماء وأهل التحقيق حتّى لا تقع في هذه الإشكالات والمغالطات المتكررة؟
كأنّ المؤلف كان ملتفتاً لهذا الإشكال، وهو أنّ هذا الكلام أينما صدر لم يكن له خصوصية؛ كونه أصلاً كلياً ومشروعاً يتبعه الإمام؛ لذا لم يذكر الجملة الثانية لا هنا ولا في (ص152).
هذا هو بحثه وتحقيقه العميق المتعلق بموضوع نهضة الشهيد الخالد!
92 ـ ما كتبه في (ص216) تحت عنوان (التفاتة) عجيب؛ لأنّه لم يقل أحد أنّ قتل الإمام من جهة كونه ضربة للإسلام كان مطلوباً للإمام. فقتله كان فعل قتلته وهو فعل يبغضه الله والرسول والإمام، فكيف يكون مطلوباً للإمام؟!
قتل حمزة وقتل جعفر الطيار وقتل أيّ مسلم مجاهد في سبيل الله هو ضربة للإسلام وليس مطلوباً ومحبوباً، إلّا أنّ الشهادة والقتل في سبيل الله فعل مطلوب ومحبوب. فما هذا الكلام؟ ألا تعدّ الإمام شهيداً في سبيل الله؟ إذا كنت تعدّه فإنّ المطلوب للإمام هو الشهادة والقتل في سبيل الله والدين، وهذه فضيلة يطلبها الإمام وأيّ شخص مؤمن، وقد دلت علي فضلها الآيات والأحاديث، قال حارثة بن مالك الأنصاري لرسول الله|: «ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك»[161].
قال أمير المؤمنين×: «نسأل الله منازل الشهداء»[162].
وقال في نهاية عهد مالك الأشتر: «وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة» [163].
وورد أيضاً في إحدى خطبه بعد قوله: إنّ النبي| سألني كيف صبرك على الشهادة والقتل؟ فقلت: «يَا رَسُولَ الله لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ وَلَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ البُشْرَى وَالشُّكْر»[164].
إذن فقل ما معنى الدعاء للشهادة؟ إذا كان قتل حارثة بن مالك، وقتل مالك الأشتر، وقتل أمير المؤمنين× ضربة للإسلام، فكيف يكون محبوباً ويُطلب من الله؟ بمثل هذه المغالطات تنكر أمراً بديهياً، ولا تفرّق بين المعنى المصدري والاسم المصدري. فالذي يعدّ مذموماً وضربة للإسلام ويعاقب عليه هو القتل، وأمّا المحبوب والمطلوب لله عز وجل فهو القتل في سبيله والشهادة.
قولوا أنتم: هل شهادة المؤمن والمسلم مطلوبة لله أم لا؟ مطلوبة لنا أم لا؟ إذا كانت كذلك فهل يمكنك القول ما فائدة الاستشهاد؟ وأيّ فضيلة يتمناها أو يطلبها من الله؟ إذا قلت: إنّ قوّة الإسلام وقدرات المسلمين ستضعف، وقدرة العدو وجرأته وجسارته ستزداد، فإنّ هذا الكلام يخالف مئات الآيات والأحاديث وعبارات الأدعية المعتبرة، ورفض لكلام الرسول’ وأمير المؤمنين×. وأمّا إذا لم تقل ذلك، فقل لنعلم هل كان الإمام طالباً للشهادة أم لا؟ إذا لم يكن طالباً للشهادة، فكيف يمكن أن لا يكون طالباً لها؟! وإذا تقول: إنّ قتل الإمام وموته لم يكن شهادة، وكما كتبتم في (ص216) كان مطلوباً للإمام لكي يرتاح من همّ الدنيا وعذابها، فلماذا وسمت إذن كتابك بالشهيد الخالد؟!
إنّ القتل طمعاً في الخلاص من ألم وعذاب الدنيا لا يستحق كل هذا الفخر والاعتزاز.
وإذا تقول: إنّ الإمام كان طالباً للشهادة وقد استشهد، فما المانع إذن أن يكون طلبه لها منذ البداية، وأنّه قد سلك الطريق الذي يعلم أنّه سينتهي بشهادته؟
نعم أنت تقول: لو قبلوا باقتراحات الإمام فيما يختص بموضوع الاستسلام وقبول البيعة أو النفي والإمام رغم ذلك أصرّ على المقاومة، فإنّ قتله لن يكون شهادة.
إلّا أنّنا نقول: إنّ الإمام لم يقترح مثل هذا الاقتراح، وحتّى لو كان الاقتراح منهم لما قبل به الإمام، وفي هذا الفرض أيضاً يكون شهيداً إن قتل.
إنّ قتل الإمام مصيبة لا يمكن جبرانها، وعظمتها قد فاقت حدّ تصور العالم الإسلامي، إلّا أنّ ذلك لا يسوّغ لنا القول بأنّه يجب على الإمام الاستسلام والبيعة لحفظ دمه، وأن يغض الطرف عن تکليفه الشرعي مع أنّه أعلم الناس به، ويصرف نظره عن الشهادة التي هي أعظم ما يتقرب به إلى الله.
لقد كان الإمام مراعياً لوظيفته الإلهية، ومدافعاً عن نفسه؛ كونه مكلفاً بذلك، وعليه السعي في جهاده حدّ الإمكان، والشهادة في سبيل الله التي هي محبوبة لأولياء الله والطالبين للقائه تكون في حال ما إذا دافع وجاهد إلى حدّ الإمكان، لا أن يضع يده على الأخرى منتظراً مجيء العدو لقتله أو أسره.
هذه المطالب قد وقع فيها الخلط في هذا الكتاب، والمؤلف لم يتمكّن أو لم يُرد التفكيك بينها؛ لذا وقع في كل هذه الأخطاء!
93 ـ أورد المؤلف في (ص216) تحت عنوان ظن ليس في محله مطالباً تتعلق بمقارنة جرائم معاوية مع جرائم يزيد، والسبب في عدم خروج الإمام الحسين× بعد وفاة الإمام الحسن المجتبى×، وخرج منها بنتيجة مفادها: أنّ معاوية كان أخطر من يزيد، والسبب في عدم خروج الإمام زمان معاوية هو عدم توفر ظروف النصر وتأسيس الحكومة، وأمّا في عصر يزيد فإنّ المسوّغ للنهضة هو توفر تلك الظروف!
أمّا فيما يختص بمقايسة معاوية مع يزيد، فإنّه لا ريب أنّ يزيد سيئة من سيئات معاوية، ولا ريب أنّهما كانا يشكّلان خطراً على الإسلام، وكانا ينفّذان خطة لمحو الاسلام، إلّا أنّه لا يمكن أن نعتبر طول مدّة حكومة معاوية وقصر زمان يزيد معياراً. إذ لو كان حكم يزيد مساوياً لحكم معاوية لكانت جناياته أكثر من هذا، ومع ذلك فإنّ ما ارتكبه في هذه المدّة القصيرة من جرائم ليس له نظير ولم يسبقه إليه أحد، من قتل لسيّد الشهداء× وسائر رجال أهل بيت النبوة وأسره لأهل بيت الرسالة، وجرائمه الوحشية في المدينة، والقتل الجماعي للناس، وأخذ البيعة منهم كأنّهم عبيد له ولأبيه، وهتك الأعراض والنواميس، وهتك حرمة روضة رسول الله|، وجريمة التعرّض لبيت الله الحرام.
إنّ يزيد قد كان متهتكاً، متجاسراً ومتهوراً، ولو استمرت مدّة حكومته أكثر من ذلك فإنّه لن يبقي للإسلام وسننه وشعائره باقية.
ما حدث هو أنّ معاوية كان يلام ويوبّخ على أخلاق يزيد القبيحة والمقيتة، كما أنّه لم يشتهر أيّ شخص بما اشتهر به يزيد من شنائع الأعمال وقبائحها والتجاهر بالمعاصي.
إنّ الفرق بين أشخاص مثل يزيد وأفراد مثل معاوية هو: أنّ المجموعة الأولى تنجز قراراتها الغادرة وأفعالها الإجرامية بتسارع وبلا تأمل، وتهتكها الذي يدل على خلل في ذكائها وفكرها يجعل الخطر الداهم سريع الحدوث.
نحن لا ندافع عن جرائم يزيد في قبال معاوية، كما أنّنا لا نبرّئ معاوية قياساً إلى يزيد.
فعلى يزيد لعنة وعلى أبيه ثمانية |
لقد كان معاوية مكّاراً ومحتالاً ومخادعاً ومنافقاً، كما كان يزيد متجاهراً بالفسق والفحشاء وشرب الخمر، ومصاحباً للكلاب والقردة، وحتّى عند قدومه للمدينة كان لا يترك شرب الخمر. إنّه وإن كان وجه الاشتراك بينهما في نقاط الضعف والعيوب والرذائل كثيراً، إلّا أنّ هناك فوارق أيضاً.
قال الإمام لمعاوية:
إنّ يزيد قد فضح نفسه، فخذ ليزيد ما طلبه لنفسه، فإنّه جمع الكلاب للعراك والطيور للعب والنساء والمغنيات والمطربين[165].
وعليه لا شك أنّ طريقة يزيد في ظاهرها أكثر وحشية وتهتكاً، وقد كان متجاهراً بمخالفته للشريعة الإسلامية، ولم يخف على أحد قذارته ووساخته ورذالته. فالبيعة أو الصلح والسلام معه هي في الحقيقة بيعة وصلح مع الشراب والقرد والكلب والفحشاء والمنكرات.
إنّ هكذا بيعة من أبرز شخصية كالإمام الحسين× مع كل ذلك الرصيد الأخلاقي والمعنوي والسيرة الاجتماعية العطرة، تعدّ هدماً لمعالم الإسلام، ومحواً لشعائر الدين وشرف وكرامة أهل بيت النبوة.
هكذا بيعة تعني التلاعب بمقدّسات وأحكام الدين كافة، وتوهيناً لآيات القرآن المجيد، كما تعدّ مسخاً للمشروع الإسلامي وسننه، وشرعنة أبدية لاتّباع الفسّاق والفجّار وتعظيمهم ووجوب طاعتهم واعتبارها أمراً صحيحاً وأصيلاً.
يصف عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، وزعيم تمرد المدينة يزيداً كالآتي:
نقسم بالله أنّنا لم نخرج على يزيد ولم نقم ضدّه، إلّا أنّنا خشينا أن تمطر السماء علينا حجراً، فهو رجل يضاجع جاريات هنّ أم أولاد وكذا بناته وأخواته، شارب للخمر، تارك للصلاة[166]. وإلى الآن اشتهار يزيد في مثل هذه الجرائم والمعاصي والشنائع أكثر من معاوية.
وعلى كل حال، بغض النظر عمّا ذكرناه وكررناه سابقاً، فإنّ مشروع الإمام قد عينّ من طرف الله، وما قام به الإمام من مواقف زمن حكومة معاوية ويزيد كان طبقاً لهذا المشروع. ونشير بإجمال إلى بعض الجهات التي أوجبت أن تكون هذه الثورة والنهضة التي لا نظير لها والتضحية التاريخية في حكومة يزيد، وهي:
1 ـ إنّ ظروف النهضة ومجريات المشروع الذي انتهى بالشهادة، وكان منشأ لكل هذه النتائج والبركات العائدة على الإسلام، لم تكن مواتية في عصر معاوية، لكنها قد صارت كذلك بعد موته وفي عصر يزيد.
لو قام الإمام في زمان معاوية لما كان لقيامه وشهادته أثر عميق وفريد في قلوب الناس، ولم تثمر شهادته لأجل الإسلام. ومضافاً إلى ذلك فإنّ معاوية المحتال كان بإمكانه من خلال الوسائل المتاحة له والجهاز الإعلامي الواسع الذي تحت اختياره وبقوّة المال وإرشائه للشخصيات النافذة أن يحدّ من آثار تلك النهضة، ويعتبر نفسه بريئاً، خاصّة أنّ حكومته في عرف ذلك الزمان حكومة شرعية، كما أنّ الإمام قد اختار التنحي بعد معاهدة أخيه، وهذا عذر كاف لمعاوية ليشوّه الحقائق ويحجبها عن الناس ويغالط في ذلك.
في حين أنّ الأوضاع في زمان يزيد كانت مختلفة، فحكومة يزيد كانت على خلاف مقررات المعاهدة، وكانت مورداً لمخالفة الشخصيات الأخرى، كما أنّ يزيد لم يكن يملك حيل أبيه ومكره الإبليسي حتّى يحدّ من آثار النهضة، فكل ما فعله هو وزبانيته قد زاد من عظمة تلك النهضة ووسع من دائرة نفوذها في قلوب الناس.
2 ـ إنّ المسألة التي أثارت الإمام للنهضة هي حكومة يزيد، وقد أعلن الإمام معارضته لهذه المسألة في زمان معاوية، وعندما باشر يزيد أمر الحكومة كان من الطبيعي أن يقع التصادم بينهما خاصّة حينما أراد يزيد أخذ البيعة من الإمام.
3 ـ يجب أن يكون الهدف من الخروج على معاوية هو تأسيس الحكومة الإسلامية، ولأنّ الظروف لم تكن مساعدة على ذلك ـ كما أنّها لم تكن مواتية في عصر يزيد أيضاً ـ لذا لم ينهض الإمام، إلّا أنّ الحكومة في زمان يزيد قد مارست ضغوطاتها على الإمام حتّى يبايع عازمة على إتمام هذه المسألة أو القضاء على الإمام، والنهوض باعتباره امتناعاً عن البيعة كان أمراً منطقياً ومعقولاً جدّاً، وهذا الكلام من الإمام حين قال: إنّني ابن رسول الله، وإنّي أولى وأجدر بالحفاظ على دين جدّي من الجميع، ولا أستطيع أن أبايع للخلافة شخصاً قذراً مثل يزيد، وأن أسخر من الإسلام والمسلمين وأعدّه أميراً للمؤمنين، كان مقبولاً.
لقد اكتفى معاوية بالحيل نفسها التي اتخذها في مكة وافتضح عندما أراد طرح ولاية عهد يزيد، ولو أراد الإصرار على أخذ البيعة من الإمام فإنّه لا يستطيع فعل شيء أكثر من قتل الإمام والإمام لم يقبل بهذه البيعة، لذا لم تكن هناك أرضية للنهضة بمعزل عن التعرّض للحكومة.
أمّا في عصر يزيد فإنّ قيام الإمام قد كان منطقياً؛ كون قوى الحكومة كافة قد كانت متأهبة لأخذ البيعة من الإمام وطبقاً لرواية اليعقوبي كانت مأمورة بقتله منذ البداية.
4 ـ أمّا مسألة ظروف تشكيل الحكومة الإسلامية، فإنّها لم تكن مساعدة لا في زمان معاوية ولا في زمان يزيد. نعم، موت معاوية وإن شكّل ضربة لجسد حكومة بني أمية، إلّا أنّها بتحقيقها نفوذاً كبيراً طوال حكومة معاوية من خلال عمالها على المدن والولايات المختلفة، وتبعاً لتوقعات معاوية، فإنّه بشكل عام لم يسجل أيّ تغيّر ملحوظ في الأوضاع ما عدا موت معاوية، والعمال يمسكون بزمام جميع الأمور ويسيطرون عليها، وحتّى معاوية المكّار أيضاً رغم أنّه كان متوقعاً لخروج الإمام، إلّا أنّه لم يعتبر ذلك تهديداً لحكومة يزيد. وعليه فإنّ ظروف القيام المؤدية لتأسيس الحكومة الإسلامية لم تكن مهيأة لا في زمان معاوية ولا في زمان يزيد، ولا يمكن إثبات ذلك من خلال العبارات والخطابات.
ومما ذكرنا يتضح الجواب عن سبب عدم خروج الإمام في زمان معاوية؛ لأنّه فضلاً عن عدم وجود المقتضي للنهضة في ذلك الزمان، فإنّ الشروط التي من شأنها تحقيق أهداف الإمام الرفيعة لم تكن مواتية.
94 ـ في (ص227) كتب شرحاً حول التهم الموجّهة للإمام وجوابها. إنّنا نرى أنّ هذا البحث وتحت هذا العنوان الموهم لم يكن قابلاً للطرح؛ لأنّه من البديهي أنّ الاتّهام بالتمرّد وإيجاد الفتنة والتشویش والفوضى ليس من التهم الجديدة التي توجّه فقط للإمام، كون جميع الأنبياء والمصلحين كانوا هدفاً لمثل هذه التهم، فأمثال نمرود وفرعون ويزيد وغيرهم من الاستغلالیین قد حملوا هذه الحربة على الدوام للتصدي للنهضات الإصلاحية والتحررية، وحاولوا إضلال الناس من خلال تشويه أفكارهم. وأنّ السلطات وإن دافعت عن نفسها لأيام معدودة من خلال القوة والسهام المسمومة بإعلاناتها، إلّا أنّه في النهاية قد كشف الستار عنها، بل إنّ تلك التبليغات لم تثمر أيضاً في عصرهم، والتاريخ يشهد على أنّها لم تبرء ساحتهم لدى ضمير الأمّة.
وإذا كان الناس ينصتون لتلك التهم ويصمتون فذلك خوفاً من السجن والتعذيب والإعدام وقطع الرواتب والحرمان السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وإلّا لم يكن لمثل هذه التهم أن تؤثر على مزاج أمّة مظلومة ورافضة للظلم.
إنّ نفس تلك المظلومية لأهل البيت وأسر عائلة الرسالة، وأخذهم إلى الشام بذلك الوضع الفضيع والمثير للشفقة قد أماط اللثام عن أفعالهم. ونفس خطب عقيلة قريش وخاصّة خطبتها التاريخية في مجلس يزيد، والخطبة التي ألقاها الإمام زين العابدين× المدهشة والمليئة بفضائل أهل البيت^ والسجل الحافل لسلالة علي× في جامع دمشق، كانت أقوى ردّ مخرس لأمثال هذه التهم.
إنّ تلك التهم لم يكن لها أثر، ويزيد صار موضعاً للاشمئزاز والطعن وتوبيخ العالم الإسلامي، فحتّى ولده قال من على منبر دمشق: إنّ أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه، وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسول|... إلخ[167]. بل لم يكن لتلك التهم أثر حتّى عند بني أمية حيث لم تعذر يزيد، فمثل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز كان يجلد ويعزر من يخاطب يزيد أمير المؤمنين[168].
19 ـ ماذا يقول أهل السنّة[169]؟
95 ـ في فصل (ماذا يقول أهل السنّة) (ص232) قال كلاماً كثيراً غير منسجم، ولم يتمكّن من إعطاء جواب مقبول على ما أوردوه من إشكالات.
إنّ أحد نقاط الضعف المهمة في كتاب الشهيد الخالد هو هذه المسألة؛ لأنّه لو قُبل أنّ الهدف الرئيس من خروج الإمام هو تأسيس الحكومة الإسلامية، ولم يكن هناك أيّ هدف مفترض آخر، فيُأيّد رأي ابن العربي وأمثاله، وتحدث تساؤلات كالآتي:
1 ـ لو أنّ الإمام لم يرفض البيعة حال مواجهته للخطر، كما قد قبلت أنّ الإمام قد قدّم اقتراح ذلك في المرحلة الثالثة، فلماذا لم يحسب الإمام مخاطر هذا الأمر منذ البداية، مع أنّه من المعلوم أنّ رفضه للبيعة سیقلق الحكومة، وفي الأخير يجب عليه إمّا أن يبايع أو يقتل؟ فإن قلتم: إنّ الإمام في بداية الأمر كان مشغولاً بدراسة الأوضاع وقراءتها، وبعد ذلك قوّة الكوفة العسكرية تجعل نفسها تحت اختيار الإمام ومن ثمّ يتكئ عليها في قيامه، فلما ساءت الأوضاع أقدم على اقتراح الصلح.
فيجيبون: إنّ القوّة العسكرية للإمام لم تكن أكثر من قوّة أخيه العسكرية التي كانت في الظاهر تحت قيادته وكانوا يعتبرونه أميراً للمؤمنين وخليفة شرعياً، فمع أنّ تلك القوّة العسكرية قد كانت تحت تصرّف أخيه إلّا أنّه لم يمكن إنقاذ الحكومة الإسلامية، فكيف يمكن بقوّة وعدّة لا يُعلم إن كانوا سيفون بوعدهم، بل سوابقهم تدل على عدم وفائهم، أن يُسقطوا حكومة نالت الرسمية ومسيطرة على الأوضاع، ومن ثمّ تأسيس الحكومة الإسلامية؟!
2 ـ لماذا لم يهتم الإمام برأي ووجهة نظر الزعماء والشيوخ الذين منعوه من الذهاب للعراق، وأبدوا بكل صراحة مسألة قتله، إلّا أنّه صمم على رأيه الذي آل إلى شهادته؟
إن قلتم: إنّهم أخطؤوا في تشخيصهم وأنّ القوّة التي توفرت لدى الإمام كانت كافية لسحق قوى الحكومة، إلّا أنّ الحوادث غير المتوقعة صارت سبباً وعلى سبيل الصدفة في صيرورة الأمور بحسب ما توقعه ابن عباس والآخرون.
يجيبون: أيّ حوادث؟ فلم تحدث حادثة غير متوقعة، غير أنّ أكثر أهل الكوفة يكذبون، ولم يكن لهم استعداد للمقاومة والانتفاضة على قوى الحكومة، وكثر الضعف الأخلاقي والاجتماعي بينهم، بالإضافة إلى أنّ آخر خبر من مسلم قد أيّد وبصراحة توقعات الذين منعوا الإمام من السفر، وكل ما ستقوله في مقابل هذا الخبر المطابق تماماً لتوقعات زعماء وقادة مكة والمدينة السياسيين لن يكون مقبولاً.
أرسل مسلم إلى الإمام رسالة: «اِرْجِع بِأهْلَ بیتِك، وَلا یغُرُّك أهلُ الکوفَة فَإنَّهُم أصحابُ أبِیك الذِي کانَ یتَمَنی فِراقَهُم بِالمَوتِ أوِ القَتْلِ، إنَّ أهل الکوفة قَد کذَبُوك، وکذَبُونِي ولَیسَ لِمکذُوب رَأي»[170].
3 ـ يقول المؤلف: إنّ المعترضين على أسلوب الإمام كانوا يستبعدون مهاجمة الحكومة للإمام، لهذا عدّوا الإمام المسبب لهذه الحادثة الدموية، والحال أنّ الإمام كان يتبع دائماً أسلوباً واضحاً لا تعتريه أيّ شائبة. لكن المؤلف لم يلتفت إلى أنّ إشكالهم لم يكن هذا، فهم يقولون: لو أنّ الإمام كان مستعداً في حال الخطر ـ على رأي مؤلف الشهيد الخالد ـ للبيعة، فلماذا لم يقبل بالبيعة منذ البداية؟ ولماذا لم يهتم ـ في أوّل الأمر ـ بعواقب هذا العمل والقدرات المادية لبني أمية وقساوتهم ووحشيتهم وسوابقهم الإجرامية وعداوتهم لأهل بيت النبوة؟
إنّهم لا يقولون: إنّ حكومة يزيد لأنّها حكومة شرعية فخروج مثل الإمام الحسين× عليها من دون هجوم وتعرّض مسبق غير جائز؛ وعليه يكون السبب الأصلي لواقعة كربلاء هو الإمام الذي ثار دون أن تهاجمه الحكومة، حتّى تقول: إنّ الإمام كان مورداً لهجوم الحكومة في كل مراحل النهضة. لا، هم لا يقولون هذا.
إلّا أن يكون المؤلف مثل عبد الوهاب النجار أو محب الدين الخطيب الناصبي والموالي لبني أمية، وعدو أهل بيت الرسول وعبد الاستعمار وتلميذ لامنس البلجيكى، ومنكر فضائل أهل البيت^، بل منكر لتعاليم الرسول|.
لا، أولئك الذين على علم إلى حدّ ما بمقام الإمام وفضيلته وروحانيته وليس لديهم تعصّب النواصب، لا يدعون أنّ الإمام لم يُهاجَم؛ لأنّهم يعلمون أنّ الحكومة أرادت أخذ البيعة منه عنوة، ولا يقولون بعدم جواز خروج الإمام، بل قد نقل عن بعض أهل السنّة إجماع الأمّة على تحسين نهضة الإمام[171]؛ وعليه بطريق أولى يثبت جوازه.
إنّ ما يقوله هؤلاء المؤلفون ـ والناشئ عن شفقتهم ـ هو أنّ الإمام قد أخطأ في حسابه الأوضاع (العياذ بالله)، وأنّ قساوة قلب بني أمية ووحشيتهم وقوّتهم العسكرية أمر لم يكن بالحسبان، وقد وقع الإمام فريسة كل ذلك الظلم والجور والجنايات.
وهذا هو الإشكال الذي لم يتمكّن كتاب الشهيد الخالد من الإجابة عليه؛ كونه يرى أنّ نهضة الإمام كانت لتأسيس الحكومة، بل إنّه بهذا الاعتبار قد جعل ـ ومع قطع النظر عن أجوبة الآخرين المنطقية والمستدلّة ـ أساس إشكالهم محكماً.
إنّ الذين يعترضون على خروج الإمام الحسين× يرجع منشؤه إلى اعتقادهم بأنّ الهدف من النهضة هو الحكومة والخلافة، ولأنّهم من خلال الدراسة العميقة التاريخية توصلوا إلى أنّ الأوضاع لم تكن مناسبة لمثل هذا الأمر؛ لذا فتحوا لسان العتب والاعتراض، فتارة اعتبروا أنّ أهل الكوفة هم المقصرون؛ لما قاموا به من توهيم الإمام (والعياذ بالله) من خلال عهودهم الخائبة، وتارة أخرى يتمنون لو أنّ الإمام لم يستجب لدعوتهم ولم يعتمد على وعودهم خاصّة أنّهم قد أثبتوا عدم وفائهم في امتحانات سابقة، ولو فرضنا أنّهم صدقوا في وعودهم فإنّهم لم يكونوا قادرين على التصدي لقوات الحكومة المنظمة التي تمتلك خراج بيت مال الدول الإسلامية.
إنّهم يعتبرون هذه النقطة وهي عدم تناسب موازين القوى المفترضة للإمام مع قوى بني أمية أمراً مفروغاً عنه، وكلها تبتني على الأساس الذي أنت أيضاً تأيّده وتثبته ـ أي هدف النهضة هو لأجل الحكومة ـ وأسندوا ذلك للاشتباه في دراسة قوّة أهل الكوفة وعدم تكافؤها. وكما ترى ليس معنى هذا الكلام أنّ بني أمية أو يزيد رجل صالح ولائق، وأصل الخروج عليه ليس بجائز.
ولا يُجاب على هذا الإشكال كما أجاب عليه مؤلف الشهيد الخالد بأنّكم قد اشتبهتم فإنّ قوى الإمام كانت متكافئة مع قوى العدو، وأنّ أهل الكوفة كانوا يناصرون الإمام حتّى النصر؛ لأنّ الطرف المقابل يمكنه أن لا يقبل بذلك، ويقول: إنّ موازين القوى لم تكن أبداً متوافقة. وما أقامه المؤلف من الأدلة بلحاظ الرؤية العلمية والتاريخية لم تكن أقوى من أدلتهم، إن لم نقل إنّها أضعف منها.
إنّ النتيجة المترتبة على إصرار المؤلف بأنّ قصد الإمام من خروجه هو تأسيس الحكومة هي: أنّ المسألة تصبح مسألة نظرية تاريخية فاقدة للدليل القاطع والمقنع لأيّ من الطرفين، وعلى فرض قبول أدلته، فإنّ النتيجة المترتبة على ذلك هي أنّ الإمام كان معذوراً؛ كونه لم يتوقع ما سيقع من أحداث، وإلّا لكان قد بايع في مجلس حاكم المدينة منذ اليوم الأوّل، ولقبل بخلافته، لعله يتمكّن بذلك من التصدّي لبعض المنكرات الجزئية ويحافظ على نفسه.
والفرق بين كلامه وكلام المعترضين هو: أنّهم تعاملوا مع المسألة بنحو الشفقة، فعدّوا قيام الإمام مثل القتل غير العمدي، وأنّ الإمام معذور حينما توقع النصر وإن كان الواقع عكس ذلك. أمّا أنت فقد اعتبرت الإمام معذوراً، حيث إنّ دراسة الإمام لموازين القوى وظروف القيام وإن كانت مطابقة للواقع إلّا أنّ الحوادث غير المتوقعة والتي هي خارج إحاطة الإمام العلمية كانت سبباً في هزيمة النهضة.
أنتم تقولون: إنّ الإمام كان جاهلاً بالحوادث غير المتوقعة، وابن خلدون يقول أيضاً: إنّه أخطأ في حساب القدرة والقوّة العسكرية له وللحكومة، وكان جاهلاً بواقع الأوضاع، وقد ثار معتمداً على ظنه بغلبة قوّته العسكرية فهزم؛ لهذا فهو معذور، وعلى كل حال لم يكن مقصراً، ولم يغلط في الحكم الشرعي، ولم يكن أحد أعدل منه[172].
بعد سبع سنوات من الجهد تكون النتيجة: أنّك تقول: إنّ الإمام معذور وليس مقصراً، وابن خلدون يقول أيضاً: إنّ الإمام معذور وليس مقصراً، إذن ما هي نتيجة جهدك؟ أنتم تقولون: إنّ الإمام لم يكن عالماً بالحوادث غير المتوقعة، وابن خلدون يقول: من واقع الأوضاع والظروف.
نحن لا ننكر أنّ رأيك أفضل بقليل من رأي ابن خلدون، إذ لو ثبت رأيك لثبت صواب رؤية الإمام في دراسته للأوضاع، وثبت أنّ رأي الآخرين الموافق لرأي ابن خلدون كان خاطئاً وعلى نقيض ما وصلت إليه، وهذا ليس بعمل فأنت لم تقدّم أيّ خدمة لساحة الإمام القدسية الذي مقامه أجلّ من هذا الكلام وهذه البحوث.
الملاحظة التي يتعيّن التذكير بها وإن كنّا قد فعلنا ذلك سابقاً هي: أنّ تشبيه نهضة وقوّة الإمام بقدرة أبيه أمير المؤمنين× مغالطة عجيبة؛ لأنّ أمير المؤمنين× قد انتخب رسمياً وتحت إلحاح الناس إلى الخلافة الظاهرية، وقد بويع على الخلافة من قبل أصحاب الرسول|، والشخصيات التي أسقطت حكومة عثمان، وكانوا يدافعون عنه، وما عدا دمشق فإنّ العالم الإسلامي كان تحت إمرته، وقد عرف معاوية على أنّه شخص خارجي متمرد على الحكومة الإسلامية بحجّة المطالبة بدم عثمان. ومن كل الجهات كانت قدرة الإمام أقوى من قدرة معاوية، وإمكان انتصار الإمام كان أكثر مقبولية.
ولا يمكن جعل تلك القدرة في مصاف قدرة الإمام المظلوم وتشبيهها بها، والمعترضون لا يقبلون بهذا التشبيه، ولم يتمكّن المؤلف بمنطقه الذي تبنّاه ـ لا في القسم الأوّل ولا في هذا القسم ـ من الردّ عليهم.
4 ـ الإشكال الآخر الذي يوجّهه أشخاص مثل ابن خلدون للمؤلف هو: لماذا لم يتراجع الإمام حينما وصلته أخبار الأوضاع في الكوفة وخبر قتل هاني ومسلم وعبد الله بن يقطر؟
أنت تقول: قد تشكّلت شورى الصحراء، إلّا أنّنا لم نتوصل إلى شيء من هذه الشورى، ولا نعتقد أنّ طرح وجهة نظر بني عقيل هو السبب في إدامة المسير وعدم العودة، وإلّا ففي المنزل التالي حيث أذن الإمام رسمياً لمن كان معه بالرجوع، وعُلم أنّ وجهة نظر بني عقيل لم تُأمّن، فلماذا لم يرجع؟ إنّ هذه الأمور لم تكن مزاحاً حتّى يقدم عليها شخصية مثل الإمام دون تخطيط.
هذه سلسلة من التساؤلات المطروحة بناء على فرضية النهضة من أجل تشكيل الحكومة الإسلامية، والتي ليس لمؤلف الشهيد الخالد جواب مقنع عليها، ولو فرضنا أنّ له أجوبة فهي لا تعدو أن تكون أكثر من اجتهاد شخصي لا يقبل به الآخرون.
وإن كانت هذه الأسئلة لا موضوعية لها هنا؛ وذلك استناداً إلى التعليقات التي أشرنا إليها تكراراً في مقدّمة هذا النقد وضمن ما حققناه من مطالب هذا الكتاب، ومع ذلك فحتّى لا تبقى هذه التساؤلات دون إجابة فإنّنا سنجيب عنها باختصار وفقاً للترتيب المذكور أعلاه.
1 ـ نعم إنّ المسألة كما تفضلت، فالقدرة العسكرية للإمام كانت أقل من القدرة العسكرية لأخيه، إلّا أنّ غرض الإمام من رفض البيعة والاعتراض على يزيد لم يكن تأسيس الحكومة الإسلامية وهزيمة يزيد عسكرياً؛ كونه يعلم أنّه لا يمكنه تهيئة القدرة العسكرية التي تمكّنه من تنحية هذه الحكومة. لهذا توقع الإمام من الأوّل الخطر المترتب على رفض البيعة، وأخبر عن مقتله مراراً، ولم يقترح أبداً الاستسلام والبيعة. ولو كان قد طرح مثل هذا الاقتراح؛ لكان أشار إليه في إحدى خطبه وخطاباته المحرقة المليئة بإبراز مظلوميته التي تتفطر لها القلوب.
إنّ الإمام يعتبر بيعة يزيد خلافاً للدين والشرف، وموافقة على ترك تعاليم الإسلام، وتضييعاً لسمعة الدين والشريعة؛ لذا لم يستطع تأييد حكومة يزيد، والموافقة الصريحة على تلويث مسند الخلافة إلى هذا المستوى وبهذا الخزي.
إنّ وظيفة الإمام كانت الإعلان عن بطلان خلافة يزيد، ولا يتق أبداً في هذا الموضوع، وعليه أن يستقيم، ويقدّم نفسه في سبيل الله وفي سبيل تحقق هذه المهمّة. ولو بايع الإمام لذهبت مقدّسات المسلمين عرض الرياح، وانعدمت أرضية الثورة على الحكومة ومخالفتها لدى الآخرين.
2 ـ إنّ الإمام لم يرفض رأي الكبار، بل قد رحّب بها صريحاً في بعض الأحيان، فهم قد خاطبوا الإمام من جهة عاطفية وباعتبار علاقتهم بالإمام بما فيه مصلحته الدنيوية، إلّا أنّ الإمام كان يرى مصلحة دينه ومصلحة الإسلام، وعدّة منهم أيضاً كانوا يظنون أنّه من الممكن عدّ بيعة يزيد جائزة لبعض الأعذار، وإن لم أجد أحداً من الكبار قد اقترح على الإمام البيعة، والبعض الآخر أيضاً كان يتعامل مع القضايا بحسب الظاهر؛ لذا خاطب الإمام بلسان المنع متحدثاً عن عدم وفاء أهل الكوفة وعدم إمكان تحقق النصر العسكري.
ومع ذلك فإنّ الإمام لم ير لنفسه عذراً يسوّغ له مبايعة يزيد للمسؤولية الخطيرة جدّاً جدّاً التي تقع على عاتقه، ولا يستطيع غض الطرف عن المصالح الإسلامية لأجل حفظ نفسه وعياله، ويرى أنّ بيعته مع يزيد هي بيعة الإسلام للكفر والحق للباطل.
وعليه لم يكن الإمام على خلاف مع زعماء وكبار مكة والمدينة، غاية الأمر أنّه كان يعتقد بأنّه مكلف بأمر عليه أداؤه، والآخرون أيضاً لم يكن لهم اعتراض في قبال منطق الإمام.
3 ـ لقد كان الإمام مطلعاً على القدرة المادية والعسكرية لبني أمية، كما أنّه لم ينس قساوة قلوبهم وسوابقهم العدائية للتوحيد وعبادة الله وسلالة الرسالة، فهو القائل: ما لم يقتلوني لن يتركوني، لذا فهو كان يعلم أنّه لا يمكن هزيمة بني أمية عسكرياً مما دعاه إلى العزم على محاربتهم من خلال استخدام النضال السلبي والامتناع عن البيعة وقبول المظلومية والشهادة ومحاكمتهم فكرياً، وخلعهم عن الشرعية التي تظهرهم على أنّهم يمثّلون الإسلام وأبعاده المعنوية وأنّهم نموذج لنظام الحكم الإسلامي.
إنّ المسألة من وجهة نظر الإمام هي مسألة تغيير لمسيرة تاريخ الإسلام، وانحراف أفكار الناس، وهدر لجهود رسول الله|، والإمام لم يكن ليتسامح أو يهمل مثل هكذا أمور، فيترك الدين والقرآن وشرف سلالة النبوة والوظائف المنوطة بمقام الإمامة من أجل حفظ نفسه وأعزائه.
إنّ هذا الموقف وهذا الظرف لو حصل لأبيه علي× أو أخيه المجتبى× أو أيّ واحد من الأئمة لأقدموا على نفس مشروع الحسين×. هذه المخاطر تحتاج إلى إنكار علني ومواجهة حادة وصريحة، وتضحية وفداء.
لم يكن سبیل أمام الإمام إلّا القیام، إذ أنّ كل شخص يلاحظ أوضاع العالم الإسلامي مقارنة مع خلافة يزيد فإنّه يرى أنّه يسير نحو الانحدار، ويعلم أنّ إحداث هزّة في أفكار المجتمع متوقف على إيجاد حركة نوعية ومثيرة وعاطفية لها ضجّة حتّى يتفطن الناس.
لقد كان ينظر إلى الخلافة في تلك الأيام على أنّها محققة لآمال وأهداف الإسلام، وقد صارت بهذه الصورة، ويعتبرون الإسلام هو ما عمل به الخليفة، وبحسب الظاهر فإنّه لم يكن أيّ مرجع آخر يكون أسوة عملية للناس ويلتزمون باتّباعه.
لو اتسمت خلافة يزيد بالشرعية بدون ضجة وبإمضاء أو سكوت شخصية مثل الإمام، فإنّه لن يبقى من الإسلام في المستقبل القريب باقية، وسيكون الإسلام أداة ولعبة بيد الحكومة واستغلال أمثال يزيد؛ لذا صمم الإمام على مبارزة هذا الانحراف الفكري، وبدأ بالخطوة الأولى وهي رفض بيعة يزيد، والخطوة الثانية الصمود والمقاومة في مقابل تهديد العدو والمصائب الموجعة؛ حيث لم يكن سبيل آخر لنجاة الإسلام، ولا یمکن السیر قدماً من خلال التسوية والصلح، بل إنّ في ذلك تحقيق لمبتغى الحكومة.
4 ـ إنّ الجواب على الاعتراض الرابع يتمثّل فيما قلناه مراراً وتكراراً في أنّ الإمام لم يقدم حتّى يتراجع، والدليل عليه هو أنّه لما تغيّر الوضع وعُلم لدى الجميع أنّه لا يمكن الذهاب إلى الكوفة فإنّ الامام لم يرجع وواصل مسيره، أضف إلى ذلك إلى أين يرجع الإمام؟ أيّ مكان سيرجع إليه يكون أمره دائراً بين البيعة والشهادة.
96 ـ إنّ ما كتبه في (ص241) حول تصريحات الخطيب الناصبي صحيح، ولكن ما ذكره بأنّ الإمام قد سعى جاهداً من أجل تفادي الحرب وسفك الدماء صحيح بهذا المعنى وهو أنّ الإمام قد أتمّ الحجة عليهم، وهداهم إلى الحق، ودعاهم إلى ترك الحرب، ولم يبتدئهم بالحرب، وكان هذا ديدنه ومشروعه منذ البداية. وإذا كان مقصوده أيضاً الاقتراحات الثلاثة فغير صحيح.
لقد تعرّضت حكومة بني أمية للإمام وحريته في التعبير، وأرادت أخذ البيعة منه تحت السنان. والإمام لم يبايع حتّى استشهد؛ كونه يعتقد أنّ البيعة مع يزيد مساوية لدخول النار، وفعله هذا لا يعدّ غير سلمي؛ إذ أنّ بني أمية هم من غصب الخلافة الإسلامية، وأرادوا أن يأخذوا البيعة من الإمام زوراً وعدواناً، وسلبوه الأمن على حياته حتّى مضى في نهاية الأمر بجرم الثبات والصمود والاستقامة بتلك الطريقة المأساوية شهيداً في سبيل الحق. إنّ ما يضرّ بالإسلام والمسلمين يعود إلى أعمال الحكومة الأموية وأفعالها.
اعلم يا محب الدين الخطيب: إنّ سفر الإمام كان وسيكون إلى يوم القيامة سفراً ميموناً ومباركاً له وللإسلام وللأمّة الإسلامية؛ وستبقى الأمّة الإسلامية تنهل من بركات هذا السفر.
إنّ هذا السفر هو الذي أخبر عنه الله تعالى والملائكة والرسول| ـ لو كنت معتقداً به ـ مراراً وتكراراً، وأنّهم لم يعتبروه غير ميمون وغير مبارك للحسين× والإسلام فقط، بل عدّوه منشأ للبركات والفيوضات والدرجات.
إنّ ما هو غير ميمون على الإسلام والأمّة الإسلامية هو خلافة يزيد وولايته للعهد وجرائم معاوية المتمرد وعدو الدين، ومظالم يزيد في كربلاء وواقعة الحرّة، ما هو غير ميمون قتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحاب رسول الله’، ما هو غير ميمون ظلم معاوية ومخالفته للخليفة بالحق.
عدو الدين الخطيب: إنّ ما هو غير ميمون للإسلام هم أمثالك من المؤلفين المأجورين، وأعداء الشرف والحرية الذين أفنوا أعمارهم في خيانة الإسلام ومساعدة الاستعمار وأهداف الصهاينة، وإيجاد الفرقة بين المسلمين، وإهانة رجال العلم والفكر الإسلامي. حشرك الله مع يزيد وشمر ومسلم بن عقبة.
عدو الدين الخطيب: لو كنت صاحب فهم لعلمت أنّ الخلافة الجائرة کخلافة أمثال يزيد والوليد وشاربي الخمر وملاعبي الكلاب، والذين يرسلون إماءهم إلى المسجد وهم على جنابة حتّى يَأتمّون بأشخاص مثلك، ویريدون الجلوس على سطح الكعبة في وليمة خمر، ويصوبون سهامهم على القرآن، أولئك هم غير مباركين.
إنّ الخروج على هذه الحكومات والشهادة في سبيل الله هي سعادة وخير وبركة بالنسبة للمجاهدين (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[173].
وبعد هجرة الرسول| لا يوجد سفر كسفر الإمام الحسين× له هذا القدر من الخير والبركة إلى يوم القيامة. أنتم جماعة النصّاب وأعداء بيت الرسالة لا تريدون أن تنهلوا من هذه البركات، إنّما تريدون البقاء كمرتزقة تربت في مدارس يزيد وأبي سفيان، وحتّى الآن وبعد مضي ألف وثلاثمائة وثلاثين سنة لا زلتم مدّاحين ليزيد وشمر وسنان والحجاج، وتعتبرون تلك الحكومات واجبة الطاعة، أنتم مختارون في البقاء على الضلالة والضياع!
عدو الدين الخطيب: إذا كان هذا قولك، فاسمع ماذا يقوله العلماء والمفكرون من أهل السنّة الذين يقرؤون التاريخ بالفكر النيّر الإسلامي والراقي. اسمع رأي معاصريك في مصر:
يقول الشيخ محمّد محمود مدني أستاذ ورئيس كلية الشريعة في جامعة الأزهر: إنّ الحسين الشهيد هو النموذج المتميّز للمجاهدين في سبيل الله، الذي أعطى النفس والنفيس من أجل الحق، وسدّ طريق الباطل من الجهات الأربع.
نظر إلى نفسه أنّه فرع شجرة النبوة وولد ذاك الإمام الشجاع الذي لم يطأطئ رأسه مطلقاً من خوف أو ذلة.
ونظر إلى نفسه بأنّه هو المعني بزوال الحزن والأسى ورفع تلك الظلمات.
صوت يخاطبه من أعماق قلبه.
أنت، يا بن رسول الله لرفع هذه الشدائد.
لقد أزال الله بجدّك الظلمات، وأظهر الحق، وأزهق الباطل حتّى أنزل عليه (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)[174]، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
كان والدك صاحب السيف الحاد والقاطع الذي لم يخمد في غمده حتّى جعل رقاب المشركين ذليلة للتوحيد.
قم، يا أبا عبد الله مثل جدّك وأبيك، جاهد وحامي عن دين الله، وادفع الظلمة عنه، وطهّر الأرض من القذارة والبغي والعدوان[175].
الفصل الثالث
في هذه المرحلة بدأ الإمام معارضته لحكومة يزيد من خلال الامتناع عن البيعة، ومن ثمَّ هاجر إلى مكة لكونها مأمناً بحكم (من دخله كان آمناً)، حتّى لا يُلقى عليه القبض في المدينة ويُقتل فيها على حين غرَّة. وقد انتشر خبر هجرته في العالم الإسلامي بما تقتضيه الأوضاع والأحوال ووسائل الاتصال آنذاك، فعلم الجميع أنّهم ضيَّقوا على سبط رسول الله|؛ لكي يأخذوا منه البيعة، وأنَّ الإمام قد امتنع عن البيعة وهاجر إلى حرم الله.
كانت هناك شخصيات دينية وسياسية أخرى في مكة، هيمنت عليها شخصية الإمام بعد وصوله، وأخذت تتردد عليه وتلازمه.
وكانت جلسات الإمام العلمية والدينية حافلة، وعكف الناس ينهلون من فيض ولايته، ويغترف كل شخص بقدره من بحر علم ابن النبي| ومعرفته وفكره ويتزوَّد منه.
عندما وصل خبر هجرة الإمام إلى العراق انهالت عليه باتجاه مكة سيول من رسائل الدعوة المقترنة بإلحاح القوم وإصرارهم، وقسمهم عليه، مدعين إتمام الحجة.
لقد عانت مدينة الكوفة أكثر من غيرها ظلم وجور معاوية، مما جعل مشاعر أهلها تلتهب حقداً على الحكومة الأموية، وأصبح كمن يتحين الفرصة ليعد نفسه للنهضة والانتقام.
ولقد بلغت الخسائر المادية والمعنوية التي تكبدتها حكومة بني أمية وأبناء الزنا من قبيل زياد في هذه المدينة أكثر من الحد المتعارف، وكانت تعدّ تلك المنطقة لشرطة ورجال أمن بني أمية من المراكز الحساسة والمثيرة للقلق؛ لذلك كان يحكمها دائماً ولاة جلادون أمثال: زياد والمغيرة بن شعبة؛ ليكونوا قادرين على إخماد روح الثورة في هذه المدينة.
لقد واجه شيعة علي× في هذه المدينة أقسى ألوان التعذيب، إذ كان القتل ودخول السجن والموت تحت ضرب السياط والتمثيل من جملة العقوبات التي تمارس بحق أيّ شخص يُظهر المحبة لآل بيت النبي|، فالجميع قد ضاقوا ذرعاً من جورهم، ما عدا الذين انساقوا مع بني أمية وقبلوا عَمالتهم والانقياد لهم.
وفي ذلك الوقت أصبح الجانب الروحي لأغلب الناس ضعيفاً، وقد هيمن عليهم الخوف من جنود وعساكر بني أمية، وصار الفشل هو مصير حركات التمرّد التي يقومون بها نتيجة ذلك، فما إن تبدأ حتّى تخبو سريعاً كالحركات المفاجئة، وسخطهم اقتصر على الاستجابة للهتافات الثورية باللسان، والالتفاف حول راية الثورة عندما لا تقترن بالخطر وتَحمُّل الصعاب، فما أسرع أن تدب الفرقة بينهم بسبب الخوف والرعب والنفاق والتشتت والطمع وحب الجاه والمال، وتركهم قائد الثورة وحيداً، والتعاون مع رجال أمن الحكومة لإلقاء القبض عليه، والتسابق في نكث العهد.
كان هؤلاء الناس بهذه الروحية الهزيلة والمتدنية والمهزوزة يعدّون أنفسهم ممن يتلهف للثورة، وحتّى يبرروا مواقفهم، كانوا يقولون لو وجدنا من يقودنا لنهضنا، وأسقطنا الدكتاتور، وفضحنا حكومة يزيد المستبدة والمعادية للإسلام، وأوكلنا الأعمال إلى أنزه الأيادي.
وحقاً كان البعض منهم ـ ممن لا يتجاوز عدد الأصابع ـ أوفياء وصادقين في هذا الادّعاء، وقد نجحوا نجاحاً كبيراً في الاختبار الذي امتحنوا به في حكومة معاوية ويزيد وعبد الملك والحجاج.
أمّا البعض الآخر والذي يشكّل الأغلبية كان ينتهز الفرص ويستغل الأوضاع، حيث إنّ قلوبهم إلى جانب حكومة الحقّ وفي العمل كانوا جيش وقوات حكومة الباطل، ومن خلال توطيد العلاقة مع الإمام الحسين× يصنفون أنفسهم في زمرة الأحرار ويبعثون رسائل الدعوة؛ لكي لا تتشوه وطنيتهم ولا يُنسبون إلى الجهاز الأموي، بل ربما كانوا في ذات الوقت يتعاونون مع بني أمية، ويتجسسون لصالحهم.
وعلى أيّ حال فقد كان لسان حال أهل الكوفة هو مضمون: (رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)[176].
وكأنّهم يقولون للإمام: لماذا لا تلتحق بنا حتّى نقوم بنصرتك، ونضحي بأنفسنا وأموالنا في سبيلك، فتحيي دين الله وتحكم بيننا بحكم القرآن. كان يرى الإمام أنّ تكليفه هو الاستجابة لهذه الدعوة وإتمام الحجة عليهم.
كانوا يقولون: يجب أن ينهض الإمام ويمنع يزيد، ولو لم ينهض واختار السكوت فلا ينبغي عقد أيّ أمل على الآخرين.
وحقاً كان الأمر كذلك فقد كان الإسلام يواجه وضعاً خطراً لم يسبق له مثيل، ولا يمكن إنقاذه من ذلك الوضع إلّا بالتضحية والفداء. كان على الإمام أن يفهم الناس رداءة الوضع، وينذرهم، ويُطلع الجميع على عظم معصية مبايعة يزيد. فعدم قبول دعوة أهل الكوفة مع تلك المشاعر الحماسية التي أظهروها، سيسوّغ لهم إقامة الحجة على الإمام، أو أنّهم على أقل التقادير سيرون أنفسهم معذورين؛ لذلك قبل الإمام دعوة أولئك الناس وهم عديمو الشخصية ما عدا ثلّة قليلة ـ على العكس مما تصوّره كاتب الشهيد الخالد في (ص253) ـ بالرغم من أنَّه كان يتنبأ بالمستقبل.
98 ـ كان موقف الإمام تجاه تلك الكتب والحجج هو قبول الدعوة وإرسال مسلم، وما كتبه في (ص256) من كون الإمام لم يتخذ قرار السفر إلى الكوفة لغاية هذا التاريخ ليس صحيحاً، فقد قرر الإمام الذهاب إلى العراق منذ البداية، وكانت خطته معيّنة، ولم يكن يخطط لكل منزل بحسبه.
ما هو الدليل على قولك بأنّ الإمام لم يعزم على الذهاب إلى العراق قبل أن يستلم كتب أهل الكوفة؟ ألم تذكر بأنّ الإمام قال: إنَّ رسول الله| قد أمرني في المنام بأمر أنا ماض له، فحركة الإمام نحو العراق كانت امتثالاً لأمر النبي|، وعلى أساس هذه الرؤيا لا تستطيع أن تقول بأنَّ الإمام لم يعزم على الذهاب قبل استلام الكتب؛ لأنَّ هذه الرؤيا يمكن أن تكون قبل استلام الكتب، بل يمكن أن يكون قد رآها في المدينة، وحتّى لو لم يكن أهل العراق قد دعوا الإمام فقد كان مضطراً للخروج من مكة، كما ورد في الروايات، فعندما أقبلت رسل يزيد إلى مكة لغرض قتل الإمام عزم الإمام فجأة على الذهاب للعراق؛ لكي لا تهتك حرمة الكعبة وحرم الله، بالإضافة إلى أنّ وصول الرسائل من العراق كان معلوماً، ومع العلم بمطالبة أهل العراق ووصول كتبهم، لم يكن العزم المسبق في غير محله، بل كان لازماً.
99 ـ ذكر الكاتب شرحاً فيما يتعلق بمهمّة مسلم في (ص257)، ولأجل أن يثبت أنّه صريح فيما ذهب إليه قام بتفسير جملة (فإنّي أقدم إليكم وشيكاً) التي وردت في كتاب الإمام، بالنحو التالي: (حينذاك سألبي طلبكم، وسأقدم إلى الكوفة سريعاً)، في حين أنّ كلام الإمام هذا يصدق أيضاً على مجيئه إلى العراق ودخوله في كربلاء ـ على أولئك المضيفين الخائنين المتخاذلين ـ لذلك قال الإمام في خطبة ألقاها عند لقائه جيش الحر: (فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم). وعلى أيّ حال إنّ هذا ليس مهمَّاً جدّاً، وفي بعض المواضع الأخرى أيضاً رغم أنَّ لفظ الكوفة لم يرد في نص الرواية لكنّه جاء به في الترجمة.
إنَّ الأمر الذي نلفت إليه هنا هو أنَّ جملة: (فإن كتب إلي أنَّه قد اجتمع رأي ملئكم...إلخ)، ليس لها مفهوم؛ لأنّ المراد هو أنَّي أرسل إليكم مسلماً، وأنا ألتحق به بعد وصول كتابه، أي أنّ مجيئي سيكون في هذا الوضع وذلك الوقت.
قد يقول قائل: إذا لم يكن لهذه الجملة مفهوم، إذن ما الفائدة من إرسال مسلم؟
كان سيّد الشهداء× معارضاً لخلافة يزيد، وفضلاً عن كون هذه المعارضة وظيفة فردية، كان الإمام من جهة شخصيته المعنوية والعائلية البارزة والمسؤول عن حفظ ميراث النبوة، ويعتقد عموم الناس بأنّ مسؤولية حراسة الشريعة والحفاظ عليها تقع بالدرجة الأولى على عاتقه، كان من اللازم أن يُعارض ويُعلن عن معارضته؛ لينطلق صوته في العالم الإسلامي، ويتضح للجميع أنّ الإمام وأهل بيت الرسالة^ يعارضون بشدّة هذه الألاعيب وتلويث يزيد المشؤوم النجس لمنصب زعامة الإسلام. كان ينبغي أن يتضح بأنّ الإمام ـ الذي هو الشخصية الوحيدة المتميزة في العالم ـ صمّم تصميماً قطعياً على المعارضة، وأنّه كسر السد الذي شيّده البعض أمام معارضة الناس وردّة فعلهم باسم الخروج عن الجماعة والثورة ضدّ الحكومة، وهذا ما لجأت إليه حكومات الجبابرة أمثال يزيد والوليد والحجاج وزياد وابن زياد، الذين كانوا يعتبرون الخروج عليهم خروجاً عن الحكم الشرعي، فقد كان من الواجب تحطيم هذا الحاجز والتمييز بين الحق والباطل، ومنع الحكومات الباطلة من استغلال قانون العقوبة الذي يُتخذ بحقّ من يثورون ضدّ الحكومة الإسلامية؛ لذلك رفعت خطوة الإمام المتمثلة في الهجرة من المدينة إلى مكّة صوت معارضته وأوصلتها إلى أسماع القريب والبعيد.
كان توقف الإمام في مكة الذي كان من أهم مراكز التردد لا سيما في شهر الحج، وكان يتشرّف بلقائه بعض الأكابر والشخصيات، وهو يتحدث معهم بهذا الموضوع، ويبيِّن أدلته وبنود وثائقه في التخلف عن البيعة، ويعلن للجميع: عدم جواز التزام الصمت تجاه هذا الوضع المدمِّر للإسلام، فروضة الدين المحمدي ليست من الرياض التي تعشعش فيها هذه الغربان والخفافيش، ومنصب الخلافة الإسلامية ليس من المناصب التي يستحق يزيد التربع عليه، وكان الإمام يبيِّن لهم المسؤولية الخطيرة التي يجب أن يتحملوها في هذا الوقت.
وبعد أن وصلت إليه كتب الدعوة وتتابعت عليه رسل الكوفيين، وتجاوز إلحاحهم وإصرارهم الحد، حتّى كتبوا له: إذا لم تستجب لدعوتنا فسنشكوك إلى جدِّك، فأرسل الإمام مسلماً إلى الكوفة. وقد كان الإمام يراعي في خطواته التي يتخذها نواحي مختلفة وفقاً لخطَّة، وفي إرسال مسلم إلى الكوفة كانت تتحقق الفوائد التالية:
1ـ يصبح صدى صوت معارضة الإمام وامتناعه عن البيعة ينطلق بشكل أقوى وأوسع وأبلغ، وأوَّل ما يتبادر لذهن أيّ شخص من ذلك هو رفض الإمام لحكومة يزيد ووجوب الامتناع عن بيعته وحرمة التعاون معه وعدم جواز مساومته أبداً. إذ كان الإعلان عن بطلان خلافة يزيد يمثّل المعنى التام لأخذ البيعة للإمام من الناس والعمل على إسقاط الحكومة اليزيدية.
2ـ إنّ أخبار بيعة أهل الكوفة لمسلم في بداية حكومة يزيد، وخروجه، ونكث العهد ونقض البيعة من قبلهم، وشهادة مسلم وهاني، التي كانت تنتشر وتتناقلها الألسن جعلت الأنظار تتجه إلى المعارضة التي كان يبديها الإمام، وتعتبرها بمثابة أهم وقائع وأحداث ذلك الزمان، وهيَّأت الآذان لسماع نتيجة معارضة الإمام ليزيد، فكانت تُطرح أخبار هذه الحادثة المثيرة للقلق في كافة المجالس والأوساط، والقدر المسلّم هو أنّ العمل الذي قام به الإمام أثبت جواز بل وجوب الخروج على الحكومة، بالرغم من جهازها الإعلامي الذي كان يعتبر ذلك إخلالاً بالنظام وسبباً للتفرقة وأمراً غير جائز، ومن المعلوم أنّ الإعلام اليزيدي لم يكن يُأثّر في مقابل عمل الإمام الذي وصفه النبي| بسيّد شباب أهل الجنة، وقال في حقِّه وحقِّ أخيه: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا).
3ـ كانت أدنى منفعة من إرسال مسلم إلى الكوفة أن يُعرف الإمام بين كافة المسلمين بأنَّه الخليفة الرسمي والشرعي الوحيد للعالم الإسلامي، وأنّ طاعته واجبة على الجميع؛ لأنَّه بعد أن بطلت خلافة يزيد وأصبحت غير شرعية من جهات متعددة، وأصبح غير جائز الطاعة، فضلاً عن كون بيعة الناس له قد أُخذت على أساس القهر والترغيب والترهيب، وتحت بريق السيوف وأسنة الرماح.
أصبح الإمام الشخص الوحيد في العالم الإسلامي الذي أعطته شرائح الناس المختلفة ـ أو ما يطلق عليهم أهل الحل والعقد ـ أصواتها وبايعته بحرية؛ لكونه يمتلك الصلاحية والكفاءة، حيث بايعته شخصيات بارزة أمثال حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، وأنس بن حارث، وعبدالرحمن بن عبد رب الأنصاري، وآخرين من أصحاب النبي|، وغيرهم؛ بناء على ذلك كان الإمام هو الخليفة الرسمي، ويزيد هو الغاصب والخارج على الإمام، وبما أنّ هذه البيعة صحيحة، كان بعض أهل السنّة يطلقون على الإمام لقب أمير المؤمنين. إذن من هذه الجهة أصبح الإمام فاتحاً بإرسال مسلم؛ لأنّه تمّ الإعلان الرسمي عن الخلافة وانعزل يزيد تلقائياً، وعليه أصبح يزيد هو الخارج بالقهر والغلبة على الخليفة المنصوص الذي يمتلك كافة شروط الزعامة والذي انتخبه الناس، وقتل الإمام الذي كانت طاعته مفترضة على الجميع.
4ـ إنّ إرسال مسلم إلى الكوفة كشف عن كون أهل بيت النبي| يهيمنون على الأفكار والقلوب، والناس يميلون إليهم بطبعهم ويرغبون في حكومتهم، وتؤيّدهم الروح الجماهيرية بشكل مطلق، ولو كانت هناك حرية رأي لانتخب الجميع ـ أو أغلبهم على أقل تقدير ـ الإمام، إلّا أنّ القوَّة العسكرية وأسنَّة الرماح قامت بقمع أفكار المجتمع.
5ـ إنّ دعوة أهل الكوفة وما كان لديهم من إصرار وإلحاح، كان يستوجب بالدرجة الأولى هذا المقدار من ردّة فعل الإمام، وهو إرفادهم شخصية حتّى يلقي الحجة عليهم، ويثبت لهم وللآخرين استعداده لإسقاط حكومة يزيد المتجبرة؛ كي يَعلَم الجميع أنّ القائد الحقيقي للناس والإمام المنصوص من قبل الله والرسول| مبادر ومستعد لإسقاط الحكومة ودفع الخطر الذي يهدد الإسلام. ولو أنَّ الإمام لم يبال بتلك الكتب والرسائل، لأمكن لجميع الناس، فضلاً عن أهل الكوفة القول: إذا لم يتعاون مثل سبط النبي| مع المسلمين الأحرار في صدّ مثل يزيد، فما الذي يمكن أن نفعله نحن، إنّ سكوته وعدم تعاونه فضلاً عن كونه يُضعّف جبهتنا فهو يقوّي جبهة العدو وإعلامه أيضاً، وعندما لا يبالي الإمام تجاه تلك الأوضاع، فكيف يمكن أن يدافع الآخرون عن الدين ويتألمون على ضياع أحكامه واضمحلال الإسلام.
فحينما يقول الكاتب بعد ثلاثة عشر قرناً: إنّ الأوضاع كانت مساعدة، والإمام كان يمتلك مئة ألف مقاتل مسلح، على الرغم من أنّ الوضع قد اتضح وعُلم نفاق أهل الكوفة بإرسال مسلم ومجيء الإمام بنفسه إلى كربلاء، ووقوع تلك المصائب الفجيعة؛ فماذا كان يقول لو لم يكن الإمام قد جاء، والوضع لم يتضح؟!
أمَا كان يقول: لقد امتثل لأمر الإمام مئة ألف مقاتل مسلح ـ ممن كانت حكومة يزيد التي تعاني من الضعف الشديد بالنسبة لهم لقمة سائغة ـ لكي يؤسسوا حكومة إسلامية، إلّا أنّ الإمام قعد في بيته، وأضاع هذه الفرصة التي ليس لها مثيل! لذلك أرسل الإمام مسلماً، وبدأ مسلم يؤدّي عمله، فأخذ البيعة من الناس، وسلَّم تقارير عمله إلى الإمام أيضاً، إلى أن انقلبت الأوضاع وانكشف نفاق أولئك الناس.
الظاهر أنّ ما ذكره في (ص261 وص262) حول تأخير حركة الإمام الحسين× باتجاه العراق بعد وصول رسالة مسلم وسبب توقفه لم يكن صحيحاً، وذلك للأسباب التالية:
أوّلاً: الحسابات التي قام بها الكاتب هنا بالاستناد إلى مروج الذهب والإرشاد محل تأمّل، وتحتاج إلى دقَّة أكثر؛ لأنَّ طيِّ مسافة مقدارها ألفان كيلومتر بين مكّة والمدينة في ظرف اثني عشر يوماً ـ حسب ما ورد في (ص265) ـ أي قطع مئة وسبعين كيلومتراً في اليوم تقريباً يبدو بعيداً، وبناء على ذلك إذا كان ما رواه المسعودي صحيحاً، ستصبح الرواية التي تذكر التيه في الطريق وموت الدليلين اللذين كانا مع مسلم ضعيفة، ولعل مسلم قطع هذه المسافة في ظرف عشرين يوماً دون أن يواجه هذا المانع كما هو الظاهر من عبارة المسعودي، ويكون معدل قطع المسافة عندها مئة كيلومتر يومياً بصورة مستمرة أيضاً، ونرى من جهة أخرى بأنّ الإمام قد قطع هذه المسافة في حدود أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين يوماً تقريباً.
بناء على ذلك ليس من المعلوم أنّ يكون توقف الإمام في مكة قد طال بعد وصول رسالة مسلم، ونحن نحتمل احتمالاً قوياً أنّ الإمام قرر أن يتجه إلى العراق قبل وصول رسالة مسلم؛ لكي لا يُراق دمه في الحرم وتُهتك حرمة الكعبة.
ثانياً: لو كان توقف الإمام في مكة قد دام أربعة عشر يوماً ـ على فرض كتاب الشهيد الخالد ـ بعد وصول رسالة مسلم، فإنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ الإمام كان يعلم بأنّ دخوله إلى الكوفة سيكون بعد شهادة مسلم في كل الأحوال، ولو أنّه جاء على عجل واستغرق مجيئه اثني عشر يوماً أيضاً لتزامن ذلك مع شهادة مسلم تقريباً، ولانفرط في مثل هذه الحالة عقد خطّة الإمام الحقيقية التي كانت ستنتهي بكربلاء، ولقتلوه في الكوفة، وما كان بالإمكان القيام بما تمّ إنجازه في كربلاء، ولاشتد وطيس الحرب وسالت دماء كثيرة جدّاً، مما يسوّغ لزبانية الحكومة الاستفادة من ذلك في إعلامهم المسموم.
على أيّ حال إنّ الأسباب التي ذكرها لتأخير حركة الإمام مردودة، وغير مستساغ عقلاً وشرعاً تأخير مثل هذا الموضوع المهم بهذه العلل، الذي من الممكن أن تؤثر فيه الحوادث غير المتوقعة ـ على حدّ قولك ـ في كل لحظة.
أمَّا السبب الأوّل فليس صحيحاً؛ لأنّه لا يمكن تقديم أداء مستحب من المستحبات على أداء واجب مهم وفوري من قبيل تأسيس الحكومة الإسلامية الذي إذا تحقق لحظة واحدة أسرع يُقدَّم في مقام التزاحم على كل مستحب، بل على الكثير من الواجبات.
والسبب الثاني ليس هو إلّا جملة من العبارات المهملة، فمن الذي يلتقي به الإمام؟ ومع من يتشاور؟ وما الذي يمكن أن يفعله الحجاج الذين يأتون من خراسان وأذربيجان ومصر وأفريقيا والمناطق التي يسيطر عليها بنو أمية؟ فضلاً عن مدى ما كانوا سيبدونه من استعداد للمشاركة؟! وكيف تعامل أهل الكوفة بالرغم من كل الرسائل التي كتبوها والرغبة التي أبدوها؟
بالإضافة إلى أنّ الإمام في تلك الفترة كان يتصل ويتفاوض مع الشخصيات الإسلامية البارزة من غير أهل الكوفة، وقد أجمعوا بالاتفاق على خطورة الذهاب إلى العراق، بل كان جلّهم يتوقع شهادة الإمام ويصرّح بذلك، فماذا أجابهم الإمام؟
ولو أنّ الإمام قد اتّصل بالآخرين لما تغيّرت النتيجة؛ لأنّ هذا قرار قد اتخذه وكان قد تحرّك نحو الهدف الذي كان يريده.
وأمّا بالنسبة للسبب الثالث فإنّه مرفوض بتاتاً؛ لأنّه على أيّ حال كان إعلام بني أمية موجوداً، حيث كانوا يعدون الإمام مُخلاً بالأمن (العياذ بالله)، بيد أنّ هذا الموضوع لم يكن مادّة مهمة لإبراز قوّة إعلامهم أو يترك أثره في النفوس.
إذن فقد اتضح بأنّ أيّ من العلل المذكورة ليست كافية لتبرير توقف الإمام في مكة، بل يمكن القول: إنّ هذا التأخير في الحركة دليل على أنّ الإمام كان عالماً بالأوضاع، ولم تكن غايته تأسيس الحكومة، إذ لو كان غرضه ذلك ولم يكن يعلم بالمستقبل وكان مصدر معلوماته هو تقرير مسلم، فلماذا إذن لم يعمل فوراً على أساس تقريره، ولم يتحرّك؟ ولا يوجد لهذه الأسئلة جواباً سوى أنّ الإمام كان يعلم بعاقبة هذه النهضة، وكانت لديه مهمّة إلهية توجب عليه أن يثبت ويقاوم حتّى النهاية.
6ـ المرحلة الثانية: حركة الإمام المفاجئة
100ـ إنّ ما كتبه في (ص265 ـ ص268) نظرة عامة لتسلّط الحكومة الأموية على الأوضاع، وعدم توازن قوى الطرفين، وأنّ كافة التقييمات المتعلقة بتوازن قوى الطرفين التي أجراها الكاتب فيما سبق كانت باطلة، حيث كان لجهاز الحكومة القدرة على ضبط الأوضاع والسيطرة عليها من جميع الجهات متخذاً التدابير اللازمة لذلك في مكة والكوفة، مما من شأنه الحيلولة دون تأسيس حكومة جديدة.
101ـ في (ص269) ذكر بأنّ كل همِّ الإمام كان منصبّاً على الوصول بأسرع وقت ممكن إلى الكوفة، وتأسيس الحكومة الإسلامية الحرَّة بدعم القوى المتطوّعة والمتشكّلة.
إذا كانت جميع أفكار الإمام قد انصبَّت على الذهاب إلى الكوفة وتأسيس الحكومة، فلماذا لم يتحرّك بسرعة، وتأخر إلى أن أصبح الخطر أكيداً؟ إنّ التأخير أربعة عشر يوماً في الحركة نحو الكوفة ـ كما تدّعي ـ لا ينسجم مع فكرة تأسيس الحكومة والتقرير الصريح لمسلم. فأين ظهرت هذه القوات التي تمّ تشكيلها التي أخَذْتَ تتحدث عنها دائماً، وأين تشكَّلت؟ وعلى فرض تشكّلها فلماذا لم تتحرّك عند اندلاع ثورة الكوفة؟ إذ من المعلوم أنّ القوى المؤتلفة لا يمكن أن تنسحب بهذه السرعة تاركة قائدها يخوض الحرب وحده.
102ـ لماذا اختار الكوفة؟ (ص270).
نجيب: حتّى يذهب إلى كربلاء، ولو لم يكن هناك سرّ أو مهمّة في البين لكان يوافق يقيناً على اقتراح ابن عباس، وأهل اليمن وإن لم يدعوا الإمام ـ ولعل ذلك لأنّهم غير قادرين على إعانة الإمام حتّى الانتصار ـ إلّا أنّه لو ذهب إلى هناك لعله لم يُقتل بهذه السهولة وحيداً لا ناصر له ولا معين. فقد كانت اليمن مركزاً لشيعة الإمام وأبيه، وهؤلاء اليمنيون هم الذين تفانوا في ركاب علي× في حرب صفين.
زعماء الكوفة من أمثال شبث بن ربعي، وحجار بن أبحر، والأشعث بن قيس، وفي هذا الزمان أبناؤه، وعمرو بن الحجاج كانوا منافقين، وبالرغم من أنّ الشهادة كانت المصير المحتوم للإمام أينما حلّ وذهب، وما كان بنو أمية ليتركوه، إلّا أنّ الذهاب إلى كربلاء كان جزءاً من الخطّة التي كان ينبغي على الإمام تنفيذها.
وأنت قد سلَّمت بهذا المقدار وهو أنّ الإمام في جوابه على كلام بعض الشخصيات البارزة قال: «لقد أمرني النبي| في المنام بأمر أنا ماض له» فإن لم يكن هذا الأمر هو حركته باتجاه العراق والذهاب إلى كربلاء فماذا يمكن أن يكون هذا الأمر؟!
إنّ هذه الأدلة التي ذكرتها لاختيار الكوفة غير مقنعة، نظراً لتاريخ أهل الكوفة المشوب بالخذلان وتاريخ أهل اليمن المليء بالفخر والاعتزاز، فلو كان الغرض تأسيس الحكومة لوجب أن يكون العمل وفق هذا الرأي الذي اقترحه ذوو النوايا الحسنة والساسة الحذّاق أمثال ابن عباس.
103ـ في (ص271) لمّا واجه الكاتب موضوعاً تاريخياً مسلَّماً يدل على أنّ الإمام كان عازماً على الذهاب إلى كربلاء، ولم تكن الكوفة مقصده ولا تأسيس الحكومة هدفه، فقد أخذت تعتريه حالة من الاضطراب بحيث شرع في (ص272 وص273) بقراءة شيء من التعزية.
هذا الموضوع وهو وصول خبر شهادة مسلم وهاني بهذا الوضع المفجع، يجعل من ذهاب الإمام إن كان قصده الكوفة متعذراً، وإن كان غرضه تأسيس الحكومة فسيكون منتفياً أيضاً؛ لتوقفه على تحصيل القوّة العسكرية في الكوفة. والمتبادر هو أنّ على الإمام أن يرجع فوراً من منزله الذي وصل إليه، أو أن يُعلن عن برنامج عقلائي ومنطقي آخر، وفي مثل هذه الحالة يجب أن تُفتح جميع ملفات الموضوع وتُراجع[177]، ولابد من تأييد آراء وجهاء بني هاشم من قبيل ابن عباس ومحمّد بن الحنفية وغيرهم؛ ذلك لأنّ احتمال تأسيس الحكومة لم يكن عقلائياً وكانت نسبة تحققه تقدر بواحد بالمئة، بل أقل من ذلك، فضلاً عن أنّ الرجوع باتجاه مكة للأمان الذي كان قد أعطاه حاكم الحجاز يدفع الخطر بصورة مؤقتة.
لكن لاحظوا هذا الكاتب كيف يشبك هذا الموضوع التاريخي الحساس، ويخدع القارئ بلفظ شورى الصحراء.
بناء على نقل بعض المؤرخين الذين يعتمد عليهم كاتب الشهيد الخالد أمثال الطبري وابن الأثير وابن كثير وأبي حنيفة الدينوري، فإنّ الإمام لم يعقد مشورة حول موضوع الرجوع أو الذهاب إلى الحجاز بعد وصول خبر شهادة مسلم وهاني، ولم يستشر أحداً، سوى بعض الأصحاب ـ ولعلهم كانوا نفس الأشخاص الذين هجروا الإمام في المنزل التالي ـ وأبناء عقيل (رضوان الله عليهم) الذين أبدوا آراءهم ابتداءً[178]، لكن الكاتب لم يستند في هذا الموضع إلى هذه الكتب، مكتفياً بالاعتماد على كتاب ابن قتيبة الذي لم يوافق نقله هنا ما نقلته الكتب التاريخية الأخرى،[179] أو تاريخ ابن اعثم ـ بواسطة مقتل الخوازمي ـ[180] الذي عدّه مراراً غير معتبر ولا يمكن الاعتماد عليه.
أمّا الكتاب الثالث الذي اعتمد عليه هنا فهو كتاب الإرشاد، وبغض النظر عن التعارض الذي يلاحظ بينه وبين تاريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير والأخبار الطوال في هذا المورد، فإنّه بحسب ما أورده الشيخ المفيد رضوان الله عليه في ما يتعلق بقضية وصول خبر شهادة مسلم ومفاوضات الإمام مع الأصحاب التي أطلق عليها الكاتب (شورى الصحراء) ـ ليصوّر جهل الإمام بالوقائع المستقبلية وعجزه عن توقع الأحداث ـ لم يكن الأمر أكثر من أنّ الرجلين الأسديين اللذين وصلتهم معلومات عن تأزم الأوضاع بعد مقتل مسلم وهاني قد أقسما على الإمام بعد وصول الخبر وسماعهم استرجاع الإمام المكرر، بأن يعود من ذلك المكان وأن لا يوقع نفسه وأهل بيته في الخطر؛ لخلو الكوفة من أنصاره وشيعته. حينها التفت الإمام إلى بني عقيل وعرض عليهم الرأي،[181] فقالوا: نُقسم بالله أنّنا لن نرجع حتّى نأخذ بثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم، فقال الإمام: إذن لا خير في العيش بعد هؤلاء. ومن خلال كلام الإمام هذا عُلم أنّه عازم على الذهاب، وقد قال البعض له أيضاً: أنت لست كمسلم، وإذا ذهبت إلى الكوفة فإنّ الناس ستلتحق بك مسرعة.
سكت الإمام وكان سكوته هذا يحمل جواباً ومعنى عميقاً، كأنّه يريد القول: إنّ أهل الكوفة سيتعاملون معي مثل ما تعاملوا مع مسلم، ولا يمكن الذهاب إلى الكوفة بالاعتماد على هذا الأمل، فضلاً عن أنّ جميع الطرق المؤدية إليها مسدودة مما يجعل دخولها متعذراً. وأمّا بالنسبة لهذه العبارة التي نقلها عن ابن قتيبة[182] (قد جاءك من الكتاب ما نثق به) فالظاهر أنّها غير صحيحة؛ لأنّ قضية زيف الرسائل قد انفضحت قبل قتل مسلم، وما كان بالإمكان الوثوق بها بعد ذلك، وبعدها لم تصل أيّ رسالة نصرة من الكوفة، فتاريخ شورى الصحراء لم يكن أكثر من هذا.
كما تلاحظون من خلال ما ذكر فإنّ الإمام لم يمتنع عن الذهاب بالرغم من أنّ الجميع كان يعلم بعدم إمكان تأسيس الحكومة الإسلامية، وأنّ التقدّم نحو الكوفة يشوبه الخطر الحتمي.
إنّ ما كتبه من أنّ الرأي الذي أبداه أصحاب الإمام كان معقولاً؛ لأنّ جيش الإمام المتطوع أصبح بلا تكليف ولا قائد بعد قتل مسلم، والقيادة الحقيقية لجميع القوى الوطنية العراقية كانت مع الإمام، يبعث على الاستغراب حقّاً، وكأنّ الكاتب أراد أن يستهزء بالإمام (العياذ بالله) ويسخر من هذا الجيش الوهمي، وإلّا أيّ جيش؟ وأيّ قوات؟
أليس من المخجل أن يكرر شخص هذه الألفاظ الفارغة لتأييد رأيه الخاطئ؟! أولم يكن مسلم قائد هذا الجيش، فلماذا تركه وحيداً؟ كيف يمكن أن يذهب الإمام إلى الكوفة؟ ولماذا لم ينتفض هذا الجيش ويلتحق بالإمام عندما سمع أنّ الإمام جاء إلى كربلاء؟ لماذا هذا الإصرار على مسألة يكذّبها العقل والتاريخ والواقع الخارجي؟
وأمّا مسألة خطر الرجوع إلى الحجاز فلم تُطرح في تلك الشورى أبداً، إذ لو كانوا يشعرون بالخطر أو يرون أنّ خطر الرجوع مساو لخطر الذهاب، لطرحوه في تلك الشورى، ولاتخذ المؤيّدون للذهاب ذلك حجة، وقالوا نحن مضطرون للذهاب. فما الذي حدث حتّى لا يُطرح هنا موضوع الرجوع أصلاً، وطُرح فجأة في منزل آخر عند الالتقاء بجيش الحر، ولم يتحدّث هنالك بنو عقيل؟ كل ذلك شاهد على أنّ الإمام كان ينفذ خطته وكان اقتراح الرجوع في منزل آخر إتماماً للحجة؛ لذلك لم يتحدّث بنو عقيل؛ لأنّهم كانوا يعلمون أنّ الأمر مجرد إتمام للحجة.
11ـ رسالة وخبر، وترك الأمانة في الكتابة
104ـ عندما يجتاز الكاتب شورى الصحراء، يذكر في (ص276) بأنّ القافلة وصلت ـ طبقاً لقرار الشورى ـ إلى منزل زبالة،[183] وهنا جلب رسول عمر بن سعد وابن الأشعث رسالة للإمام، ومن مسلم نفسه الذي تدّعي بأنّ الإمام تحرّك اعتماداً على تقريره، حيث خاطبه فيها بقوله: ارجع بأهل بيتك ولا يغرّك أهل الكوفة.. فإنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني. في هذا المنزل وصل خبر شهادة رسول الإمام، وأذن الإمام لمن معه بالرجوع، وتفرَّق الناس من حوله، ولم يبق معه سوى أشخاص كانوا قد رافقوه من المدينة ومجموعة قليلة غيرهم. إلّا أنّ الكاتب لكي لا تنتفي الفكرة الوهمية لطلب الحكومة مرّة أخرى، وحتّى لا يحرجه القارئ فإنّه قام بتفسير كلمات الإمام التي جاءت بهذا اللفظ:
(بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمَّا بعد فإنَّه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، وعبدالله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام)،[184] بما معناه: إنّ أوضاع الكوفة لم تعد مواتية؛ لأنَّه قد قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ومبعوثي الخاص، لذا من يرغب في الرجوع فليرجع فليس عليه ذمام.
إنّنا نترك الحكم هنا للقُرَّاء، ونرجوا أن يطابقوا هذه الترجمة مع الأصل؛ ليروا كيف ناقش المؤلف موضوع سيد الشهداء روحي لمقدم زوّاره الفداء.
إنّ الإمام يعلن بأنَّه قد وصلنا خبر قتل مسلم وهاني وعبدالله بن يقطر المفجع، وتخلَّى عنَّا شيعتنا وتركونا.
ومضمون كلام الإمام هو أنّ أوضاع الكوفة غير مواتية جدّاً، ولا يوجد أيّ أمل في الحصول على مساعدتهم ونصرتهم. لكنّ الكاتب يقول: إنّ الأوضاع لم تعد مواتية؛ كونه رأى أنَّه غير قادر على التأويل والتبرير والتلبيس في هذا المورد ويعلم أنّه سيواجه الأسئلة التالية شاء أم أبى، ألا وهي: لماذا لم يرجع هنا الإمام إلى الحجاز؟ ولماذا استمر في مسيره رغم انتفاء مسألة تأسيس الحكومة والاعتماد على الجيش الوطني على حدّ قول هذا الكاتب؟ إلى أين كان يذهب؟ لماذا لم يتوقف هنا لكي يتضح الوضع أكثر؟ لماذا قرّب نفسه للخطر أكثر؟ إلى أين كانت وجهته؟
أيَّها السيّد الكاتب: لماذا لم تذكر هنا مجريات منزل (بطن العقبة) الذي أعقب هذا المنزل؟ ألم يتشرّف عمرو بن لوذان بلقاء الإمام في هذا المنزل، وأقسم على الإمام أن يعود، وقال له: أنشدك الله لما انصرفت، فوالله ما تقدم إلّا على الأسنة وحد السيوف، فقال له الإمام: ليس يخفى علي الرأي، وأخبره الإمام صراحة بشهادته ضمن جوابه الذي ذكرناه ضمن الشرح الذي أوردناه في المقدّمة[185].
أيَّها الكاتب لماذا لم توضِّح المطلب هنا بصورة كافية؟ لماذا لم يُذكر هنا حرفاً واحداً عن الرجوع عندما ظهر الوضع المقلق الذي جعل النساء والأطفال يعانون من الهم والغم؟ مع أنّ الخطر يرتفع مؤقتاً بالرجوع.
إذن هذه الأسئلة لا جواب لها سوى أنّ قرار الإمام بالخروج كان قطعياً وهذه الأخبار واضطراب الأوضاع والأخطار لم يثن الإمام عن المسير.
12ـ تصريح رواية الطبري بعلم الإمام بشهادته
105ـ الموضوع البالغ الأهمية هنا هو الجملة التي نقلها الطبري بعد كلام الإمام، وأنّ الكاتب بعد أن ترجم كلام الإمام بحسب رغبته لم يعر أهمية إلى هذه الجملة أيضاً. وهذه الجملة صريحة في أنّ الإمام كان عالماً بشهادته ماضياً نحوها، ولا يوجد أيّ طريق للتبرير والتأويل في ذلك.
رواية الطبري: (فتفرّق الناس عنه تفرّقاً فأخذوا يميناً وشمالاً، حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ـ ووفقاً لرواية الإرشاد وآخرين ـ، وإنّما فعل ذلك؛ لأنَّه ظنّ أنَّما اتبعه الأعراب[186] لأنَّهم ظنَّوا أنَّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون على ما يقدمون، وقد علم أنَّهم إذا بيَّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه).
هذا هو الطبري! وليس النقل نقل السيّد ابن طاووس+، أو نقل ابن أعثم، بل رواية الطبري الذي يتمسك به الكاتب تمسكاً شديداً. تفضلوا لنرى ما الذي تفهمونه من رواية الطبري هذه؟ فهنا لم يأت جيش الحر بعد، ولم ينقطع الأمل ـ بحسب قولك ـ عن الكوفة، ولم يكن هناك مانع من رجوع الإمام إلى الحجاز.
ومع ذلك فإنّ الطبري يُصرّح في هذه الرواية المعتبرة التي يؤيّد نصُّها سنَدها بأنّ الشهادة كانت هدف الإمام، وأنّه كان سائراً إلى مصرعه، وكان يريد أن يصحبه أشخاص مستعدين للشهادة ويحملون نفس هذا الهدف. لماذا لم يراجع الكاتب هنا تاريخ الطبري؟ واكتفى برواية الإرشاد ولم يلتزم بالأمانة المطلوبة في ترجمة ذلك أيضاً؟ إنّه سؤال ينبغي أن يعرضه على محكمة وجدانه كي يجيب عنه!
13ـ خطبة الإمام (ص279)
106ـ إنّ ما روي في تاريخ الطبري والإرشاد فيما يتعلق بخطبة الإمام عند لقاء جيش الحر، خطبتان: إحداهما بين أذان وإقامة صلاة الظهر، والثانية بعد صلاة العصر.
لم يتحدّث الإمام في الخطبة التي تلت صلاة العصر عن الذهاب إلى الكوفة، ووفقاً لرواية الطبري[187] أورد في الخطبة التي ألقاها أوّلاً الجملة التالية: (فإن تُعطوني ما أطمئنُ إليه مِن عُهودكم ومواثِيقكم أقدم مِصرَكم)، وقد جاءت هذه الجملة بهذا اللفظ في الإرشاد الذي هو أكثر اعتباراً من الطبري من جميع الجهات: (فقد جِئتُكم فاعطوني ما أطمئن إليه مِن عُهودكم ومواثِيقِكم).
إلّا أنّ الكاتب هنا نقل رواية الطبري بالمعنى تقريباً، وأخطأ في مكان إلقاء الخطبة أيضاً، وغضَّ النظر عن رواية الإرشاد؛ لأنَّها لم تكن منسجمة مع رأيه[188]، بالرغم من أنّ رواية الإرشاد أقرب للصحة؛ لأنَّه ليس بإمكان جيش الحر الذي لم يكن يبلغ أكثر من ألف مقاتل فعل أيّ شيء سوى إعطاء العهود والمواثيق والالتحاق بجيش الإمام، فضلاً أنّ التحاق هذا الجيش لن يجعل الذهاب إلى الكوفة ممكناً حتّى يُعلِّق الإمام قرار ذهابه على عهودهم ومواثيقهم.
على أيّ حال إنّ هذا الموضوع ليس مهمَّاً سواء أخذنا برواية الإرشاد أو بنقل الطبري، ولقد قلنا سابقاً في الجواب عن مثل هذه الجمل الشرطية في هذه المقامات: إنّها لا تدل على عدم علم الإمام بعاقبة الأمر وعدم إمكان الذهاب إلى الكوفة، وأنّ السبب في دعوة الإمام لهم لم يكن إلّا من باب إتمام الحجة مثلما دعا عبيدالله بن الحر الجعفي، وإلّا كان من المعلوم أنّ مرافقة عبيدالله بن الحر أو التحاق جيشه لا يؤديان إلى الانتصار في الصراع العسكري مع حكومة يزيد.
كما أنّ الإعلان عن الانصراف كان لغرض إتمام الحجة أيضاً؛ لأنَّه لو كان عازماً على الانصراف لعاد قبل لقاء جيش الحر. فإن قلت: إنّ اللقاء بجيش الحر لم يكن متوقعاً له، نقول: كيف لم يتوقع الإمام الالتقاء بجيش يتكوّن من ألف مقاتل بعد وصول أخبار الكوفة المثيرة للوحشة واليأس؟! يعني تريد أن تقول: إنّ الإمام الذي كان واقفاً على جميع الأوضاع والأحوال لم يكن بإمكانه حتّى معرفة هذه التوقعات العادية (العياذ بالله).
107ـ إنّ ما كتبه في (ص280) تحت عنوان نقطة الانعطاف من أنّ اتساع حكومة الوالي في الدولة الأموية وإطلاق عنانه في جرائمه وقساوته ونقمته وسفكه للدماء، لدليل على عدم توازن القوى مادياً وعسكرياً وإحكام سطوة بني أمية على الأوضاع، إنّما هو جواب على الكاتب نفسه، وتعبيراته للتمويه في هذه المرحلة الحساسة مضحكة واقعاً. ولا أعلم حقيقةً هل أنَّه كان غافلاً أو يظن بأنّ القرَّاء غافلون ومن الممكن وقوعهم في الخطأ نتيجة لتأثير هذه العبارات. هنا لأنّه يرى كل قارئ يمكن أن يقول له: إذا كان هدف الإمام حقيقة هو تأسيس الحكومة الإسلامية بالتعاون مع قوات الكوفة، فلماذا لم يرجع عندما علم أنّ هذا الهدف لا يتحقق، وقد خانت قوات الكوفة والتحقت ببني أمية؟ ولو أنَّه حقَّاً كان يريد الرجوع، لماذا لم يرجع قبل لقاء جيش الحر؟
فإنّه يقول: على الرغم من أنّ الأمل بالكوفة أصبح أقل بعد وصول خبر قتل مسلم، مع ذلك كانت الكوفة مرجّحة على مكّة والمدينة.
أيَّها السيّد العزيز لماذا هذا الإجحاف؟ ولماذا تنكر الحقائق الواضحة بهذه الطريقة؟ ما الغرض من ذلك؟ ما الذي تستفيده؟ وأيّ أمل كان في الكوفة بعد ما أخبر به الإمام من ربطهم لأرجل مسلم وهاني، وجرّهم للجسدين الطاهرين الكريمين في سوق الكوفة؛ حتّى تزعم بأنَّه أصبح الأمل بالكوفة أقل؟
إنَّك مسؤول أمام الله والرسول|، فأيّ مبرر قد حضرته لكل هذه المغالطات وهذا الإصرار بلا دليل في التنزيل من قيمة نهضة الإمام المقدّسة؟ نتمنى من الله أن تكون معذوراً في ذلك.
فماذا كان يتوقعه الإمام من الكوفة بعدما وصلته رسالة مسلم مع رسول عمر بن سعد وابن الأشعث، وقال الإمام: (قد خذلنا شيعتنا)؟
ومن أين وبأيّ دليل تقول: إنّ الكوفة كانت مرجّحة على مكة والمدينة، مع أنَّه لو رجع إلى إحداهما لوجد أكابر القوم من قبيل ابن عباس وعبد الله بن جعفر وهم قادرون على إيجاد صلح بين الإمام والحكومة، أفضل من المساومة الذليلة التي أيَّدتها واعتبرت عقبة بن سمعان جاهلاً، حيث لا تكون هناك حاجة للذهاب إلى الشام ووضع يده بيد يزيد.
لقد كتبت: ومع ذلك لو أنّ الإمام الحسين× قد دخل الكوفة في ذلك الوضع بحرية، لكان من الممكن أن تسارع إلى نصرته مجموعة من القوى الوطنية. ما أكثر ما كتبت في هذا الكتاب عن هذه القوات الوطنية الوهمية التي مَنَعَت الماء عن أهل بيت النبي| وأطفالهم؟ كيف كان للإمام أن يدخل الكوفة بحرية؟ فحتّى لو فرضنا أنّ الحر قد تنحى، لكن كافة الطرق قد كانت مسدودة وتحت رقابة الجند وأراذل القادة.
يعلم الله أنّ قلبي يحترق لأجلك حقَّاً، وعلى السبعة أعوام التي أتلفتها من عمرك بلا فائدة، وجعلت نفسك مدعاة للخجل إن كنت ملتفتاً!
فهل من اللائق أن تؤلف هذه الاحتمالات والأوهام حول أكبر وأسمى الحوادث التاريخية، وتنشرها في كتاب يكون في متناول أيدي الناس؟
على أيّ حال إنّنا لا نرى هنا أيّ منعطف، وعلى فرض أنّنا أردنا الأخذ برأيك وافتراض وجود منعطف حقيقي في هذه النهضة، فإنّ هذا المنعطف يكون حين وصول خبر قتل مسلم والمنازل التي كانت قبل الالتقاء بجيش الحر، وحيث لم تغيير هناك خطة الإمام ولم يرجع نفهم بأنّ تأسيس الحكومة الإسلامية بمساعدة قوات الكوفة لم يكن ضمن خطَّته، إذ مستبعد من الإمام مع درايته وخبرته وفطنته أن يتخلى عن فرص مناسبة للتراجع فيما لو كان على استعداد لذلك، ويعزم على الرجوع الآن بعد أن تورط وأصبح مراقباً من قبل الجيش المسلح.
108 ـ الخطة التي ينسبها للإمام في (ص283) تحت هذا العنوان لم تكن خطة جديدة، إذ كانت حقيقة هذه الخطة هي إتمام الحجة التي تعدّ جزءاً من نهضة الإمام بدءاً من المدينة إلى كربلاء وحتّى الشهادة، وقد حرص الإمام على تطبيقها بحذافيرها في كل مورد. ومن المعلوم أنّ الإمام كان على علم بأنّ عساكر الحكومة المأمورين بالقبض عليه لن يتركوه بمجرد عزمه على الرجوع إلى الحجاز، حيث لا يمكنهم إلغاء مهمتهم دون تلقي أوامر جديدة من قادتهم؛ مما يدل على أنّ ما أقدم على فعله الإمام قد كان إتماماً للحجة وإظهاراً للمظلومية.
وأمّا ما كتبه في المرحلة الثانية من كون الإمام قد سخَّر كافة قواته ليصل إلى الكوفة بأسرع وقت قبل فوات الأوان.
فجوابه هو: أنّه حتّى لو وصل الإمام أسرع إلى الكوفة فإنّ قواتها لن تفعل شيئاً، ولارتكبت نفس الجرائم التي ارتكبت مع مسلم في الكوفة ومع الإمام في كربلاء.
وإذا كنت تعتقد بأنّ الإمام أراد الوصول قبل فوات الأوان، فلماذا قطع الطريق في مدَّة بلغت أربعة وعشرين يوماً مع أنَّك قلت: إنّه كان بإمكانه طيّ تلك المسافة في مدَّة اثني عشر يوماً؟ ولماذا توقف ـ بحسب زعمك ـ أربعة عشر يوماً في مكة بعد وصول رسالة مسلم؟ إذ كان بإمكانه أن يترك أهل بيته في مكة، ويلتحق بالكوفة في أسرع وقت ممكن مع مجموعة من الأصحاب والأنصار. والحال أنّ نمط حركة الإمام في مسيره يدل على أنَّه كان قاصداً لقطع تلك المسافة بشكل يتطابق مع دخوله إلى كربلاء ومع الخطط التي نفَّذها إلى يوم عاشوراء.
109ـ تحت عنوان (الأمر بالعودة) في (ص284) قام ضمنياً بتبرئة ابن زياد إلى حدٍّ ما، واتّهم الحر بالتقصير معتبراً إيّاه مأموراً لا يحسن التدبير، وأنّه هو المسؤول عن منع الإمام من الرجوع، كما عدَّه من أولئك المسؤولين الذين يهوّلون الأمور؛ كونه لم يسمح للإمام بالانصراف نحو الحجاز بحرية، ولم يكن لابن زياد رأي في ذلك، ولم يؤاخذ من قبل يزيد؛ لأنّ الإمام لم يدخل ضمن حدود مسؤولية ابن زياد بعد، وعليه يكون الحر قد تصرَّف خارج حدود مسؤوليته.
وكجواب على ذلك نقول: ما هذه الاجتهادات؟ مما لا شك فيه أنّ الحر قد كان رجلاً طاهر القلب حيَّ الضمير، فمن الاجحاف اتهامه بسوء التدبير وعدم الكفاءة، ووصف ابن زياد السفاك المجرم بحسن التدبير.
أوّلاً: ما دليلك على أنّ القادسية التي تبعد عن الكوفة خمسة عشر فرسخاً تابعة لحكومة ابن زياد آنذاك، وأنّه لم يكن لابن زياد الذي كان مقر حكومته الكوفة إشراف عليها وعلى الأقسام التابعة لها؟
ثانياً: إذا كانت القادسية خارجة عن حكومة ابن زياد، فكيف كان للحرّ أن يدخلها ويتدخل فيها؟
ثالثاً: ما المانع من أن يكون الحر بأمر ابن زياد قد جُعل تحت مراقبته حدود العراق إلى مقدار ما داخل أرض الحجاز، بحيث أينما وجد الإمام يسيّره إلى الكوفة. فهذا الأمر لم يكن من الأمور التي تحمل حاكم الحجاز مثلاً على تقديم شكوى ضدّ ابن زياد يطلب فيها إحالته على محكمة عسكرية بذريعة التدخل في أرضه، بل كان أمراً سياسياً متعلقاً بالحكومة، ولم يكن أحد يعترض على ابن زياد أينما لاحق الإمام.
ومن المؤكّد أنّ الحر لم يعمل خارج حدود الأمر الموجّه له، ولم تكن توبته في يوم عاشوراء بسبب منعه الإمام من العودة دون تلقيه أمراً بذلك، بل كانت بسبب تنفيذه أمر ابن زياد وهو الخطأ الفادح الذي أقرّه الحر نفسه.
رابعاً: العجيب في الأمر أنّ كتب المقاتل تذكر بأنّ ابن زياد كان قد عيّن الحصين بن تميم مسؤولاً على القادسية، وأمره أن يرسل الحر لاستقبال الإمام، وقد صرّح الحر رسمياً بذلك حيث قال: «أمرت أن لا أفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة، ولا يردك المدينة، يكون بيني وبينك نصفاً»، إذن كان الحر مأموراً بأن يبعث بالإمام إلى الكوفة أين ما التقى به، ولا يدعه يرجع إلى المدينة، وهذا ما يجعلنا نعتقد بأنّ الحر قد كشف بموقفه عن طهارة طينته، وعلى خلاف المهمة الموكلة له بحسب وصفك في (ص286) فإنّه بهذا الاقتراح لم يمتثل أمر من هو أعلى منه منصباً.
خامساً: إذا كان الحر قد بالغ في أداء مهمته التي أوكلت إليه، فلماذا لم يقل له الإمام: إنّني إلى الآن لم أدخل في نطاق حدود مسؤوليتك، فدعني أرجع؛ لأنّ مهمتك تقتضي منعي من دخول العراق متى حاولت ذلك، لكنني إذا أردت العودة قبل الدخول إلى العراق فليس عليك أمر.
سادساً: لو فرضنا أنّ الحر كان يعلم أنّ ابن زياد قد قال: (فإن هو لم يردنا لم نرده)، لكن هذا لا ينافي أن يكون أمر ابن زياد الصريح هو على العكس من ذلك، فأيّ مصداقية لكلام ابن زياد؟ فضلاً عن أنّه قد يكون ما قصده من كلامه «فإن هو لم يردنا»، أي لم يتعرّض لعمال وعناصر حكومة يزيد، فلن نتعرَّض له، لا أنّه يقصد نفسه؛ لأنّ الإمام لم يكن خصماً لشخص ابن زياد.
وعلى أيّ حال فإنّك في هذا الفصل من الكتاب قد وجّهت إساءة حقيقية لشخصية الحر الرياحي.
110 ـ لقد هاجم الحرَّ مرّة أخرى في (ص288) واعتبر مداراته ومرونته على الغالب بهدف الحفاظ على مصالحه الشخصية، وقال: إنّ قبول اقتراح الحر كلَّف الإمام ثمناً باهضاً؛ لأنَّه سبّب في دخول الإمام منطقة الخطر والبلاء.
والجواب هو أنّ الإمام كان بمقدوره البقاء في المكان الذي نزل فيه ـ وفقاً لمغالطاتك ومناقشاتك وبحثك ـ خارج منطقة الخطر ونطاق مسؤولية ابن زياد. فالحر كان مأموراً بالحيلولة دون رجوع الإمام إلى المدينة والتوجّه به نحو الكوفة؛ ولكون الإمام كان يريد مواصلة السير ـ على ما يظهر ـ اقترح الحر عليه طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يرده إلى المدينة. فلو أنّ الإمام اقترح على الحر أن يلزم مكانه الذي وصل إليه حتّى يذهب رسول الحر ويرجع لما أجبره الحر على الحركة؛ لأنّه من باب أولى أن تكون موافقة الحرّ على مكوث الإمام عند منزله أقل مسؤولية من موافقته على السماح للإمام بالذهاب إلى طريق مجهول.
وعليه يكون القول بأنّ اقتراح الحر هذا كان يشكِّل خطورة لأنّه يؤدي إلى دخول الإمام إلى منطقة ابن زياد ليس صحيحاً؛ لأنّ الإمام كان باستطاعته اقتراح التوقف عند منزله الذي وصله إليه والبقاء هناك حتّى يرجع رسول الحر بالخبر، وإلّا فعليه أيضاً التوجّه إلى كربلاء والاقتراب من منطقة الخطر، فلماذا يا ترى لم يقترح الإمام التوقف مع أنّه كان يعلم بأنّ هذا المكان خارج منطقة ابن زياد؟ وبحسب ما ذهبت إليه وافترضته من حسن تدبير ابن زياد على عكس الحر، وتقول لأنّه قال: (فإن هو لم يردنا لم نرده) أي أنّه لم يتجاوز في ما اتخذه من إجراءات إلّا بالمقدار الذي يرفع المسؤولية عن نفسه، وفي مثل هذه الحالة كان ينبغي لابن زياد أن يكتب في رسالته: أطلق سراح الإمام، فالأمر لا يعنينا، إنَّني حاكم العراق، وخارج حدود القادسية أيضاً ـ وفقاً لفرض كاتب الشهيد الخالد ـ ليس تابعاً لمنطقتي! إذن أخبرنا برأيك لماذا لم يُطرح هنا اقتراح التوقف، ألم يكن سوى الذهاب إلى الأرض الموعودة؟
18ـ تغيير المسير ـ الذهاب بلا وجهة!
111ـ فيما يتعلق بتغيير المسير كتب في (ص290): من المسائل التي تبعث على الألم أنّه لم يكن معلوماً إلى أين سيفضي هذا الطريق أو بعبارة أصح هذا الانحراف عن الطريق.
وبالرغم من أنّه يقول: إنّ جميع أطراف وجوانب القضية كانت مبهمة بالموازين العادية، لكنه كما يبدو يحاول إظهار أنّ الإمام في هذا الموقف لم يكن يدري إلى أين سينتهي به هذا الطريق، ما يعني أنّه كان يطويه على غير بيّنة حاملاً النساء والأطفال إلى مصير مجهول لا تعلم نهايته، إذ كانت الأمور مبهمة ومعتمة من جميع الجهات. وقد صوّر الكاتب هذا الإبهام بأسلوب يجعل القارئ يقضي بأنّ جوانب الحركة كافة قد كانت مجهولة بالنسبة للإمام، ولا سبيل له لتوقع المجريات المستقبلية، مستشهداً في ثنايا كلامه هذا بجملة «لا ندري على ما تنصرف بنا وبهم الأمور» التي نقلها عن الطبري بطريق غير موثوق.
1ـ كما ذكرنا في الفصل السابق، لقد كان للإمام هدف مشخص من وراء هذه الحركة وطي هذا الطريق، ألا وهو كربلاء، إذ لا يعقل توجّه الإمام إلى مقصد مجهول، كما أنّ الإمام امتنع امتناعاً شديداً عن الذهاب إلى الكوفة، فضلاً عن عدم تمكّنه من الرجوع إلى المدينة أيضاً، ما يعني أنّه ليس من المعقول أن يطوي طريقه ويقطع كل تلك المسافة بدون هدف مشخص. ولو لم يكن لديه هدف لاقترح التوقف في ذلك المكان قطعاً، إلى أن يذهب رسول الحر ليتلقى الأوامر ويقدِّم التقرير ومن ثمَّ يرجع، ولكان الحرّ قد وافق على هذا الاقتراح بالتأكيد، بل وفقاً لرواية أبي الفرج الأصفهاني[189] أنّ الحر كان مأموراً بإنزال الإمام في أيّ موضع لقيه فيه، فلماذا لم يقترح الإمام التوقف في ذلك المكان حتّى يكون بعيداً عن منطقة الخطر، ويتجنب الدخول في حدود حكومة ابن زياد أيضاً؟
ألم يكن سوى أنّ الإمام كانت له مهمة، كما ذكر ذلك في مكّة خلال بيان المنام الذي رآه، فقال: إنّ جدَّه قد أمره بأمر، وعلى أقل تقدير بحسب هذه الرواية ـ التي يؤيّدها الكاتب ـ يبرز احتمال وهو أنّ ما كان يفعله الإمام وما طواه من الطريق هو امتثال لذلك الأمر.
وعلى أيّ حال، من المؤكّد أنّ الإمام لم يكن ليذهب دون هدف مسبق؛ حتّى إذا وجّه له أنصاره السؤال عن وجهته لم يتمكّن من الإجابة، كما أنّ شأن الإمام أجل من أن يقوم بقيادة قافلة إلى مسار مجهول، فمثل هذه العبارات تعتبر وللأسف إساءة لمقام الإمام. ناهيك عن أنّ الهدف إذا كان معلوماً أو مجهولاً، لعلم به الأصحاب وما احتاجوا للسؤال.
2ـ بالرغم من أنّ عبارات الكتب هنا مختلفة، ولكن بحسب بعض العبارات أنّ الإمام اتخذ طريقاً خاصاً، ولا يمكن أن يكون مقصده سوى كربلاء ولم يعدل عنه. فقد روى أبو حنيفة الدينوري أنّه حينما اقترح الحر على الإمام أن يتخذ طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يردّه إلى الحجاز، قال له الإمام الحسين×: فخذ هاهنا فأخذ متياسراً من طريق العذيب... ثمَّ ارتحل الحسين من موضعه ذلك متيامناً عن طريق الكوفة حتّى انتهى إلى قصر بنى مقاتل[190].
القدر المتيّقن المتحصل من هذه العبارات هو: أنّ الحر لم يكن له رأي في الطريق الذي لا يدخل الإمام الكوفة ولا يردّه إلى الحجاز، وكان الإمام حرّاً في اختيار ذلك.
3ـ على ضوء المقاييس العادية لم يكن الوضع مبهماً بالمقدار الذي تصوّره الكاتب، وخطر القتل والشهادة الذي قد أخذ بعين الاعتبار وبشكل جدّي في المرحلة الأولى والثانية، كان توقعه في هذه المرحلة طبيعياً جدّاً ولم يكن ليخفى أبداً على الإمام وأنصاره وأصحابه.
بحسب رواية الطبري، فإنّ الإمام قد أبلغ أصحابه عدَّة مرات في المنزل الذي سبق المنزل الذي قال فيه هذه الجملة: (لا ندري على ما تنصرف بنا وبهم الأمور) رغبته في لقاء الله وعزمه على الشهادة، كما أنَّهم أعربوا له أيضاً عن مدى عزمهم في مشاركته تلك الرغبة، حيث كانوا مستعدين للشهادة أينما حلَّوا ومهما كلَّفهم الأمر، ولم تكن مسألة سيرهم إلى مكان مجهول ـ على سبيل الفرض ـ مؤلماً إلى ذلك الحد الكبير؛ لأنّ معرفة أو عدم معرفة مكان الشهادة ليس مهماً بالنسبة للشخص الذي أعدَّ نفسه لها. ففي أيّ أرض أناخوا كان أمرهم يدور مدار البيعة والتسليم وقبول الذلة، أو الشهادة والموت بعزَّة، مما يدل على أنّ البرنامج الذي أعدّوه لمستقبلهم وسفرهم وعملهم معلوم.
بما أنّ الإمام قال في المنزل السابق: ليرغب المؤمن في لقاء الله حقَّاً وأنَّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً. فإنّه من الواضح أنّ الأمر سيكون أصعب، فكيف يكون أولئك الرجال الأباة من أصحاب الفكر والوعي غير ملتفتين إلى اشتداد صعوبة موقفهم؟!
إنّك تقول: ماذا كان يتوقع هؤلاء من نظام حكومة يزيد وابن زياد غير القساوة؟ فهل بإمكانك أن تقول أيضاً: إنّهم كانوا يحتملون توبة ابن زياد من جرائمه ومن قتل مسلم وهاني وميثم وآخرين، وأن يأتي لاستقبال الإمام أو يحلّه من أخذ البيعة؟!
4ـ إنّ قبول الإمام لاقتراح الحر لم يكن على أمل فتح صفحة جديدة في هذه النهضة، بل لكون الإمام أراد الموافقة على تلك الاقتراحات السلمية ما دامت لا تخالف تكليفه وكرامته، ويحمل السلاح حين يضطر إلى ذلك عقلاً وشرعاً، ولم يقدم على البدء بالقتال، كما قال لزهير: «ما كنت لأبدأهم بالقتال»، ولهذا السبب لم يمتنع عن تقديم مقترح الرجوع إلى الحجاز، وكان يكرره دائماً إتماماً للحجة.
والحكمة الأخرى من قبول الإمام لاقتراح الحر هو تمكينه من الوصول إلى مبتغاه.
5ـ إنّ الروايات القطعية الصدور التي كانت تدل على شهادة الإمام كانت تعكس النهاية المحزنة لهذه النهضة بغض النظر عن علم الإمامة، وكان يتوقع أهل المدينة ومكة شهادة الإمام نتيجة لوجود هذه الروايات، وهنا حيث تحوَّلت جميع الآمال الشكلية إلى يأس، أصبح توقع ذلك أكثر قطعية، ولم يكن هناك كل هذا الإبهام والتحيّر الذي أورده الكاتب وشرحه.
6ـ الأخبار الموثوقة الأخرى التي أشرنا إليها مكرراً، كانت تدل على علم الإمام بنتائج هذه النهضة، وأنّ الأعداء لن يتركوه إلى أن يمضي شهيداً.
7ـ أمّا جملة (لا ندري على ما تنصرف بنا وبهم الأمور) وبقطع النظر عن عدم حجيتها وكونها لم تُذكر في بعض الكتب مثل أعلام الورى والإرشاد، فإنّ الترجمة التي قام بها الكاتب لظاهرها في (ص291)، مضافاً لعدم انسجامها مع ظواهر الأوضاع وما كان معلوماً، لا تنسجم مع تقرير مجمع بن عبدالله العائذي وتلاوة الآية ودعاء الإمام والخطبة التي أوردها في ذي حسم، ومفاوضاته مع الحر التي نقلها الطبري في الصفحات الثلاثة السابقة عليها؛ لأنَّ جميع هذه المطالب كانت كاشفة عن الحوادث المستقبلة، وتعكس بوضوح في نهاية المطاف صورة قوات الكوفة وهي تشهر السيف في وجه هذا الضيف العزيز. ويفهم من تسيير الحر بأمر ابن زياد للحيلولة دون عودة الإمام إلى الحجاز، بأنّ ابن زياد قد أرسل الحر للقبض على الإمام وأنّه لن يتغاضى عن ذلك بسبب تقرير الحر. ولهذه القرائن تكون الجملة قاصرة عن إجابة تلك الأسئلة الخاطئة التي طرحها الكاتب.
8ـ المتبادر للذهن ـ إذا لم يكن خلاف الظاهر ـ أن يكون معنى هذه العبارة (لا ندري على ما تنصرف بنا وبهم الأمور) بملاحظة القرائن المذكورة هو: لا يتحقق الشيء الذي يكون في العاقبة سبباً لمنعهم من أسلوبهم الجائر أو سبباً لعدولنا عن خطتنا، ولا يتغير ما هو متوقع في المستقبل، فلا هم يتركون الجريمة ولا نحن مستعدون للبيعة والتسليم.
والجملة بهذا المعنى تكون أكثر انسجاماً مع جملة «قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف ولا ندري الخ»؛ لأنّ المعنى سيكون: قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري أيضاً بالحدث الذي يغيّر عاقبة أمرنا عن نهايته (والتي هي القتل والشهادة)؛ ولأنَّه غير متحقق فيصبح من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
9ـ إنّ هذه الجملة تتعارض مع الجملة التي نقلها ابن نما عن الإمام في جواب الطرماح، وفي مقام التعارض[191] تكون رواية ابن نما مقدّمة على رواية أمثال الطبري؛ لجلالة قدره، أو تتساقطان على أقل التقادير.
10 ـ روى المتتبع الخبير المقرّم العبارة بهذا النحو: «إنّ بيننا وبين القوم عهداً وميثاقاً ولسنا نقدر على الانصراف حتّى تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبة»[192]، ومن الواضح أنّها تدل على أنّنا لا نقدر أن نرجع حتّى يجري ما يجب أن يجري علينا.
11ـ إنّ تاريخ ابن كثير الذي هو من الكتب الموثوقة عند الكاتب، يختم قصة الطرماح ومفاوضاته مع الإمام بهذه الجملة: فقال له الحسين×: جزاك الله خيراً فلم يرجع عمَّا هو بصدده[193]، ولم يشر أبداً إلى جملة: ولا ندري على ما تنصرف الخ.
19ـ سؤال (ص294)
112ـ الجواب على هذا السؤال هو أنّ طلب الإمام المساعدة من عبيدالله بن الحر كان لغرض إتمام الحجة والإرشاد والهداية والدعوة، وهو السبب الذي دعا الإمام لطلب المعونة من زهير والطرماح والآخرين، ولم يكن الغرض أبداً تهيئة القوات وتقوية القوّة العسكرية أو بقصد استغلال شخصيته الاجتماعية لكسب الأفراد؛ وذلك لأنَّه:
أوّلاً: ليس لمساعدة شخص واحد تأثير على الإمام، كما ليس له أن يدفع الخطر عنه، وبرأي الكاتب لم يكن له ثمرة سوى إتلاف نفسه.
وثانياً: لم يكن أحد من أفراد قبيلة عبيد الله بن الحر قادراً على مساندة الإمام إن هو قبل دعوة الإمام، بل لم يأت أحد فعلاً؛ لأنّ كافة الطرق كانت مسدودة وتحت السيطرة، وقد خرج عبيدالله نفسه من المدينة بشق الأنفس. وحتّى لو فرضنا تمكّن بعض الأفراد من الالتحاق به فإنّ مصيرهم لن يكون سوى القتل أيضاً.
وعليه يكون سبب الدعوة هو أنّ وظيفة عبيدالله بن الحر والآخرين في ذلك الوقت هي ملازمة ركب الإمام والشهادة معه، وكانت هذه الوظيفة واجبة أيضاً حتّى مع العلم بعدم مبادرة الآخرين. وعلى رغم ما ذهب إليه كاتب الشهيد الخالد نقول: إنّ استعداد كل شخص لإراقة دمه في الصحراء كان تكليفاً ووظيفة، ولم يكن له أيّ علاقة بتقوية القوى. وخلاصة القول: إنّ الإمام قد دعا عبيدالله بن الحر إلى الشهادة ولو كان الغرض تقوية قوى الإمام الدفاعية وكان لذلك أثر، فلما قال عبيدالله للإمام: «إنَّني أعلم أنّ كل شخص يقتفي أثرك سيكون سعيداً في الآخرة، لكن ليس لي القدرة على فعل شيء (ونصرتي لا فائدة منها سوى قتلي)»، لقال له الإمام: «إذا التحقت بي فسيقوى جيشي، وسيلتحق بي آخرون احتذاء بشخصيتك الاجتماعية». لا، أيّها السيّد الكاتب إنّ ما تكتبه أقرب منه إلى الشعر والخيال لا إلى الدراسة وتحليل التاريخ. إنّ ما أجاب به الإمام الحر هو: (أمّا إذا رغبت بنفسك عنَّا فلا حاجة لنا في فرسك)[194].
113ـ روى الطبري وآخرون بأنّ الإمام قال لعبيدالله بن الحر: ولكن فرّ فلا لنا ولا علينا، فإنّه من سمع واعيتنا أهل البيت ثمّ لم يجبنا كبَّه الله على وجهه في نار جهنّم.
إذن فسبب كون الإمام قد طلب منه أن لا يكون مع العدو، هو حرصه على عدم وقوعه في الهلاك الحقيقي والخلود الأبدي في النار، وأن لا توصد بوجهه أبواب النجاة بالمرَّة، لا أنّ مراد الإمام من ذلك منعه من تقوية قوات العدو؛ لأنّ التحاق عبيدالله بن الحر بجيش العدو لم يكن له تأثير على الإمام، ولم يكن ليوجد فرقاً في الوضع الدفاعي للإمام. فمع أنّ كاتب الشهيد الخالد في هذا الكتاب يُعمل سليقته ومراده في شرح وتوضيح الأمور، إلّا أنّه لم يعتن في مثل هذه الموارد بتاريخ الطبري الذي هو مورد ثقته!
21ـ سؤالان آخران (ص296)
114ـ جواب السؤال الأوّل هو أنّه كان من اللازم على الإمام أن يطلعهم على حقيقة القضية؛ لأنّ الموضوع كان موضوع امتحان واختبار، فورود شخص دون اطلاع مسبق لا يحقق معنى الامتحان، فضلاً عن أنَّنا نقلنا عن الطبري رغبة الإمام بأن لا يصحبه إلّا من وطَّن نفسه على لقاء الله ورغب في الشهادة.
115ـ جواب السؤال الثاني هو أنّ حل البيعة والإذن في الانصراف كان سبباً للكشف عن شرفهم وكرامتهم واستقامتهم وشخصيتهم وخلوص نواياهم، فيكون الإمام قد رفع بهذا الإذن العام شأن أصحابه، وكشف للعالم عن مكانتهم وشخصيتهم وتضحيتهم دفاعاً عن الدين. إلّا أنّ مفاد كلام الكاتب في (ص297) هو (أنّ الأصحاب عملوا على خلاف رغبة الإمام)، ومع أنّه يقول عن الإمام: «يجب أن يبقى دمه المقدّس يغلي في شرايينه ولا ينبغي أن يُهدر على الأرض»، نسي أن ينسب هذا المنطق الخاطئ لأولئك الرجال الأباة، حيث لم يقل: كان من اللازم أن يبقى دم هؤلاء الرجال الأباة يغلي في شرايينهم أيضاً ولا يراق على الأرض، من أجل أن يقوموا بالثورة ضدّ الحكومة الأموية عندما يقتضي الأمر، ويؤسسوا الحكومة الإسلامية؛ لأنّه يعلم أنّ قول هذا الكلام سوف يوقعه في نسبة الخطأ للإمام (العياذ بالله) وأصحابه الأوفياء بشكل علني.
وخلاصة القول: إنّه يرد على الكاتب في مورد شهادة وقتل الأصحاب نفس الإشكال الذي أشكله في مسألة قتل الإمام وعلمه بالشهادة وخروجه من مكة بقصد الشهادة. ويكون الجواب على ذلك هو نفس الجواب الذي ذكرناه مكرراً أنّ هذه الشخصيات المرموقة لم تعمل على خلاف رغبة الإمام ووفقاً لفلسفة كاتب الشهيد الخالد الخاطئة، بل عملت وفقاً لرغبة الإمام وهي الفوز بالشهادة؛ لأنَّهم قد تربّوا في المدرسة الحسينية، ولهم اعتقاد راسخ أنّ إراقة دمهم على رمضاء كربلاء وفي سبيل الإسلام وركب ريحانة رسول الله| فخر وسعادة.
22ـ لم يكتب هذه الحادثة أيضاً!
116ـ الموضوع الذي يلفت الانتباه في هذا المورد هو الحادثة التي وقعت بعد ارتحال الإمام من قصر بني مقاتل، وعدم تعرّض الكاتب لها، على الرغم من علاقتها الوثيقة بمطالب كتابه. إنّ الطبري يروي: «فلمَّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا سـاعـة خـفق الحسين برأسه خفقة، ثمَّ انتبه وهو يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين»، قال: «ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً. قـال: فـأقـبـل إلـيـه ابـنـه علي بن الحسين على فرس له، فقال: يا أبت جعلت فداك ممَّ حمدت الله واسترجعت؟ قـال: يا بني، إنِّي خفقت برأسي خفقة فعنَّ لي فارس على فرس، فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إلـيـهـم، فـعلمت أنَّها أنفسنا نُعيت إلينا، قال له: يا أبت، لا أراك الله سوءاً، ألسنا على الحق؟ قال: بلى، والـذي إليه مرجع العباد، قال: يا أبت، إذاً لا نبالي، نموت محقين، فقال له: جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده».
لقد ذكرت هذه القصة كتب أخرى يراها كاتب الشهيد الخالد معتبرة؛ مثل الإرشاد والكامل لابن الأثير وإعلام الورى ومقاتل الطالبيين. لكن الكاتب الذي كان يدوِّن أحداث المرحلة الثالثة لم يشر إلى ذلك على الرغم من أنّه موضوع حساس وبالغ الأهمية؛ لأنّ فيه دلالة على علم الإمام بالشهادة، وهو لا يريد التحدّث عن علم الإمام بشهادته حتّى في يوم عاشوراء، أو يريد الردّ عن أيّ كلام يُطرح حول ذلك. ولأنَّه رأى هنا بأنّ هذه الحادثة لا يمكن ردَّها أو تبريرها، وأنّه يريد أن ينكر تلويحاً علم الإمام الحسين× بكون الثلة من أهل بيت النبي| التي تستشهد في أرض كربلاء هم الإمام وأنصاره، وذلك من خلال إنكار عبارة: (هاهنا مناخ ركابنا) في الفصل الذي يحمل عنوان: (تنبؤ علي× وذكرٌ عن الماضي)، ومع ذكر هذه الحادثة لا تقع في الأذهان تلك الشكوك التي سيذكرها في الفصل القادم، فرأى من المصلحة أن لا يكتب حرفاً عن هذا الموضوع أبداً! وهذا أيضاً نوع من الدراسة والبحث العميق الذي يزخر به هذا الكتاب!
على أيّ حال لقد كتبنا هذه القصة ليعلم القارئ العزيز أنّ الإمام وأصحابه كانوا على علم بشهادتهم، وعندما وصلوا إلى كربلاء لم يكن لدى الأصحاب أيّ شك بأنّ الذين أناخوا الآن على رمضاء كربلاء هم الأشخاص الأباة من آل محمّد|.
117ـ روى الكاتب تحت العنوانين المذكورين حديثاً نُقل عن علي× في الإرشاد وكشف الغمة، واستشهد به الإمام الحسين× كما ورد في الأخبار الطوال (ص224)، لكنه لم يذكر شيئاً عن تنبؤات رسول الله| وأمير المؤمنين× الصريحة والمسلّمة عن شهادة الإمام في أرض كربلاء، سوى التنبؤ الذي لم يأت فيه ذكر اسم الإمام؛ لكي يوحي إلى القارئ بأنّ خبر شهادة الإمام قد صدر بشكل مجمل وغامض، وأنّ شهادته عند نزوله في كربلاء لا تُعد موضوعاً معلوماً ويقينياً؛ لذلك ينقل في (ص300) عن الإرشاد أنّ الناس كانوا في ذلك الزمان لا يعرفون تأويل ما تنبأ به أمير المؤمنين× حتّى كان من أمر أبي عبد الله الحسين بن علي× وأصحابه بالطّف ما كان..الخ. وفي (ص301) يقول: أليست الثلة من آل محمّد| الذين تنبأ بخصوصهم أمير المؤمنين× هم الإمام الحسين× وأهل بيته؟! الخ.
ونجيب على ذلك بما يلي:
1ـ لا يُفهم من هذه الجملة التي وردت في الإرشاد: (فكان الناس لا يعرفون تأويل ما قال أمير المؤمنين×) أكثر من أنّ الذين قد سمعوا هذا الخبر بهذا النحو أو بشكل مختصر لم يكونوا يعرفوا تأويل ذلك، لا أنّ عموم الناس والأشخاص الذين كانوا قد سمعوا الروايات الأخرى لا يعرفونه أيضاً، وأنّ أمير المؤمنين× لم يخبر عن هذا الموضوع بشكل واضح، أو بقي هذا التنبؤ ـ الذي تزعم غموضه ـ مخفياً مع وجود كل تلك الأخبار التي كانت قد وردت عن النبي| والتي تدلّ على أنّ الحسين× يُقتل في كربلاء.
2ـ لا أدري ما الذي جعل الكاتب يختار هذا الحديث من بين الأحاديث المعتبرة، ومع وجود هذه الأدلة والشواهد التي رفعت هذا الإبهام يقول: إنّ الذين رافقوا الإمام أمير المؤمنين× كانوا يحتملون أنّ التنبؤ متعلق بالإمام الحسينﷺ.
فيا للعجب! كيف يكون ذلك، وتنبؤات النبي| وأمير المؤمنين× بشهادة الإمام الحسين× في كربلاء لم تنحصر في رواية واحدة أو اثنين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو عشر. فعلاوة على كتب الشيعة وموسوعاتهم لاحظ كتب أهل السنّة، مثل الصواعق ص190 و191، وذخائر العقبى ص147 و148، وتذكرة الخواص ص259 و260، ونظم درر السمطين ص214، ومجمع الزوائد ج9، ص187 إلى ص192، وكنز العمال ج6، ص223 الحديث 2940 و2943 و2944، والسيرة النبوية ج3، ص220، والبداية والنهاية ج8، ص163، والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج1، ص288، والخصائص الكبرى ج2، ص125، وكفاية الطالب ص279، ومسند أحمد ج2، ص60 و61 ط2 نقلاً عن سيرتنا ص100 وج3، ص242 و265 وج6، ص294 وغيرها من الكتب[195].
ومضافاً إلى أعلام علماء الإمامية رضوان الله تعالى عليهم فقد روى أعلام علماء أهل السنّة أيضاً هذه الروايات في كتبهم، مثل: أحمد بن حنبل، وأبي حاتم، والبغوي، وابن سعد، والطبراني، والحاكم، وأبي داود، والمحب الطبري، وأبي يعلى، والديلمي، والبيهقي، والجنابذي، والخوارزمي، والهيثمي، والكنجي، والزرندي، وابن البرقي، والصنعاني، وابن أبي شيبة، والقاضي عياض، وغيرهم.
من المؤكّد أنّ هذه الروايات التي وصلتنا بعد ما يقرب من أربعة عشر قرناً (بغض النظر عن علم الإمامة الذي يعتبر لوحده دليلاً مستقلاً آخر) كانت قد وصلت إلى مسامع الإمام وأصحابه وأهل بيته بلا واسطة ومع الواسطة، وعليه لا شك ولا ريب أنّهم كانوا يعلمون بأنّ كربلاء هي مكان قتل الإمام الحسين×.
أيّها السيّد العزيز لماذا تورد هذه العبارات والجمل المضلّلة، لماذا لا تكتب بشكل واضح وصريح بأنّ الإمام الحسين× نقل تنبؤ أبيه هنا ليخبر عن شهادته مرَّة أخرى بعدما وردت في تلك الإخبارات المتكررة، ويبشر أصحابه بأنّ من يستشهد في ركبه يدخل الجنة بغير حساب[196]. فعباراتك هذه لا تليق بشأن الإمام وأهل بيته وأصحابه. فهذا ابن عباس كان يقول: لم يكن يراودنا الشك في ذلك، وجميع أهل البيت^ بالإجماع كانوا يعلمون أنّ الحسين× يُقتل في الطف. ما يعني أنّ الإمام نفسه كان يعلم بذلك، وهكذا أخوته ومن معه من شباب بني هاشم الذين كانوا في ركبه، وعقيلة الهاشميين زينب‘ وسائر نساء أهل البيت^. فهل بقي موضع للشك حتّى تصرّ كل هذا الإصرار كي تعرض الموضوع بصورة يشوبه الشك، وتمتنع هنا عن التصريح بأنّ الإمام كان عالماً بشهادته، ومن ثمَّ تتكلم حول جملة (هاهنا مناخ ركابنا)، حتّى لا يتجرأ أحد على القول بأنّ الإمام أخبر عن شهادته (نعوذ بالله).
لنتعرض الآن إلى هذا الحديث ونترك القارئ ليبدي رأيه في كتاب الشهيد الخالد بما يراه مناسباً.
روى ابن سعد عن الشعبي أنّه قال: مرّ علي× بكربلاء عند مسيره إلى صفين، وحاذى نينوى، فوقف وسأل عن اسم الأرض؟ فقيل: كربلاء، فبكى حتّى بلَّ الأرض من دموعه.
وفي رواية عبدالله بن يحيى عن أبيه الذي كان يسير مع ركب علي×، أنّه قال: صبراً أبا عبد الله، صبراً أبا عبد الله بشط الفرات، قال: قلت: وما ذاك؟ قال: دخلت على رسول الله| ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: قام من عندي جبرئيل قبل، فحدّثني أنّ ولدي الحسين يقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك إلى أن أشمّك من تربته؟ قال: قلت: نعم، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا. وروى هذا الحديث أحمد بن حنبل، وابن الضحاك أيضاً، كما روى عبدالله بن يحيى ما نقله أبوه عن علي×،[197] وروي نظير هذا الحديث عن أحمد في المسند (ج2، ص60 وص61)، وعن ابن أبي شيبة في المصنف (ج12)[198].
اسمعوا هذه الرواية أيضاً على لسان السيّد الأجل السيّد مرتضى علم الهدى+، يقول في شرح القصيدة الذهبية (ص42 طبعة مصر): روى أبو عبد الله البرقي عن شيوخه عمن أخبره: خرجنا مع أمير المؤمنين صلوات الله عليه نريد صفين، فمررنا بكربلاء، فقال×: أتدرون أين هاهنا؟ مصرع الحسين وأصحابه. ومع ذلك يُبيِّن كاتب الشهيد الخالد الأمر بنحو يوحي بأنّ الأمر لم يكن معلوماً حتّى عند دخول الإمام إلى كربلاء وأنّه هو الشهيد المقتول في كربلاء، ولم يعلم الأصحاب بذلك أيضاً، وهو وإن لم يكتب أنّ الإمام كان يعلم أو لا، ولكن بحسب الظاهر كان يريد أن يوجّه الكلام بنحو حتّى لا يصرح بذلك، لكنّه ضمنياً ونتيجة لإصراره على ردّ رواية (هاهنا مناخ ركابنا) أوحى إلى الأذهان عدم علم الإمام.
على أيّ حال نأمل بأن نكون قد أخطأنا في ما استنبطناه عن نية الكاتب. وعلى القرّاء أن يراجعوا أصل هذا الموضوع في الكتب المذكورة؛ ليلحظوا بأنّه لم يكن أحد يحتمل أن يكون المقتول في الطف شخص آخر غير الإمام، وكل شخص كان يمتلك خبراً عن واقعة كربلاء يعلم بأنّ الإمام الحسين× هو الشهيد وبطل الفداء والفضيلة فيها.
3ـ لم يكن بعض الأصحاب يعلمون بشهادة الإمام الحسين× عن طريق تصريحه بذلك وحسب، بل كانوا يعلمون بذلك عن طريق روايات وأخبار النبي| أو أمير المؤمنين×، وقد كان هذا الأمر معلوماً أيضاً لدى خواص أصحاب أمير المؤمنين× كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.
مثلاً أنس بن حارث هو أحد شهداء كربلاء، حيث روى ابن سكن والبغوي وأبو نعيم أنّه التحق بالإمام واستشهد بين يديه؛ لأنّه سمع النبي| يقول: إنّ ابني هذا يُقتَل بأرض العراق، ألاَ فَمَن شَهِده فَلْيَنصُره[199].
وروى الشيخ الأقدم أبو عمرو محمّد الكشي رضوان الله عليه بسنده عن فضيل بن الزبير في حديث مفصّل، أنّ ميثم وحبيب بن مظاهر عندما التقيا، أخبر حبيب عن كيفية شهادة ميثم، وأخبر ميثم عن شهادة حبيب في ركب سيّد الشهداء× وكيف يجال برأسه بالكوفة.[200]
4ـ إنّ رواة هذا القول عن أمير المؤمنين عدَّة أشخاص، وهم:
الأوّل: الإمام الحسين× نقلاً عن (الأخبار الطوال ص266) و(حياة الحيوان ج1، ص60).
الثاني: الإمام الصادق× بحسب ما جاء في (كامل الزيارات ص269) و(قرب الإسناد ص14).
الثالث: الأصبغ بن نباتة طبقاً لرواية الحافظ أبي نعيم في (دلائل النبوة ج3، ص211) والحافظ الجنابذي في (معالم العترة الطاهرة) طبقاً لنقل (كشف الغمة ص178) و(نور الأبصار ص115).
الرابع: غرفة الأزدي كما روى ذلك ابن الأثير في (أسد الغابة ج4، ص169).
الخامس: الحسين بن كثير وعبد خير في رواية نقلها عنهما (التذكرة ص260)، كما رواها نصر بن مزاحم في كتاب (صفين ص142) عن الحسين بن كثير عن أبيه.
السادس: الشعبي في رواية نقلها (تذكرة السبط ص260) و(ذخائر العقبى ص148) و(الصواعق ص191) و(البداية والنهاية ج8، ص199) عن ابن سعد، وقد ورد فيها اسم كربلاء والاسم المقدّس للإمام الحسين× صريحاً.
السابع: ابن عباس في حديث الخوارزمي في (المقتل ف8 ص162) بنقل (الأنوار النعمانية ج3، ص247).
الثامن: عبدالله بن يحيى عن أبيه يحيى[201].
التاسع: محمّد بن سعد وآخرون من طرق متعددة وفقاً لكتاب (البداية والنهاية ج8، ص199) وكتب أخرى.
العاشر: هرثمة بن سليم[202] نقلاً عن كتاب صفين (ص140 وص141)[203].
يُعلم بعد مراجعة هذه الأحاديث والتدقيق في نصوصها، مسألتان:
الأولى: تكرر خبر أمير المؤمنين× عن شهادة الإمام الحسين× أثناء مروره بكربلاء، عند ذهابه إلى صفين وفي أسفاره الأخرى. وليس بعيداً بحسب رواية غرفة الأزدي، بل رواية الأصبغ وفقاً لرواية (كشف الغمة) أنّ أمير المؤمنين× ذهب خصيصاً إلى كربلاء لزيارة مكان قبر ابنه العزيز، وأنّه قد زار هذا المكان المفعم بمفاخر آل محمّد|.
الثانية: وردت هذه الرواية بشكل مختصر في بعض النصوص من قبيل هذين النصّين الذين وردا في كتاب الشهيد الخالد، وقد أبى الكاتب نقل الرواية بشكل كامل مع أنّها وردت كاملة في بعض الكتب التي اعتمدها واستند إليها في هذا المورد؛ لأنَّها تردّ ما يروم إثباته في هذا الكتاب، والحال أنّ ما يقتضيه بحثه وتحقيقه هو عدم التطرّق للأخبار والمطالب التي تتعارض مع رأيه!
118ـ فيما يتعلق بالكلام الذي روي عن الإمام في تاريخ ابن أعثم بحسب ترجمته في (ص366) وفي مقتل الخوارزمي (ج1، ص237) و(مطالب السؤول ص57) و(الفصول المهمة ص172) و(مناقب ابن شهر آشوب ج4، ص97)، و(اللهوف ص71) و(كشف الغمة ص189) و(مثير الأحزان ص24) بأنّه عندما نزل الإمام في كربلاء، قال: «هذه كربلاء، موضع كرب وبلاء، هذا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا، ومقتل رجالنا»[204]. فقد بحث الكاتب هذا الخبر في (ص302 إلى ص305) على شكل جملة اعتراضية وحكم بعدم اعتباره معوّلاً على عدم ذكره في بعض الكتب وتضعيف ابن أعثم، وادّعى في الضمن أنّ الكتب الأخرى التي روت هذا الخبر إنّما نقلته عن ابن أعثم.
1ـ إنّ سبب إصرارك على ردّ هذا الخبر هو الامتناع عن طرح مسألة علم الإمام بشهادته، حتّى في هذا المورد الذي تحكي فيه الأوضاع والأحوال عن شهادة الإمام، وإن كان هذا التنبؤ والخبر الذي قد رويته عن علي× يجعله مُسَلّماً. ولولا سوء الظن ومخالفة الأدب لقلنا إنّك بذلت كافة جهودك للتستر بالجملة الاعتراضية والجانب الفني لتُنزِّل من علم وإدراك الإمام إلى مستوى الفهم العادي والمتعارف (العياذ بالله).
فلو كانت الرواية بهذا النحو: أنّ الإمام قال: هذه أرض كربلاء ونحن لا نعلم هل سنستشهد في هذا السفر هنا أم لا، ولم يكن فيها ضمير المتكلم مع غيره، لعددت ابن أعثم موضع وثوق وكتابه في أعلى درجة من الاعتبار. وبما أنّ الكاتب رام القول بأنّه بعد دخول الإمام إلى كربلاء ومجيء عمر بن سعد ولقائه معه وذكره الاقتراحات الثلاثة، فإنّ الإمام كان على استعداد تام لملاقاة يزيد ووضع يده بيده. لكنّه رأى أنّ هذه الأخبار تردّ هذا الاقتراح، فاختار من بينها رواية ابن أعثم، وأشكل عليها، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
2ـ كما أسلفنا أنّ عدم ذكر مطلب في كتاب أو عدَّة كتب مع علمنا بأنّها لم تكن في مقام الاستقصاء، لا يدل على عدم الصحة، وإلّا فمن الممكن العثور في أيّ من هذه الكتب الأحد عشر التي ذكرتها على مطالب لا يمكن العثور عليها في بعضها الآخر، كما أنّ ابن أعثم وكتابه ليس أقل اعتباراً من بعض الكتب من قبيل: ابن كثير والطبري، فالتضعيف الذي أصدره المحدث القمي حوله قد رواه عن أهل السنّة نقله عن ياقوت مؤلف معجم الأدباء، ولا يخفى اشتهار هذا الأخير بنصبه وعداوته لأمير المؤمنين×، وبحسب عبارة المحدِّث القمي هو شخص ثار عليه أهل دمشق بسبب إبرازه العداوة لأمير المؤمنين× وأرادوا قتله إلّا أنّه لاذ بالفرار.
بناء على ذلك فإنّ تضعيف مثل هذا الشخص لابن أعثم إن لم يكن دليلاً على مدحه لم يكن دليلاً على ذمه، بل يمكننا القول بأنّ طعن (ياقوت) في ما يرويه ابن أعثم راجع لما نقله هذا الأخير في كتابه عن فضائل أهل البيت^ وما شرحه عن تاريخهم.
3ـ إنّ نقل بعض المطالب الضعيفة لا يدل على ضعف الكتاب وكافة مطالبه، ولو كانت القاعدة قائمة على أساس ردّ كل كتاب ـ لاسيما الكتب التاريخية ـ بسبب نقلها للمطالب الضعيفة، فسوف تسقط عن الاعتبار أغلب الكتب التاريخية التي يستند عليها كاتب الشهيد الخالد والآخرون، إن لم نقل جميعها مثل: تاريخ الطبري، والكامل لابن الأثير، والإمامة والسياسة، والعقد الفريد، وسير أعلام النبلاء وغيرها التي توجد فيها مطالب ضعيفة أكثر من تاريخ ابن أعثم، إلّا أنّ الكاتب قد خصّ بهذا الطعن ابن أعثم؛ لأنَّه ـ وفقاً لما جاء في كتابه ـ يثبت علم الإمام بشهادته وبشهادة أصحابه عند الدخول إلى كربلاء. وهذا أيضاً نوع آخر من البحث والتحقيق العميق!
لاحظ كتاب (الأخبار الطوال) الذي هو من جملة المصادر التي تعتمد عليه، فهو يذكر بأنّ نزول الإمام في كربلاء كان في غرّة محرم، مع أنّ جميع الكتب المعتبرة الأخرى المأخوذة بنظر الاعتبار، تذكر بأنّه كان في الثاني من محرم.
4ـ إنّ بعض النماذج التي أظهرها الكاتب من تاريخ ابن أعثم (النموذج 2) ليس فيها سوى الغرابة والتفرّد في اصطلاح علم الحديث، ولا يثبت بذلك عدم اعتبار هذا الخبر بذاته، فضلاً عن عدم اعتبار أصل الكتاب والمؤلف، غاية الأمر أنّ بعض النماذج الأخرى تتعارض مع غيرها من الروايات، ولا ينبغي جعل كثرة الرواة في الطبقات التي تلي ابن أعثم ملاكاً لمعرفة الطريق والخبر الأقوى، بل يتعيّن مقارنة رواية ابن أعثم الذي هو من علماء القرن الثالث والمتوفى في أوائل القرن الرابع مع مصادر الكتب التي تتعارض مع ابن أعثم في مثل هذه النماذج الثلاثة، والتي من الممكن أن ترجع جميعها إلى مصدر واحد، فنأخذ حينها الأقوى من بينها. ولا يظن البعض أنّنا نريد هنا إثبات أو ردّ هذه النماذج الأربعة، إنمّا نريد القول بأنّ هذه الجملة المعترضة ناقصة من الجهة الفنية وفاقدة للاعتبار.
5ـ إذا كان تاريخ ابن أعثم غير معتبر، فلماذا استندت كثيراً في كتابك على ما نقله مقتل الخوارزمي منه مقتصراً عليه في ذلك؛ إذ كان يتعيّن عليك أن تأتي بشاهد على صحة هذه الروايات من الكتب التي لا يُحتمل أن يكون مصدرها ابن أعثم، أو تتراجع عن رأيك.
6ـ إنّ الرواية التي رواها الإمام عن أمير المؤمنين× والروايات الأخرى التي وردت حول شهادة الإمام في كربلاء، تؤيِّد عبارته التي قال فيها: (هذا مناخ ركابنا) وتخرجها عن غرابتها وتفرّدها. وبحسب العرف والظروف يصبح صدور هذا الكلام من الإمام مناسباً؛ لأنّه نزل في هذه الحال وهو تحت نير قوّة العدو في كربلاء، ومن الطبيعي أن يكثر هذا النوع من الكلام، وهذا بنفسه شاهد ومؤيّد يزيد من اطمئناننا لرواية ابن أعثم.
7ـ لو فرضنا أنّنا قبلنا هذا الحدس وهو: أنّ كتاب مطالب السؤول والفصول المهمة ومقتل الخوارزمي كافة، بل وحتّى كشف الغمّة قد استندت إلى تاريخ ابن أعثم في نقل هذا الخبر، إلّا إنّنا لا نقبل ذلك بالنسبة لمناقب ابن شهر آشوب؛ لأنّه لم يأخذ هذا النصّ عن تاريخ ابن أعثم، وهذا يتضح من المطالب السابقة واللاحقة المعلوم ارتباطها بهذا الخبر.
8ـ تختلف عبارة السيّد ابن طاووس+ مع العبارة المنقولة عن ابن أعثم، ولا يمكن القول: إنّ هذه العبارة مأخوذة من تاريخ ابن أعثم؛ لأنّ عبارة السيّد هي:
فقال: اللهم إنِّي أعوذ بك من الكرب والبلاء، ثمَّ قال: موضع كرب وبلاء، انزلوا هاهنا محط رحالنا ومسفك دمائنا وهنا محل قبورنا، بهذا حدَّثني جدّي رسول الله|.[205] وترجمة عبارة ابن أعثم هي: قال الحسين لأصحابه: انزلوا هذا موضع كرب وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا، وسفك دمائنا.[206]
فكما تلاحظون إنّ عبارة السيّد+ تختلف عن ترجمة عبارة ابن أعثم والعبارات التي نُقلت عن تاريخه، إذ نشاهد عمدة الجمل منقولة في اللهوف في حين لا توجد في ترجمة تاريخ ابن أعثم والكتب التي نقلت عنه. فلو فرضنا أنّ مصدر السيّد هو تاريخ ابن أعثم، فإنّه علينا أن نتساءل كيف أضيفت هذه الجمل؟
أنت لمّا تقول: إنّ المسلم المتقي الذي يجتنب ذكر المطالب المشكوكة لا يمكنه أن يعتمد على نقل ابن أعثم، فقل: هل يمكن للمسلم المتقي أن ينسب جعل الحديث لشخصية كالسيّد بما يمتلكه من مقام في الزهد والتقوى، بل لأشخاص أدون منه بمراتب، ويقول: إنّ هذه الإضافات كتبها من عنده؟! أليس أنّ السيّد أخذ هذا الحديث من مصدر معتبر آخر؟[207]
إنّ الإضافات التي جاءت في حديث اللهوف، أحدها هذه الجملة (اللهم إنِّي أعوذ بك من الكرب والبلاء)، والثانية (ومسفك دمائنا)، والثالثة (وهنا محل قبورنا)، والرابعة جملة (بهذا حدّثني جدّي رسول الله|).
لاحظوا هذه المجموعة من الجمل وبالخصوص الجملة الرابعة، من أين جاء بها السيّد؟ إنّ هذه الجملة لا هي في تاريخ ابن أعثم ولا في الكتب التي نقلت عنه. وهذه الجملة تعتبر ذكرى من الماضي، وتحكي إخبار جدِّه الرسول| عن مقتل سبطه العزيز الحسين× في كربلاء مراراً.
فأنت يا من تدعي التقوى وتقول: إنّ المسلم المتقي يجب أن يتجنب ذكر المطالب المشكوكة، كيف تقول في (ص303): إنّ اللهوف قد أورد في (ص71) عين عبارة ابن أعثم، فهل كانت هذه عين عبارة ابن أعثم؟! وهل هذه هي الأمانة العلمية في النقل؟!
9ـ والآن لكي تعلم بأنّ السيّد ابن طاووس لم ينفرد لوحده بهذا النقل، وعلى خلاف ما تذهب إليه؛ فإنّ الإمام عندما نزل كربلاء أخبر وبشكل صريح عن شهادته، ولم يكن مصدر ذلك منحصراً بكتاب ابن أعثم، عليك أن تستمع للأحاديث الثلاثة التالية، وتظهر الندامة على الكتاب الذي دوَّنته، وتعتذر من الإمام وجدِّه وأبيه وأمه وأخيه صلوات الله عليهم، ومن شهداء كربلاء.
الحديث الأوّل: روى الطبراني الذي هو من أبرز علماء أهل السنّة، بأنّ الحسين× قال: ما اسم هذه الأرض؟ قيل: كربلاء، فقال: صدق النبي| إنّها أرض كرب وبلاء.[208] وهذا الحديث مؤيِّد ومصدِّق لحديث اللهوف.
الحديث الثاني: روى الحافظ الزرندي أنّه عندما قالوا للإمام الحسين×: أرض كربلاء، قال: صدق رسول الله أرض كرب وبلاء، وقال لأصحابه: ضعوا رحالكم، مناخ القوم ومهراق دمائهم[209].
الحديث الثالث: روى السليلي في (الفتن) في ذيل رواية تتعلق بالإخبار عن شهادة الإمام، بأنّ الإمام قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء، قال: صدق الله أرض كرب وبلاء.[210]
نتيجة البحث هي أنّ العبارة التي رواها السيّد ابن طاووس+ معتبرة وموثوق بها، ومن الناحية الفنية والحديثية يحصل الاطمئنان بصدورها عن الإمام، ويؤيّد قوَّتها وصحتها قرائن وشواهد عديدة، وهذا الموضوع وهو إخبار الإمام بشهادته عند دخول كربلاء قطعي ومسلّم، ولا ينبغي لشخص متق ومؤمن وبصير بالأحاديث أن يشكك في مثل هذه الروايات أو ينكرها.
26ـ الخطر الجديد، والحكم غير المتعقل
119ـ لقد تحدّث في (ص305 وص306) عن اقتراح الإمام وفقاً لنقل أبي حنيفة الدينوري وتقرير عمر بن سعد لابن زياد وجوابه.
الملفت للنظر هنا أنّ أبا حنيفة الدينوري الذي يعتمد الكاتب على كتابه، لم يتحدّث عن الاقتراحات الثلاثة ومفاوضات الصلح السرية، سوى اقتراح العودة إلى الحجاز، إذ يحتمل احتمالاً قوياً أنّ ذلك راجع لعدم اعتبار الخبر المنقول عن تلك المفاوضات والاقتراحات في نظره.
ذكر الدينوري أنّ عمر بن سعد كتب إلى ابن زياد يخبره باقتراح الرجوع، فلمَّا وصل كتابه إلى ابن زياد كتب إليه في جوابه: قد فهمت كتابك، فأعرض على الحسين البيعة ليزيد، فإذا بايع في جميع من معه، فأعلمني ذلك ليأتيك رأيي. وعندما وصلت رسالة ابن زياد إلى عمر بن سعد قال: أحسب ابن زياد يريد العافية، فأرسل عمر بن سعد بكتاب ابن زياد إلى الحسين، فقال الحسين× للرسول: لا أُجيبُ ابْنَ زِيادَ إلى ذلك أَبَداً، فَهَلْ هُوَ إلّا الموت، فَمَرْحَباً بِهِ[211].
يُعلم من هذه الحادثة:
أوّلاً: إنّ عمر بن سعد كان يعلم بأنّ الإمام سيرفض اقتراح البيعة.
ثانياً: إنّ اقتراح الرجوع هذا بنظر عمر بن سعد كان كافياً لترك الخصومة، وإطلاق سراح سبط النبي|، والتوقع أكثر من ذلك ليس له محل ومورد.
ثالثاً: إنّ عمر بن سعد يعتبر ابن زياد في عدم قبوله لهذا الاقتراح مخطئ ورافض للعافية.
رابعاً: طبقاً لكلام الإمام يُعلم أنّه لم يكن أبداً مستعداً للبيعة والتسليم، وقد بقي ثابتاً على ذلك حتّى الموت والشهادة.
وعلى هذا الأساس، لم يبق موضوع لاقتراح الذهاب إلى الشام، ومصافحة يزيد التي هي تعبير عن البيعة (كما فسر الكاتب البيعة بهذا المعنى أيضاً في ص307)، ورواية الدينوري القوية هذه تُكذّب ذلك أيضاً.
120ـ نعتقد أنّ الإمام اقترح مسألة الرجوع على عمر بن سعد وليس على الحكومة، ولم يطلب منه أن يخبر ابن زياد، كما كان يقترحها في موارد أخرى أيضاً على أهل الكوفة من باب إتمام الحجة؛ حتّى يخلوا سبيله ويتركوه يرجع. أمّا فكرة التعايش السلمي ـ التي يظهر استساغتها من قبل كاتب الشهيد الخالد ـ فلم تكن الأرضية مهيّأة لطرحها مع نظام حكم يزيد مع سوابق الغدر والخيانة لأبيه معاوية، ومع جرائم وخيانة يزيد الكبرى. ولو اقتُرِح هذا الاقتراح للجهاز الحاكم فلم يكن ليُقبَل به دون اتّفاق يتضمّن سكوت الإمام وأن يكون جليس البيت، وهذا الاتفاق يحمل ضمناً اعترافاً رسمياً بحكومة يزيد، وهذا ما لم يُبده الإمام حتّى من باب إتمام الحجة.
28ـ مرّة أخرى اقتراح ومسالمة، التناقض، أمل بالكاتب
121ـ كرر في (ص317) الكلام عن مفاوضات الإمام السرية مع ابن سعد، لكنّه التزم الصمت حول الاقتراحات الثلاثة التي كان يتحدّث عنها في (ص205 إلى ص209)، وقال فقط: لقد اقترح الرجوع عدَّة مرّات. ولعله أراد هنا أن يتخلّى عن تلك المطالب، ويقبل اقتراح العودة هذا وخبر عقبة بن سمعان. فإن تعيّن ذلك قلنا بزوال إحدى نقاط ضعف الكتاب ـ باعتراف الكاتب ـ تلقائياً، وأيّ شيء أفضل من أن يصلح المؤلف خطأه بنفسه؛ إذ ربما تكون الحقيقة قد اتضحت له إثر التحقيقات التي قام بها من الفصل الثاني إلى هنا.
نأمل منه أن يلتفت إلى سائر أخطائه، وبالخصوص تغيير أساس وخطة الكتاب، أي يؤلّف كتاباً آخر مجرّداً عن نقاط الضعف هذه ويكون على أساس صحيح ومعقول؛ لأنّنا نعتقد أنّ هذا الكتاب مع الإبقاء على الأساس والترتيب الذي فيه ليس قابلاً للإصلاح. ولو أراد الإصرار مرَّة أخرى ـ لا سمح الله ـ على هذه المطالب في الفصل الثاني، كما أشار بشكل مجمل إلى ذلك في (ص334 وص335)، فنحن ضمن إرجاع القرَّاء الكرام إلى الأجوبة التي أجبنا فيها على مطالبه في الفصل الثاني، نلفت نظرهم أيضاً إلى التناقض الظاهر في عبارات الكاتب الواردة في (ص317) التي اكتفى فيها بكتابة (لقد اقترح الرجوع عدَّة مرّات) مع المطالب المذكورة في (ص205 إلى ص209).
122ـ في (ص330 وص331) قَبِل في الجملة أنّ خطبة الإمام كانت لإتمام الحجة وإيضاح الوضع وعرض معالم حادثة كربلاء للأجيال القادمة، إلّا أنّ قوله بأنّ إلقاء الإمام لتلك الخطب والكلمات المؤثرة تجنب للحرب هو ادّعاء غير صحيح؛ لأنّه كان من الواضح تماماً أنّ تلك الجماعة الوضيعة المتعلقة بالدنيا لا تتأثر بالإرشاد وخطب الهداية بشكل جماعي، بل كان الغرض إتمام الحجة وإنقاذ أشخاص كالحرّ من وادي الضلالة.
إنّ هذه الكلمات والخطب جعلت حادثة كربلاء أكثر عظمة وكشفت حقيقة وحسن نية أهل البيت^ أكثر فأكثر، وأظهرت جرائم ومدى قساوة الحكومة التي أبى الإمام مبايعتها، بل كان لكل جملة من هذه الخطب أثر يفوق مئة ألف فارس في بلوغ هذه الثورة المباركة أهدافها وغاياته التي رسمها الإمام الحسين×، مما جعلها منذ ذلك الوقت وحتّى الآن خالدة تتلألأ وضاءة على صفحات التواريخ.
30 ـ المرحلة الرابعة: أسر الناجين، نتيجة بدل الهدف
123 ـ في (ص338) ـ بعد أن اعترف في (ص337) بأنّ سبي أهل البيت^، وخطب الإمام السجاد× والحوراء زينب‘ القارعة، كان لها أثر عميق في الكشف عن الحقيقة الواقعية لحكومة يزيد المناوئة للإسلام ـ يقول: لعل البعض يتصوّر أنّ أحد أهداف الإمام الحسين× من اصطحابه لأهل بيته هو وقوعهم في الأسر مما سيزيد في فضح حكومة يزيد وفي زلزلة أركان حكمه، بينما يتعيّن علينا القول: إنّ هذا الكلام من باب الخلط بين الهدف والنتيجة، فلم يكن هدف الإمام وقوعهم في الأسر لفضح حكومة يزيد، بل إنّ سبي أهل بيت الإمام كان خلافاً لرغبته وخلافاً لرضا الله ورسوله..الخ.
نحن نقول: إنّك تخطأ خطأين، أحدهما: تخلط بين وسيلة الهدف والهدف نفسه، والآخر: تخلط بين عمل وجرائم النظام والخطوة التي يتخذها الإمام.
لقد كان سبي أهل بيت النبوة من قبل جهاز الحكم مخالفاً لرضا الله والرسول| والإمام، أمّا الإقدام على الأسر من قبل الإمام وأهل بيته كالإقدام على الشهادة فإنّه لا يعد مخالفاً لرضا الله والرسول| بل هو عين رضاهما، فأنت لم تفرِّق بين فعل وعمل الحكومة، وبين فعل وعمل الإمام وأهل بيته.
لقد كان المجيء بأهل البيت إلى ساحة كربلاء وسيلة لامتحان بني أمية، كتلك الفرص والوسائل التي اقتضت حكمة الله البالغة أن تُجعل تحت تصرّف الناس؛ لكي يستخدموها تبعاً لاختيارهم، فإمَّا أن يوفَّقوا للعمل بما يرضي الله أو يعملوا على خلاف ما يرضيه. وهذه هي إحدى خصوصيات أهل بيت الرسالة من كونهم وسائط لهذا الامتحان الإلهي، فالإمام قد جاء بأهل بيته لكي يتعرَّض بنو أمية للامتحان. أضف إلى ذلك أيّ محذور يتعلق بقولنا: إنّ الإمام كان يتوقع وقوع أهل البيت في الأسر إذا هو اصطحبهم معه، وأنّ سبيهم سيكون محفزاً نحو تحقق هدف الإمام الحقيقي المتمثل في إنقاذ الإسلام وهداية الخلق بشكل كامل. إذن فأنت تخلط بين الوسيلة والهدف، وبغض النظر عن الهدف فإنّك تعترض على هدفية الوسيلة.
إنّ الذين يقولون: إنّ الإمام كان يريد لأهل بيته السبي، يقصدون أنّ هدف الإمام هو إحياء الدين وإظهار حقيقة بني أمية وإنقاذ الإسلام من براثنهم الآثمة، وسبي أهل البيت إحدى الوسائل إلى ذلك، فعندما تكون هناك مصلحة أهم لابد من غض النظر عن المصلحة المهمة، وتحمّل المفسدة الصغرى جائز ومعقول في مقام دفع المفسدة العظمى، ولكن غض النظر عن المصلحة المهمة أو تحمّل المفسدة الصغرى ليس هدفاً؛ لأنّ الهدف هو حفظ المصلحة العظمى ودفع الفساد الأهم. وإلّا فإنّه لا يقول أحد أنّ الإمام أراد السبي لأهل بيته وعياله، بمعنى أنّه وإن لم تترتب أيّ ثمرة على ذلك واستسلم يزيد وابن زياد أيضاً، فإنّ الإمام كان سيرجو القوم بأن يسبوا أهل بيته كي تتحقق رغبته!
124ـ أمّا ما كتبه حول تبرير اصطحاب الأهل والعيال، وأنّ الإمام اصطحبهم معه؛ لكي لا يتعرَّض لهم العدو في مكة والمدينة، فإنّه لا أساس له ولا يمكن قبوله بوجه، وإن كان البعض احتمل ذلك، وجوابه هو:
أوّلاً: لو بقي أهل البيت في مكة أو المدينة لكانوا في أمان، ولم يتعرَّض لهم أحد، ولتمكّن بنو هاشم أمثال محمّد بن الحنفية وابن عباس وعبدالله بن جعفر من الدفاع عنهم.
ثانياً: إنّ عدم اصطحابهم في مثل هذا السفر كان سيكون له الأفضلية بلحاظ الأهداف العسكرية، واطمئنان الخاطر.
ثالثاً: لو لم يكونوا مصونين في مكة أو المدينة، لقال الإمام في جوابه لابن عباس: إنّي مضطر لحملهم معي؛ لأنّ بقاءهم في الحجاز ليس فيه مصلحة، ومن الممكن أن يتعرّضوا للإساءة والاعتداء.
رابعاً: تسلّم الإمام لسدّة الحكم في الكوفة لم يكن أمراً معلوماً بالقطع، فلو بالغنا كثيراً بهذا الخصوص، فإنّه يُفرض نوعٌ من توازن القوى العسكرية بين الطرفين، فكيف نعتبره حاصلاً ومسلّماً كي يصطحب الإمام أطفاله ونساءه بهذا القدر من الاطمئنان؟
خامساً: إذا كان غرض الإمام هو عدم التعرُّض لأهل البيت، فلماذا عندما وصل خبر شهادة مسلم وهاني وتغيّر الأوضاع لم يرجعهم فوراً إلى مكة أو المدينة؟
31ـ عدَّة ملاحظات حول فلسفة مرافقة نساء أهل البيت للإمام
125ـ كما قلنا مراراً ـ سواء رضى كاتب الشهيد الخالد أو لم يرض ـ: لا يليق بنا أن نسأل عن علّة وفلسفة إقدام الإمام؛ لأنّنا نعتبره خلاف الأدب، ونرى أنفسنا قاصرين عن فهم المصلحة من وراء عمل الإمام ومواقفه، فمهما كانت رؤيتنا وبصيرتنا شديدة، وإدراكنا عالياً لا يمكننا أن نرى عمق الأمور وعواقبها كما هي عليه؛ لأنّه كما أنّ الحجب المختلفة التي أمام أبصارنا تكون مانعة عن هذه الرؤية، كذلك مقتضيات وشروط هذه الرؤية ليست متوفرة لدينا.
إنّ ما ذكره القرآن من قصة موسى× والعبد الصالح الذي قد أعطاه الله علماً هو تجسيد لهذه الحقيقة. فكل ما نقوله عن هذه الواقعة يتناسب مع استعدادنا وكفاءتنا وفهمنا، وفي الوقت ذاته يكون الرأي صحيحاً إذا كان مؤيداً بنقل متسالم عليه عن الرسول| وأهل البيت^ الذين هم عدل القرآن.
نحن ليس لنا حق أن نعترض على عمل الإمام؛ كوننا نقطع بأنّ كل ما يقوم به هو عين المصلحة والصواب، إذ كلَّما أمعنّا البحث ودققنا التفحص من خلال العقل السليم، كلَّما تراءت لنا المصلحة والحكمة عند الله في عمل هؤلاء العظماء أكثر فأكثر. مع ذلك حتّى يُعلم أنّا في عين التسليم والتواضع لا نتّبع في الوقت نفسه منطق الصم والبكم، فإنّنا نتناول هذه البحوث بحريّة؛ كي نزداد معرفة وقوّة في الإيمان والعقيدة، لذا نذكر هنا عدّة ملاحظات في علّة ومصلحة رفقة أهل البيت للإمام.
1ـ وفقاً لحديث معتبر رواه الحسين بن أحمد بن المغيرة الثقة عن أستاذه الشيخ أبي القاسم علي بن محمّد بن عبدوس الكوفي، وعن شيخه أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمي بسند متصل إلى الإمام زين العابدين×، كما أورده أستاذه في كامل الزيارات وجعله الحديث الأوّل في الباب (88)، إنّ الخطة التي أجراها الإمام الحسين× كانت وفقاً لعهد وشرط ذكره النبي| لأمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين^. ووفقاً لهذه الرواية التي تبدو آثار الاعتبار والوثاقة عليها جلية، وتصلح أن تكون ردّاً قوياً على ما ذكر في كتاب الشهيد الخالد، فإنّه لمّا ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين×، أخبر الإمام الحوراء زينب‘ عن سبي نساء أهل البيت، فقال: (كأنّي بك وبنساء أهل بيتك سبايا بهذا البلد، أذلّاء خاشعين تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبراً، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما لله على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم وغير محبيكم وشيعتكم)[212].
إذن وفقاً لهذا الخبر أنّ السبي والشهادة وكلّما نفّذ وطبّق، إنّما كان نابعاً ممّا لدى الإمام الحسين× من مسؤولية وتكليف إلهي.
2ـ بغض النظر عن مثل رواية كامل الزيارات، فإنّ الأمر الملفت للانتباه هو أنّه حسب رواية: (إنِّي رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسول الله، وأمرني بأمر أنا ماضٍ له، ولست بمخبر أحداً حتّى ألاقي عملي)،[213] إنّ احتمال أن يكون اصطحاب الإمام لأهل البيت في سفره محض تكليف إلهي خاص غير قابل للردّ أبداً، وطبقاً للرواية المذكورة أعلاه فإنّه من المحتمل كحد أدنى أن يكون اصطحاب أهل البيت وإشراكهم في هذه المصائب بأمر من النبي|، وتبعاً لهذا الاحتمال الصحيح العقلائي وهذه الرواية التي وثقها الكاتب والمؤيّدة أيضاً بشواهد كثيرة، سيكون قول إنّ الهدف من اصطحاب الإمام لعائلته هو الحيلولة دون الاعتداء والتضييق عليهم في مكة والمدينة خلافاً للتقوى والأمانة.
3ـ إنّ اصطحاب العائلة بحسب قول العقاد[214] لم يكن عملاً غير مسبوق، وإنّما كان دليلاً على قوّة القرار، وعدم العود عن قرار الوصول إلى الهدف، مضافاً إلى أنّ الإمام كان يدعو الناس للجهاد والنهضة ووجوب عدم الاكتراث إلى ما سيتعرضون إليه من مصائب وأخطار في هذا السبيل تتعلق بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم؛ لأنّ المجاهدين في سوح الوغى يجب أن يتطلّعوا إلى ما هو أعز عند المؤمن من ماله وعائلته؛ وعليه ليس من المروة والشهامة أن يطلب الإمام من هؤلاء مواجهة هذه الأخطار، في حين يضع أحبته في مهد الأمن والطمأنينة، وليس من المروة أن يطلب التضحية من الناس ونسائهم وأبنائهم وعوائلهم تحت أقدام عمال حكومة ابن زياد الظالمة في الكوفة، في حال لا يتقدم هو في مواجهة تلك المصائب.
4ـ بحسب قول العقاد أيضاً: إنّ الحسين× كان يجب أن ينهض بأقوى الأدلة، ويهيّئ أقوى الحجج في مقابل الأعداء لإثبات بطلانهم، مما يجعلهم مغلوبين ويجعل الحسين× ظافراً منتصراً حتّى وإن كانت الغلبة الظاهرية لهم، وأسر أهل البيت كان له هذه النتيجة، مضافاً إلى أنّ اصطحاب أهل البيت أبلغ في إتمام الحجة؛ لأنّه حينما تكون نصرة الإمام واجبة بسبب مقامه العالي ونسبه الشريف، ستكون نصرته أوجب وآكد عندما يصبح محصوراً بين حريم الرسالة ومخدرات العصمة والطهارة.
5ـ كان لسبي أهل البيت ـ كما اعترف الكاتب أيضاً ـ أثر عميق في الكشف عن الحقيقة الواقعية لحكومة يزيد المناوئة للإسلام، حيث إنّ هذا الأثر لم يتحقق بأيّ وسيلة أخرى، فضلاً عن تأثيره تأثيراً كبيراً في إبراز مظلومية أهل البيت ومحبوبيتهم، وتعبئة المشاعر نحو نصرة الحق والفضيلة أيضاً. وكان أهل البيت هم الوسيلة الوحيدة في الحفاظ على الآثار المترتبة على شهادة الإمام، ونتائج تلك التضحية التي ليس لها نظير، وإيصال تلك المواقف الفريدة من نوعها لأسماع الشعوب الإسلامية، وإظهار نوايا الخضوع للحق ونداء التوحيد والرغبة في الإسلام، حيث يمكننا القول: إنّه لو لم يحصل هذا السبي لدفنت آثار شهادة الإمام مع جسده الطاهر في كربلاء، ولما لاحت في الآفاق المدرسة الحسينية التي تُعقد دروسها التعليمية والتربوية على مدار السنة.
لقد زلزل سبي أهل البيت في الكوفة وفي مجلس ابن زياد وفي المدن الواقعة على طريق الشام وفي دمشق العالم الإسلامي، بل ألّب ما في أروقة قصر يزيد عليه. إنّ خطب الإمام زين العابدين× والحوراء زينب‘ الجريئة والمعبَّرة التي اتسمت بالبلاغة والفصاحة في الكوفة والشام، وبالخصوص الخطبة التاريخية للحوراء زينب‘ في مجلس يزيد، والخطبة التاريخية للإمام السجاد× في جامع دمشق، تركت آثاراً لا يمكن لأعظم الأجهزة الإعلامية المقتدرة في عصرنا أن تتركها.
إنّ مكارم أخلاقهم وقوّة قلوبهم وثباتهم وشهامتهم وصبرهم أدهشت الناس وأذهلتهم، وأولئك الناس الذين كانوا قد باعوا شرفهم ودينهم وحريتهم للجهاز الحاكم، أو الذين لم تكن تنطق ألسنتهم من الخوف بكلمة الحق، قد وجدوا أنفسهم في مواجهة أناس لا يهتمون لما في هذه الحياة الدنيا.
لم تترك مخدرات أهل البيت المفجوعات المبتلاة، والمسبيات تحت بريق رماح وسيوف القادة الأجلاف والضباط الأراذل والجنود الفاسدين في حكومة يزيد أيّ زاوية مبهمة لنهضة الإمام الحسين× وغايته المتعلقة بإدانة الباطل والدفاع عن قداسة الدين، ولم يغب عنهن هذا الهدف أينما حللن. اقرؤوا كتاب بلاغات النساء[215] وانظروا أيّ امرأة أو رجل مصاب ومفجوع وأسير بإمكانه ذكر تلك الحقائق بقوّة قلب في مجلس إمبراطور ودكتاتور وقح مثل يزيد، ويقرّع الحكومة الأموية بمنطق علوي ولسان محمّدي فصيح. فحتّى لو لم تكن عقيلة الهاشميين أسيرة، ولم يكن قد استشهد أخوها لما كان هناك بيان أفضل من هذا البيان.
إنّ هذه المواقف والمناقب تعدّ من معجزات بيت الرسالة، فأين كان سيتسنى لهذه القابليات والنفسيات المقدّسة أن تظهر لو لم يحدث ذلك الأسر؟ اقرؤوا بلاغات النساء وانظروا كيف تربّعت زينب‘ في ذلك المجلس على سماء المجد والعظمة، وهي ترى يزيد في أدنى مستنقعات الرذيلة وتوبّخه.
اقرؤوا وانظروا كيف تتنبأ السيدة زينب‘ وتخبر عن المستقبل، وتعلن أمام يزيد بأنّ جهوده لمحو آثار الوحي المحمّدي ورسالة الإسلام ستذهب هدراً، وأنّ هذا الوحي وهذا الاسم وهذه المفاخر ستبقى خالدة. فأيّ امرأة عالمة وفصيحة وبليغة وهي في حالة من ضبط النفس تستطيع أن تُعِدّ هكذا خطبة، هذه كانت ابنة علي× وأخت الحسين×، التي استطاعت أن تكشف عن انحطاط المجتمع الإسلامي في ذلك الزمان من خلال خطبة ألقتها في مدينة الكوفة اشتلمت على كلمات نارية وحماسية مفعمة بالحقائق. كما أصبح لخطبة الإمام زين العابدين× في جامع دمشق تأثيراً أعمق وأشد حساسية أيضاً.
لقد كان للسبي ردّة فعل أجبرت يزيد على السماح للإمام زين العابدين× بأن يكشف في مسجد دمشق عن حقائق قد مضى عليها ستون عاماً من الهجرة ولم يسمعها أحد حتّى ذلك الحين. وأن يعدد فضائل ومناقب الإمام علي× في تلك الأجواء التي قد يكون حضرها من لا يعرف بقرابة الإمام علي× من رسول الله|. هذه وغيرها من الآثار تبرز فلسفة النهضة والأسر، حيث لم يكن سبي أهل بيت الرسالة هدفاً للنهضة، إنّما أدرجت كل تلك الآثار والنتائج ضمن أهداف النهضة المتوقعة. فما أضيق تفكيرك حين تسعى لتعليل حدث بهذه الأهمية والأثر بأسباب واهية يأباها العقل، وتقول في (ص338): إنّ الإمام اصطحب أهله كي يكونوا بالقرب منه ويكون على علم بحالهم. ما أكثر الخطأ في تفكيرك حين تقول في (ص339): إنّ هدف الإمام من حمل العائلة هو الحيلولة دون وقوعهم في أيدي الأعداء، وضمن ذلك تنسب الجهل للإمام باعتباره لم يكن يعلم بما سيجري عليهم من أحداث حيث وقعت المأساة والأسر عكس ما كان يراه. فلو أنّ الشخص يعترف بعدم المعرفة ويتأسى بالملائكة، حيث قالوا: (لا علم لنا) أفضل من الإتيان بهذه التبريرات المرفوضة.
إنّ هناك من احتمل هذا الاحتمال قبلك بشكل أحسن كما ذكر ذلك الطنطاوي ـ مع أنّ صدور ذلك عنه لم يكن بعيداً ـ، ومع ذلك لم يكن مُستساغاً بين أهل السنّة.
أيَّها السيّد العزيز إنّ الإمام كان يعلم بما سيصنع أهل بيته من خطة عمل، ومن المؤكّد أنّهم لو بقوا في مكّة أو المدينة لما وقعوا في الأسر. كما كان الإمام على علم أيضاً بأنّ يد الطغيان البعيدة عن الغيرة والحمية سوف لن تنال منهم؛ لأنّ الله راعيهم وحافظهم، كما وعدهم بذلك الإمام في الوداع الأخير بكل ثقة واطمئنان، حيث قال: (ألبسوا أزركم، واستعدوا للبلاء، واعلموا أنّ الله حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم)[216]. سلام الله عليك وعلى أهل بيتك يا أبا عبدالله، يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً.
على أيّ حال نحن نعتبر أنّ شهادة الإمام وسبي أهل بيته قد كان في سبيل الله، ودفاعاً عن دين الله، ونعتقد وفقاً للأدلة التي أقمناها مكرراً في هذا الكتاب بأنّ آثار الشهادة والسبي قد كانت من أهداف الإمام، وبما أنّك تنكر علم الإمام بالشهادة والسبي حتّى عن طريق الأخبار الواردة عن النبي|، تعتبر هذه الآثار نتائج قهرية، ولا تفترض أيّ غاية وفائدة اختيارية من شهادة الإمام وسبي أهل بيته لأجل الإسلام.
ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم
126ـ الإصلاح أحد المعاني المشككة كالنور والبياض، حيث تكون درجاته ومراتبه وأفراده ومصاديقه متباينة، فإنّ هداية شخص واحد ودعوته إلى الله ومنعه من المعصية وتشجيعه على الأمانة ومحبة أبناء جنسه هو إصلاح، وترويج سُنّة حسنة والحيلولة دون انتشار سُنّة سيئة إصلاح، وحمل صنف أو مجتمع أو مؤسسة على جادة الصواب إصلاح، وتبليغ الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقريع الظالمين والتعاون مع الخيرين وتقوية العقائد الصحيحة ودفع الشبهات والمنع عن الانحرافات الفكرية وإعانة المظلوم وإيجاد مراكز الإرشاد الفكري والمؤسسات العلمية إصلاح أيضاً، فالإصلاح له فروع كثيرة وليس منحصراً بتأسيس الحكومة الإسلامية وقيادة الصلحاء والشرفاء، كما أنّ الإفساد الذي يقابل الإصلاح كذلك من المعاني المشككة كالظلمة والسواد ومصاديقه متباينة أيضاً. جاء في القرآن الكريم على لسان النبي شعيب على نبينا وآله وعليه السلام: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [217] لم يكن هذا الإصلاح إصلاحاً سياسياً وحكومياً فقط، بل يشمل الإصلاح الفكري والاجتماعي والأخلاقي والاقتصادي أيضاً.
طبعاً إنّ هناك شروطاً كثيرة للإصلاح المطلق والكامل وفي المقابل موانعه كثيرة أيضاً، ففي الحكومة الإسلامية يحتاج الإصلاح المطلق إلى مرور الوقت وإزالة الموانع؛ لذلك لم يتحقق في عصر النبي| ولا في الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين× الإصلاح المطلق والعالمي بسبب وجود الموانع وقصر الزمن، مع أنّ حكومة هذين العظيمين كانت تمثّل حقيقة الإصلاح وكان هدفهما الإصلاحات الشاملة والكاملة، إلّا أنّ الشعوب والبلدان التي لم تعتنق الإسلام حُرمت من تلك الإصلاحات بسبب ضيق نطاق حدود الحكومة، كما أنّ الأوضاع الداخلية لم تكن مهيّأة لقبول كافة الإصلاحات. مع ذلك لم تكن جميع الإصلاحات متوقفة على تأسيس الحكومة الإسلامية بشكل مطلق، بحيث لا يمكن القيام بأيّ خطوة إصلاحية أخرى في الحكومات غير الإسلامية والأوضاع غير المساعدة، فإذا فرضنا بأنّ الإصلاح يكون في ظل الحكومة الإسلامية فقط، فينبغي لنا آنذاك أن ننكر الإصلاحات التي أنجزت خلال أربعة عشر قرناً ببركة التعاليم الإسلامية، وندّعي بأنّها ليست مرتبطة بالإسلام.
والواقع أنّ النبي| يعتبر أعظم قائد للإصلاح، بل المصلح الوحيد في عالم الإنسانية، ليس لأنّه أسس عدّة سنوات الحكومة الإسلامية، بل لأنّ العالم في المدّة الممتدة على الأربعة عشر قرناً قد انتفع بتعاليمه وبركات إصلاحه ونتائجه.
وإن لم تُؤسس الحكومة الإسلامية بتمام المقاييس إلّا في حياته المليئة بالعطاء وخلافة أمير المؤمنين× الظاهرية، إلّا أنّ جهوده الإصلاحية قد أثمرت في كافة الشؤون ومختلف المجالات الاجتماعية منها والسياسية والمعنوية والمادية، ووجدت البشرية نفسها وعرفت قيمها الإنسانية وحقوقها.
لقد كان النبي| قائداً واقعياً للإصلاحات، ومصلحاً حقيقياً لمّا كان في مكّة ولم يكن معتلياً لرئاسة وحكومة بحسب الظاهر، وكذا عندما كان محاصراً في شعب أبي طالب، وأيضاً في المدينة حينما أسس الحكومة الإلهية الإسلامية. والحال نفسه بالنسبة لعيسى وموسى وإبراهيم الخليل وسائر الأنبياء^ فهم مصلحون، وكثير منهم قضوا دون أن يؤسسوا حكومة، إلّا أنّهم أيقضوا الأمم، وقادوا الناس إلى الله الواحد، وهدوهم إلى أوسع سبل الإنسانية، وقاموا بإصلاحات عظيمة ومؤثرة.
إذن لم تنحصر وسيلة نجاة الإسلام من الانقراض والاضمحلال في تأسيس الحكومة الإسلامية، لكي نضطر من خلال سوق الأدلة الخاطئة أن نعتبر نهضة الإمام من أجل تأسيس الحكومة، فإنّ المخطط الذي أجراه الإمام بدءً بالامتناع عن البيعة إلى شهادته وشهادة الشباب الهاشميين والأصحاب وإلى سبي أهل البيت قد أنقذ الإسلام، وأبعد يزيد عن قيادة وإمامة المسلمين مع أنّ القيادة والحكومة كانت بيده.
بعد هذه المقدّمة نقول: بما أنّ الكاتب يريد أن يثبت أنّ الحكومة كانت هدف النهضة، ونحن وإن كنّا قد رددنا هذا الرأي مرّات عديدة، وأوضحنا بأنّ شروط تأسيس الحكومة لم تكن مهيّأة، وبما أنّ التكليف بتأسيس الحكومة منوط بالقدرة مثله مثل جميع التكاليف، فإنّه قد كان ساقطاً عن الإمام لفقدان القدرة. مع ذلك سنتابع البحث حول مضمون هذا النص؛ لأنّ الكاتب قد استدل بكلام الإمام في بيانه للهدف من النهضة، وسيكون من دواعي فخرنا إن استطعنا شرح كلمة بقدر وسعنا.
127ـ إنّ أول كلام نقله الكاتب عن الإمام لبيان هدفه الإصلاحي، هذه الجملة التي جاءت في وصيته: «وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي»[218] .
أوّلاً: من الغريب جدّاً أنّه استند هنا إلى نفس الرواية التي ردّها واعتبرها غير موثوقة في (ص98). ووثّق هذا القسم من مقتل الخوارزمي من (ص180 إلى ص189) المنقول عن ابن أعثم الذي ردّ اعتباره هناك. من البديهي تبعاً للأدلة التي أقمتها هناك واعتبرت مجموع هذه الصفحات التسع خبراً واحداً لذا في ردّ الرؤيا التي رآها الإمام استشهدت بالمطالب السابقة عليها، لا يحق لك القيام بتجزئة روايته، والادّعاء بأنّ قسم الرؤيا غير معتبر والأقسام الأخرى معتبرة؛ لأنّ اعتبار قسم منها يعني اعتبار الخبر بتمامه والعكس صحيح أيضاً [219] .
نسترعي عناية القرَّاء الكرام إلى أن يطالعوا بدقة مقتل الخوارزمي من (ص180 إلى ص189)، وترجمة تاريخ ابن أعثم من (ص342 إلى ص347)، وكتاب الشهيد الخالد من (ص96 إلى ص106)، و(ص286 وص343)؛ ليروا كيف سلك هذا الكاتب طريق التناقض في رفض وقبول النصوص التاريخية.
ثانياً: من الواضح والمتفق عليه أنّ الإمام لم يقصد شيئاً آخر سوى الإصلاح. إنّ الذين يرون أنّ الإمام كان عالماً بشهادته، ولم يكن ينوي تأسيس الحكومة الإسلامية، يصرحون أنّ الإصلاح هو هدف الإمام، وأنت الذي ترى أنّ قصد الإمام هو تأسيس الحكومة الإسلامية تقول أيضاً أنّ هدفه الإصلاح، لكن مع فارق هو: أنّهم يعتقدون بأنّ الإمام انتصر ونجح في ثورته وحقّق هدفه الإصلاحي، بينما ترى أنت أنّه فشل ولم يحقق هدفه، ولم يجن الثمرة التي كان يتواخاها من النهضة.
إنّك تقول بأنّ الحوادث غير المتوقعة أصبحت سبباً لفشل النهضة، مما دعا الإمام إلى تغيير خطته مرحلة بعد أخرى، بينما لا يرون هم أبداً وقوع حوادث غير متوقعة حتّى على المستوى الأقل من علم الإمام، فكل ما حدث كان متوقعاً بشكل إجمالي على أقل تقدير، وكانت خطة الإمام معلومة من البداية، وقد أجرى هذا البرنامج الذي أعدّه مسبقاً وأعلن عنه عدّة مرّات في المدينة ومكّة إلى نهايته.
الإصلاح الكامل يتحقق في ظل تشكيل الحكومة الإسلامية، لكن تشكيلها كان متعذراً في ذاك العصر، الذي أصبحت فيه الأوضاع سيئة للغاية، والموانع فيه تضاعفت مئات المرّات؛ لذلك دخل الإمام ميدان الإصلاح عن طريق النضال السلبي، وقرر أن ينهض لطلب الإصلاح في أمّة جدّه ويسعى لمكافحة الفساد وتمييز الحق من الباطل والصلاح من الفساد في هذا الوضع الذي انفتحت فيه كافة سبل الفساد أمام الناس، وملأ المفسدون كافة الأمكنة والمناصب، وقد أصبح المفسد الشرير وذو التاريخ السيء والدكتاتور المستبد مثل يزيد والياً. لم تكن هناك إمكانية لتأسيس الحكومة في تلك الأوضاع، إلّا أنّ إدانة الحكومة الجبارة وإعلان فسادها، والامتناع عن البيعة، وإظهار المخالفة لها، وهداية الأفكار الضالة، كان مقدوراً وضرورياً.
لا شك في أنّ الإمام أنقذ الإسلام بحيث استطاع أن يخطو أكبر خطوة إصلاحية، ويصبح قائداً وإماماً للمصلحين في الأمّة الإسلامية، وقام بتوعية المسلمين، وأجاب على مسألة حكم الخروج على مثل يزيد، واعتبرها جائزة بل واجبة، وأبطل القيادة الدينية لمثل هذه الخلافة، وقطع أيدي هؤلاء حتّى لا يتمكّنوا من القيام بأعمال ينسبونها إلى الدين بواسطة التلبس بلباس الدين والتشدق باسم الدين وولاية الأمر والإمامة. وفي ذلك الحال لم يكن بالإمكان تصوّر أيّ خطة للإصلاح إلّا السكوت والتسليم وإقامة جهاز حاكم من المؤكد سيكون سبباً للإخلال في وضع المسلمين.
لقد نفّذ الإمام خطته بنجاح وأصبح منتصراً وفاتحاً، والحاصل أنّ طلب الإصلاح بشكل مطلق لا يتوقف على تأسيس الحكومة، حتّى تكتب كتاباً مملوءاً بالتبريرات والتقطيع وإنكار الأمور المسلّمة تاريخياً في إثبات هدفية ذلك.
128 ـ لقد استشهد في (ص343) بعبارة: (فإنّ السنّة قد أميتت وأنّ البدعة قد أحييت)، وقال: إنّ معنى هذا هو أنّ هدفي إزالة البدع وإحياء الإسلام وسنّة النبي|.
الجواب: يقيناً كان هدف الإمام إحياء السنّة وإزالة البدعة، وهذا هو هدف جميع الأئمة من أمير المؤمنين× إلى الإمام صاحب العصر# الذي سيقوم بتأسيس دولة الحق العالمية وعدالة الإسلام والحكومة الإلهية بأمر الله تعالى. ولقد أحيى كل إمام من الأئمة السنن وأزال البدع على قدر وسعه.
لقد كان هدف الإمام الحسين× في هذه الرسالة التي أرسلها إلى أكابر البصرة الدعوة إلى الكتاب والسنّة، كما نقرأ في العبارة التي سبقت هذه الجملة: (وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيه). إنّ كل ما دوّنه الإمام في مثل هذه الرسائل هو وفقاً لمقام الإمامة وأداء تكليف الدعوة والإرشاد والإبلاغ والعمل ببرنامج: (قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)، حيث أعلن الإمام في هذه الرسائل عن استعداده للإمساك بزمام أمور التبليغ، ولكن لا يستفاد من هذه الرسائل أنّ هدفه تأسيس الحكومة الإسلامية بمعنى أنّه كان يرى توفر شروط تأسيسها وأنّ تحقق الأهداف الإصلاحية منوط بتحققها.
2ـ خطبة الإمام تُبطل مطالب كتاب الشهيد الخالد
129ـ نقل في (ص343) خطبة الإمام بعد اللقاء بجيش الحر، واعترف في (ص345) أنّه ألقى هذه الخطبة في وقت كان يتعذّر فيه انتصار الإمام على الصعيد العسكري، وكان قد تخلى عن تأسيس الحكومة؛ لأنّه لم يكن لديه تكليف أو مسؤولية في هذه الحالة.
يُستفاد من هذه الخطبة ما يلي:
أوّلاً: إنّ الإمام يُبيِّن من خلال هذه الخطبة أدلة نهضته وصحّة امتناعه عن البيعة، ويدافع بهذه الكلمات عن الخطَّة التي كان ينفذها.
لم تكن تلك التصريحات أدلة على وجوب الأعمال السابقة فحسب، إنّما هي في الوقت الذي ينعدم فيه إمكان الانتصار العسكري ـ بحسب قول الكاتب ـ أدلة للأسلوب السلبي الذي سلكه الإمام من ذاك الزمن إلى انقضاء الأمر والشهادة، فلم تكن هذه الخطبة عذراً للحركة السابقة، بل تطلّعاً إلى الحال والمستقبل أكثر منها تطلّعاً إلى الماضي. فإذا كانت هذه الخطبة تبيِّن لنا هدف الإمام، فهي تعرّفنا أيضاً بهدفه منذ إلقائها إلى يوم شهادته. إنّ هدف الإمام كان تغيير ما كان عليه يزيد بالفعل والقول في هذا الوقت الذي تدّعي فيه أنت بأنّ الإمام قد تخلى فيه عن تأسيس الحكومة، وقد تحقق هذا الهدف من خلال المخطط الذي أجراه الإمام.
ثانياً: إنّ الحديث الذي استشهد به الإمام على وجوب الإنكار على السلطان الجائر المستحلّ لحرم الله والناكث لعهده، الذي يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، المخالف لسنّة رسول الله| هو حديث مطلق وليس مشروطاً بتأسيس الحكومة، بل يتعيّن الإنكار إذا كان ممكناً ومفيداً.
ثالثاً: إنّ الإمام أنسب وأليق من أيّ شخص آخر للقيام بهذا الإنكار؛ لأنّ ذلك سيكون أكثر تأثيراً في النفوس.
رابعاً: كان يزيد والنظام الحاكم يمتلكان الصفات الخبيثة التالية:
1ـ ملازمة طاعة الشيطان.
2ـ ترك طاعة الله.
3ـ إظهار الفساد.
4ـ تعطيل الحدود.
5ـ استحواذه وعمال نظامه ومرتزقته وجنوده وحرسه الخاص على بيت المال.
6ـ تحليل الحرام.
7ـ تحريم الحلال.
ومن المعلوم إذا استمر مثل هذا النظام بعمله دون رادع ومعترض من الناس، وردَّة فعل وحالة استنكار من قبل المجتمع وشخصياته الدينية والوطنية، فسيؤدّي ذلك إلى زوال الإسلام والقضاء عليه وسيكون سكوت الجميع والتظاهر والمسامحة إقراراً منهم بذلك.
خامساً: إنّ إلقاء الخطبة في هذا الوقت الذي كان فيه الانتصار العسكري متعذّراً كما ذهبت إليه، يدل على أنّ خطب الإمام ورسائله ودعواته للناس للدفاع عن الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس على أساس إمكانية تأسيس حكومة إسلامية، وإنّما إتماماً للحجة أو دعوة الجميع للنضال السلبي والتمرد على الحكومة، سواءً تحقق النصر حالياً أو لم يتحقق، ولو كان الأمر خلاف ذلك لأمكن لأولئك الناس القول: نحن مستعدون للنصرة إلّا أنّه من غير الممكن تأسيس الحكومة الإسلامية، كما لا ينبغي للإمام في مثل تلك الظروف والأوقات طلب النصرة والعون من أحد.
إنّ أيّ تفسير تعرضه لهذه الخطبة، ينبغي عليك قوله بالنسبة لسائر خطب الإمام ورسائله التي أوردها في مكّة وأثناء مسيره وقبل لقائه بجيش الحر، فلحن تلك الخطب كافة لحن واحد تقريباً.
سادساً: قال الإمام: المغرور من اغترَّ بكم، وأنت قد ترجمت هذه العبارة كالآتي: المغرور هو الشخص الذي يثق بكم. والآن أجب على هذا السؤال بدقة وتأمل وإنصاف:
هل كان ما ذكرته حول توفر شروط النهضة وتحققها لأجل تأسيس الحكومة الإسلامية، وأنّ الإمام ـ بحسب طرحك ـ قد نهض بناء على وجود تلك الشروط فأرسل مسلماً، وتوجّه من مكة إلى العراق؛ أمراً آخر غير الثقة برسائل ورسل الكوفة وبيعتهم لمسلم ووعودهم الكاذبة وعهودهم الزائفة؟ وأيّ معنى للاغترار ببيعة أولئك الناس الناكثين للعهد وكلماتهم الذين وصفهم مسلم بن عقيل في آخر رسائله للإمام بقوله: (ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك، ولا يغرك أهل الكوفة، فإنَّهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت الخ)[220]؛ سوى النهضة لتأسيس الحكومة بالاعتماد على بيعتهم ووعودهم؟ إذن أصبحت نتيجة أتعابك خلال السنوات السبع وما دوّنته من كتاب ناهزت صفحاته الأربعمائة صفحة هي القول بأنّ الإمام قد انخدع بأولئك الناس واغتر بهم ـ والعياذ بالله ـ ووقعت هذه الحادثة التي لا يمكن للعالم الإسلامي تلافيها.
أقسمت عليك بالله أن تعاود النظر في طرحك هذا، والأفكار التي تصرّ على تسويقها لأذهان الناس غير المطلعين، بناءً على هذه الجملة: (والمغرور من اغترَّ بكم) أهي غير ما نقلته عن عبد الوهاب النجار ومحب الدين الخطيب في (ص237)؟!
إنّ الإمام يقول: إنّ المغرور هو من يعتمد عليكم، أي يثق بوعودكم وبيعتكم ورسائلكم، ويعتقد بتحقق شروط النهضة لتأسيس الحكومة الإسلامية، وأنت أيضاً لم تقل سوى ذلك، وهو أنّ الإمام قد اعتمد على هذا الوعد والبيعة التي وفَّرت شروط تأسيس الحكومة؛ وعليه يكون ما تقوله وتنسبه للإمام هو نفس ما يعتبره الإمام غروراً وانخداعاً بعهد أولئك الناكثين للعهد وبيعتهم.
لو أنّك دققت النظر لرأيت بأنّ هذه الخطبة هي ردّ على كتابك ورأيك وما تطرحه من أفكار. فالإمام يرُدّ في هذه الخطبة عليك وعلى عبد الوهاب النجار ومحب الدين الخطيب وعلى كل شخص له رأي بعيد عن شأن الإمام ومقامه القدسي بالنسبة لنهضته؛ محاولاً الدفاع عن نهضته. ويقول صريحاً: إنّه ليس بالأمر الجديد نقضكم العهد، وتخليكم عن البيعة التي تقع على عاتقكم تجاهي، فأنتم قد فعلتم ذلك من قبل مع أبي وأخي وابن عمي مسلم. فالإمام يريد القول بأنَّني أعرفكم، وأعلم بديدنكم في نقض العهود وعدم الوفاء. ومن خلال جملة: (المغرور من اغترَّ بكم) يدافع عن نفسه فيقول لهم: إنَّني لم أغتر بكم، ولم أعتمد عليكم والمغرور من اغترّ بكم. فلماذا لم يغتر الإمام بهم؟ لأنَّه لم يعتمد عليهم، ولأنَّه لم ينهض ويثور من أجل تأسيس الحكومة الإسلامية ظناً منه بتحقق الشروط والاعتماد على بيعة ووعود أهل الكوفة.
والحاصل أنّ هذه الخطبة تعتبر أقوى ردّ على مطالب كتاب الشهيد الخالد. أو تقول بأنّ الإمام اغتر ـ والعياذ بالله ـ فتكون بذلك قد شاطرت محب الدين الخطيب وعبد الوهاب النجار فيما ذهبا إليه، وإذا تقول: إنّ الإمام لم يغتر بهم ولم يعتمد عليهم، وردَّ في هذه الخطبة دعوى اغتراره بهم بشكل صريح، إذن يتعيّن عليك سحب تنظيرك لفكرة تأسيس الحكومة الإسلامية وتحقق شروطها، والإعلان عن بطلان أساس ما طرحته في كتابك هذا.
130ـ يقول في (ص345): يستفاد من هذه الخطبة عدّة مطالب أساسية ينبغي أن نشير إليها.
الجواب: أمّا المطلب الأوّل، أي وجوب تغيير حكومة الظلم بشرط القدرة فهو مُسلَّم، إلّا أنّ الحديث النبوي (فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول) ليس المراد منه الترغيب والدعوة إلى تغيير حكومة الظلم وتبديلها بالحكومة الإسلامية وحسب، بل الحديث في مقام وجوب التغيير وإنكار المنكر والاعتراض على الظالم بأيّ مستوى ومرتبة ممكنين، سواء كان تشكيل الحكومة مقدوراً أو لا.
وأمّا المطلب الثالث، أي توفر شروط تأسيس الحكومة الإسلامية، فلا يستفاد من الرواية أبداً، بل تدل على عكس ذلك، نعم فيها دلالة على الدعوة للنصرة وطلب المعونة.
والمطلب الرابع، وهو أنّ هدف الإمام حماية الإسلام والدفاع عنه، فهذا مما لا شك فيه وهذه الرواية والروايات الأخرى تثبت ذلك، إلّا أنّه وفقاً لبيان كاتب الشهيد الخالد لم يتحقق هدف الإمام، بخلاف رأي عامة الشيعة وأصحاب الفكر والتحقيق وهو أنّ هدف الإمام المتمثل بالدفاع عن الإسلام قد تحقق بتلك الخطوات التي قام بها.
131ـ ما أدرجه من تفسير لخطبة الإمام من أنّ النضال ضدّ الظلم كان واجباً، هو كلام صحيح، إلّا أنّه لا ينحصر القيام بمقارعة الظلم وإنكار المنكر والتصدي للانحرافات الفكرية والدينية والمفاسد التي كانت تهدد الإسلام بشدّة، بل الدين بأسره في تأسيس الحكومة الإسلامية، إذ كان لتلك التضحيات أثرها الكبير في منع الانحرافات الفكرية وإنقاذ الإسلام وتنمية الأفكار الإسلامية، وعلماء الاجتماع يعتبرون ردّة الفعل تجاه هذه المظلومية والاستقامة والثبات في سبيل أداء المهمة استثنائياً.
إنّ مسألة توفر الشروط كما ادّعاها الكاتب في (ص346 وص347) واعتقد أنّها تُستشف من خطبة الإمام هي الأخرى ليست بصحيحة، فلم تكن هناك علاقة بين الرسائل والمرسَلِين الذين وصلوا بخدمة الإمام وبيعة الناس له على أن لا يتركوه ولا يتخلوا عنه، وبين توفر شروط تأسيس الحكومة، وصحة الاعتماد على عهدهم وبيعتهم في النهضة؛ لأنَّه وكما قال الإمام في هذه الخطبة: إنّ عهد أولئك الناس وبيعتهم لا يعتمد عليها لسوابقهم في نكثهم للعهود، ولا يغتر بذلك إلّا المغرور.
132ـ يقول: إنّ جميع ما قمنا به حتّى الآن لتأسيس حكومة إسلامية مئة بالمئة، إنّما كان لأجل أن نحيي الإسلام الذي قد ضاع. وعلى هذا فإذا لم تكن أفعال الإمام ومقاومته وثباته وتضحياته هو وأصحابه لأجل إحياء الإسلام، إذن لأجل ماذا كانت؟! وما هدفه منذ إلقاء هذه الخطبة فما بعد التي كانت في أشد مراحل النهضة حساسية، بحيث تتناسب مع مشروعه الذي ضحى من أجله بالأعزة والأصحاب والنخب من رجالات العالم الإسلامي؟
إنّ روح النهضة ومواقفها المفصلية تبدأ من هنا، إلّا أنّك تقول: لقد اتضح هنا أنّ الإمام لن يصل إلى هدفه، إذن تفضّل وأخبرنا لنعلم من الذي أحيى هذا الإسلام الضائع ـ على حدّ تعبيرك ـ غير الإمام الحسين×؟
133ـ تحدّث في (ص348) عن النعم التي وهبها الإسلام لعالم الإنسانية، وأتى على شرح تلك النعم بشكل مفصّل، ويقول: إنّ الدفاع عن كيان الإسلام هو دفاع عن تلك النعم والبركات، وقد أطنب في تفصيل الموضوع في عشرين صفحة تقريباً، بحيث في البداية يحدو الأمل بالإنسان ويجعله يتصوّر بأنّه يريد القول: لقد حفظت نهضة الإمام التي كانت من مواهب الإسلام حقوق المجتمع، ولكن عندما يطالع الموضوع بدقة إلى نهاية (ص369)، يفهم كيف يبيّن الكاتب عدم تحقق ذلك في جوانب مختلفة، معتبراً أنّ هذه النهضة المقدّسة والانتصار الذي كان من أجل الدفاع عن الإسلام وأهدافه منذ البداية وحتّى النهاية قد باء بالفشل.
كلا أيّها السيّد ليس الأمر كذلك، لقد دافع الإمام عن جميع تلك الهبات والنعم، لا أنّه أراد أن يدافع ولم يتمكّن من ذلك. إنّ الإمام صان النظام الإسلامي وعزّة الإسلام ومعارفه عن وعي واختيار. إنّك تقول: كان هدف الإمام الدفاع عن الإسلام ولم يتحقق. ونحن نقول: كان هدف الإمام الدفاع عن الإسلام وقد تحقق.
أنت تقول: إنّ الإمام كان يريد الدفاع عن الهبات والنعم التي قمت بشرحها في عشرين صفحة، وعن كيان الإسلام، ولم يتمكّن من ذلك. ونحن نقول: لقد دافع الإمام عن كيان الإسلام، وأنقذه من خطر الزوال والانقراض؛ لذلك سيبقى الإسلام ماثلاً وثابتاً إلى يوم القيامة.
أنت تقول: لقد كان الدفاع عن مكانة الإسلام العالمية والدولية جزءاً من هدف الإمام الواسع، وتعتبر الوسيلة لذلك هي تأسيس حكومة إسلامية مئة بالمئة، والتي لم تحصل. مع أنّنا نرى بأنّ مكانة الإسلام العالمية والدولية ارتفعت بهذا المشروع الاستشهادي وهذه المظلومية، ولفت ذلك أنظار العالم إلى رجال الدين وحقيقة الإسلام شيئاً فشيئاً.
134ـ لقد تكلّم في (ص348) حول السلطة التشريعية بكلام كثير غير صحيح، وقام بخلط البحوث والمصطلحات، ومع أنّه استخدم ألفاظاً مثل السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية، وأظهر نفسه واقفاً على معاني تلك المصطلحات التي لا تعدو في العالم المعاصر عن كونها معلومات بسيطة، لكنّه وللأسف انحرف في ذلك عن منهج الإسلام.
إنّ التشريع بحسب مصطلح العالم المعاصر لا يمنحه الإسلام لأحد سوى لله، ووفقاً لعقيدتنا نحن المسلمين فإنّ الإسلام شامل لكافة مسائل الحياة، وأنّ أيّ نوع من القوانين والبرامج خارج إطار التعاليم والأحكام الإسلامية ليس صحيحاً، ولا يجوز الالتزام بها، كما أنّ كلام النبي| والإمام له صلاحية قانونية بحكم الله تعالى، وبعبارة أخرى: إنّ القوانين الإلهية تُستنبط من الكتاب والوحي والسنّة، أي قول وفعل وتقرير النبي| والأئمة^.
وما عداهم فلا يحقّ التشريع لأيّ شخص أو مقام أو مجموعة. نعم، تثبت شرعاً صلاحيات لحاكم الشرع والمجتهدين الجامعين للشرائط من أجل رتق وفتق الأمور والحفاظ على النظم أو المصالح العامّة، وأنّ كل حكم يحكمون به في هذه المواضع سيكون واجب الإطاعة، ولكن هذا أيضاً غير مسألة التشريع. إذن لا ينسجم مفهوم السلطة التشريعية في زماننا مع الأصول الإسلامية، وأنّ أيّ شخص يعتقد بأنّه يستطيع أن يضع قوانين أخرى في قبال قوانين الله تعالى، أو يدّعي حقّ التشريع لشخص آخر في عرض مقام الربوبية، فهو ضال عن حقائق الإسلام.
قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [221]. فأنت لكونك ترى في بعض الحكومات التي فصلت السياسة عن الديانة، وقطع أربابها الدين عن الدنيا، واعتبروا هذه الأصول الثلاثة معتبرة، تتصور بأنَّك يجب أن تعرِّف دين الإسلام الشامل والكامل إلى الناس في إطار هذه الألفاظ.
كلا أيّها السيّد العزيز، إنّ الحكومة الإسلامية أسمى من الحكومة الديمقراطية وحكومة الشعب على الشعب، فحكومة الشعب على الشعب بمعناها المطلق باطلة، وحكومة الإسلام هي حكومة الله على الشعب، فهي حكومة لا تُعدّ الحكومات الديمقراطية الحقيقية ـ لو فرضنا وجودها في العالم ـ شيئاً في قبالها، ولا تمتلك ميزاتها وخصائصها الإنسانية السامية. إنّ الإسلام نظام حكومي وبرنامج للحياة العائلية والاجتماعية ونظام للأخلاق ومشروع لكافة الشؤون الحياتية ونظام لكل شيء، وأنّ مصدر هذا النظام هو الكتاب وسنّة الرسول| والأئمة^. فعليك أن تأتي وتدرس منهج الإسلام، وتنشره بين الناس؛ لترى كيف ستعشقه الإنسانية وتتعلق به.
لماذا تبدي الضعف، وتريد أن تؤطّر الدين الإسلامي السماوي في قالب مذاهب الآخرين المحدودة والضيقة، وتحرف الأفكار؟!
135ـ فيما يتعلق بمعنى التشريع قال في (ص349): أي أنّه يجب على العلماء المتخصصين في القرآن والسنّة أن يستنبطوا المسائل المبتلى بها من هذين المصدرين على أساس الاجتهاد الحر [222].
الجواب: إنّ هؤلاء العلماء الذين هم الفقهاء الأعلام ليسوا مشرّعين، بل يستنبطون الأحكام الفرعية والمسائل المبتلى بها من خلال الغور والاجتهاد والدّقة في الكتاب والسنّة، ولا يقومون بوضع القانون. ففي المجتمعات التي لها هذه السلطات الثلاث هناك طبقة تمتلك مهارة وخبرة في نصوص وألفاظ القوانين والعام والخاص والمطلق والمقيد وردِّ الفروع إلى الأصول، وعندما يحصل شكّ في شمول القانون لأحد المواضيع يرجعون فيه للجهة المسؤولة أو المنصب المعيَّن كمجلس التمييز، ويوكل حل النزاع في الموارد الجزئية إلى رأيهم. ومع ذلك لا تعتبر هذه الجهة سلطة تشريعية، فأنت تضللّ الأفكار بلا داع. طبعاً يعتبر من الابتلاءات الاجتماعية الكبيرة أن لا تكون هذه الطبقة من الأساتذة المتخصصين وذوي الخبرة بالقانون حرَّة في بيان استنباطها، ويقوم ذوو المناصب الأخرى بالتدخل في رأيهم وإعمال نفوذهم.
إنّ حرية المجتهد محفوظة في الاجتهاد، ولا يمكن لأحد أن يسلب هذه الحرية منه. ولكن هذا الاجتهاد الحر جائز في حكومة لم يكن حاكمها إمام منصوص عليه، وإلّا لو كان إماماً منصوصاً عليه، لكان الاجتهاد في مقابل رأيه اجتهاداً في مقابل النص وهذا لا اعتبار له. لذلك لم يكن لأمثال عبدالله بن عمر، بل حتّى ابن عباس حقّ الاجتهاد الحر في ذلك الزمان مع إمكانية الرجوع للإمام، وكما في زمان النبي| حيث لا معنى فيه للاجتهاد الحر؛ لأنّ الإمام خليفة النبي|، وعند الاختلاف في الحكم الفرعي يُرفع الشك بالرجوع إليه، وعندها لا حاجة للاجتهاد. إذن اترك هذه السلطة التشريعية؛ لأنّه لا واسطة لإيصال أحكام الله سوى الرسول| والأئمة^، وقولهم وفعلهم وتقريرهم بحكم الله حجة وقانون، وليس هذا المقام لأحد سواهم.
إنّ من جملة أسباب انحطاط المسلمين وتركهم لمشاريع الإسلام السامية ونفوذ مشاريع أهل الكفر هو هذا المصطلح (السلطة التشريعية) الذي اتخذوه سواء علموا بذلك أو لم يعلموا؛ وإن فسّره بعضهم تفسيراً صحيحاً، لكنّهم جعلوه عملياً في مقابل السلطة التشريعية التي مظهرها الكتاب وسنّة النبي| والأئمة^، وتخلّوا عن أحكام الله تعالى في نظام الحكومة والقضاء والشؤون المالية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية. ولعلّك إرضاءً لهذه الطبقة المنحرفة فكرياً تعتمد كل هذا الاعتماد على السلطة التشريعية.
على أيّ حال إنّ هذا البحث طويل ولا يستوجب متابعته في هذا الكتاب أكثر من ذلك، وقد كان الغرض هو فقط أن يلتفت القرّاء الكرام إلى وجود الكثير من الأخطاء والاشتباهات في هذا الفصل من الكتاب.
136ـ يقول في (ص350): بينما هذه المسألة وهي هل أنّ خلافة يزيد قانونية أم لا مسألة جديدة تحتاج إلى رأي واجتهاد...الخ.
خلافة يزيد لم تكن قانونية، وكان من المسلّم عند كافة أبناء الأمّة أنّ مثل هذا الفرد القذر لا يجوز أن يكون مسؤولاً عن أمور المسلمين وحاكماً عليهم، وهذا ما لا يحتاج إلى اجتهاد. ناهيك عن أنّ الذين يعتبرون حكومته قانونية كانوا يرون بطلانها في قرارة أنفسهم، وكل رأي يدلون به ليزيد كان تحت تأثير الترغيب أو الترهيب، وإلّا فإنّ المسألة بالنسبة لأهل الفتيا والاجتهاد لم تكن تحتاج إلى تفكير ودراسة وتعمق، أو أنّهم استفتوا حكمها الشرعي واقعاً من شخص ما.
9ـ الاستناد إلى نقل ابن أعثم مرّة أخرى
137ـ لقد كرر في (ص359) استناده إلى نقل ابن أعثم بواسطة مقتل الخوارزمي[223].
138ـ كتب في (ص368 وص369): لو لم يكن يعلو أيّ صوت في هذه الأوضاع، وفرضنا جدلاً أنّ الإمام الحسين× استسلم ليزيد من دون قيد أو شرط، لأخذت البلاد الأخرى تتعرف على الإسلام من خلال يزيد بن معاوية...الخ.
إنّ هذا المعنى الذي ذكرته يكفي أن يكون هدفاً للنهضة والامتناع عن البيعة والصمود حتّى الشهادة، فهذا المعنى يكفي في اعتبار الإمام نفسه مكلّفاً بالإقدام على الشهادة، ومصارعة كل تلك المصائب الفجيعة. ونحن وفقاً لما طرحته نوجّه إليك هذا التساؤل: لو كانت نهضة الإمام من أجل تأسيس الحكومة، وأنّه قد قام فعلاً في كربلاء باقتراح تلك الاقتراحات الثلاثة للتعايش السلمي، فعلى فرض قبول ذلك الاقتراح، وذهاب الإمام إلى الشام ووضع يده بيد يزيد، هل يمكن تفادي تلك المفاسد التي ذكرتها؟ وهل كان بإمكان دولة الإسلام أن تتخلّص من الخزي وسوء السمعة؟ قطعاً سيكون الجواب: كلا.
ولكن صمود الإمام وعدم رضوخه واستسلامه للبيعة ومن ثمَّ شهادته، مضافاً لتلك المصائب الفجيعة، كل ذلك أبطل جميع هذه التوهمات وسوء الفهم، وأفهم العالم الخارجي والداخلي بأنّ يزيد ليس ممثلاً للحقّ والعدالة ونظام الحكومة الإسلامية، وهذه الآثار والبركات التي ذكرتها في (ص369) ترتبت على شهادة الإمام، وكان لثباته ومقاومته وصبره كل تلك الانعكاسات المثمرة، وانتشار الإسلام وعلوّه ورفعته. أنت حينما تقول: إذا استسلم الإمام ليزيد بلا قيد أو شرط، فمعناه أنّ الدولة الإسلامية التي اعترف بها عميد أهل بيت نبيها رسمياً هي حكومة مناوئة للعدالة والحرية، وأنّه وافق على أن يكون يزيد قائداً له وللإسلام.
أفلا يعطي ما طرحته سوى هذه النتيجة؟! أنت حينما تقول[224]: إنّ الإمام اقترح أن يذهب إلى الشام ويبايع يزيد حتّى يتخذ القرار بشأنه، أفلا يعني قولك هذا أنّ عميد أهل بيت النبي’ كان مستعداً لقبول الحكومة المخالفة للحرية، إلّا أنّهم لم يقبلوا بذلك؟ إنّ هذا إشكاله أكبر، فما معنى الكلام الذي قلته في الفصل الثاني؟ وماذا يعني هذا الكلام هنا؟ فأنت لم تقبل هنا باستسلام الإمام دون قيد أو شرط، فكيف قبلت في الفصل الثاني الاقتراحات الثلاثة، واعتبرت عقبة بن سمعان شخصاً جاهلاً؟
أيّها الأخ العزيز الحقيقة هي أنّ استسلام الإمام ومبايعته ليزيد ـ تحت أيّ عنوان كان ـ لطمة في وجه الإسلام ومفاخره وأحكامه لا يمكن تلافيها، الأمر الذي جعل الإمام أن يرى تحمل أكثر من ثلاثمائة وعشرين جراحة بين ضرب بالسيف ورمي بالرماح والسهام والحجر[225] مع حرقة فقدان الأهل والأصحاب أهون وأعذب عنده منه، ولم يعدل عن مشروعه منذ انطلاق النهضة إلى نهايتها.
139ـ كتب في (ص369): كي تعلم الدنيا أنّ الإمام الحسين× قد قدم كل تلك التضحيات لا لشيء إلّا لإيمانه وحبّه للإسلام وحماية دينه والدفاع عنه.
من البديهي أن يضحّي الإمام بنفسه وبأعزّته بهذا الشكل دفاعاً عن الدين والإسلام، لكن وفق ما تقوله وتدعيه: أنّ الدفاع عن الإسلام لا يتأتى إلّا من خلال تأسيس الحكومة الإسلامية، والإمام لمّا يئس من تحقق ذلك قدَّم تلك الاقتراحات الثلاثة، فعندما لم يوافقوا عليها واقترحوا عليه الاستسلام لابن زياد أبى ودافع عن نفسه إلى أن استشهد، كيف يمكن حينها جعل هذه التضحيات من أجل حماية الإسلام، والدفاع عن الإنسانية والعدالة؟
في الحقيقة أنّ خطَّة الإمام ـ وفقاً لطرحك السقيم ـ ليس فيها بعد اليأس من تأسيس الحكومة أيّ من تلك المفاهيم السامية، والحال أنّ المفاهيم السامية لهذه النهضة من قبيل: الدفاع عن الإسلام والدفاع عن حدود الأحكام وإنارة الأفكار قد انطوت في هذا القسم، وهو ما لفت أنظار الأصدقاء والأعداء لتضحيات وعزيمة وشجاعة الإمام، وجعلهم يصفونه بالبطل المنقذ للإسلام والحرية والفضيلة، وأنت بأطروحتك هذه تريد النيل من هذا المقام وسلبه عن الإمام، ولكي تُظهر أنّ نهضة الإمام قد باءت بالفشل تحذف اسمه اللامع الذي يجب أن يتصدّر قائمة سجّل الأبطال الذين أنقذوا الإسلام والأهداف الإنسانية السامية. ولكن شاؤوا أم أبوا ستتجلَّى يوماً بعد آخر حقيقة النهضة الموفّقة للإمام الحسين×.
12ـ دراسة حول كتاب السياسة الحسينية
140ـ الظاهر أنّ كتاب (السياسة الحسينية) هو الفصل السابع من كتاب (السياسة الإسلامية) للمستشرق الألماني ماربين، الذي تُرجم إلى اللغة الهندية والتركية والفارسية، وترجمته بالعربية مع ترجمة قسم من كتاب (الإسلام والمسلمين للدكتور جوزيف الفرنسي) تحت عنوان (الشيعة وترقياتها المحيّرة للعقول) هو أثر المرحوم العلّامة آية الله الحاج السيّد صدر الدين الصدر (من المراجع البارزين في حوزة قم العلمية)، وقد نشرت مجلة (العلم) فصلاً منه ونشرت مجلة (العرفان) فصلاً آخر، كما نشرته مجلة (مسلم روبو) ومجلة الحبل المتين في العدد 82 للعام 17 ومجلة الدعوة الإسلامية.
بالرغم من أنّنا نعتقد أنّ الاعتماد على آراء المستشرقين في المسائل المتعلّقة بالشرق والعالم الإسلامي عمل خطير جدّاً، حيث حدثت ولا تزال خيانات عديدة تقوم بها هذه الطبقة للشرق عموماً وللعالم الإسلامي خصوصاً تحت عنوان الاستشراق؛ إذ لا نغفل عن هذا أبداً، ونحن نعرف الكثير من المستشرقين الذين كانوا ولا زالوا عملاء للاستعمار ووسائل للتبشير، وحتّى أنّنا لا ننوي الدفاع عن كتاب ماربين، كما لا نرى ردّه وقبوله في المسائل المتعلّقة بنهضة الإمام حجة، ومع أنّنا لم نجده خالياً من بعض الأخطاء البسيطة، إلّا أنّنا نرى أساسه قريب جدّاً بل موافق لآراء وعقائد علماء الشيعة الكبار والمفكرين البارزين والتواريخ والأخبار والأحاديث، وهو كتاب ذو قيمة ومثير للاهتمام مقارنة مع آثار المستشرقين الآخرين.
وقد استحسنه الكثير من الشخصيات التي تتمتع بمقام أعلى وأرفع من أن يتهمهم كاتب الشهيد الخالد بالتغرُّب، أمثال آية الله العلّامة المجاهد السيّد شرف الدين وآية الله الصدر (أعلى الله في الفردوس مقامهما)، باعتبار أنّ أصول هذا الكتاب بلحاظ موضوع النهضة منسجم مع مباني المذهب الشيعي ومستفاد من الأحاديث والتواريخ المعتبرة، وأطلقوا على كاتبه حكيم الألمان وفيلسوف المستشرقين.
لو لم تكن مطالب هذا الكتاب منسجمة بالأساس مع مذهب التشيع، لكان من المحال أن يكون هذا الكتاب مثار اهتمام هاتين الشخصيتين العلميتين الدينيتين. ولو أنّ ماربين وجميع المستشرقين ألَّفوا كتاباً مثل كتابك، لما أصبح مثار اهتمام هؤلاء الأعلام.
إنّ القيمة الأخرى التي يتمتع بها هذا الكتاب، هو أنَّه دافع عن نهضة الإمام بنفس المفهوم المتداول بين الشيعة، وعن المراسم التي تقام رثاء لهذا الإمام المظلوم، واعتبر نهضة الإمام المقدّسة أرقى وأرفع من النهضات الأخرى، كنهضة يحيى وعيسى على نبينا وآله وعليهما السلام.
إنّ رؤوس المطالب التي قد اعترف بها هذا المستشرق في كتابه حول نهضة الإمام، نعرضها هنا بشكل مختصر:
1ـ لقد تسببت حكومة بني أمية وسيطرتها المطلقة المقترنة بالقيادة الدينية في إيجاد خطر شديد على عقائد المسلمين (ص43) [226].
2ـ سواء بايع الإمام أم لم يبايع، لا يرعوي بنو أمية عن مواصلة أهدافهم المخالفة للإسلام والمعارضة لأهل بيت الرسالة (ص43).
3ـ طلب الإمام الشهادة عن علم وقصد من أجل هدفه السامي (ص43 و45).
4ـ لقد أحيى الإمام بشهادته ومظلوميته دين جدّه وقوانين الإسلام، ولو لم تكن نهضته لما بقي الإسلام بشكله الحالي قطعاً.
5ـ من المؤكّد أنّ الإمام الحسين× لم يكن مريداً للرئاسة والسلطة؛ لأنّه:
أوّلاً: إنّه مضافاً إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليه زمن أبيه وأخيه في قتال بني أمية كان يعلم أنّه مع عدم تهيئة الأسباب واقتدار يزيد لا يمكنه المقاومة والغلبة.
ثانياً: إخباره مراراً وتكراراً منذ البداية عن أمر شهادته.
ثالثاً: على الرغم من أنّه كان إلى حدّ ما بإمكان الإمام إعداد قوَّة وجيش لكنّه امتنع عن ذلك، وسمح لمن كان معه بالتفرّق من حوله، ولم يبق معه إلّا الذين لا يمكن انفكاكهم عنه، كأولاده وإخوانه وبني إخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه، حتّى أنّه أمر هؤلاء أيضاً بمفارقته، لكنّهم أبوا عليه ذلك، وهؤلاء أيضاً كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظيم المنزلة، وقتلهم معه مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الواقعة (ص44 و45 و46).
6ـ لقد عرَّض أهل بيته إلى السبي أيضاً، ولم تكن ردَّة فعل بني أمية المتهورة هذه لتخفى عن الإمام، بل كان يعتبر ما حدث مؤثراً في تحقيق هدفه، وهذا ما حصل فعلاً. إنّ ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم الرسول’ وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيراً عظيماً لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه، ولقد أظهر في فعله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين سيما ذراري نبيهم (ص46).
7ـ كان الإمام يوجّه سبب نهضته وحمله لأهل البيت على أنّها إرادة الله وأمر جدّه رسول الله|، فكان يقول: شاء الله ذلك، وجدّي أمرني به، إنّ الله شاء أن يراهن سبايا، ولما كان بينهم رئيساً روحانياً فقد كان جوابه هذا يُسكت من يحاول الحيلولة دون وصول الإمام إلى هدفه، ولا يُدرك أهدافه السامية (ص46).
8ـ ما قام الإمام بتطبيقه والعمل على وفقه كان دقيقاً جدّاً، حيث لم يتهاون بأيِّ أمر من شأنه أن يساهم في تحقيق هدفه، وكان يستثمر أيّ وسيلة تزيد في نجاحه (ص47 و48).
9ـ كما ظن بعض مؤرخينا (يقصد المؤرخين النصارى)[227] لم يُقدِم الإمام على هذا الخطر من غير علم ودراية، بل كان يُخبر عن مصائبه قبل وقوعها بأعوام، حيث كان يقول: إنّ بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة يبعث الله رجالاً يعرفون الحق من الباطل، يزورون قبورنا...الخ (ص47).
10ـ لم يقدم الإمام على عمل أو خطوة تضع حكومة بني أمية في حالة ترى نفسها مضطرة للمواجهة معه، فحتّى حينما حاصروه في الصحراء اقترح عليهم أن يتركوه وشأنه، وأن يأخذ بأيدي عياله وأطفاله ويخرج من حدود حكومة يزيد، وهذه مسألة قد كان لها الأثر البالغ على القلوب لما لها من دلالة على نقاء قلب الإمام (ص48 و49).
11ـ لم يقل أبداً إنّني أطلب الملك أو سأكون ملكاً، وإنَّما كان فقط يفضح جرائم بني أمية الشنيعة ويُخبر عن قتله ومظلوميته (ص48).
12ـ قُتِل قبل الإمام الحسين× ظلماً وعدواناً كثير من الرؤساء الروحانيين والدينيين، أمثال يحيى وعيسى[228] على نبينا وآله وعليهما السلام، ولكن واقعة الحسين× فاقت الجميع (ص49).
13ـ إنّ المصائب التي جرت على الإمام في طريق إحياء الدين، امتازت عمّا سلف جريانه على أرباب الديانة، ولم تجر على أحد منهم (ص49).
14ـ عَدّ من بين الآثار المترتبة على شهادة الإمام أنّ المسلمين يروا بني أمية مخربين للدين الإسلامي، ويرفضوا بدعهم ومختلقاتهم، ويسمّوهم بالظالمين والغاصبين، وعرفوا أنّ روح الإسلام وحقيقته عند بني هاشم، فكأنّ المسلمين بعد شهادة الإمام قد باشروا حياة جديدة، وازدهرت روحانية الإسلام، وتجددت وازدانت بالشفافية والوضوح الرئاسة الروحانية للإسلام بعدما زالت فجأة، ونسي المسلمون على أثرها الجنبة المعنوية في الإسلام (ص50).
15ـ لقد قدّم شرحاً مفصلاً أيضاً حول الآثار المهمّة للتعزية، ومسائلها الحيوية وثمراتها التي ليس لها نظير، وعظّم هذه المراسم وبجّلها، وأجاب بشكل واف وكاف على الأشخاص الذين لا علم لهم بحقائق وفوائد شعار التشيع العظيم هذا.
كان هذا عرضاً مختصراً لرؤوس مطالب (السياسة الحسينية) التي يُعلم من خلال التأمل بها أنّ هذا المستشرق يمتلك أبحاث ودراسات معمقة وواسعة حول هذا الموضوع، ومن المجحف أن نصفه بالمستشرق بسبب هذه المقالة.
141ـ لماذا الهجوم على كتاب ماربين؟ هناك مستشرقون غير ماربين الألماني مثل: فولهوزن، والسير ويليام موير، ولامنس، وجولد تسيهر اليهودي، قد خانوا التاريخ الإسلامي بإيحاء من الاستعمار، ولكن ماربين الألماني هو الوحيد هنا الذي صار هدفاً للهجوم وعُدَّ بالخصوص مستشرقاً!
لأنّ آراءه المستدلة حول هذا الموضوع قريبة أو موافقة للآراء الصحيحة والمعقولة، وتقوم بردِّ أطروحة كتاب الشهيد الخالد الباطلة، إذ يصف آراء المفكرين البارزين المستفادة من الأحاديث والأخبار المعتبرة والتاريخ ـ خارج إطار التشيُّع ـ بالمعقولة والمقدّسة، ويبطل قوله بضرورة التحدّث بمنطق جديد بغية إقناع المستشرقين مما دفعه ليقدّم طرحاً مثل طرح كتاب الشهيد الخالد لكي يقبلوه، ويُبيّن أنّ المستشرق إذا لم تكن له سوء نية فإنّه يقبل لو شرحوا له حقيقة النهضة كما هي، وإلّا لا ينبغي أن نحط من مكانة الإمام ونُظهر نهضته بصورة أخرى من أجل إقناع شخص مسيحي أو مستشرق، بالإضافة إلى أنّنا إذا تراجعنا خطوة واحدة، فسيتسلل مستشرق عميل من منفذ آخر ويمارس الخيانة.
قبل خمسة وأربعين عاماً قام شاب من بيروت بتأليف كتاب ضدّ الشيعة يُعظِّم فيه بني أمية، وأورد شبهة مفادها: لماذا لم يبايع الإمام يزيد من باب التقيَّة؟ ولأنّ مواضيع هذا الكتاب كانت على خلاف آراء كافة المسلمين من الشيعة والسنَّة وكتبهم التاريخية المعتمدة، فقد تمَّت مصادرته من قبل الشعب والحكومة، ثمَّ خرجت مظاهرات بتاريخ 25 رجب 1345على هذا الكاتب المتأثر بالغرب وصار مصيرها الفشل، وردّ عليه بعض العلماء الكبار بأجوبة شافية ووافية، وأثبتوا بأنّ بيعة الإمام لم تكن جائزة من حيث الشرع ومن حيث الأوضاع والأحوال، إذ كانت وظيفة الإمام رفض هذه البيعة المخزية[229]. في ذلك الزمان عُدَّ ذلك الكتاب مسيئاً؛ لأنّ كاتبه طرح إمكان مبايعة شخصية مثل الإمام الحسين× لفرد خبيث ومجرم، واقترح أن يكون ذلك جائزاً من باب التقية.
أصبح ذلك الكتاب موضع استنكار المسلمين كافة وقد تمَّ إدانة صاحبه، لكننا نرى اليوم وللأسف كتاباً يصرّ ـ لا للإجابة عن مستشرق فقط ـ على أنّ الإمام كان مستعدّاً للذهاب إلى دمشق ليضع يده بيد يزيد، ويعمل عملاً لا يجيزه العقل والشرع والتقية وتجربة شخص الإمام.
اختصر الكاتب تحت العنوان أعلاه كلمات المستشرق الألماني في عدّة جمل (ص371)، وأخذ يبيِّن ـ بحسب ظنّه ـ نقاط ضعف كل منها.
الجواب: بالنظر للخلاصة التي كُتبت لرؤوس مطالب هذا المستشرق، سنقوم بدراسة هذه الموارد الأربعة التي تناولها كاتب الشهيد الخالد وأجاب عليها.
17ـ فيما يتعلق بالجملة الأولى
142ـ إنّ هذه الجملة (إنّ الإمام الحسين× في عدّة سنوات متتالية قبل شهادته كان يُهيّئ لقتله) مطابقة للترجمة الفارسية، لكن ترجمتها العربية هي: (ومقاصد الحسين كانت عن علم وحكمة وسياسة، وليس لها نظير في التاريخ، فإنّه لم يزل يوالي السعي في تهيئة أسباب قتله، نظراً لذلك المقصد العالي، ولم نجد في التاريخ رجلاً ضحّى عالماً عامداً لترويج ديانته من بعده إلّا الحسين)، وهذه الجملة العربية تختلف عن العبارة الفارسية قليلاً. وعلى أيّ حال فإنّ غرض الكاتب التأكيد على هذا الموضوع وهو: أنّ الإمام قد نهض عن علم وقصد بشهادته، وليس معنى تهيئة القتل والشهادة هو أنّ الإمام رأى شمراً وسنان وخولي ويزيد وابن زياد سابقاً وطلب منهم أن يقتلوه، بل المعنى هو أنّ الإمام قد أعدَّ نفسه منذ أعوام للشهادة، واتّبع الأسلوب الذي يؤدّي إلى شهادته تبعاً لمجريات الأحداث. فمنذ أن طرح معاوية موضوع ولاية عهد يزيد، خالف الإمام ذلك بشكل صريح وقاطع، وامتنع عن مبايعته، وصمم على الثبات والمقاومة بالرغم من أنّه يعلم أنّ عاقبة الثبات والمقاومة هي الشهادة والقتل.
إنّ معنى التهيئة للقتل التي ذكرها الكاتب هي أنّ الإمام قد أعدَّ منذ سنوات عديدة للتضحية بنفسه في سبيل الإسلام عن علم واختيار، بل لم يكن الإمام يهيّئ لشهادته فقط، إنّما لشهادة أصحابه وأنصاره أيضاً، حيث كان يُعدَّهم للشهادة ويحثّهم على التحلّي بالصبر والثبات، وعند مواجهة المصير لا يفروا منه. فقد أعدّ زهير للشهادة بذلك النحو الحساس والسريع، وهيّأه للشهادة، فما كان من زهير إلّا أن رحَّب ترحيباً كبيراً بدعوة الإمام. ومع ذلك فأنت تستبعد ذلك وتُنكر تلك الأمور المسلَّمة والواقعة، مدّعياً أنّ ما جاء به ماربين لم يذكره أحد.
لقد بدأ الإعداد لشهادة الإمام منذ ولادته على يد النبي|، فهذا أمير المؤمنين× كان يقول له: صبراً أبا عبدالله. إنّ التهيئة للقتل فخر، إنّ الله تعالى يهيّئ المجاهدين للشهادة في ضمن آيات القرآن الكريم، حيث يقول: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [230].إنّك بدون تدقيق تردّ كل كلام ـ على أساس رأيك الباطل ومغالطتك ـ يفهم منه علم الإمام بالشهادة وقصده لها، وتجعل الدليل عين المدّعى، وتتحدّث عن إمكان (المفقود) تأسيس الحكومة.
18ـ فيما يتعلق بالجملة الثانية
143ـ هذه الجملة هي: سعى الإمام أن يجعل قتله على أفجع صورة ممکنة.
الجواب
أوّلاً: كما قلنا مراراً لا يوجد هناك مانع من أنّ الله تعالى يتعبَّد الإمام بالامتثال لأوامره وتحمّل المصائب مهما كانت فجيعة، ويمتحنه هذا الامتحان الصعب الذي اشتمل على كل هذه المفاهيم الراقية والآثار القيِّمة. والدليل على هذا التعبُّد والتكليف الاستثنائي للإمام هو تلك الحوادث الواقعة أثناء مسيره بين مكَّة والعراق، وفي كربلاء، ويوم عاشوراء، من قبيل: رفقة النساء والأطفال والأهل والعيال، ومن قبيل: ذهاب شباب لم يبلغوا الحلم إلى المعركة مثل القاسم بن الحسن، وعمر بن جنادة الأنصاري وغيرهما. فما الفرق يا ترى بين هذه المهمّة ومهمّة إبراهيم× بذبح ابنه إسماعيل×؟ وكيف يكون التعبُّد هناك معقولاً، بينما غير معقول في واقعة الطّف، مع العلم أنّ فلسفته وحكمته أكثر جلاء، حيث تثبت الشواهد والأدلة الكثيرة أنّ الإمام قد ذهب إلى مذبحه عن علم ولم يكن هدفه تأسيس الحكومة الإسلامية؟!
ثانياً: كان الإمام يعلم أنّ قتله بهذه الطريقة الفجيعة والمؤلمة يؤجج الأحاسيس والمشاعر ضدّ بني أمية، ويملأ القلوب حنقاً عليهم، ويسلب منهم منصب ولاية الأمر وقيادة الأمّة الإسلامية وتمثيلهم الإسلام الذي تحوّل إلى خطر يهدد الإسلام. فعلى الرغم من أنّ يزيد لم يُخلع من الخلافة بشكل رسمي، لكنَّه خُلع من المناصب الروحية والمعنوية ولوازم الخلافة الشرعية التي يجب أن يلتزم بها كل شخص بينه وبين الله، واتّضح بأنَّه دكتاتور متجبّر عدو للإسلام، ولأهل بيت الرسالة[231]. لذلك كان الإمام يُنفِّذ برنامجه بدقّة حتّى تكون لمظلوميته أكثر الأثر للإسلام. بعبارة أخرى: ما المانع في أن يقصد الإمام مصلحة أهم يلازمها التضحية بالطفل الرضيع أيضاً، ويكون بقاء تلك المصلحة أوجب من بقاء طفله الرضيع العزيز؟! وما الفرق بين إرسال علي الأكبر شبيه الرسول|، وجميع شباب بني هاشم والأصحاب إلى ساحة الوغى مع العلم بشهادتهم، وبين حمل الطفل الرضيع وإظهار المظلومية؟!
فإن قلت: كان من أجل الحفاظ على نفس الإمام؛ ليكون ظهيراً للإسلام والمسلمين.
فالجواب: كان من المعلوم أنّ دفاعهم عن الإمام سوف لن يؤثر، حيث لم يكن بإمكان أيّ شهيد الحيلولة دون شهادة الإمام ولو لبضعة دقائق أو نصف ساعة أو ساعة. ففي مثل هذه الحالة لماذا لم يمنع الإمام تفانيهم في الذبّ عنه حتّى الشهادة؟ وأيّ جواب على ذلك أوقع مما قالته عقيلة الطالبيين: هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم. وعليه لا فرق بين الطفل الرضيع والكبير والصغير، ولا يمكن تفسير ما قام به هؤلاء الرجال الأشاوس بهذا المنطق. ولو كان همّهم الحفاظ على النفس فلماذا خرج عابس إلى الميدان حاسر الرأس ملقياً درعه ومغفره؟
19ـ فيما يتعلق بالجملة الثالثة
144ـ هذه الجملة هي: إنّ المظلومية التي كان يحاول الإمام تجليتها، قد جعلها الوسيلة الوحيدة لتحقيق هدفه.
الجواب: المظلومية أمر واقعي وحقيقي، والمظلومية التي تأتي بواسطة استرحام وطلب المظلوم ليست بمظلومية. ومنطق: هذه حنجرتي وهذا خنجرك، لا يعني أنّني أرغب في أن أكون مظلوماً وأقبل بالظلم، بل معناه أنّني أرفض الظلم، ولا أستسلم للظالم. فماذا يمكن أن يفعله الظالم أكثر من قتلي؟ فهذا رأسي وهذه حنجرتي وهذا خنجر الظالم.
إنّ هذا الكلام هو منطق العزم والمقاومة والثبات، منطق المظلوم الذي لا يعير أهمية لظلم الظالم من أجل الدفاع عن الحق، ويُضحِّي بنفسه من أجل ذلك، ولا يعني أبداً أنّني أرغب في الظلم وأقبله. لقد تجلّت مظلومية الإمام جرَّاء تجاوزاتهم على حقوقه ونفسه ومقامه، فالموجِد للمظلومية هو الظالم وليس المظلوم.
فحينما يتحدّث شخص فمراده أنّ الإمام اتّخذ أسلوباً بحيث تترتب هذه المظلوميات التي لا مناص من تحققها كونها نتيجة حتمية لتصرّفات بني أمية. وقد أدّت خطَّة الإمام إلى كشف تلك المظلوميات بأوسع صورها، وتأجيج عواطف المجتمع أكثر فأكثر، والدعوة إلى الوعي وصحوة المشاعر.
لقد بذل الإمام أعلى مستويات التضحية والنضال في سبيل إنقاذ الإسلام، إلّا أنّ ذلك الجهاد كان مقروناً بالمظلومية، مظلومية قد فضحت جهاز يزيد الجائر، وأنقذت الإسلام من الأخطار التي أخذت تواجهه.
20ـ فيما يتعلق بالجملة الرابعة
145ـ من خلال الأخذ برؤوس المطالب التي ذكرها ماربين يتضح بأنّ الجملة التالية (لقد كان هدف الإمام تحريك مشاعر الناس ضدّ بني أمية؛ لكي يثوروا ويسقطوا حكومتهم، ويوصلوا بني هاشم ـ يعني بني العباس ـ إلى الحكم) هي افتراء على الرجل.
لقد كتب مراراً أنّ نهضة الإمام كانت من أجل إحياء الدين ودفع الخطر عن الإسلام، ويعتقد بأنّ سبب معاداة الإمام لحكومة بني أمية هو كون السلطة المطلقة لهم قد صارت تشكّل خطراً جدياً على عقائد المسلمين. إنّك تنسب له بأنّ الإمام أراد أن يقتل نفسه ليُقضى بعد ذلك على بني أمية، ويصبح بنو العباس وهارون والمنصور حُكَّاماً. وما يقوله من أنّ الحسين× لم يتوان ولو لحظة واحدة في فضح ظلم وجور بني أمية وإبراز ما نسجته مخيلاتهم في عداوة بني هاشم وذرية محمّد|، غرضه هو کشف الإمام لأهداف بني أمية المخالفة للإسلام.
على أيّ حال وإن تناول في هذا الكتاب عداوة بني أمية لبني هاشم، إلّا أنّ التدقيق في أبحاثه يبيِّن بشكل صريح أنّ هدف الإمام کان الدفاع عن الإسلام وإنقاذ روحانية الإسلام، ولم يخلط بين الأثر القهري والاختياري، وقام بذمِّ بني العباس أيضاً. فأنت حين تقول: إنّ هدف الإمام من النهضة كان إنقاذ الإسلام والمسلمين، فهل يا ترى تحقق هذا الهدف أم لا؟ فإذا تحقق، تكون هذه النهضة وهذه الخطة التي تمَّ تنفيذها قد بلغت مبتغاها في إنقاذ الإسلام بمعزل عن تأسيس الحكومة. وإذا قلت: إنّ إنقاذ الإسلام والمسلمين لم يتحقق، فإنّه يتعيّن في مثل هذه الحالة أن لا يبقى للإسلام والمسلمين أثر منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا.
مع أنّك قد وافقت على أنّ هذه النهضة جعلت حكومة بني أمية أشدّ وضاعة وخذلاناً وأهل البيت^ أكثر محبوبية، وعلى حدّ قولنا وحتّى قول ماربين وأيّ باحث آخر فإنّه قد خلعت من بني أمية ولاية أمور المسلمين الشرعية، وأيقظت المسلمين كي لا يعتبروهم مظهر أحكام الدين وقوانينه، وأنّ هذه الفائدة ينبغي أن تكون هدفاً للنهضة وأرضية لإجراء هذه الخطَّة التي تمَّ تنفيذها، لكنّك بسبب ما ذهبت إليه من عجز الإمام عن توقع الأحداث المستقبلية تعتبر هذه الفائدة والفوائد العظمى الأخرى أثراً قهرياً، وإلّا لا يوجد غير هذا الفرض وجهاً يمكن من خلاله أن تعتقد بأنّ هذه الفوائد قد كانت هدفاً ونتائج اختيارية لنهضة الإمام.
وبما أنّ الشيعة وعلماءهم الأعلام ومفكريهم وماربين المستشرق يعتقدون ـ وإن كان ذلك عن طريق الأخبار المتواترة ـ بأنّ الإمام كان متوقعاً لشهادته، وأنّه لم يكن يرى تلك الأوضاع مواتية لتشكيل الحكومة أيضاً، فهم يرون بأنّ جميع هذه الآثار والنتائج التي ترتبت على شهادة الإمام هي جزء من هدفه.
146ـ ذكرت في (ص375) أنّ ماربين الألماني قال: (حضرت في ترکيا برفقة مترجم لمآتم الحسين بن علي×، وسمعت الخطباء يقولون كذا وكذا حول ثورة الإمام الحسين×). ثمَّ احتملت أن يكون ماربين قد سمع من خطباء تركيا المتمرسين والسطحيين هذا التصوّر وهو: (أنّ الإمام الحسين× تحرَّك من أجل أن يُقتل)، وتلك المسموعات هي ما قد نشرها، حينها تناقل الشرقيون المتأثرون بالغرب ذلك على الألسن کأنّه وثيقة تاريخية.
أوّلاً: علم الإمام بالشهادة ونهاية النهضة الذي تُعبّر عنه بالحركة من أجل القتل لا يرتبط بالخطباء المتمرسين والسطحيين، بل يرتبط بتاريخ وكلام النبي| وأمير المؤمنين× والإمام الحسين× نفسه. وما أخذه ماربين من كلام حول هذا الموضوع الذي مفاده بأنّ الإمام ذهب إلى كربلاء مع علمه بشهادته، والنتائج التي ترتبت على نهضته هي نتائج مقصودة ومنشودة هو كلام صحيح سواء سمعه من خطباء إسطنبول أو حصل عليه بنفسه نتيجة البحث في الأدلة والمصادر التاريخية.
وثانياً: إنّ المعلومات المذكورة في هذا الكتاب من الكثرة بمكان بحيث من المستبعد أن يحصل عليها من خلال الحضور عدَّة مرَّات في مجلس ذُكرت فيه مصائب الإمام.
وثالثاً: ما هذا الكلام الذي تقوله؟! متى وأين تمَّ التمسُّك بكلام ماربين كحجة دامغة ووحي منزل؟!
لماذا تسيء إلى مجتمعك؟!
لماذا تستهزئ بالشيعة دون سبب؟!
إنّني قلت: مَن اهتمّوا بهذا الكتاب رأوا أنّه اشتمل على نتائج وأبحاث لإحدى الشخصيات الأجنبية قد جاءت موافقة لفكر عامّة الشيعة تقريباً، وهو دليل على مقبولية الفكر الشيعي في هذه المسألة خارج إطاره، وحتّى لا يعير مرضى الثقافة الغربية أهمية لكلام المستشرقين المغرضين حول نهضة الإمام، ولكي لا يأتوا بأفکار باطلة كالتي طرحتها أنت من أجل إقناعهم، ولا يقولوا أنّ الإمام استعدّ للذهاب إلى دمشق ليضع يده بيد يزيد.
ورابعاً: إنّ ما يقوله ماربين من خلال ما سمعه من أرباب المنابر ليس متعلّقاً بفلسفة النهضة، بل متعلّق بفلسفة وفوائد مراسم التعزية والعزاء.
ليت الموت أعدمني الحياة، يا سيّدي يا بن رسول الله أيَّها المظلوم
147ـ ليتني مت قبل هذا، ولم يطُل عمري لأعيش هذه المدَّة، وأسمع طنين هذه النغمة في الأجواء الشيعية والتي مفادها أنّ نهضة وشهادة سيّد المضحّين× من أجل الإسلام لم تكن في صالح الإسلام. إنّ الإساءة التي وجّهت إلى الساحة المقدّسة لنهضة الإمام في هذا الفصل من كتاب الشهيد الخالد (ص376 إلى ص402 وص403) مؤلمة جدّاً وتبعث على الأسف. فالكاتب سعى هنا لإثبات أنّ النهضة والشهادة أو قتل الإمام ـ بحسب تعبير الكاتب المشوب بالمغالطة ـ کانت بلا نفع ولا جدوى، بل كانت مضرّة ومشتملة على الخسائر.
طبقاً لرأي هذا الكاتب فإنّ النهضة كان أساسها فاشلاً ولم تترتب عليها أيّ ثمرة کما جاء في المرحلة الثانية تحت عنوان نقطة الانعطاف (ص280) من كتاب الشهيد الخالد، بل في المرحلة الثالثة أيضاً لم يتحقق المراد من إصلاحات الإمام الرامية إلى التعايش السلمي مع حكومة يزيد. إنّ آخر ضربة وجّهها كتاب الشهيد الخالد لنهضة الإمام، والتي تبدأ من (ص376) هي: أنّ قتل الإمام لم يكن في صالح الإسلام، كما أنّ الآثار المثمرة التي ترتبت عليه هي آثار قهرية وليست اختيارية (ص401). خلاصة كلامه وكلام من يؤيّدون هذا الكتاب وهذا الرأي ـ بلا علم ـ أنّه لم تكن هناك أيّ نتيجة ترجع على الإسلام بالمنفعة وتترتب على ذلك الفعل الاختياري منذ النهضة وحتّى الشهادة.
إذن من حيث المجموع وبناء على هذا الرأي الباطل؛ لو لم تقم النهضة وآثر الإمام الانعزال في منزله ومبايعة يزيد، وقَبِل رأى الذين كانوا يمنعونه، ويعلنون بصراحة عن الأحداث التي وراء الستار، بل ويتوقعون حتّى تلك الذلّة التي أشار إليها الكاتب في (ص393)، لما توفرت الأرضية لإلحاق هذه الخسائر الفادحة بالإسلام، وإن كان بنو أمية هم السبب والمسؤولون عن هذه الخسائر، والإمام أيضاً تبعاً لما ذهب إليه هذا الكاتب کان مكلّفاً بحسب الظاهر بالنهضة وبناءً على توهم الحكم الشرعي. ونحن سنقوم مرَّة أخرى وببيان آخر بتوضيح هذا البحث بما له من جوانب علمية وفنية.
إنّ رأي كاتب الشهيد الخالد يُظهر هذه النهضة المقدّسة منذ بدايتها إلى نهايتها قليلة الجدوى إن لم نقل تأدّباً بلا جدوى. وغاية ما وصل إليه من تحقيقه هو: أنّه كان بالإمكان وقوع النهضة من أجل الدفاع عن الإسلام من خلال تأسيس الحكومة الإسلامية، بغض النظر عن الحوادث التي خلف الستار والتي لم يكن توقعها ممكناً، وقد توفرت شروطها، فنهوض الإمام يرجع إلى عدم علمه بتلك بالحوادث التي خلف الستار، وبعدما تبيّن الخلاف بأن دلَّت الحوادث غير المتوقعة على عدم إمكان تحقيق أهداف هذه النهضة، واتّضح بأنّه لم يكن هناك أيّ أمر بالنهضة، وأنّ وقوع حركة الإمام في الواقع سببها توهم الأمر، بل الأمر الواقعي في مثل تلك الظروف ـ وفقاً لهذا الرأي ـ هو بيعة يزيد والمساومة ودفع الخطر، ولأنّ الإمام كان يعمل طبقاً للظواهر لذا لم يكن ـ والعياذ بالله ـ يعلم بتلك الحوادث غير المتوقعة، إذ كان يرى أسباب انتصاره العسكري على يزيد متوفرة، ونتيجة لهذا الخطأ الموضوعي لم يصر الأمر فعلياً، وبظن وجود الأمر حصلت النهضة والتحرّك، إلّا أنّه انكشف خلافه. لذلك بمجرد أن انكشف الخلاف واتّضح عدم وجود أمر واقعي بالنهضة، اقترح الإمام البيعة على الفور وفقاً للاقتراحات الثلاثة، ولمّا لم يُقبل أيضاً طلب الإمام اتّضح بأنّه لم يكن مأموراً بمثل هذا الاقتراح واقعاً؛ لأنّ الأمر الواقعي بمثل هذا الاقتراح ـ على فرض أنّه لم يكن إتماماً للحجة ـ يكون في صورة القبول.
إلى الآن ـ على ضوء هذا الرأي الفاسد ـ تحققت كل الخطوات بناء على توهم الأمر الواقعي، ومن الواضح أنّ نفس العمل الذي صدر عن خطأ، وإن كان مشتملاً على الحسن الفاعلي ويحكي عن حسن نية الفاعل وانقياده وامتثاله إلّا أنّه لم يشتمل على الحسن الفعلي[232].
بعد أن عرفنا ذلك تأتي مسألة الاقتراح، أي التسليم بدون قيد وشرط لابن زياد، وأنّ الإمام ـ وفقاً لهذا الرأي ـ قاوم إلى أن استشهد من أجل الحفاظ على عزَّة نفسه، وفي هذه المقاومة لم يكن الهدف الدفاع عن الإسلام، ولم يترتب على قتله منفعة مقصودة تعود على الإسلام، والإمام عرّض نفسه للقتل فقط من أجل عدم التسليم لابن زياد، وليس من أجل الامتناع عن بيعة يزيد!
هذا تقييم كتاب الشهيد الخالد للنهضة التي شغلت أذهان مفكري العالم الإسلامي والسياسيين والمضحّين، وطلاب الحق والحرية والفضيلة، وجذبت نحوها ملايين الناس منذ ثلاثة عشر قرناً. وهذا هو تقييمه للنهضة التي أبدى لها نبي الإسلام العظيم وأمير المؤمنين وسائر الأئمة صلوات الله عليهم ـ طبقاً لما جاء في أخبارهم وأحاديثهم ـ كل ذاك التجليل والتعظيم حتّى أوصوا وشجَّعوا على إحياء ذكراها.
هذا هو تقييم جهود سبع سنوات لشخص (إن لم يكن خلافاً للأدب) الذي كان من منطلق الغرور والاستبداد الفكري أو الانحراف في الأسلوب، ولم یخف من الخيانات العلمية والأدبية أيضاً. هذه هي قيمة النهضة التي يفتخر بها أهل البيت^، والتي جعلت الإمام الحسين× سيّد الشهداء؟!
كلّا يا أخي، لم تبتن نهضة الإمام على توهم الأمر وتخيله، فإنّ ذات الحركة وكافة البرامج التي أجراها الإمام كانت لها أمر واقعي وحقيقي، وكان لنفس الأفعال والأعمال التي أنجزها مصلحة، وهذه المصلحة راجحة على أيّ مفسدة تفرضها، فأنت لم تتصوّر باطن وغاية هذا المشروع. لقد كان للإمام تكليف واقعي، ألا وهو الامتناع عن البيعة، والحركة نحو العراق، ورفض الاستسلام، وهذا ما التزم به حتّى أنجز مهمّته الواقعية.
فهذا الحديث الذي قال فيه الإمام الحسين×: رأيت رسول الله| في المنام و أمرني بأمر، وأنا فاعل ما أمر، قد نقلته في (ص408) مع عبارة هيهات منّا الذلّة، وقبلت به أيضاً. في ذيل هذا الحديث يقول الإمام: أما إنّه لا تلبثون بعدها إلّا کريث ما يرکب الفرس، حتّى تدور بکم دور الرحى، عهد عهده إليّ أبي عن جدّي.... إلى أن يخبر بعد عدَّة أسطر عن مستقبل عمر بن سعد[233]. عليك أن تلتفت إلى أنّ الإمام كان لديه أمر واقعي وفقاً لهذه الروايات المعتبرة التي استندت إليها، وكانت أعماله بحسب العهد الذي عهده له النبي|، وكان عالماً بمستقبل أولئك الناس ومصير عمر بن سعد، وهذه المعلومات تردُّ ما أنت عليه. فقد كانت مهمّة الإمام الواقعية هي الامتناع عن البيعة والذهاب للقاء الشهادة، ولم يكن هناك أيّ كشف للخلاف ولا أيّ حادثة غير متوقعة، بل لم تكن هناك أرضية لتأسيس الحكومة منذ البداية.
إنّي أدعوك للاعتذار عن هذا التجاسر الذي بدر منك ـ من دون التفات إن شاء الله ـ على مقام الإمام ونهضته المقدّسة، وأن تحذر الاستخفاف بمثل هذه النهضة التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها، والتي تمثّل تراث آل محمّد صلوات الله عليهم.
الآن اقرؤوا أجوبته على المسائل المدوّنة هنا، رغم أنّها قد اتّضحت من خلال الإجابة على المسائل السابقة، ولكن لأنّه نريد الإجابة في كل موضع عمّا وقع فيه من المغالطات اضطررنا للتكرار.
23ـ هل كان قتل الإمام× لصالح الإسلام؟
إنّ قتل الإمام باعتباره عملاً صادراً عن بني أمية وعمّالهم كان ضرراً على الإسلام وخيانة وجريمة کبرى، وفاجعة ليس لها نظير في التاريخ، وخسارة لا يلثمها شيء. فأيّ حادثة أشدّ ألماً وأدمى للقلب من حادثة قتل سبط النبي| وإمام زمانه وقائد المسلمين. وأيّ معصية يمكن أن تقارن بها مهما كانت كبيرة. وأمّا قتل الإمام وشهادته باعتبار قبول الإمام له، أي أنّه لم يخف منه، ولم يرضخ للذلّ والهوان من أجل دفعه، ولم يتخلَّ عن نصرة الدين، واعتبر خلافة يزيد باطلة ولم يبايعه حتّى قتل، فقد كانت في مصلحة الإسلام. ولو بايع الإمام يزيد أو تراجع عن قراره أثناء النهضة واستسلم لأعوان الحكومة، لكانت الخسارة التي ستلحق بالإسلام والإساءة لأهل بيت النبوة’ عظيماً، بل لتحوّلت جميع الآمال إلى يأس، وانهزم الأحرار الحقيقيون، وما توفرت الأرضية للثورة على بني أمية قط، ولتراجع أمثال عبدالله بن الزبير، وأصبح يزيد المسؤول عن القيادة الروحية والسياسية للإسلام بدون منازع ومانع، ولما كانت هناك إمكانية لتعويض الأضرار التي لحقت بالإسلام عن هذا الطريق.
ووفقاً لكلمة الإمام التاريخية: (لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً)، فإنّ الموت والقتل سعادة وشهادة، والحياة مع الظالمين ذلّة وإهانة.
والحاصل أنّ قتل الإمام وحرمان المجتمع من بركات ذلك الوجود المقدّس من أعظم المصائب، إلّا أنّ التسليم والفرار من الموت والشهادة ومبايعة الإمام ليزيد خسارة أيضاً. فما كان من الإمام إلّا أن يدرأ هذه الخسارة عن الإسلام، ويحفظ شرف وكرامة أهل بيت النبوة وعزَّة الإسلام، ويحرر الأفكار، ويخلع يزيد عن القيادة الروحية وولاية الأمر الشرعية، لكي لا يتمكّن بنو أمية من توجيه ضربة للدين باسم الدين، حتّى لو حكموا سبعين عاماً أخرى بقوّة السيف.
في مثل هذه الأوضاع يجب أن يقيس الإمام مصلحة حياته مع الظالمين ومصلحة شهادته مع جميع ما لها من الآثار والنتائج والمفاهيم العالية، ويختار الأهم منهما. في نظر الإمام كانت مصلحة الشهادة واجبة الرعاية، حيث قال: لا أرى الموت إلّا سعادة. ونحن اليوم أيضاً ندرك جيّداً أهمية هذه المصلحة وبركات حفظها، ونفهم أنّ ما خطط له الإمام قد کانت ثمراته تصبّ في نجاة الإسلام.
149ـ قال في (ص376): أحياناً يقال: كان هدف الإمام الحسين× هو أن يُقتل؛ ليحيى الإسلام، فما المقصود من هذا الكلام؟
1ـ إذا كان المقصود هو أنّ الإمام عرَّض نفسه للقتل حتّى يتقيّد مسلمو الحجاز والعراق والشام وأفريقيا الشمالية ـ مثلاً ـ أكثر بأحكام الإسلام...الخ.
لم يكن السبب المباشر من قتل وشهادة الإمام هو تقيّد المسلمين أكثر بأحكام الإسلام، بل شهادة الإمام أصبحت سبباً لنجاة الإسلام، وأزالت انحرافات وضلالات المجتمع الإسلامي الفكرية، لا سيما فيما يتعلق بموضوع نظام الإسلام الحكومي، ونفعت في كونها درساً للأحرار ورؤية رائدة في الإصلاح، وقد أدَّت إلى بقاء أحكام الإسلام والصلاة والصوم وقوانين الإسلام العسكرية والجنائية والاجتماعية، وأن تحفظ عن سطو اللصوص الذين استولوا على زي قيادة وإمامة المسلمين المطلقة، وأن لا تُبدل الشريعة المحمّدية بالشريعة الأموية.
150 ـ قال في (ص376): 2ـ وإن كان المقصود هو أنّه حقق المسلمون فتوحات أخرى بسبب قتل الإمام...الخ.
نكرر القول بأنّ قتل الإمام ـ الذي كان بفعل حكومة بني أمية الدكتاتورية ـ لم يكن له أيّ علاقة بفتح الغرب والشرق، وأنّ التطوّرات والفتوحات التي تحققت للمسلمين في زمان كل واحد من الخلفاء لم تكن متعلّقة بهم، وإنّما كانت متعلقة بروح الإسلام وقوّة التعاليم التحررية، واستعداد المجتمعات المحرومة في ذلك العصر لقبول الدين الإسلامي القويم. وكان لشهادة الإمام وانعكاس مظلوميته أثر في محافظة تلك الفتوحات على طابعها الإسلامي إلى حدّ ما، وتُحتسب اتساعاً لحدود الإسلام ومنطقة نفوذ أحكامه. وإذا لم نستطع إدراك العلاقة المباشرة لشهادة الإمام مع الفتوحات التي تحققت بعد ذلك، فلا أقل لا يمکننا إنكار العلاقة غير المباشرة لذلك في حفظ روح الجهاد والسعي لبلوغ مفاخر إسلامية، ونحن نرى أنّ البطل الكبير والبارز لفتوحات العصر الأموي موسى بن نصير فاتح المغرب والأندلس كان في عداد محبّي أهل البيت^، ومن المؤكّد أنّه كان ممن يدينون جرائم يزيد ويعتبرون أهل البيت^ على حق.
151ـ ويكتب أيضاً في (ص376): 3ـ وإن كان المقصود هو أنّ قتل الإمام أدّى إلى إضعاف حكومة بني أمية، ولم تعد قادرة بعدها على التضحية بالإسلام في سبيل أهوائها الطائشة...الخ.
طبعاً إنّ حكومة بني أمية قد ضعفت، ولم تتمكّن من جعل الإسلام فريسة لأهوائها الطائشة؛ لأنّ ميزان مقارنة القوّة والضعف يکمن في مقارنة القوّة والضعف في حالتي تأييد حكومة يزيد وبيعة شخصية مثل الإمام، وحالة المخالفة والامتناع عن البيعة والتسليم للموت والشهادة.
في مثل هذه الصورة نرى أنّ هذه الثورة لو لم تظهر للعالم الإسلامي، وتوقظ الأفكار، وتشغل الحكومة بإخماد صوت المعارضين، والثورات التي أخذت تنهض الواحدة تلو الأخرى، لبلغت قوّة تلك الحكومة وقدرتها الذروة، وحينها لم يتجرّأ الآخرون على القيام بتلك الثورات، ولنجحت القوّة العسكرية لتلك الحكومة متى ما أرادت وحيثما أرادت في تنفيذ خططها الخبيثة للإطاحة بالإسلام دون أن يعترضها أحد. وإن كانوا قد أظهروا بعد شهادة الإمام وحشية في واقعة الحرَّة ـ على حدّ تعبيرك ـ فقد كان ذلك أيضاً نتيجة الضعف والخوف من تفجّر الأفكار وازدياد الشغب والثورة. هذه ليست قوّة بل عين الضعف، وأزمة حقيقية للحكومة، وهزيمة لها في مقابل القوى الدينية والوطنية الوفية للدين الإسلامي، حيث لم تتمكّن من إخماد الأصوات وإقناع الناس، وتوسّلت بقوّة الرماح وسيوف الجريمة وخبث الأنذال الذين يكتمون أنفاس الحرية، من قبيل: مسلم بن عقبة والحجاج، وهذا أكبر دليل على ضعفها، بحيث إنّ سيوف جلّاديها تکون دائماً ملطّخة بدماء الناس الأبرياء والشخصيات الدينية والوطنية.
كان بنو أمية بعد شهادة الإمام يعيشون حالة الخوف من الناس، وسوء الظن بهم؛ كونهم يعلمون أنّهم مفروضون عليهم. وبعد شهادة الإمام ذهبت السلطة من يد آل معاوية أوّلاً، ولم يتمكّن بنو أمية رغم استمرار حکومتهم القائمة على أسس متزلزلة سبعين عاماً تقريباً من السير بشکل تام على مخططات معاوية ويزيد الرامية لإسقاط اسم النبي| المقدّس من الأذان، بل محو الشهادة بالتوحيد تماماً، وقد أدّت الاضطرابات والثورات المتتابعة التي کانت تعبّر عن سخط الناس ومقاومتهم للحكومة إلى بقاء هذه الأخيرة مكتوفة الأيدي.
لقد استلهمت تلك الثورات کثورة المدينة وثورة التوّابين ونهضة المختار وثورة مطرف بن المغيرة وثورة ابن الأشعث وثورة زيد عزمها ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ من نهضة الإمام الحسين×، وكانت روح المقاومة ضدّ الباطل التي كانت من ثمرات تلك النهضة تهزّ وجدان الناس.
وخلاصة الكلام هي: أنّ بني أميّة وإن استخدموا بعد شهادة الإمام الحد الأقصى من قوّتهم العسكرية، ولكن قوّتهم المعنوية قد تلاشت، حتّى صار الارتباط بهم عاراً وفضيحة، وظهرت حادثة الحرَّة وهتك حرمة الكعبة من ذلك الضعف المعنوي للحکومة، وجعلت تلك الحوادث بني أمية يدفعون الثمن غالياً، فباءت أمانيهم وجهودهم الرامية إلى القضاء على الإسلام بالفشل، (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [234].
152ـ لم يؤثّر الإعلام المضاد ـ الذي تحدّث عنه الكاتب في (ص377) ـ على الإمام، ولم يتمكّن من تضعيف مقام الإمام في أذهان الناس. وعلى الرغم من إعلام بني أمية، ومع أنّ مرتزقتهم ومتملقيهم قالوا كل ما يرغبون، ولم يكن أحد يجرأ أن يردّ عليهم، إلّا أنّ خطتهم الإعلامية باءت بالفشل ولم تُخلِّف أيّ أثر في النفوس، بل لأنّه إعلام دولة فقد ساهم في بروز ردود أفعال عكسية زادت من محبوبية الإمام، حتّى صار صدى إعلامهم يجعل القلوب أشدّ ألماً. وحتّى البدع التي روَّجوها بخصوص يوم عاشوراء بأن اعتبروه يوماً مباركاً وصدَّق ذلك الغافلون من الناس، كانت سبباً في شيوع هذه المراسم، على الرغم من أنّ غرض مفتعليها قد كان نسيان عاشوراء وواقعة كربلاء الفجيعة، مما اضطرهم لاختلاق عناوين أخرى ووضع الأحاديث لها، وهذا دليل أيضاً على ردَّة الفعل الشديدة لعاشوراء في القلوب، وخوف الحكومات المناوئة للإسلام والحرية من إقامة مراسم العزاء الحسيني.
153ـ كتب في (ص378): 4ـ وإن كان المقصود هو أنّ المجتمع الشيعي أصبح أكثر تآلفاً بسبب قتل الإمام... الخ.
لقد جعلت شهادة الإمام الشيعة أكثر تآلفاً وقوّة وثباتاً ومقاومة، ولو لم تكن نهضة الإمام لفقدت الشيعة منزلتهم الحالية ومحوا من صفحة التاريخ من جرّاء الدواعي الهدَّامة لحكومة بني أمية وبني العباس التي كانت تسعى للقضاء عليهم بكل ما لديها من قوَّة، ولأصبحوا اليوم إحدى الفرق البائدة والمنسية. فلو آثر الإمام الاعتزال في بيته، وبايع، ولم يستشهد، ولم يستجب بعد عشرين عاماً لدعاوي الشيعة لمناصرة الحق والتضحية والاندفاع مع تلك الهتافات والشعارات، لما كانوا ليتعرَّضوا لهكذا امتحان أيضاً، ولما ظهر مضمون هذه الآيات: ( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [235]، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[236]، (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)[237]. ولأصاب أولئك المحقّين في دعوى التشيّع اليأس والقنوط.
لقد عيَّنت نهضة الإمام ماهية وهوية الشيعة، وجعلت هذا المجتمع المتفرّد في اتّباع آل محمّد| أكثر استقلالاً. فأنت حينما تقول: لا شك أنّ جانب الضعف في الشيعة قد زاد أكثر بعد حادثة كربلاء، ينبغي عليك أن تأخذ بنظر الاعتبار ضعف روحيتهم في زمان حكومة يزيد خصوصاً على فرض مبايعة الإمام وعدم اكتراثه لمطالب أهل الكوفة، ثمّ تقارنه بقوّة وشدّة علاقتهم ومشاعرهم بعد شهادة الإمام؛ كي تفهم هل أنّ الشيعة كانوا ضعفاء أم أقوياء؟ وهل أنّ واقعة كربلاء جعلتهم أكثر عزيمة وفداءً وهمَّة أم لا؟
اقرأ ثورة التوّابين وواقعة عين الوردة في کتب التاريخ؛ لكي تعلم كيف نُفثت روح العزم والتضحية والمقاومة ضدّ الباطل في قلوب الشيعة، فما كان حماسهم ومشاعرهم النقية تلك إلّا ردّة فعل على شهادة الإمام، وكان أکثر هؤلاء ممن ترك مسلماً وحيداً عندما نهض، لكن ثارت حميتهم واندفاعهم بعد ذلك تأثراً بشهادة الإمام.
أنت حينما تقول: إنّ جانب الضعف في الشيعة قد زاد أكثر بعد حادثة كربلاء وتنتقد نهضة الإمام بشكل ضمني کان الأجدر بك مطالعة هذه الحقائق لكي يتضح لك كيف أنّ شهادة الإمام صارت نقطة البداية لقوّة الشيعة، وأنّ هذه القوّة التي حفظت الشيعة إلى يومنا هذا كانت إثر تضحيات الإمام، فأيّ فرقة تقارن بالشيعة في إظهارها التضحية والثبات؟! وأيّ مجتمع أعطى شهداء وأسرى في سبيل دينه وهدفه وعقيدته بقدر الشيعة؟! ألم تكن هذه المصائب والشدائد والنهضات والثورات مؤثرة في تجديد نشاط الشيعة واتساع دائرة نفوذهم؟ كما قال أمير المؤمنين×: بقية السيف أبقى عدداً وأكثر ولداً[238].
154ـ كتب في (ص379): 5ـ وإن كان المقصود هو أنّ الإمام الحسين× أراد أن يُعرِّض نفسه للقتل؛ لكي يفضح آل أبي سفيان، ويُحيى الإسلام بواسطة ذلك. وهذا المطلب ليس صحيحاً أيضاً؛ لأنّ مثالب معاوية وابنه يزيد كانت واضحة جدّاً بحيث لا تحتاج إلى كشف الستار عنها... الخ.
كانت مثالب معاوية ويزيد واضحة، وما كُتب حول ذلك كان معلوماً ومشهوراً، ولكن لو لم تكن نهضة الإمام وتلك الشهادة والمظلومية وأسر أهل البيت، لتمكّنوا من التغطية على تلك الفضائح، وتغيير مسيرة التاريخ وتبرئتهما.
إنّ جهاز معاوية الإعلامي والأموال الطائلة التي كان يصرفها في هذا السبيل من شأنها اختلاق الأعذار لأفعاله المذمومة، حتّى يتراءى معاوية على أنّه معذور، وإلى اليوم الكثير من المسلمين في ضلال. لقد كان معاوية يقوم بأفعال وأعمال متناقضة ومبهمة، فأحياناً يتظاهر بالدين، وأحياناً أخرى ينسب لنفسه الحلم، ويخادع مستغفلاً بذلك الكثير من الناس، وكان يسدّ الأفواه بالرشوة والترغيب والهبات التي يبذلها. اقرأ كتاب تطهير الجنان لكي ترى كيف يبرر له بعضهم مواقفه للتغطية على أفعاله القبيحة وغير المشروعة.
إنّ شهادة الإمام هذه هي التي دوَّت في العالم الإسلامي، وأزالت أيّ إبهام وشك وترديد في حقيقة خبث بني أمية وجرمهم وأهدافهم التدميرية، وأدَّت إلى إذلالهم. وهي التي أدانت يزيد أمام الرأي العام، بحيث لم يتمكن أحد من التحدّث عنه إلّا بالمذمة والقدح واللعن.
صدر عن أمير المؤمنين× من الكلام الصريح والواضح حول معاوية وسوء نيته وقباحة أفعاله أكثر من هذا، ومع ذلك لو لم تكن شهادة الإمام الحسين× لم يلتفت الناس إلى الحقائق إلى هذا الحد من الوضوح.
155ـ يقول في (ص381): 6ـ وإن كان المقصود هو أنّ الإمام كان يريد أن يثير مشاعر أهل الشام بقتله وسبي عياله؛ ليثوروا ضدّ يزيد ويسقطوا حكومته؛ ليحيى الإسلام عن طريق ذلك. وهذا أيضاً لا يمكن قبوله... الخ.
لقد كان لشهادة الإمام وسبي أهل البيت في الشام تأثير كبير، وحتّى وقعها قلب بلاط بني أمية، وأثر في مشاعر السفراء الأجانب، إلى أن وصل الحد بأن ينشد مثل يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم هذين البيتين في مجلس يزيد:
َهَامٌ بِجَنْبِ الطَّفِّ أَدْنَى قَرَابَةً مِنِ ابْنِ زِيَادِ الْعَبْدِ ذِي الْحَسَبِ الوغل سمية أضحى نسلها عدد الحصـى وليس لآل المصطفى اليوم من نَسْل[239] |
وارتفع من داخل بيت يزيد صوت الاعتراض والاستنكار. وأصبحت خطب الحوراء زينب‘ والإمام زين العابدين× التاريخية في مجلس يزيد وفي جامع دمشق مشاهد كشف للحقائق وتعريف بحقيقة أهل البيت^ وفضيلتهم حتّى عصرنا الحاضر، حيث استثمرا بشکل کامل كل موقف وفرصة مؤاتية في الكوفة ودمشق وفي الطريق بين هاتين المدينتين، وسعيا جاهدين إلى إعادة مجد الإسلام ورفعته وتقوية أسس الخضوع للحق والدفاع عن الدين. هو ذاك أيضاً أخرج أهل الشام من سباتهم، حتّى أنّ أولئك الناس الذين أوجدوا واقعة الحرّة وهتكوا حرمة الكعبة المشرفة کانوا من جنود يزيد وعملاء الحكومة.
إنّ الحكومة يومذاك كانت عسكرية، وقائمة بقوّة سلاح أمثال مسلم بن عقبة والحصين بن نمير.
كان القادة السفاكون يرون أنّ صلاح دنياهم متوقف على تضييقهم بكل ما أوتوا من قوّة على صلاحيات وحقوق المجتمع وحرياته التي فرضها الإسلام لأفراده، وكان يقظ مضاجعهم الخوف من سيطرة حكومة قانونية منبثقة من مشاعر المجتمعات الإسلامية؛ لأنّهم يعلمون أنّه متى ما تغيَّرت الأوضاع سيعزلون جميعاً؛ لذا قمعوا الناس بمنتهى الشدَّة والقسوة، وخنق المشاعر. إنّ بيعة يزيد وبيعة معاوية بن يزيد فرضه أيضاً نفس هذا الجيش المجرم على الشعب، وإلّا فإنّ أهل الشام قد استيقظوا خصوصاً بعد دخول سبايا أهل البيت إلى دمشق، وفقد بنو أمية مكانتهم الشعبية.
156ـ ما كتبه في (ص381) تحت هذا العنوان تكرار للمطالب السابقة.
وقد أجبنا على ذلك مراراً، وشرحنا ماهية وحقيقة هذه الاقتراحات، وأثبتنا أنّ اقتراح الرجوع كان من أجل إتمام الحجة، وهذا من السنن الإلهية بحسب آيات القرآن الكريم وسيرة الأنبياء والأولياء وجزء من برنامج عملهم.
157ـ خلاصة الكلام الذي يعتبر جواباً لكلام كاتب الشهيد الخالد المكرر في ص382 هو: أنّ هذه العبارة وهي: أنّ الإسلام أُحيي بشهادة الإمام، لها معان عالية ومفهوم قيِّم وصحيح ومنطقي وعقلائي.
1ـ سواء كان إحياء الإسلام بمعنى حفظ التعاليم والبرامج الدينية من تلاعب بني أمية، وبقاء الأحكام.
2ـ وسواء كان بمعنى الفتوحات الإسلامية؛ لأنّه إذا كانت أوضاع المسلمين الاجتماعية والفكرية والدينية كما هي في عصر يزيد، وافترضنا وقوع فتوحات فتكون فتوحات يزيدية وشريعة أموية، وبما أنّ شهادة الإمام کبحت جماح حکومة يزيد وأبعدت أخطارها عن الإسلام أدَّت إلى أن تُحتسب تلك الفتوحات فتوحات إسلامية، واعتبرت تمدداً لنفوذ الإسلام، وإيصالاً لصوت التكبير والشهادتين إلى الشرق والغرب.
3ـ وسواء كان بمعنى ضعف بني أمية؛ كون شهادة الإمام ـ وکما تمّ توضيحه ـ قد أضعفت حكومة بني أمية، وحالت بينهم وبين محاربة الإسلام بنحو قطعي ونهائي.
4ـ وسواء كان بمعنى نشوء وتکوّن الشيعة؛ كونه قد أسس عماد الشيعة وجعلهم محاربين مستقلين مجاهدين.
5ـ وسواء كان بمعنى فضح آل أبي سفيان؛ لأنّه فضحهم وزاد في تعبئة الأفكار ضدّ يزيد.
6ـ وسواء كان بمعنى توعية أهل الشام وإعلامهم بالخطر المحدق؛ كونه قد أيقظهم، وأفهمهم بأنّ الطريق الذي أرشدهم إليه بنو أمية ومعاوية ويزيد ليس هو الطريق الذي يسير عليه أهل بيت النبي|.
7ـ وسواء كان بمعان ومفاهيم عالية أخرى قد أشير إليها في مواضع عديدة من هذا الكتاب.
والتعبير الصحيح في مقابل التعبير الخاطئ لكتاب الشهيد الخالد (ص382) هو أن نقول: إنّ الإمام لم يكن يرى تحقق شروط تأسيس الحكومة الإسلامية هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان يلاحظ أنّ الإسلام مُعرَّض للزوال، ومتى ما بايع يزيد وأيَّد حكومته فإنّه بذلك سيسرّع في القضاء على الإسلام، ومن جهة ثالثة كان يرى أنّ عليه أن يسعى ويجتهد من أجل إنقاذ الدين وإحياء الإسلام، ولأنّه كان يرى أنّ الوسيلة الوحيدة لنجاة الدين وبقاء الأحكام والمحافظة على أهداف الإسلام السامية والإصلاحية هي النهضة وإعلان المعارضة والامتناع عن البيعة ومن ثمّ شهادته، بالإضافة إلى المهمّة الخاصّة التي کلّف بها، مع علمه بأنّ هذه النهضة ستختم بشهادته، وعلمه بترتب كل تلك الآثار أقدم على ذلك. تلك النهضة التي تعدّ جميع هذه الفوائد والنتائج القيمة أثراً اختيارياً وقصدياً وتحسب هدفاً لها.
السلام على الروح الطاهرة العظيمة للسيّد جعفر الحلي& الذي يقول في رثاء جدّه:
قد أصبح الدين منه يشتكي سقماً وما إلى أحدٍ غير الحسين شكا فلم ير السبط للدين الحنيف شفا إلّا إذا دمه في كربلا سُفكـا ومـا سمعنا عليلاً لا علاج لـه إلّا بنفس مداويه إذا هلكـــا بقتـله فاح للإسـلام طيب هدى فكلَّما ذكرتـه المسلمـون ذكـا وصـان ستر الهدى من كل خائنةٍ سـتر الفواطـم يوم الطف إذ
هُتـكا نفسـي الفداء لـفاد ِشرع والـده
بنفسـه وبأهليــهِ ومـا مَلــكا |
158ـ يقوم في (ص383) بدراسة هذا الشعر المعروف:
إن كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي يا سيوف خُذيني |
يقول: نحن لا نعرف قائل هذا الشعر، ثمَّ أعاد المطالب السابقة مرَّات عديدة.
ونحن نقول: أوّلاً: نحن نعرف قائل هذا الشعر، وهو الشاعر الكربلائي المرحوم الشيخ محسن أبو الحبّ الكبير، وهذا البيت أحد أبيات قصيدته المفعمة بالحماس والثورة والمعاني الدقيقة، والبيت الذي يليه هو:
هذا دمي فلترو صادية الظبا منه وهذا بالرماح وتيني |
وثانياً: إنّ تصوّر أن يكون التسليم للقتل سبباً لتقدّم هدف الشخص ودينه ومذهبه ـ کما ذكرنا سابقاً ـ أمر ممكن ومعقول؛ إذ قد يصبح القتل والاستقامة والثبات والصمود في ساحة الحرب مصدراً لقوّة الآخرين وحماسهم، أو عبرة للأعداء وخوفهم، أو عزَّة وافتخار الجبهة، وهذا من قبيل ثبات جعفر في حرب مؤتة. وعليه يعتبر إلقاء النفس في خضِّم السيوف والسهام والرماح والأخطار الأخرى أكبر نصر للإسلام والدفاع عن أهدافه؛ حينما تضعف روحية الآخرين خوفاً من السيوف فيأبون التقدُّم خطوة خشية من الموت. وقد أخذ الشاعر بعين الاعتبار مثل هذا المعنى الرقيق والدقيق ومثل هذه التضحية والهمَّة العالية، فقال:
إن كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي يا سيوف خُذيني |
قل الآن: لماذا لا يكون هذا الشعر لسان حال الإمام؟
إذا امتثل الإمام لهذا القتل من أجل هذا الغرض واختار الشهادة التي هي سبب لإنقاذ الإسلام، فما هو الإشكال في ذلك؟ إذ الامتناع عن البيعة وعدم الاستسلام والشهادة، كل منها محبوب ومطلوب للإمام بلحاظ هدفه.
لقد غالطت عدَّة مرّات، وصرت تقول: كيف يمكن أن يحيى الإسلام بفقدان إمامه؟
الإجابة عن هذه المغالطة هي:
أوّلاً: من الممکن أن تكون تضحية قائد مذهب وإمامه، وثباته، ورضوخه للشهادة في بعض المواضع علامة على إخلاصه وصلابة عقيدته، وأن يكون إيمانه بالمبدأ والطريقة التي يدعو بها إلى ذلك سبباً لفتح القلوب نحو تلك العقيدة، فتكون تلك التضحية وسيلة لهداية الناس إلى حقيقة تلك العقيدة وصدق قائدها.
وثانياً: كما قلنا مراراً: الأمر كان دائراً بين محذورين؛ إمّا الاستسلام للبيعة وقبول حكومة يزيد المشهور بالفسق والفحشاء والمنكرات، وترك الطريق مفتوحاً لإلحاق آخر ضربة مهلكة لقلب الإسلام، أو الامتناع عن البيعة، وأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثبات والقتل، والهتاف: يا سيوف خذيني.
ففي الصورة الأولى إذا كان الإمام الذي تتجسد فيه الطهارة والتقوى والنزاهة يتعاون بكل إخلاص وعمالة ـ والعياذ بالله ـ مع يزيد الذي هو أنموذج الخسّة والدنائة والكفر والرجعية، ولم ينزعج من مشاهدة انحسار أحكام الإسلام، ولم يبد القلق تجاه ذلك، فستكون حياته وأموره المادية والجسدية محفوظة ومصانة، ويكون في منأى عن الخطر، إلّا أنّه في هذه الصورة سيُسلَب عنه وصفه کمشعل وضّاء ومفسّر للقرآن وقائد للإسلام، وسينطفئ مشعل حياته المعنوية الذي هو ماثل إلى اليوم وسيبقى ماثلاً وخالداً ووضّاءً وهاد للسالكين في طريق الحق إلى يوم القيامة، كما أنّ بقاء حياته المادية يؤدّي في هذه الحالة إلى انحراف الأفكار.
أمّا في الصورة الثانية فسوف تبقى جميع عناوين الإمام الحقيقية محفوظة، وسينجو الإسلام، وتقوى الروح المعنوية للناس وتشتد، وتصدّ ضربة الحكومة اليزيدية بإعلان الإمام معارضته وثباته الفريد الذي شراه بروحه وأعزته، ويكون الإمام بذلك قد أنجز ما عليه من تكاليف تجاه الإسلام، وأوصل هتاف: يا سيوف خذيني إلى أسماع العالم.
إنّك تغالط دون أن تأخذ بعين الاعتبار هذين المحذورين. إنّك تصوّر بأنّ فوائد وبركات حياة الإمام لابد أن تكون في حالة بسط اليد والنفوذ المطلق وكمال القدرة، وتتوهم بأنّ الاستسلام للقتل وحرمان الخلق من هذه البركات لا يمكن فهمه، وتُظهر أنّ ما يحمله هذا الشعر من معنى مقدّس غير قابل للفهم والإدراك كغيره من المفاهيم المبهمة.
نعم إنّ الإمام يقول: يا عمّال الحكومة المخالفة للإسلام، إنّني أستقبل سيوفكم الجائرة التي أحضرتموها لقتلي وقمع الإسلام: يا سيوف خذيني، فإنّني لا أبايع حكومة يزيد التي استعدّت للقضاء على الإسلام. الإمام يقول: لتأخذني سيوف الظلم والجريمة وتقطعني إرباً إرباً وتسفك دمي، فسوف لن أستسلم للظلم ولن أخضع لبيعة يزيد.
للأسف أنت أيّها السيّد كاتب الشهيد الخالد لم تدرك مفهوم هذا الشعر الراقي والقيّم الذي تجاوز الشعر إلى حكايته عين الحقيقة، وقمت بمهاجمته. فأيّ مفهوم أكثر تحرراً وإنسانية من مفهوم هذا الشعر، إنّها قمَّة عزيمة البشر في سبيل حفظ المصالح الاجتماعية والسهر على خير الآخرين وسعادتهم.
حقّاً إنّ الإنسان يصاب بالدوّار من منطقك العجيب والغريب، ويتساءل عن سبب ما ظهر فيه من انحراف؟ مَن الذي قال: إنّ قتل الإمام أحيى الإسلام حتّى تثني على يزيد وعماله؟
نحن نقول: حسناً للإمام، حيث اخترت القتل والشهادة ولم تستسلم وتبايع، وأحيىت الإسلام، وکانت مصيبة الحسين× مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها في الإسلام؛ لأنّها حرمت المجتمع من بركات وجود الإمام وبسط يده وتصرّفه في الأمور، وتعدَّت على حياته المليئة بالفيوضات، مع أنّه قد ثبت عازماً على عدم مبايعة يزيد ومقاومة الباطل إلى أن ضحّى بحياته. إنّ هذه المصبية كانت أعظم المصائب، ونحن دائماً في حالة حزن وعزاء. لكنّ شهادة الإمام وتضحيته كانت أيضاً من أعظم التضحيات في سبيل الإسلام، وأكثر واقعية لمشاهد إيمان وإخلاص خواص عباد الله. ذلك الصبر والصمود والشجاعة والإيمان والفضيلة والافتخار إنّما سجّل لمحمّد وآل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين فقط، ونفتخر بذلك نحن وكل شيعي، بل كل إنسان موحِّد يبحث عن الفضيلة والحق والحرية والتوحيد.
159ـ ما قاله في (ص385) تحت عنوان تشبيه خاطئ ليس له علاقة بنهضة الإمام، ونحن لم نسمع بهذا التشبيه من أحد إلى الآن، فلعلك تكون قد اختلقت هذا الكلام لكي تجيب، وتغالط مرّة أخرى. ثمّ كرر في (ص386) كلامه السابق، ونحن قد أجبنا عنه مراراً أيضاً، ونقول هنا أيضاً:
ما فعله الإمام كان مقاومة ضدّ الدكتاتورية اليزيدية، والنهضة من أجل إنقاذ الإسلام والمسلمين، وهذه الخطّة التي أجراها هي التي أنقذت الإسلام. كما أنّ ما قام به ولاة الحكومة من تحطيم للقوى الإسلامية الوطنية، وقتلهم سبط النبي| لم يکن هدفاً للإمام، أي أنّ الإمام لم يذهب إلى كربلاء ليتصرّف معه عمّال الحكومة بهذا الشكل، بل إنّه مع علمه بأنّ الامتناع عن البيعة يؤدّي إلى الشهادة لم يبايع، وذهب إلى كربلاء وثبت إلى أن استشهد.
لقد كان عالماً بالنتائج المخلّصة المتأتّية عن عدم البيعة والصمود والثبات، وردَّة الفعل تجاه جرائم بني أمية؛ لذلك نهض مع يقينه بعدم إمكانية الانتصار العسكري، وضحَّى بدمه ودماء أعزته في سبيل الإسلام بمنتهى الرضا والتسليم لأمر الله.
160ـ في (ص387 إلى ص388) كانت الاستبعادات التي ذكرها في حدّ نفسها بغض النظر عن الحِكَم الإلهية وكون حفظ المصالح الأهم تقتضي ذلك في محلّها، إلّا أنّه لو وجدت المصلحة الأهم فلابدّ من ترك المصلحة المهمّة.
إنّ معنى رضا الإمام بسبي أهل البيت هو: عندما يدور الأمر بين محذورين شديدين، يجب دفع المحذور الأشد والرضوخ إلى المحذور الشديد. فالإمام كان يعتبر محذور الخطر القطعي الذي يهدد الإسلام أهم وأشد من أيّ محذور آخر، ويعتبر درأه واجباً مع ما يترتب على ذلك من ضرر وخطر؛ لذلك رضى بسبي أهل بيته الذي لا يقل أثره في درء ذلك الخطر الذي كان يهدد الإسلام عن أثر الشهادة نفسها. وهذا من قبيل أن يرى شخص تعرّض رسول الله| للقتل، ويرضى بالموت والقتل من أجل درء القتل عنه. وقس على ذلك مسألة رضى الإمام بسبي أهل بيته، فالإمام بصرف النظر عن مصلحة الدفاع عن الإسلام، والآثار التي نجمت عن هذا السبي، هل كان راضياً بأسر أخواته وبناته أم لا؟ قطعاً لم يكن راضياً. لكن بلحاظ تأثير سبيهم في إنقاذ الإسلام وهداية الناس، هل كان راضياً أم لا؟ بالقطع واليقين كان راضياً؛ لأنّه مضطر إلى اختيار أحد المحذورين، فإمّا أن يحول دون سبي أهل بيته أو ينقذ الإسلام، مثل الشخص الذي يتحمّل خسارة مئات الملايين من أجل حفظ روحه وروح ابنه، والرضى بالسبي من هذا القبيل أيضاً.
ما أبعد ذلك الشخص الذي لم يفهم هذا المنطق، وما أجهل الشخص الذي يظن بأنّ الإمام كان يرغب في سبي أهل بيته وعياله دون أن يلحظ جلب مصلحة أو دفع مفسدة، ولم يكن متألماً من سبي بناته وأخواته.
هذا منطق صبياني، ونسبة ذلك إلى ساحة الإمام المقدّسة وشيعته تجاسر صارخ. كلا أيَّها السيّد لا يمتلك شخص هذا الفكر الصبياني، والجميع يعلم أنّ الإمام كان مكلّفاً بأن يأتي بأهل بيته إلى كربلاء ويعرضهم للأسر؛ من أجل إكمال أهدافه ومنع الطعنة التي تريد حكومة يزيد توجيهها للإسلام، ومن باب إتمام الحجة، كما كان مكلّفاً أيضاً بطلب النصرة من الناس، ووضع بني أمية وعمّالهم في محكّ أعظم الامتحانات الإلهية. كما كان أولئك أيضاً مكلّفون بالحفاظ على حرمة أهل بيت النبي|، وأن لا يفضحوا أنفسهم أمام الصديق والعدو.
أمّا إذا كنت تعتبر سبي أهل البيت عديم الفائدة، وليس له علاقة بإحياء الإسلام وكسر شوكة بني أمية وتوعية الشعور الإسلامي ومصالح وحِكَم عظيمة أخرى، فهذا بحث آخر، إلّا أنّ الآخرين لا يفكّرون مثلك بل يرون في هذا السبي فلسفة وغايات رفيعة ليس لها نظير.
إذا كان سبي أهل البيت لا يرتبط بأيّ من هذه الفوائد والنتائج المترتبة عليه، إذن قل لنا: لماذا حملهم الإمام معه؟ وإذا لم يكن راضياً من تصرّفات بني أمية القاسية وغير الأخلاقية والمخالفة للإسلام التي فعلوها مع أهل بيته، فلماذا لم يعتن بكلام ابن عباس؛ إذ من المؤكّد أنّهم لن يقعوا في الأسر إذا ما بقوا في الحجاز، فيتركهم في مكة أو المدينة تحت حماية أكابر بني هاشم مثل ابن عباس ومحمّد بن الحنفية وعبدالله بن جعفر؟
ولماذا بعد أن انكشف الوضع ـ على حدّ قولك ـ واتّضح عدم وجود أرضية لتأسيس الحكومة، لم يرجعهم، ولم يبعث بهم إلى مكان آمن؟ ولماذا عندما أعطوا الأمان لأبي الفضل العباس وأخوته؛ لم يأمرهم الإمام بقبول ذلك الاقتراح وصحبة النسوة والأطفال ما دام لم يكن راضياً بتعرّضهم للإساءة والسبي؟ ولماذا؟ ولماذا؟
إذا كان هذا منهجك، فأجب إجابة صحيحة ومعقولة عن هذه الأسئلة. ولو تأمّلت قليلاً لالتفت إلى أنّ ما تدعيه لا يقدّم أجوبة شافية عن هذه الأسئلة، وعشرات، بل مئات الأسئلة الأخرى.
عليك الاعتراف بأنّ الإمام كانت له مهمّة إلهية فقدّم كل ما لديه وكل ما يلزم تقديمه من أجل إنقاذ الإسلام في ميدان الدفاع عن الدين، ورضي بشهادته وشهادة أعزّته، وسبي أهل بيته. وكان لسان حاله ومقاله بصدد شهادته وسبي أهل بيته وضرورة التضحية في سبيل الدين، هو:
لئن كانت الدنيا تُعد نفيسة فدار ثواب الله أعلى وأنبل وإن كانت الأبدان للموت أنشئت فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل[240] |
أيّها السيّد الكاتب، تعرف أوّلاً على هذا المنطق الرفيع والهمّة العالية، ثمّ تعال وتحدّث عن نهضة الإمام. بناءً على رأيك أيّ معنى يحمله هذا البيت الثاني، أنت تقول: ما هي فضيلة القتل في سبيل الله؟ وماذا ينتفع الإسلام من ذلك؟ إنّ هذا القتل يؤدّي إلى ضعف الإسلام. مهما استطعت فتكلم، فستجد أنّ الإمام يقول:
فقتل امرئ بالسيف أولى وأفضل
ومن جهة أخرى لو أردنا أن ننظر إلى سبي أهل البيت، نجد أنّ الأشخاص الذين لا يقف نظرهم عند الظواهر فقط، يعتبرون هذه الذلّة عين العزّة، وهذه الخسارة نصراً وفخراً.
إنّ طلب الرجل الشامي أن تكون بنت الإمام الحسين× ذات الشأن الرفيع جارية له، وإساءات يزيد وابن زياد لأهل البيت^ من المصائب الفادحة والمؤلمة والعصيبة، لكن هل أنّ هذه الإساءات التي تعرّضوا لها أكبر أم الهوان الذي أوجده يزيد لنفسه جرّاء تلك الإساءات، فمن الذي أصبح حقيراً وتعرّض للتوبيخ والملامة في تلك المناظرة؟ وماذا بقي من تلك الإساءة التي تعرّضت لها بنت الحسين× العزيزة المكرّمة، سوى قصّة يعرف بها قوّة ومنطق الحوراء زينب‘ وعلمها، ويُفتضح من خلالها جرائم بني أمية وخبثهم؟
إنّ حمل أهل بيت العصمة والطهارة في الأزقة والأسواق، ومن مدينة إلى أخرى، ومن هذا المجلس إلى ذاك، حينها لمن توجّه توبيخ الناس ونفرتهم؟
هل كان يبكي الناس من أجل أهل البيت^ أم من أجل بني أمية؟ إنّ الظالم والجائر يكون مغلوباً ومنكسراً ومنبوذاً وإن كان منتصراً، والمظلوم منتصراً وإن كان مغلوباً لا سيما إذا كان مظلوماً بجريمة الدفاع عن الحق والخير والمصلحة العامّة.
161ـ يقول في (ص389): إنّ الذين يتصوّرون أنّ الإمام الحسين× قد انتفض من أجل أن يُقتل، وأنّ قتله قد أحيى الإسلام، يتعيّن عليهم الفرح بقتل الإمام وسبي أهل بيته؛ لأنّه طبقاً لتصوّرهم يكون الإمام قد حقق هدفه المنشود. فإذا كان هكذا فلماذا نقرأ في زيارة الإمام: (لعن الله أمَّة سمعت بذلك فرضيت به)؟
إنّ هذه مغالطة أخرى أيضاً من تلك المغالطات الكثيرة التي زخر بها كلامه. وفي الواقع نحن لا نعلم: هل الكاتب قد اختلط عليه الأمر أم أراد طرح هذه الشبهة لتظليل الأفكار؟ من الأفضل أن نحمل ذلك على الصحة ونقول: إنّه قد اشتبه.
ولكي نرفع الاشتباه نقول:
أوّلاً: ما هو مذموم وذنب كبير هنا هو الرضا بالفعل والعمل الصادر من يزيد وابن زياد، وعمّالهما المجرمون، کقتل الإمام وشباب بني هاشم وأصحاب الإمام وسبي أهل بيته والمظالم الأخرى. إذ يجب أن يسخط كل مسلم وكل صاحب ضمير على هذا الفعل ـ قتل الإمام ـ وكل من يرضى بذلك سيشمله هذا اللعن: لعن الله أمَّة سمعت بذلك فرضيت به.
إنّ قتل الإمام قد أفرح يزيد وعبيدالله وآل مروان وآل زياد، كما نقرأ في زيارة عاشوراء: وهذا يوم فرحت به آل زياد وآل مروان بقتلهم الحسين×. ولا شك أنّ ما يقابل سرور أعداء أهل البيت^، حزن شيعتهم ومحبيهم وأسفهم وغمّهم لما ارتكبه بنو أمية من جرائم.
ونجد العكس من ذلك بخصوص برنامج الإمام الإصلاحي، وعدم قبوله البيعة والاستسلام، واختار النهضة والثبات والصمود، وأقدم على نهضة كان يعلم أنّ عاقبتها الشهادة، وضحّى، ورفض اقتراحهم رغم تضييقهم عليه دائرة الظلم والجور، ولم يبع الإسلام برضى يزيد. ولم يرض بنو أمية وازدادوا حنقاً وظلماً، لکن هذه المواقف المتميزة والمنقطعة النظير التي قام بها الإمام أصبحت محل رضى الله ورسوله| والمؤمنين وتقديرهم التام، إذ إن ما اقترحوه على الإمام كان خلاف رضى الله ورسوله| والمؤمنين، «يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».
فأنت لا تميّز بين هاتين الجنبتين، وتحكم على عمل الإمام وفعل أعدائه بنحو واحد.
وثانياً: الرضا المشروط شيء، والرضا المطلق شيء آخر، فإنّ ما كان يرضى به بنو أمية وأتباعهم، ومن يستحقون اللعن والنقمة هو الرضى بقتل الإمام بشكل مطلق، وهذا الموضوع هو ما أفرحهم وأسرّهم. أمّا ما رضي به الإمام وأصحابه وأنصاره من باب الاضطرار فهو الرضا المشروط. فإذا كان فقدان إنسان لشيء عزيز جدّاً يؤدّي إلى حزن وألم يكون مقدّمة ووسيلة لتحقيق هدفه، فإنّه سوف يرجّح التضحية بذلك الشيء بغية الوصول إلى هدفه، ولولا هذه الغاية المتوخاة من تحقيقه لهدفه ما كان ليفرّط فيه أبداً.
لقد ضحّى الإمام بنفسه وأعزّته، وعدّ النهضة والامتناع عن بيعة يزيد، والقتل، والمصائب العظمى کلها وسيلة للحفاظ على الدين ودرء الضربة القاتلة للحكومة اليزيدية عن الإسلام، ورضي مضطراً بالقتل وتحمّل تلك المصائب، وحاز على أعلى مراتب التضحية في سبيل الدفاع عن الهدف والعقيدة، وكل من يسمع بها يصدح صوته بالمدح والثناء والإعظام والتجليل لها.
كما أنّنا إذا تأمّلنا في نفس الموضوع، أي القتل بغض النظر عن اتّصافه بأنّه وسيلة للدفاع عن الدين فإنّه ستغمرنا أجواء المصيبة والعزاء، ولا نرضى بهذا العمل في ذاته، ونقول: يا ليت بني أمية لم يهاجموا الدين؛ لكي لا يضطر الإمام لمواجهتهم وبذل روحه الشريفة الغالية في سبيل ذلك، ويا ليتهم ندموا على فعلتهم عندما أقدموا على محاربة الإمام الذي انتفض مدافعاً عن الدين؛ لكي لا تقع هذه المصيبة العظمى، ولا يتربع هذا الحزن الشديد على قلوب الشيعة ومحبي آل محمّد|.
من هذا المنطلق نبكي ونئن ونتوجّع، ونبدي السخط على بني أمية وعلى الظالمين ونتضجر من أفعالهم، لكن عندما نلحظ أنّ قتل الإمام كان وسيلة لبقاء الإسلام والدفاع عن الدين، نتباهى بذلك ونفتخر بانتسابنا لمثل هذا القائد العظيم المضحّي. وهذا الرضا هو الرضا المشروط والمقيّد بكون قتل الإمام وشهادته الوسيلة الوحيدة لحفظ الدين، والحال أنّ رضا الأعداء هو الرضا المطلق ومن دون ملاحظة هذا الشرط. وبعبارة أخرى: إنّ الرضا المشروط يشبه رضا العبد بالقضاء الإلهي عند وقوع البلاء والمصيبة، ولا يتعارض مع التألّم والبكاء، أي أنّ العبد في عين كونه متأثراً وحزيناً يکون راضياً. تماماً مثل الذي جرى على الإمام حين شهادة ولده علي بن الحسين× فهو في عين رضاه بشهادته وتضحيته في سبيل الدفاع عن الدين، تألّم وبكى من فرط حزنه على فراقه ومصابه به.
قل لنا: هل كان الإمام راضياً بقتله أم لا عندما تهيّأ للقتل، وقال: (لا أجيب ابن زياد إلى ذلك أبداً فهل هو إلّا الموت فمرحباً به)[241]؟ فإن قلت: لم يكن راضياً، تكون بذلك مخالفاً للواقع ولمنطوق الإمام؛ لأنّه لو لم يكن راضياً لاستسلم وبايع. وإن قلت: إنّه كان راضياً؛ حينها كيف تعتبر من رضي بالعمل الذي رضى به الإمام مشمولاً باللعن: (لعن الله أمَّة سمعت بذلك فرضيت به)؟
إنّ رضا الإمام ورضا شيعته ومحبيه هو في مجال الدفاع عن الدين، أمّا رضا الأعداء فهو متعلّق بذات الموضوع، ونفس قتل الإمام، ولا يخلط أحد بين هذين الرضائين.
وثالثاً: إنّ ذلك الشيء الذي يكون سبباً للمباهاة والشعور بالفخر والاعتزاز هو قوّة العقل، فعندما يلاحظ عمل الإمام ونهضته التي ليس لها مثيل وهمّته العالية وتضحيته وشهامته في سبيل الحفاظ على المصالح الكبيرة للمجتمع والدفاع عن الحق، يتعيّن الثناء عليه.
هذا هو الشعور بالفخر وقوّة النفس والرضا بأداء المهمّة الذي يظهر من خلال كلمات أهل البيت^ وخطبهم الجريئة، فقد كانوا يقومون بتوبيخ وتقريع أهل الكوفة وبني أمية بسبب الجريمة التي ارتكبوها، ويعدّونهم مسؤولين أمام الله والرسول|، لكنّهم يرون عمل الإمام مفخرة وطاعة لله وامتثالاً للتكليف الإلهي، كما قالت الصديقة الصغرى عقيلة الهاشميين‘ لابن زياد المتجبر: (ما رأيت إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم)[242]. أمّا ما يبعث على التأثر والبكاء فهو المشاعر والعواطف الإنسانية النقية، من ملاحظة ظلم وجرائم بني أمية للشخصية الوحيدة التي ضحّت بهذا الشكل في سبيل الدين وخير المجتمع وصلاحه، ولم تقصّر في بذل النفس وتعريض أهل بيتها للسبي كل ذلك في سبيل إنقاذ الإسلام، وتثار العواطف الإنسانية الجياشة لدى كل شخص ينطوي في ذاته على أدنى مستوى من الحب للخير والحقانية والفضيلة، ويعيش في غمرة من الأحزان والمصائب.
إنّ من بين الحِكَم التي تفسّر ما جاء في الروايات والأحاديث الشريفة من التشجيع على ذكر مصائب الإمام هي: استثمار هذه العواطف لتجليل فعل الإمام والحفاظ على آثار نهضته ونهج المقاومة الحسينية، وتعريف الناس بهدفه، والتضحية في سبيل الحق والدين والعقيدة.
لا توجد أيّ علاقة وانسجام بين هذه المشاعر ومشاعر بني أمية الخبيثة، وسائر أعداء أهل البيت الذين رضوا وفرحوا بقتل الإمام، مثل أهل الحق وأهل الباطل؛ لأنّ رضي وفرح بني أمية وأتباعهم بقتل الإمام كان من منطلق التشفي وإشباع الشعور بالحقد والحسد والعداوة لأهل بيت الرسالة والدين الإسلامي، ونحن نلعنهم عند قراءتنا لهذه العبارة: (لعن الله أمَّة سمعت بذلك فرضيت به). المقصود معلوم، وأنت أيّ عقيدة تحملها بحيث تجعلك تقوم بهذه المغالطات، الله العالم.
162ـ يقول في (ص389): الحقيقة هي أنّ أتباع سيّد الشهداء× يبكون؛ لأنّهم يرون أنّ الإسلام تلقّى ضربة قوية بقتل زعيم الإسلام العظيم...الخ.
ج ـ الحقيقة هي أنّ الضربة التي وجهها بنو أمية وبالخصوص معاوية ويزيد للإسلام، كانت ضربة قاتلة ومميتة، إلّا أنّ نهضة الإمام وردّة الفعل الناجمة عن مظلوميته وشهادته قد حافظت على الإسلام، وأنقذته من خطر السقوط القطعي.
الحقيقة هي أنّ بني أمية كانوا عازمين منذ البداية على التخلّص من الإمام بأيّ شكل من الأشكال؛ لأنّهم يئسوا من أخذ البيعة ليزيد من الإمام ومحاولة إسكاته عن طريق القوّة والتهديد، فقرروا قطع نبتة الإسلام من جذورها. فهم وإن وجّهوا للإسلام ضربة موجعة بقتلهم الإمام إلّا أنّهم لم يصلوا إلى مبتغاهم؛ لأنّ الإمام قد دفع تلك الضربة القوية والخطرة على الإسلام، ووقاها بنفسه وبأعزّته من خلال تحمّله لتلك المصائب.
الحقيقة هي أنّ بني أمية وإن أرادوا بقتل الإمام الذي كان رجل العدالة وصاحب التقوى والفضيلة ومجسّد الإيمان والحرية أن يقتلوا العدالة والفضيلة والإيمان والحرية، لكنّهم فشلوا بفضل ذلك الزعيم العظيم المضحّي، حيث قد صان العدالة والفضيلة، وأحيي بمظلوميته الإسلام حتّى تبقى تعاليم القرآن وأحكام الدين العادلة ماثلة وخالدة إلى يوم القيامة.
31 ـ قصيدة خالد بن معدان الطائي التابعي
ويُكبرون بأن قُتلت وإنَّما
قتلوا بك التكبير والتهليلا[243]
هذه القصيدة جاءت في مقام بيان عظم جريمة بني أمية وأهمية هذه المصيبة العظمى، أي قتل سيّد شباب أهل الجنة والمجيء برأسه الشريف إلى دمشق. ويعدّ هذا البيت مع ثلاثة أبيات أخرى من أبلغ ما أنشد في ذلك العصر وفي عاصمة يزيد في ذم بني أمية وفضح نواياهم الشريرة، ويدلّ أيضاً على الصدى الشديد لشهادة الإمام ولكراهية الناس من يزيد في مدينة دمشق.
إليك الأبيات الثلاثة الأخرى:
جاؤوا برأسك يا بن بنت محمّد متزملاً بدمائه تزميلاً وكأنَّما بك يا بن بنت محمّد قتلوا جهاراً عامدين رسولاً قتلوك عطشاناً ولم يتدبروا في قتلك القرآن والتنزيلاً |
إنّ الحق والإنصاف هو أنّ هذا الشاعر قد أبدى الفصاحة والبلاغة في شرح مصيبة الإمام وذم بني أمية، في عين مدحه لسيّد الشهداء× بأبلغ بيان. وهذه الأبيات تمثّل الحكم الحقيقي والشعبي لمدينة دمشق عاصمة يزيد حين دخول رأس سيّد الشهداء× والأسرى إلى هذه المدينة. فهي صوت اعتراض الناس، وردّ على كلامك حين قلت: إنّ شهادة الإمام وسبي أهل البيت^ لم تزد في فضيحة آل أبي سفيان، ولم تثر مشاعر أهل الشام. إنّ صدى شهادة سيّد الشهداء× في القلوب كان أعظم مما نتصوّر، وكانت نتائجها وفوائدها كبيرة من كل جانب ومنمية للإسلام.
الفصل الخامس
163ـ تمَّ في هذا الفصل طرح الآثار السلبية للهجمة الوحشية التي نفذتها حكومة يزيد المعادية للإسلام، والآثار القيِّمة لنهضة الإمام الحسين× البطولية، إلّا أنّ ذلك رُتّب بصورة أظهرت النهضة على أنّها لا قيمة لها، بل عُرِّفت بأنّها كانت نهضة ضارة. والجاهلون يظنّون أنّ النتائج والآثار غير المطلوبة للنهضة كانت أكثر وأهم من نتائجها المنشودة، وأنّ المفسدة غير المقصودة المترتبة عنها كانت أكبر من مصلحتها، إذ لو كان الإمام عالماً بتلك الأحداث المستقبلية لبايع في المدينة، وتجنب ما نجم من خسائر. فعدم علم الإمام بتلك الحوادث غير المتوقعة قد أملت عليه رفض البيعة في المدينة؛ لذلك تحرّك نحو العراق، ولمّا حصل له العلم بتلك الحوادث بادر إلى الصلح واقترح الاقتراحات الثلاثة، نائياً بنفسه عن تحمّل مسؤولية الحرب، إلّا أنّ بني أمية وإن تحمّلت مسؤولية الحرب برفضها مقترحات الإمام وكانوا المباشرين لهذه الخسائر، ولكن نهضة الإمام هي التي أعدّت الأرضية لحصول تلك الخسائر وطغيان بني أمية، وإن كان حتّى طبقاً لطرح كاتب الشهيد الخالد بل طبقاً لآراء بعض أهل السنّة الذين كان هذا الكاتب في صدد الردّ عليهم كان الإمام معذوراً، ولا يرد عليه أيّ اعتراض أو إشكال، ولكن في الجملة ضرر هذه النهضة بناءً على هذا الطرح أكثر من نفعه.
رغم أنّ جواب هذه الشبهة ـ التي هي نتيجة للطرح الباطل لكتاب الشهيد الخالد والإهانة لنهضة الإمام المقدّسة ـ يُعلم من خلال ملاحظة الأبحاث والمباني المحكمة والرصينة التي تطرّقنا إليها مراراً، إلّا أنّنا سنشير هنا إلى جوابها أيضاً.
1ـ كما ذكرنا مراراً أنّه لم يقع أيّ أمر غير متوقع بحيث يكون مؤثراً على تغيّر الأوضاع وتبدّلها.
2ـ كان الإمام يتوقع الأحداث، ويعلم بالهجمة الوحشية للحكومة وعدم إمكانية تأسيس الحكومة، وأخبر مراراً بمقتله وأنّهم لن يَدَعوه حتّى يسفكوا دمه.
3ـ يجب الالتفات إلى أنّ الهجمة الوحشية لحكومة يزيد المعادية للإسلام على سبط النبي| قد بدأت مع بداية حكومته، فوفقاً لنقل اليعقوبي كان أوّل إجراء مهم له هو الأمر بقتل الإمام، وهذه الهجمة وإن كانت مشروطة في الظاهر بامتناع الإمام عن البيعة، إلّا أنّ تاريخ بني أمية وتجاربهم المتكررة وقساوتهم وجرائمهم ـ وبالخصوص يزيد ـ تدل على أنّ تلك الهجمة متحققة سواء نهض الإمام أو سكت وصار جليس بيته، باعتبار عدم إمكان دفع تلك الهجمة دون وجود قوّة عسكرية كافية والتي لم تتوفر.
إنّ البيعة والاستسلام وتأييد حكومة يزيد كانت هي الوسيلة الوحيدة بيد الإمام لدرء هذا الخطر وبشكل مؤقت أيضاً، بيد أنّها لم تكن أبداً لتدرء الخطر بشكل تام، أو لتوفر الأمن على حياة الإمام. أضف إلى ذلك لو كان الإمام يريد درء الخطر عن نفسه بهذه الطريقة، فإن ذلك يعني استعداده لقبول تلك الآثار السلبية والخسائر التي كانت ستترتب على طاعته ليزيد ومبايعته له، والتي إذا ما قيست إلى الآثار السلبية للقتل حال الامتناع عن البيعة فستكون أكثر بدرجات، وبذلك سيكون الإمام قد غض الطرف عن الآثار الإيجابية والخالدة للشهادة والمنمية للإسلام، وأيّد مخططات يزيد الخائنة للدين الإسلامي، وبحسب الاصطلاح دفع الفاسد بالأفسد، إلّا أنّ شأن الإمام أجل عن مثل هذا العمل ومبرّأ عن هذه الخيانة، إذ ما كان الإمام ليخضع ويقف هذا الموقف حتّى لو فرضنا أنّ هذه المصائب كانت ستصبّ عليه آلاف المرّات.[244]
4ـ كان السبب في بعض هذه الآثار السلبية هو قيادة عنصر معاد للإسلام تجسّد فيه الشر والخيانة، أي يزيد، وعزل شخصية بارزة تعدّ الشخصية الوحيدة اللائقة في العالم، أي الإمام الحسين×. فلو فرضنا محالاً أنّ الإمام بايع ولم يُقتل، فإنّ تلك الآثار السلبية والخسائر مضافاً إلى أنّها لا تدفع بل ستزداد.
وبعبارة أخرى: إنّ السبب الرئيس لتلك الأضرار هي حكومة يزيد، ونهضة الإمام قد قلّصت من آثارها السلبية، وسلبتها قدرتها في التصدّي للإسلام. هكذا آثار لابد أن توضع في مصاف علل وأسباب النهضة، حيث إنّ الإمام قد حاربها بثورته وشهادته.
إنّك تربط هذه الآثار التي خلفتها طبيعة حكومة يزيد والتي عنونتها بالآثار السلبية للعدوان الوحشي بنهضة الإمام، وفي هذا القسم تصوّر مشهداً للمقارنة بين هذه الآثار وبين آثار النهضة، وتخرج بنتيجة هي أنّ الإمام لو كان يتوقع ما سيحدث لبايع منذ البداية، ولحال دون وقوع تلك الحادثة المروّعة بما تشتمل عليه من الآثار المهولة. مع أنّ جميع تلك الخسائر ما عدا المصائب التي لحقت بالإمام وأهل بيته لم تكن لتدرء بالبيعة والتسليم والمصالحة مع يزيد؛ لأنّ الإمام بالبيعة ليزيد لن يستطيع أن يقود الإنسانية نحو الرقي والتكامل، ويصبح ملجأ للمظلومين وأملاً لهم، أو الوقوف بوجه انتشار ظلم بني أميّة، ولما كان في حال بيعته وتأييده لحكومة يزيد تأثير وقيمة لشخصيته الإسلامية وقيادته الدينية، ولزالت أرضية النهضة في فرص أخرى أيضاً.
لو فرضنا أنّنا أردنا أن نقارن كافة الآثار السلبية لتلك الواقعة المروّعة في حياة الإمام، مع الآثار الإيجابية لنهضته، وأن نُعطي رأياً حول حركة الإمام وفاجعة كربلاء باعتبار الضرر والمنفعة والخسارة والربح التي لحقت الإسلام والمجتمع المسلم، لوجدنا أنّ الآثار الإيجابية للشهادة التي أنقذت الإسلام، والتي كان الإمام على علم بحصولها وأبى دفعها بالبيعة والتسليم، هي أكثر بدرجات من تلك الآثار السلبية. فلو أنّ الكاتب وقف على أنّ هدف الإمام وهو إنقاذ الإسلام قد تحقق من خلال ما خطط له، وأنّ نهضته قد تمَّت لصالح الإسلام، لصدّق بأنّ هناك ضرورة ملحّة لتحمّل آثارها السلبية، إذ لا يعقل أبداً أن تترك شخصية كالإمام ـ المسؤول عن حفظ الإسلام وصيانته ـ الإسلام يواجه تلك التهديدات والمخاطر دون الدفاع عنه. فالإمام كان متأكّداً بأنّ خطّته ستنقذ الإسلام، وأنّ كل ما يضحّي به في هذا السبيل فإنّ الله تعالى سيعوّضه، وسيكون وسيلة لرفع درجته في الدنيا والآخرة. الآن وبعد كل هذه التوضيحات سنعرض الآثار السلبية لتلك الواقعة وفقاً لما دوّنه الكاتب، ومن ثمّ نناقشها.
164ـ في (ص393) اعتبر أنّ أوّل أثر لذلك العدوان الوحشي هو قتل الإمام والمصائب المؤلمة الأخرى التي تعدّ خسارة لا تعوَّض.
لا شك أنّ هذه الخسارة لا تعوّض واستثنائية ولا نظير لها، إلّا أنّ هذه الخسارة، أي قتل الإمام والأصحاب وسبي أهل البيت لم يكن أثر تلك الواقعة بل عين ذلك العمل المروّع والجريمة التي ليس لها نظير من قبل الحكومة. ومهما كانت هذه الفاجعة عظيمة وعظيمة جدّاً متجاوزة في همجيتها كل الحدود، إلّا أنّ الخسارة المترتبة على البيعة، والتسليم لإرادة يزيد وابن زياد، وإضلال المسلمين، وتأييد تلك الخلافة المناوئة للإسلام؛ لهي بنظر الإمام وكل شخص باحث في التاريخ أكبر وأعظم؛ لذلك لما دار الأمر بين هاتين الخسارتين، تحمّل الإمام المصائب التي جرت عليه وعلى أتباعه بشكل مباشر، ولم يدفع عنه تلك المصائب ـ التي كان السبب فيها والمسؤول عنها حكومة عصره ـ بمفسدة البيعة والتسليم التي كان السبب والمباشر فيها في حال وقوعها هو الإمام.
لقد كان قتل الإمام ضربة موجعة للقيادة الإسلامية، لكن الضربة الأكبر والأخطر لنظام الحكومة الإسلامية كان تقديم يزيد نفسه على أنّه قائد ديني وسياسي للعالم الإسلامي وولي الأمر الشرعي، وصاحب منصب الإمامة دون أن يعترض أحد عليه أو يصدح ببطلان وعدم مشروعية حكومته، وكافة الرجال والشخصيات المهمّة وبالخصوص سبط النبي’ يخاطبوه بأمير المؤمنين.
165ـ في (ص393) اعتبر ثاني أثر لذلك العدوان الوحشي ذلّة الناس؛ لأنّ متكأ آمالهم وأمانيهم قتل بسيف الاستبداد، وأصبحوا مشرّدين وانهارت معنوياتهم، فصاروا أذلّ وأحقر مقابل حكومة يزيد...
كما ذكرنا في هذا المشهد الذي عرضه الكاتب أمام أعين القارئ تحت عنوان الآثار السلبية للعدوان الوحشي، إن لم نصرّح إلّا أنّه من خلال التلويح يبدو كالآتي:
إنّ نهضة الإمام لعدم علمه بتلك الحوادث غير المتوقعة قد واجهت الفشل دون أن يترتب عليها نفع للإسلام، وأدَّت إلى الكشف عن قساوة بني أمية، وكانت سبباً فيما خلَّفته هذه الفاجعة من آثار سلبية. وعليه يتأيّد منطق عبدالله بن مطيع الذي لم يكن مطلعاً على رأي الإمام السديد، إذ لو لم يُقتل الإمام لما حدثت تلك الخسائر ولما أصبح الناس أذلّاء.
1ـ إنّ الناس الذين قتلوا الإمام، ولم ينصروه، ولم يلبوا نداء إمام زمانهم، وتعاضدوا على قتله، وأرسلوا الدعوات لذاك الزعيم العظيم الأوحد، وقطعوا عليه وعلى أعزّائه الماء بدل أن يستضيفوهم، ونكثوا البيعة، أصبحوا بعد قتل الإمام ـ كما أخبر هو مراراً ـ أذلّاء ومخذولين، ومن جملة ما قاله: «أيم الله إنِّي لأرجو أن يُكرمني الله بهوانكم ثمَّ ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون»[245]. فكانت هذه الذلّة والحقارة الأثر الإيجابي الناجم عن قتل الإمام وشهادته، لا أنّها أثر سلبي؛ لأنّ المهاجمين والناكثين للبيعة ومن باشروا الجريمة أصبحوا أذلّاء، وفقدوا كل ما لديهم تحت أقدام استبداد بني أمية، وكما قال لهم زيد بن أرقم: «أنتم معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمَّرتم ابن مرجانة»[246]، فهم جعلوا من أنفسهم عبيداً، وهذا ما ينبغي أن يكون؛ وقد استجاب الله تعالى دعاء الإمام عليهم.
2ـ هؤلاء الناس الذين تقول عنهم أنّ آمالهم وأمانيهم مرتكزة على وجود الإمام إن كنت تقصد أنصاره، فإنّهم استشهدوا بعزّة وفخر، وإن كنت تقصد مَن أطلق الكلام جزافاً ولاكوا تلك الأكاذيب، ومن ثمّ شهروا السيف على الإمام، فلا قيمة لأملهم حتّى يبقى أو لا يبقى، بل يتعيّن وفقاً لسنّة الله تحقق هذا الامتحان؛ لكي تمتاز هاتان الطائفتان عن بعضهما.
3ـ لم يصبح الشيعة ومحبو أهل البيت^ الحقيقين أذلّاء ومخذولين بعد واقعة كربلاء، بل ترسّخت واشتدّت شجاعتهم وشهامتهم وإرادتهم، وزال من قلوبهم خوف الموت، وازداد ثباتهم وصمودهم، فلربما لم يشارك البعض في واقعة كربلاء لنصرة الحق، لكنّهم أصبحوا أكثر شجاعة وقوّة وتصميماً في رفضهم لبني أمية بعد تلك الحادثة، وزالت نقاط ضعفهم المعنوية، إذ زادت شهادة الإمام ومقاومته في همّتهم، وجعلت أهل الحق أعزّاء ومحبوبين.
4ـ لو قلنا ـ على سبيل الفرض ـ: إنّ أهل الحق قد أصبحوا بعد التعدّي على حياة الإمام أذلّاء ومخذولين، إلّا أنّ ما كانوا سيلقونه من ذلّة وخذلان ويأس وقنوط في حالة استسلام الإمام والبيعة ليزيد لهو أكثر بمراتب، إذن لا ينبغي ربط ذلك بنهضة الإمام.
5ـ إنّ الذلّة التي أصابت الناس هي نتيجة لأفعالهم؛ كونهم لم يلبوا دعوة الإمام، وارتكبوا تلك الجرائم الفادحة بدعم من الحكومة الدكتاتورية والمناوئة للإسلام، فسلّطوا يزيد وجهازه على رقابهم، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبحوا مصداقاً للرواية: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم، وتدعوا خياركم فلا يستجاب لهم...).[247] فكانت تلك الذلة حصيلة تركهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن النظام الظالم المخالف لأحكام الدين.
6ـ كان رأي عبدالله بن مطيع واقتراحه هو أن يمتنع الإمام عن النهضة ولا يعارض بني أمية؛ لكي تُدفع تلك النتائج السلبية المترتبة على عدوانهم الوحشي، ولا تُهتك حرمة الإسلام، ولا يصبح الناس أذلّاء فيتخذهم بنو أميَّة عبيداً لهم.
إنّ هذا المنطق لم يكن صحيحاً؛ لأنّ التعاون مع بني أمية كان هو السبب وراء استرقاق واستعباد الناس وهتك حرمة الإسلام، فلم يعر الناس اهتماماً لتدنيس منصب الخلافة الإسلامية من قبل شخص قبيح ومعروف بفساده الأخلاقي كيزيد، وامتنعوا عن نصرة الإمام.
نقول لعبدالله بن مطيع: إذا كنتم تريدون أن لا يكون نير عبودية بني أمية في عنقكم فلماذا لم تنصروا الإمام؟ ولماذا لم تنتزعوا من أعناقكم نير المذلّة والأسر؟ كنتم تريدون العيش في مذلّة الحكومة اليزيدية، وأن لا تظهروا شهامة وتضحية، فأردتم جعل الإمام شريكاً وقريناً لكم في تلك الذلّة والعبودية.
كلا، يا عبدالله بن مطيع، كان عليكم بدل أن تقوموا بمنع الإمام عن أداء مهمّته، أن تحرّكوا أنفسكم وتتقدّموا خطوة ولا تخافوا من الموت وزوال الدنيا وسيوف جنود بني أمية؛ لكي لا تذلّوا.
يا عبدالله بن مطيع، لو أنّ الإمام بايع ولم يعلن معارضته لأصبح الإسلام ذليلاً والدين مهاناً، ولو أنّه بايع لما صار هو ولا أنتم أعزّاء، ولما بقي الإسلام مصاناً من تعدّي بني أمية. فالإمام دفع عن نفسه لباس الذلّة، بينما اختار من لم يكن معه ثوب المذلّة والهوان.
يا عبدالله بن مطيع، أنت أصبحت أخيراً في صف المعارضين لحكومة يزيد، والتحقت بأولئك الذين قالوا نحن لم ننهض ضدّ يزيد؛ لأنّنا خشينا أن تسقط علينا حجارة من السماء، وصرت مثل عبدالله بن حنظلة من قادة ثورة الحرّة، إلّا أنّ عبدالله وأبناءه أبدوا ثباتاً وشجاعة، وقتلوا، وأنت لذت بالفرار والتحقت بابن الزبير. إذن اتّضح بأنّ الإمام عمل بواجبه، والأشخاص الذين تخاذلوا دون إذن الإمام في ذلك الوضع الحرج والتمسوا الأعذار، أو اكتفوا بمعارضتهم السلبية فقط، أذلّوا أنفسهم وأذلّوا المسلمين معهم.
7ـ أمّا كلام أبي إسحاق فهو توبيخ للناس لأنّهم لم ينصروا الحق، ولم ينكروا المنكر، فأصبحوا أذلّاء، وبقية كلامه شاهد على هذا المعنى، ولكنّك نقلت صدر كلامه ولم تنقل عجزه. طبقاً لنقل الصدوق (رحمة الله تعالى عليه)، الذي روى عنه صاحب البحار أيضاً، عندما سئل أبو إسحاق، متى أصبح الناس أذلّاء؟ أجاب قائلاً: حين قتل الحسين بن علي÷، وادّعى زياد، وقتل حجر بن عدي.[248]
عندما يجعل الناس يد الحكومة مبسوطة في قتل شخصية كالحسين×، وفرد بارز من شيعة أهل البيت كحجر بن عدي، بل ويدافعون عن الحكومة، ويباشرون تلك الجرائم بأنفسهم، ويشهدون في حق حجر زوراً،[249] ويلتزمون الصمت عند تغيير حكم الله، سيصبحون أذلّاء، أو سيكون مصير شخصياتهم الدينية والوطنية السجن أو النفي أو القتل.
8ـ أمّا حديث الإمام الثامن×: (إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء)[250].
مع أنّ موضوع هذا الكلام ليس له علاقة بمسألة ذلّة الناس، ولم يظهر الإمام الرضا× في هذا الكلام التأثر والشكوى، إلّا أنّ الكاتب ترجم كلمة (عزيزنا) التي يراد منها الإمام بالأعزّة، وتصوّر أنّ المقصود من هؤلاء الأعزّة هم المسلمون الذين بقوا بعد شهادة الإمام. على أيّ حال، إنّ ما يقصده الإمام الرضا× بحسب الظاهر هو أنّ شدّة تجاسر بني أمية ووقاحتهم وصل في يوم عاشوراء إلى درجة التجاوز والاعتداء على مكانة سبط النبي| السامية ومنزلته الرفيعة، وجعل المقام الذي لا ينبغي أن تطاله يد القوّة والغلبة مغلوباً لظلمهم وجورهم. نعم، لقد ارتكب بنو أمية مثل هذه الجريمة التي ليس لها مثيل، واستخفوا بالمقام الذي كان من الواجب الحفاظ عليه شرعاً وأخلاقاً وأساؤوا إليه، وكشفوا عن حقيقتهم، إلّا أنّ هذا العمل كانت نتيجته العزّة الخالدة للإمام. والإمام الرضا× عندما يقول: أذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، فمن الواضح ليس المقصود منه أنّهم سلبوا العزّة من الإمام الحسين× إلى الأبد (العياذ بالله)، بل كان بياناً لتلك الحالة وذلك الوضع، إذ بعد ذلك قد زادت عزّة الإمام وأهل بيته وأصبحوا محبوبين أكثر في العالم، رغم كل تلك المخططات التي قام بها بنو أمية وبذلهم قصارى جهودهم لتوفير وسائل الطعن بأهل البيت^ والاستخفاف بهم في أعين السذج البسطاء، وعليه فمن المؤكّد أنّه لو بايع الإمام فإنّه لم يكن ليحض هو ولا أهل بيته بهذه العزّة والمحبّة.
166ـ كتب في (ص394): الآن وبعد أن قُضي بسيف الاستبداد على أمل الناس وأمنيتهم، وضرّج هذا الزعيم العظيم بدمائه على أيدي عمال دولة البطش والظلم، هل يبقي للمظلومين ملجأ يلجأون إليه؟ وهل يبقى ذرّة أمل للأحرار الذين أرهقهم سياط الدكتاتورية وبلغ منهم الضيق كل مبلغ؟ وهل يبقى هناك وسيلة أخرى تلجم طغيان حكومة بني أمية الجائرة؟ بالطبع، لا.
يا للعجب: إنّ هذا المنطق لا ينسجم مع منطق الشيعة، هل نسيت أنّ الإمام زين العابدين× هو الإمام بعد أبيه وحجّة الله وعماد الآمال والأماني وملجأ المظلومين، وصاحب جميع مناصب أبيه؟! أوَلا تعلم بوجود حجّة وولي لله في كل عصر وزمان من أجل كبح جماح الحكومات الظالمة، والحجة تامّة على الخلق؟! أوَما سمعت بمقولة المحقق الطوسي: (وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا)؟!
إذن لماذا تقول: إنّ الناس يرون أنفسهم بلا ملجأ، إنّك لو أمعنت النظر في هذا الكتاب إلى مبحث السنن الإلهية المتعلّقة ببعثة الأنبياء^ ونصب الأئمة^، والوظائف المعيّنة لهم، لما ابتليت بهذه الانحرافات التي هي ـ إن شاء الله ـ في عداد زلّات القلم والغفلة، ولما اضطررت لطرق هذا الباب وذاك. أمَا قرأت في نهج البلاغة: (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً؛ لئلا تبطل حجج الله وبيّناته).[251] عفا الله عنّا وعن زلّات أقلامنا بفضله ورحمته.
9ـ الثلمة التي ثلمت في الإسلام
167ـ من المؤكّد أنّ قتل الإمام كان ثلمة في الإسلام؛ لأنّ الإمام هو مصدر تحقق أهداف الإسلام، وفي وجوده ملاذ للمجتمع، وشمس هدايته تزيل ظلمات الكفر والجهل والفساد؛ لذلك يكون قتله ضربة للإسلام ولأهدافه. وعندما ندقق في تاريخ ذلك العصر وأوضاع المسلمين وأحوالهم الاجتماعية والدينية، نشاهد أنّ الضربة للإسلام كان يمكن وقوعها على صورتين:
الأولى: بالتعدّي على حياة الإمام وقتله. إذ من الواضح أنّ حياة الإمام وبسط يده ونفوذ كلمته وتصرّفه في رتق الأمور وفتقها هو السبيل الوحيد لتحقيق أهداف الإسلام، وأكثر العوامل تأثيراً على تقدّم المجتمع والرقي به إلى كماله الحقيقي في الطريق الأصيل للدين. إنّ سبب إرجاع رسول الله| الأمّة إلى رجال الدين، أي الأئمة الأثني عشر^ في أحاديث الثقلين المشهورة والمتواترة وأحاديث السفينة وأحاديث الأمان،[252] وفي غيرها من الروايات؛ هو كونهم كانوا ولا زالوا خلفاء النبي| وحرّاس شريعته؛ لهذا يعدّ قتل الإمام قضاء على مصدر هذه البركات العظيمة ورزية من أعظم الرزايا التي ألمت بالمسلمين، كما قال سيّد الساجدين×: (إنّ الله وله الحمد، ابتلانا بمصيبة جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة...الخ.[253] فثلم في الإسلام ثلمة عظيمة، والآثار السلبية للتعدّي على حياة الإمام فاقت التصوّر، إلّا أنّ الأمر ليس بهذه الصورة بحيث تخلو الأرض وتبطل حجة الله (العياذ بالله). فبعد رحلة وشهادة أيّ إمام يكون الإمام الذي يليه ولي الأمر وصاحب منصب الخلافة، فكان المتصدّي لهذا المنصب ومصدر تلك الخيرات والبركات بعد سيّد الشهداء× هو الإمام زين العابدين×.
الثانية: بتسليم الإمام الحسين× (العياذ بالله) ليزيد ومبايعته، ومضافاً إلى أنّه لم يكن مبسوط اليد ولم يجر أحكام الإسلام يُأيّد أساليب يزيد المعادية للإسلام، ويُعطي المسوّغات للناس لطيّ طريق الضلالة، فيُقرأ بذلك السلام على الإسلام، وتلحق به صدمة أشدّ من صدمة قتل الإمام.
من المسلّم أنّه لو لحقت هذه الصدمة بالإسلام لما أمكن تلافيها، ولما قام شيء مقامه، مع أنّ ما لحق بالإسلام بقتل الإمام، وما ظهر من الصدع في أركان الدين لم يطح بالإسلام لوجود الإمام اللاحق وقيامه مقام الإمام السابق، والإمام اللاحق يصير سنداً وظهيراً للإسلام.
وكما يظهر من التاريخ أنّ الإسلام قد واجه إحدى هاتين الصدمتين، ولا مفرّ من وقوع إحداهما بواسطة ظلم بني أمية واستلام يزيد للسلطة.
لقد رأى الإمام مدى خطورة الصدمة الثانية، مضافاً إلى أنّه يكون هو السبب في وقوعها، وحينها لا يمكن أن تتلافى بحياته ولا بحياة الإمام الذي بعده، فعليه أن يختار أقل الضررين، ويجعل حياته فداء للإسلام؛ لذلك نهض، ورفع صوته معارضاً، وأوصله إلى أسماع العالم الإسلامي، ولفت أنظار المسلمين بنهضته وحركته العظيمة، وأسقط المسؤولية عنه وعن أهل بيت النبي|، ومنع بقدر الإمكان من الآثار السلبية لتلك الصدمة التي لحقت الإسلام بقتله، محوّلاً إيّاها إلى مادّة لإحياء الدين وإظهار بطلان حكومة أعداء الإسلام، وفضح نواياهم الشريرة، مع أنّه لو كانت الصدمة على النحو الثاني لما بقيت أيّة وسيلة دفاعية. مضافاً إلى ذلك ـ وكما أوضحنا مراراً ـ فإنّ الصدمة إذا كانت على النحو الثاني ستلحقها تبعاً الصدمة بقتل الإمام، كون بني أمية لن يهدأ لهم بال حتّى يقتلوا الإمام، حينها سيُحرم الإسلام من مصلحة وجود الإمام ومن مصلحة النهضة معاً. وعلى أيّ حال كان يريد الإمام مقامه وشخصيته لرفعة الإسلام وتقدّمه، وكان يرى أنّ تحقق ذلك مرهون بعدم مبايعته ليزيد، والتضحية ـ عند اللزوم ـ في سبيل الإسلام بروحه الزكية المفعمة بالخير والبركة.
إنّ من لم يناصر الإمام ولم ينصره، وفضّل يزيد علىه، وقتلوه، هم من ألحق بالإسلام تلك الخسارة، وأمّا الإمام الذي لم يترك الميدان، وصمد واستقام أمام كل تلك الأخطار، ونصر دين الله بشهامة، فقد دفع الصدمات التي وجّهت إلى الإسلام، وباستقامته وكرامة نفسه كشف القناع عن النوايا السيّئة والمشوبة بالخيانة لبني أمية ويزيد، وأظهر أنّ بني أمية بقتلهم الإمام يرومون قتل الإسلام وقتل القرآن وقتل النبي؛ لذلك انتشرت أصداء أهمية قتل الإمام في العالم الإسلامي، وأوحشت الجميع، وأغمرتهم في المصيبة، وردود الأفعال التي ظهرت أنقذت الإسلام.
بناء على ذلك، لا ينبغي عند عرض نتائج الصدمة التي تلقاها الإسلام في الصورة الأولى، عدم الإتيان على بيان النتائج والخسائر التي يتلقاها الإسلام نتيجة الصدمة في الصورة الثانية، والغفلة عن دوران الأمر بين هذين المحذورين، حتّى يوحي ذلك بأنّ ترك النهضة كان أفضل من فعلها.
168ـ ذكر رابع أثر من الآثار السلبية للعدوان الوحشي، تحت عنوان (وصمة عار) من (ص398 إلى ص401).
إنّ وصمة العار التي قبلت بها قد تربعت على جبين حكومة يزيد، وصار مكروهاً أكثر من ذي قبل، وأثارت غضب وكراهية عامّة الناس، وجعلت حكومته على حافة الهاوية، وعليه يكون ذلك من الآثار الإيجابية لنهضة الإمام وردّة فعل على قتله.
فإن كان قصدك من الآثار السلبية الآثار التي لم تُطلب ولم تُقصد؛ فهذا هو الأثر السلبي لبني أمية وقتلة الإمام، لكنّه كان مراداً للإمام. وإن كان قصدك من الآثار السلبية الآثار المضرّة والسيئة، فهذا الأثر لم يكن مضرّاً، بل كان مثمراً ومتناسباً مع هدف الإمام.
يجدر الإشارة إلى أنّ هذا الفصل يعتبر جواباً للكلام الذي دوّنته في (ص379 وص380)، وأنكرت فيه أثر شهادة الإمام في فضحها ليزيد ومعاوية.
11 ـ الآثار المثمرة، محبوبية الإمام×
169ـ شرع من (ص401) بالآثار المثمرة لنهضة الإمام، وفي البداية تطرّق لمحبوبية الإمام.
ما دوّنه صحيح، إلّا أنّ ما ذكره بخصوص هذه المحبوبية، في كونها من الآثار القهرية والطبيعية لمجاهدة الإمام البطولية وأنّها لم تكن من أهدافه يحتاج إلى شرح وتوضيح؛ لأنّ المؤلف درس الموضوع من الناحية الشخصية والخاصّة، ولم يلحظه من الناحية العامّة والمصلحة الشاملة والإسلامية.
لذلك نقول: إذا كان المقصود هو أنّ الإمام لم ينهض للمحبوبية الشخصية، فهذا صحيح، فالإمام لم يهدف لمثل هذا، بل شأنه أسمى وأرفع من ذلك. لكن إذا كان الغرض هو محبوبية الدين ومحبوبية أهل بيت الرسالة الذين هم معدن هداية المجتمع، وتضعيف الحكومة، وعزّة أهل البيت^ وانجذاب القلوب لهم، فلِمَ لا يكون هدفاً؟ وكيف عرفت أنّ محبوبية أهل البيت^ التي تعني إحياء الدين وهداية المجتمع وخير دنيا الناس وآخرتهم، لم تكن هدفاً للإمام؟ ما المانع في أن يكون الإمام قد نهض بالالتفات إلى هاتين السنّتين الطبيعيتين، وثار من أجل حصول هذه المحبوبية مع ملاحظة أنّ الامتناع عن البيعة وعدم الاستسلام والثبات سيؤول إلى الشهادة، والشهادة أيضاً لها هذا الأثر المثمر؟
إنّ جميع هذه الثمرات ـ سواء كانت قهرية أم لا ـ تحتسب من أهداف الإمام؛ لأنّه كان عالماً بترتّبها على نهضته وحركته، والإمام بالالتفات إلى حصول هذه الثمرات وبقصد هذه الفوائد نهض وضحّى بنفسه وتحمّل تلك المصائب المؤلمة.
170ـ من باب أنّه يجب ترشّح نفس المفهوم الذي يتبادر إلى ذهن كل شيعي من قلم هذا الكاتب أيضاً، له في (ص401 وص402) عبارات لا تنسجم إلّا مع علم الإمام ومعرفته بنهاية النهضة والهدف واختيار الشهادة، ويبعد مع ما تبناه في كتابه بعد السماء عن الأرض، وهي: «أرفع نموذج للفتوّة والشهامة والتضحية في سبيل الحقيقة، تضرّج بالدماء لنصرة الإسلام، قُتل بسيف الاستبداد أمام أعين أهل بيته دفاعاً عن القرآن، وتضحية سبط النبي’ حباً لله ودفاعاً عن الإنسانية وحقوق الإنسان».
إنّ هذه العبارات هي وصف حقيقي لشخصية لائقة وصادقة قد ضحّت بنفسها في سبيل الدفاع عن الحقيقة والإسلام والقرآن وحقوق الإنسان. أمّا تلك النهضة الوضيعة الفاشلة التي تعرّفها لا تنطبق عليها كل هذه العناوين والألقاب. هذه الشخصية ليست تلك الشخصية التي تقول عنها بأنّها نهضت لتأسيس الحكومة، وعندما أصابها اليأس اقترحت البيعة والصلح، وفي النهاية قُتلت لكي لا تستسلم لابن زياد. تلك الشخصية التي تعرّفها لم تُرد الفداء والتضحية المقترنة بالحب، ولم تقتل دفاعاً عن القرآن وحقوق الإنسان.
أمّا الشخصية التي هذه الأوصاف والكمالات والفضائل هي جزء من سماء مجدها وفضيلتها وعلو همّتها فهي الحسين بن علي×، شهيد طريق الفضيلة والإسلام، ومجاهد آل محمّد|، وسيّد الشهداء، الذي تقدّم إلى مذبحه (كربلاء) بحب، واستشهد عند امتناعه عن بيعة يزيد ثائراً على الباطل والعدوان، ومدافعاً عن القرآن وأحكام الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحمّل كل تلك المصائب المؤلمة، ولم تصر البيعة مع يزيد في ذهنه مألوفة أبداً.
فهو السيّد الذي استقبل الشهادة بعزم، وهو يقرأ هذه الأبيات:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلماً وآسى الرجال الصالحين بنفسه وخالف مثبوراً وفارق مجرماً |
فهو القائد العظيم الذي يُعرِّف نفسه فيقول:
أنا ابن علي الحبر من آل هاشم كفاني بهذا مفخراً حين أفخر وجدّي رسول الله أكرم من مضـى ونحن سراج الله في الخلق نزهر وفاطم أمّي من سلالة أحمد وعمّي يُدعى ذو الجناحين جعفر وفينا كتاب الله أنزل صادقاً وفينا الهدى والوحي بالخير يُذكر ونحن أمان الله للناس كلُّهم نُسِـر بهذا في الأنام ونجهر ونحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا بكأسِ رسول الله ما ليس يُنكر وشيعتنا في الناس أكرم شيعة ومبغضنا يوم القيامة يخسـر |
فالشخصية التي تُعرِّف نفسها في هذه الأبيات أجلّ وأكرم من أن تقترح البيعة والتسليم ليزيد.
171ـ إنّ الدروس المستلهمة من نهضة الإمام التضحوية والحافظة للإسلام هي دروس سامية وفريدة، وذات قيمة وأهمية عالية، وبالغة التأثير والفائدة في كمال النفوس وتهذيب الأخلاق، وتقويم الصفات الإنسانية المتميزة وتقويتها، وتربية المجتمع، وهدايته إلى الأفكار التوحيدية والتحررية، وتنشئة المضحّين والأشاوس ورجال الإصلاح والقادة المجاهدين طلباً للحق وتشجيعهم على ذلك.
إنّ درس الإيمان والصبر والثبات وقوّة القلب وعلو الهمّة والشهامة والتضحية والفداء والدفاع عن الحق والمقاومة ضدّ الظلم والاستبداد وقوّة الإرادة وعزّة النفس والدفاع عن الدين والعقيدة والحرية وغيرها من الفضائل الأخرى يعدّ درساً قيّماً وثميناً خلّفه الإمام للمجتمعات في العالم الإسلامي.
لقد أشار كتاب الشهيد الخالد من (ص403 إلى ص405) إلى دروس الثورة العملية ضمن الآثار المثمرة لنهضة الإمام، ولكونه رأى نهضته في هذا الطرح دون شأنه، قام بشرح الدروس العملية للمراحل الأربع من النهضة.
الظاهر أنّ الغاية من تدوين الكاتب لهذه النتائج المثمرة هي بقاء ماهية وباطن نظرته ورأيه الصريح في هذه النهضة مبهماً ومستوراً؛ كي لا يعترض عليه أحد فيما ذهب إليه من أنّ نهضة الامام قد جلبت آثاراً سلبية ومضرّة جدّاً نتيجة العدوان الوحشي للحكومة، فضلاً عن كونها لم تكن مفيدة للإسلام، فإذا لم يكن للأثر الطبيعي والقهري ثمرة فلم يُجلب للإسلام سوى الخسارة، وبناء على هذا تصبح نتيجة النهضة بلحاظ تحقق الأهداف مساوية للعدم، وهكذا ستكون من حيث الآثار القهرية والطبيعية المفيدة مساوية للعدم، أمّا بلحاظ جلب الخسارة والضرر فلها كل هذه الآثار المروّعة.
وهذا مطلب لا يرتضيه أحد، وينكره التاريخ، وتثبت خلافه الحوادث التي وقعت بعد شهادة الإمام، ويبطله كل ما نراه عياناً من آثار ونتائج اختيارية ـ أو بحسب قوله قهرية ـ في الخارج، وعليه يكون إنكار الآثار العظيمة لنهضة الإمام بمثابة إنكار نور الشمس. أضف إلى ذلك فإنّ كاتب الشهيد الخالد طرح الآثار الإيجابية لنهضة الإمام المظلوم؛ لأنّه لا يريد أن يظهرها على أنّها تافهة إلى هذا الحد، والحال أنّ الآثار التي ذكرها وللأسف ليس لها أهمية مقابل تلك الآثار السلبية التي شرحها. وطبقاً لطرحه قام هنا أيضاً بشرح الدروس العملية لنهضة الإمام ولكن هذه الدروس لا تتناسب مع عظمة النهضة وفاقدة للقيمة العالية. وإليك دراسة دروس المراحل الأربع طبقاً لطرح كتاب الشهيد الخالد:
درس الفقرة ألف: ما ذكره في هذه الفقرة من أنّه يجب مواجهة عبدة الدنيا الذين يريدون فرض حكومة غير قانونية، وينبغي تقييم الأوضاع السياسية والقوى الوطنية بغية الشروع بالعمل فيما إذا كانت هناك إمكانية للمواجهة. وهذا لا يعتبر درساً مهمّاً فضلاً عن كونه لا يرتبط بنهضة الإمام الواعية؛ لأنّ لزوم تقييم الأوضاع السياسية والقوى العسكرية يستفاد من تاريخ أكثر قادة الثورات، وهذا موضوع يهتدي إليه عقل الإنسان وفطرته، ولا يحتاج إلى درس عملي، فإنّ كل شخص يروم القيام بثورة أو الهجوم على دولة أو يبدأ بأيّ مواجهة، بل حتّى من يريد القيام بمعاملة وتجارة يحسب حساباته المالية والسياسية والاقتصادية.
درس الفقرة ب: ليس ذا أهمية أيضاً؛ لأنّ الغالبية تشرع بالتطبيق بعد التقييم وتوفير القوى الكافية، سواء كان لهم غرض شخصي أو مصلحة عامّة.
درس الفقرة ج: هذا الدرس فضلاً عن كونه باطلاً من أساسه، ويتعارض مع التاريخ كما شرحنا ذلك في فصول سابقة، ولم تتوفر للإمام أرضية للصلح، ولا تبقى قوّاته على فرض ذلك الصلح المبتذل كقوّة احتياطية، وليست هناك فرص أخرى للثورة، وبالتالي فلا يحتاج هذا الموضوع إلى درس، فهو بنفسه يتحوّل إلى أمر اعتيادي؛ لأنّ الشخص الثائر إن كان هدفه الحكومة لا غير، سيضطر للصلح أو الاستسلام عندما تزول من أمامه إمكانية الانتصار، مثلما يُرى في أغلب الحروب.
درس الفقرة د: أوّلاً: لم يكن احتمال النصر موجوداً ولا واحد بالمئة للإمام في يوم عاشوراء بحسب الوضع العادي، ولو قال أحد فرضاً أنّه كان هذا الاحتمال موجوداً في بداية الحرب، وانتفى بعد شهادة الأصحاب، إذن لماذا لم يستسلم الإمام في هذه الصورة، رغم أنّه إذا استسلم سيتأخر قتله لمدّة يوم أو أكثر على أقل التقادير؟
إذا قلت: كان من أجل أن لا يُقتل ذليلاً.
نقول: في حالة كونك ترى أنّه يجوز للإمام أن يعرّض نفسه للقتل لدفع الذلّة عن نفسه وأهله، فلِمَ لا تستسيغ إقبال الإمام على الشهادة لدفع الذلّة والخطر عن الإسلام، ويكون قد أقدم على ذلك مع علمه بأنّ النهضة والامتناع عن البيعة تؤدّي إلى هذه المصائب؟ هذا الكلام الذي تذكره في الأخير لِمَ لم تذكره في الأوّل؟! وتنكر الحقيقية الموجودة في هذه الجملة: (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)؟!
وثانياً: بالرغم من أنّك تقول: إنّ الإمام لم يكن عالماً بالحوادث غير المتوقعة، فكيف تقول: كان من المعلوم أنّه سيقتل فيما إذا استسلم بذلّة؟! فلعله لا يُقتل، وربما تقع أحداث بعد الاستسلام تمنع من قتله.
أيَّها السيّد، إنّ الحقيقة غير الذي تفكّر فيه، فأنت تستخف بنهضة الإمام وبدروسها العملية. إنّ الإمام لم يستسلم ولم يبايع؛ لأنّه يعتقد بأنّ هذا الاستسلام وهذه البيعة ستكون من أشدّ الضربات على الإسلام ونظامه، وفي مقام دوران الأمر بين المحذورين أخذ أخفّ المحذورين وأقلّهما، فاختار التضحية بنفسه في سبيل الدين والقرآن، وأنقذ الإسلام من الخطر.
172ـ ذكر في (ص405) تحت هذا العنوان: بعد وقوع الإمام تحت حصار قوات ابن زياد، أصبح أمام خيارين: الأوّل: أن يقبل الإمام الحسين× خلافة يزيد، والثاني: أن يستسلم لابن زياد بذلّة وخضوع، ووفقاً لما طرحه في ص204 (مقدّمات مفاوضات الصلح)، فإنّه لا يعتبر الموافقة على خلافة يزيد والتسليم له ذلّة، إلّا أنّه يعدّ الاستسلام لابن زياد ذلّة!
لو نظرنا إلى الموضوع من كافة الجهات سنجد أنّ حقارة يزيد وأفعاله السيئة، وخبثه وتجاهره بالأفعال الشنيعة، وارتكابه المحرّمات، وفسقه وفجوره لم يكن أقل من ابن زياد، ولو فحصنا الصفات الأخلاقية المذمومة والأفعال القبيحة لهذين الفردين القذرين ومثلبة عالم الإنسانية، لوجدنا أنّ يزيد أشدّ إجراماً، وما ابن زياد إلّا سيئة من سيئاته.
قال العقاد: كان... الشعر الفصيح مغرياً له بمعاشرة الشعراء والندماء في مجالس الشراب، وكان ولعه بالصيد شاغلاً يحجبه عن شواغل المُلك والسياسة[254]. وكانت رياضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرَّادين والفهَّادين، فكان له قرد يدعوه (أبا قيس)، يُلبسه الحرير ويطرّز لباسه بالذهب والفضة ويحضره مجالس الشراب[255].
ولم يكن يجتنب يزيد عن الشراب وارتكاب المعصية حتّى في مدينة النبي|[256].
وهذا ما أوضحه الشيخ العلايلي في (سمو المعنى في سمو الذات ص66ـ 68) حيث قال: إنّ تربية يزيد لم تكن إسلامية خالصة أو بعبارة أخرى كانت مسيحية خالصة، فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون متجاوزاً مستهتراً مستخفاً بما عليه الجماعة الإسلامية لا يحسب لتقاليدها واعتقاداتها أيّ حساب، ولا يقيم لها وزناً، وقد كان يزيد يُنادم (الأخطل) الشاعر المسيحي الخليع، وكانت بينهما علاقة حميمة، وكان متأثراً تأثراً شديداً بالعادات الأجنبية كبعض المتأثرين بالغرب في زماننا، فالرقص واللهو وشرب الخمر وملاعبة الكلاب، كانت جميعها من عادات النصارى، اعتاد عليها يزيد نتيجة ترعرعه في الأجواء المسيحية.[257] فكانت حكومة شخص نحس ونجس مثل يزيد من أعظم المصائب التي ابتلي بها المسلمون، كما قال الإمام: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ ابليت الأمَّة براع مثل يزيد»[258].
وعليه فكيف للشخصية الوحيدة التي تمتلك الفضيلة والعزّة في العالم الإسلامي التي تأبى عن الاستسلام لابن زياد ولكنها لا تمتنع عن مبايعة يزيد، بل تقترحها (العياذ بالله)، وتؤيّد في الجملة قيادة يزيد، حاشا وكلا. فقتل الإمام من أجل رفض البيعة قد أزال أخطر الانحرافات الفكرية، وأنقذ نظام الحكم الإسلامي من أن يصطبغ بهذه الصورة القبيحة الكالحة، في حين لو كان القتل بسبب عدم التسليم لابن زياد فإنّه لم يكن لتترتب عليه تلك الآثار والنتائج. أضف إلى ذلك، أنّه إذا كان التسليم لابن زياد ذلّة وخضوعاً لا يمكن تحمّله، فإنّ قبول خلافة يزيد ومبايعته بعد فشل النهضة ستكون ذلّة وطلباً للاستسلام والصفح أيضاً، والإمام منزّه ومبرأ عن هذين العملين.
إنّنا كلّما قرأنا التاريخ، ولاحظنا وضع حياة الإمام الكريمة منذ البداية إلى النهاية، وأخذنا بعين الاعتبار خلفية يزيد القذرة والمخزية، نرى أنّ التفكير في مثل هذا العمل لم يكن متعارفاً حتّى بالنسبة لأصحاب الإمام، ومن باب الأولوية أنّ الشخصية التي استعدّت لتحمّل هذه المصائب المفجعة درءاً لذلّة الاستسلام لابن زياد ـ على حدّ تعبيرك ـ لا توافق تحت أيّ ظرف كان أن تخضع وتذل ليزيد وتبايعه وتقبل بخلافته المناوئة للإسلام.
اُنظر إلى هذه الكلمات العميقة التي قالها الإمام في مجلس حاكم المدينة، ولم يعدل عن مضمونها إلى أن استشهد: «إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الرحمة، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس، معلن بالفسق، فمثلي لا يبايع مثله» [259].
أيَّها السيّد الكاتب، كان كل من التسليم لابن زياد والتسليم ليزيد ومبايعته في تلك الأوضاع التي كان الإمام فيها محاصراً من قبل قوات ابن زياد ذلّة واستهانة بالشعائر الدينية، وهتك لحركة أهل بيت الرسالة. فالإمام بهذه الكلمات ونتيجة لتلك الأوصاف رفض اقتراح مبايعة يزيد في المدينة، مع أنّه لم يكن محاصراً، واقترحوا عليه قبول خلافة يزيد بصورة عادية ومحترمة، فكيف يقبل بها تحت الذلّة والخضوع؟!
كما أنّك لو طرحت موضوع إمكانية قبول الخلافة والاقتراحات الثلاثة على أنّها من باب إتمام الحجة، لخف وطؤها على الأفكار العارفة بمقام الإمام، رغم أنّ ذلك لم يُطرح من قبل الإمام حتّى تحت عنوان إتمام الحجة، وقد كذّبه عقبة بن سمعان بشكل قاطع، وحتّى لو صدر بهذا العنوان لكان أيضاً على خلاف شأن الإمام؛ لأنّه سيوحي إلى حدّ ما بمشروعية حكومة يزيد، وتبرئة الذين استسلموا لتلك الحكومة المناوئة للإسلام وبايعوها.
المسألة الأخرى: وهي ـ كما أشرنا ـ عدم الفرق بين البيعة ليزيد أو صيرورة الإمام تحت تصرّف الحكومة فأينما أرادت أن ترسله، أو الاستسلام لابن زياد، ففي جميع هذه الصور الثلاث سيكون الإمام معرّضاً للإساءة التي لا تطاق. وهذا المعنى لم يكن ليخفى على الإمام، حيث لم يكن نزاعه معهم نزاعاً لفظياً، حتّى يقاوم الإمام من أجل لفظة الاستسلام لابن زياد حتّى يستشهد. فما الفرق بين يزيد وابن زياد سوى العنوان فيزيد كان السلطان، وابن زياد الوالي.
الخلاصة: إنّنا كلّما أمعنا النظر، نستنتج أنّ الإمام لم يكن راضياً عن قبول مبايعة يزيد في أيّ حال من الأحوال، وتصرّف بعزّة نفس في جميع مراحل النهضة ـ المرحلة الأولى والثانية والثالثة والرابعة ـ وصان كرامة وعزّة أهل بيت النبوة، ولم تقدّم الشخصيات، كابن عباس ومحمّد بن الحنفية اقتراحاً على الإمام لدرء هذا الخطر، فضلاً عن الشواهد التاريخية وعلم الإمام ومعرفته بشهادته، والروايات المروية عن النبي| التي تذكر بأنّ يزيد قاتل الإمام.[260] كما لم يطلب أهل بيت الإمام وأعزّته في أيّ حال من تلك الأحوال الصعبة منه المبايعة والاستسلام حتّى ولو من باب إتمام الحجة وإظهار المظلومية؛ لأنّهم يرون ذلك خلاف عهد النبي| وأمره ومهمّة الإمام الخطيرة وعزّة نفسه. ولو كان مثل هذا الموضوع ممكناً، لطرحه الإمام ضمن تلك المواعظ والحجج البليغة التي ذكرها يوم عاشوراء صراحة، مع أنّه لم يقل أكثر من: «إذ كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض».[261] فعندما أرسل عمر بن سعد رسالة ابن زياد المتعلّقة بعرض البيعة على الإمام، قال: لا أجيب ابن زياد إلى ذلك أبداً، فهل هو إلّا الموت فمرحباً به.
خلاصة الكلام هي أنّ الموضوع الجوهري والحقيقي والحساس وموضع اختلاف الإمام مع الحكومة إلى نهاية الأمر والشهادة، كان قبول البيعة وتأييد حكومة يزيد، وأمّا الاستسلام لابن زياد والمسائل الأخرى إنّما وقعت على هامش ذلك، وكما قال الإمام يوم عاشوراء: «والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدونه أبداً».[262] فهو لم يوافق على أيّ من هذه الاقتراحات إلى أن استشهد. صلى الله عليك يا أبا عبد الله.
173ـ استشهد في ص406 بأحد خطب الإمام يوم عاشوراء، فقال: لم يكن مطروحاً في هذه الخطبة موافقة الإمام على خلافة يزيد، بل إنّ المطروح هو أنّ الحسين× لابد أن يستسلم لابن زياد ذليلاً صاغراً.
أوّلاً: عدم ذكر البيعة في هذه الخطبة ليس دليلاً على مبايعة الإمام لو أنّهم اكتفوا منه بالبيعة فقط، بل الإمام لم يكن ليوافق على خلافة يزيد حتّى وإن تخلّوا عن اقتراح الاستسلام.
ثانياً: إنّ عبارة «بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة»[263] التي وردت في الخطبة لم تعيِّن خصوص ذلّة الاستسلام، فقبول الذلّة كما يتحقق في الاستسلام لابن زياد يتحقق كذلك في قبول خلافة يزيد، إذ من الممكن أن يكون المراد كلا القسمين أو خصوص البيعة.
ثالثاً: الرواية التي جاء فيها قول الإمام: «عهد عهده إليّ أبي عن جدّي»[264] يدل على أنّ برنامج الإمام طبقاً لعهد أمير المؤمنين× ووصيته من قبل النبي| كان معلوماً مسبقاً، والإمام كان على علم بما سيقع وبسوء عاقبة قاتليه، وبمصير عمر بن سعد أيضاً[265]. فكيف يكون قد نهض من أجل تأسيس الحكومة؟!
174ـ كما قال في ص406 أيضاً: على فرض المحال لو أنّ الإمام قبل في كربلاء بخلافة يزيد، لما أطلق سراحه أيضاً.
صحيح أنّ فرض قبول الإمام لخلافة يزيد محال، فحتّى لو أنّهم لم يطلبوا منه الاستسلام لابن زياد ورضوا بتأييده لحكومة يزيد لما قبل الإمام طلبهم. بناء على ذلك، إمّا أن يُحكم ببطلان القسم المهم من مطالب الفصل الثاني ومقدّمات مفاوضات الصلح (ص204)، وإمّا أن يوجّه لكلامك هنا أيضاً إشكال التناقض الواضح.
175ـ كتب في ص406 أيضاً: بناء على ذلك، عندما وقع الإمام الحسين× في حصار عساكر عبيدالله بن زياد، أصبحت مقاومته على جبهتين، أي أنّه كان يقاوم رفضاً لخلافة يزيد المخالفة للقرآن، ورفضاً لمحاولة إذلاله والاستخفاف به.
لا شك أنّ الإمام صان عزّة نفسه من خلال المقاومة على جبهتين، أي أنّه رفض خيار ذلّة الاستخفاف المترتب على قبول خلافة يزيد المعادية للإسلام، رغم أنّهم لم يطلبوا منه الاستسلام بلا شرط لابن زياد، كما رفض قبول ذلّة الاستسلام.
أيَّها السيّد الكاتب، إمّا أن تتخلّى عن ما ذكرته من مطالب في الفصل الثاني ومقدّمات مفاوضات الصلح وخبر عقبة بن سمعان، وإمّا أن توضّح لنا: كيف كان الإمام يقاوم ويرفض خلافة يزيد، وكيف كانت هناك إمكانية للمقاومة مع فرض اقتراح الإمام ـ بحسب رأيك ـ وضع يده بيد يزيد (العياذ بالله)، مع أنّك امتنعت حتّى عن اعتبار ذلك إتماماً للحجة. فهذا أيضاً تناقض آخر من تناقضاتك الكثيرة، وثمرة من ثمار بحثك العميق!
176ـ قلت في ص407: لقد كانت مقاومة الحسين بن علي× ضدّ جهاز يزيد الدكتاتوري في كافة مراحلها مقاومة بطولية وباسلة.
من المسلّم أنّ مقاومة الإمام وصموده وثباته في الامتناع عن البيعة وإظهار بطلان حكومة يزيد المخالفة للقرآن كانت باسلة وبطولة ومرضية لله، بل لم يعرف لها نظير نظراً للعواقب الخطرة جدّاً التي كانت سترتب عن ظلم وجور ذلك النظام الاستبدادي. لكن أيّها الكاتب، حيث إنّك لم تقصد هنا الاستهزاء يقيناً فأيّ مقاومة أخذتها بعين الاعتبار فيما ذهبت إليه في المرحلة الأولى والثانية والثالثة؟
فأنت تدّعي: أنّ الإمام في المرحلة الأولى قد أتى مكّة، واختارها منزلاً له لمّا رأى أنّ المكان آمن، ومثل ابن الزبير كان قد امتنع عن البيعة.
وفي المرحلة الثانية عندما عُلِم بتوفر إمكانات النصر العسكري مع وجود مئة ألف مقاتل مسلح متطوّع ـ طبقاً لرأيك ـ تحت إمرة الإمام، وكانت الأوضاع مواتية من جميع الجهات تحرّك نحو الكوفة. إلّا أنّه أراد الرجوع أثناء مسيره؛ نظراً لتبدّل الأوضاع وعلمه بعدم إمكان تأسيس الحكومة الإسلامية، عندها وقعت نقطة التحوّل في نهضته، وشرع في المرحلة الثالثة التي اقترح فيها الاقتراحات الثلاثة للصلح!
إذن، كيف كانت مقاومة الإمام البطولية والباسلة في هذه المراحل الثلاث؟
إن لم تكن ساخراً، فقل: متى ظهرت تلك المقاومة البطولية المنقطعة النظير لشخصية الإمام وأنت تزعم أنّه لم يقدم على نهضته طلباً للشهادة، ولم يكن على علم بذلك، وما كان برنامجه في مراحله الثلاث المذكورة أكثر مما قيل؟
إذا أردت إبراز الصورة الناصعة والحقيقية لنهضة الإمام، وكنت تعتقد فعلاً ببطولية مقاومته وبسالتها ورفعة تضحياته الباعثة على فخر الإسلام وسموه، فيجب عليك أن تتخلّى عن هذا الرأي، أو هذه الفرضية على حدّ تعبيرك.
177ـ رغم أنّ الكاتب قد وصف الإمام في ص408 و409 بسلسلة من الأوصاف الراقية أدبياً، لكنّه عرض نهضته على أنّها نهضة عادية لا تحض بتلك الأهمية الكبيرة، وهي النهضة الواعية والمنتصرة والمليئة بالافتخارات التي توّجها المضحّي والمنقذ الوحيد للإسلام وحامي كتاب الله وسنّة نبيه. وأظهر المدرسة الحسينية المحكمة والقوية ضعيفة هشّة، وهي مدرسة الصمود والثبات ومقاومة الباطل، والطريق الأمثل لهداية الأحرار، الحاملين شعار الفضيلة وعشّاق الحق والعدالة إلى الأبد. لذلك عليه أن يطلب العفو بإصرار وخضوع بين يدي الإمام، ويلتمس العذر من شيعته ومحبيه، وأن لا يطمئن إلى نيله رضا الإمام وإدخاله السرور على قلوب الشيعة الواعين وطلاب الحقيقة وذوي الضمائر الحية بهذه الألفاظ الأدبية.
أسأل الله تعالى أن يوفقه لتلافي هذا الاشتباه، وأن يعفو عن أخطاء وانحرافات هذا الضعيف المسكين ويشمله بعفوه ومغفرته ورحمته، وآمل أن يُشمل هذا الجهد البسيط ـ على قلته ـ بعناية الإمام سيّد الشهداء×، وأن لا أحرم شفاعته.
(رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) [266].
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [267].
اللهم اجعل عملي هذا خالصاً لوجهك الكريم، وارزقني شفاعة الحسين× يوم الورود، وثبّت لي قدم صدق عندك مع الحسين× وأصحابه الذين بذلوا مهجهم دون الحسين×.
والحمد لله أوّلاً وآخراً .
لطف الله الصافي
ربيع الأوّل:1391ـ قم
* القرآن الكريم.
إبصار العين.
أبو الشهداء.
الاتحاف بحب الأشراف.
إثبات الوصية.
الأخبار الطوال.
الإرشاد.
الاستبصار.
أسد الغابة.
إسعاف الراغبين.
الإصابة.
إعلام الورى.
أمالي أبي طالب.
أمالي الشجري المعروف بالأمالي الخميسية.
أمالي الصدوق.
الإمامة والسياسة.
أنساب الاشراف.
الأنوار النعمانية.
أهل البيت^.
بحار الأنوار.
البداية والنهاية.
بصائر الدرجات.
بطلة كربلاء.
بلاغات النساء.
تاريخ الإسلام للذهبي.
تاريخ الخلفاء.
تاريخ الطبري.
تاريخ اليعقوبي.
تاريخ صفين.
التبصرة لابن الجوزي.
تذكرة الخواص.
ترجمة تاريخ ابن الأعثم.
تطهير الجنان.
تفسير الدر المنثور.
تفسير الطبري.
تنزيه الأنبياء.
تنقيح المقال.
تهذيب التهذيب.
الثائر الأوّل.
جنة المأوى.
جواهر العقدين.
حجة السعادة .
الحسن والحسين سبطا رسول الله|.
حفيدة الرسول|.
حياة الحيوان.
الخصال للصدوق.
الخصائص الكبرى.
درر الأصداف.
دلائل الإمامة.
الدلائل والمسائل.
ذخائر العقبى.
الذريعة.
رجال الكشي.
روضات الجنات.
سمو المعنى في سمو الذات.
السياسة الحسينية.
السيّدة زينب.
سيرة ابن هشام.
السيرة الحلبية.
سيرة النبلاء للذهبي.
سيرتنا وسنتنا.
شذرات الذهب.
شرج نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
شرح القصيدة الذهبية.
الشفا بتعريف حقوق المصطفى|.
شمائل الرسول لابن كثير.
الصواعق المحرقة.
ضحى الإسلام.
غاية الأماني في أخبار القطر اليماني.
الفصول المهمّة.
في ظلال القرآن.
قرب الإسناد.
الكافي.
كامل الزيارات.
الكامل لابن الأثير.
كشف الغمة للأربلي.
كفاية الطالب.
كنز العمال.
كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق.
الكنى والألقاب.
اللهوف.
مثير الأحزان.
مجمع البيان .
مجمع الزوائد.
مروج الذهب.
مسند أحمد.
مطالب السؤول.
معجم الأدباء.
المعجم الكبير للطبراني.
مقاتل الطالبيين.
مقتل الخوارزمي.
مقدّمة ابن خلدون.
مقدّمة المجالس الفاخرة.
الملاحم والفتن.
مناقب ابن شهر آشوب.
النزاع والتخاصم.
نزهة الناظر.
النصائح الكافية.
نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشرية.
نظم درر السمطين.
نفس المهموم.
نهج البلاغة.
نور الأبصار.
نور العين.
الوافي.
[1] البقرة: آية31.
[2] الريشهري، محمّد، العلم والحكمة في الكتاب والسنّة: ص36، نقلاً عن قرّة العيون للفيض الكاشاني: ص438.
[3] المجادلة: آية11.
[4][4] البقرة: آية129.
[5] آل عمران: آية164.
[6] الكفعمي، إبراهيم، المصباح: ص280.
[7] البقرة: آية253.
[8]اُنظر: مقال التحرير في مجلة الإصلاح الحسيني، العدد الرابع، ومقال قراءة نقدية لمبحث المظلومية في كتاب الشهيد الخالد، مجلة الإصلاح الحسيني، العدد التاسع.
[9]اُنظر: شهيد جاويد: 11.
[10]أحصى تلك الردود ونظّمها وفهرسها الشيخ رضا أستادي في كتاب تحت عنوان: سرگذشت كتاب شهيد جاويد.
[11] وقد تمّ تغيير عنوان الكتاب بناءً على أمر سماحة آية الله العظمى الشيخ الصافي الگلپايگانيK بنفسه.
[12]لقد عمد العبد الضعيف قبل حوالي سنتين وبطلب من المؤلف المحترم لكتاب الشهيد الخالد نفسه من مطالعة كتابه بشكل سريع وإجمالي، وإعلامه ببطلان أساسه مشيراً إلى بعض معايبه ونواقصه بنحو الاختصار. وطلبت منه بأن لا يطبعه وينشره، ومن حسن الحظ قبل بذلك. فلِمَ رجع إلى فكرة نشره،لا أعلم!
[13]جنة المأوى: ص111، مقالة التضحية في ضاحية الطف.
[14]أهل البيت^: ص446 ـ 449.
[15]أهل البيت^: ص450.
[16]أهل البيت^: ص452.
[17] طالعوا أيضاً صورة أخرى من صور نهضة الإمام في كتاب عالم آخر من أهل السنّة يعتبر من المؤلفين والمفكرين المشهورين المعاصرين، وهو سيّد قطب مؤلف تفسير (في ظلال القرآن) وكتب أخرى، حيث كشف في تفسيره وفي كتاباته عن بعض الحقائق، وانتقد سوء الأوضاع في عصر الصحابة التي حدثت إثر عزلة الإمام علي× في منزله وقيادة الآخرين. ورغم أنّه لم يكن ـ في أغلب الأحيان ـ منصفاً وحيادياً في تناول المسائل والأبحاث؛ حيث أنكر أو كتم ـ للأسف ـ الكثير من فضائل أهل البيت^ المعلومة والمسلّمة، إلّا أنّه شرح ببيان واضح وبليغ الموقف الحسيني السامي في أفق يدركه المفكّرون والعلماء الكبار.
ففي تفسير الآية المباركة: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(سورة غافر: آية51)، يسترسل بالكلام حتّى يصل به المطاف إلى أن يقول: إنّ الناس يقصرون معنى النصر في صور معيّنة معهودة ومألوفة لهم تنالها أبصارهم، ولكن صور النصر متنوّعة، وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة البسيطة. (ثمّ يعرض نموذجين ـ نعم نموذجين فقط ـ لهذا النصر الذي يعتبر في نظر السطحيين وأصحاب الفكر القاصر هزيمة، وهو في الحقيقة ذات النصر وحقيقته) فيقول: إبراهيم× وهو يُلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها، أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك ـ في منطق العقيدة ـ أنّه كان في قمّة النصر وهو يُلقى في النار، كما أنّه انتصر أيضاً وهو ينجو من النار. أمّا تلك صورة للنصر وهذه صورة أخرى. وأمّا الحسين ـ رضوان الله عليه ـ الذي استقبل الشهادة بتلك الصورة العظيمة من جانب، وبتلك الحالة المفجعة من جانب آخر، أكان غالباً منتصراً أم مغلوباً؟
في الظاهر وبالمقياس الضيق قد كانت هزيمة، أمّا في الحقيقة الخالصة وبمقياس أوسع كانت نصراً. «فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف، وتهفو له القلوب، وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه. يستوي في هذا المتشيّعون وغير المتشيّعينمن المسلمين، وكثير من غير المسلمين».
(ثمّ يشرح هدف وغرض وسبب ومفهوم مثل هذه التضحية ببيان بليغ وحماسي وفهم ومعرفة عاليين ويبطل من خلال أربعة أسطر كتاب الشهيد الخالد وأيّ تبرير وتوهم آخر خاطئ حول النهضة المقدّسة وشهادة الحسين العزيز، ويدين ذلك كله) فيقول: وكم من شهيد لو عاش ألف سنة لا يمكنه أن ينصر عقيدته ودعوته، كما لو نصرها باستشهاده، وما كان له أن يودِع القلوب تلك المعاني الرفيعة، ويحفّز الألوف للقيام بالأعمال الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه، فتبقى حافزاً محرّكاً للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزاً محرّكاً لخطى التاريخ كلّه مدى أجيال ومرور أعصار (تفسير في ظلال القرآن: ج7، ص189 و190).
وكتب مؤلف آخر من أهل السنّة اسمه (فريق عبد الرحمن أمين المصري) في مقال نشر في صحيفة أخبار اليوم بتاريخ (27 ـ 2 ـ 1974م) تحت عنوان (الشهيد ابن الشهيد الحسين بن علي)، جاء فيه: الطريق إلى النصر لابد له من رجال صادقين، وسواعد ضاربة، وعزمات لا تلين، وعيون ساهرة يجمع ذلك كلّه وفاء العقيدة، وحبّ الله ورسوله وما على الإنسان إلّا أن يضع نفسه وأهله وعشيرته في كفّه، واستشهاده لرفعة الدين والعقيدة في كفّة، لترجح كفّة الاستشهاد بصبره، وثباته، وتضحيته، وفدائه، وليبقى ديننا في الخالدين.
أيَّها المسلمون، أيّها الشباب، إنّ دم الحسين ابن بنت رسول الله لم يكن ليهدر عبثاً، وإنّما أُهدر للتذكر، والتأسي والعبرة البالغة حتّى يعلم الناس جميعاً أنّه لا شيء في هذا الوجود وراء الله، ولا أكبر ولا أعزّ من الله، ففي سبيل الله تهون الأرواح والمهج وفلذات الأكباد.
ويقول العقاد في كتاب (أبو الشهداء): فقد فاز بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الإنسان لا أستثنى منهم عربياً ولا أعجمياً، ولا قديماً ولا حديثاً.
إنّ هذه الجملة قارعة لكتاب الشهيد الخالد أيضاً، ولكل تفكير ركيك حول نهضة الحسين× التي لم يشهد لها التاريخ نظير.
وقال عالم آخر (الدكتور أحمد محمود صبحي الأستاذ في جامعة الإسكندرية): هذه إمامة استمدّها سبط النبي من قرابته، واستشهاده في سبيل استنكار نظام سياسي جائر، وارتفعت مكانته إلى ما لم ترتفع إليه مكانة شهيد في الإسلام (نظرية الإمامة: ص348).
[18]يراجع أسد الغابة، الاستيعاب والإصابة ترجمة أنس بن حارث.
[19]يراجع الكافي الشريف باب أنّ الأئمة^ لم يفعلوا شيئاً ولايفعلون إلّا بعهد من الله}: ج1، ص279؛ وفي باب أنّ أفعالهم معهودة من الله سبحانه: ج1، ب29، ص61.
[20] نهج البلاغة: ر ـ 28.
[21] نهج البلاغة: خ – 2.
[22] نهج البلاغة: خ – 152.
[23]الأنبياء: آية26ـ27.
[24]الصافات: آية102.
[25]أسد الغابة وسائر كتب التراجم والتأريخ والتفسير.
[26]أسد الغابة وسائر كتب التراجم؛ ترجمة عاصم بن ثابت.
[27] عبدالله بن جحش أحد مهاجري وشهداء معركة أحد البارزين، قال هذا الرجل الجليل لسعد ابن أبي وقاص يوم أحد: ألا تأتي ندعو الله؟ فخلينا في ناحية، فدعا سعد فقال: اللهم إذا لقيت العدو غداً، فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده، فأقتله فيك وآخذ سلبه. فأمّن عبد الله بن جحش، ثمّ قال عبد الله: اللهم ارزقني غداً رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده، أقاتله فيك ويقاتلني، ثمّ يقتلني ويأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله، فيم جدع أنفك وأذناك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فيقول: صدقت، قال سعد: كانت دعوة عبد الله خيراً من دعوتي، فلقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنيه معلّقان في خيط (أسد الغابة، الطبقات: ج3، ص90. باختصار).
[28] شرح نهج البلاغة بن أبي الحديد؛ طبعة مصر: ج3، ص375 و376. أسد الغابة؛ الاستيعاب؛ الإصابة؛ ترجمة عمرو بن الجموح، سيرة ابن هشام: ج3، ص41 و40.
[29] روى ابن أبي الحديد أنّ عمرو بن يثربي الضبي كان فارس أصحاب الجمل وشجاعهم، وبعد أن قتل كثيراً من أصحاب أمير المؤمنين× ومن جملتهم علباء بن الهيثم السدوسي وهند بن عمرو الجملي. قال زيد بن صوحان العبدي لعلي×: يا أميرالمؤمنين، إنِّي رأيت يداً أشرفت عليّ من السماء وهي تقول: هلم إلينا، وأنا خارج إلى ابن يثربي، فإذا قتلني فادفني بدمي، ولا تغسلني، فإنِّي مخاصم عند ربي، ثمّ خرج واستشهد (أسد الغابة: ج4، ص148؛ وفيما يتعلّق بهذا الموضوع انظر أيضاً هذا الكتاب (النهضة الحسينية وعلم الإمام×): ص290 و291).
كما تلاحظ في هذه القصّة أنّ أمير المؤمنين× لم يمنع زيد بن صوحان من الذهاب إلى ميدان ابن يثربي، رغم أنّه كان متأكداً من قتله. وروي في ترجمة عمير الذي كان أحد شهداء بدر، أنّه قال: أخاف أن يستصغرني رَسُول الله| (لأنّه كان له من العمر ستة عشر عاماً) فيردني وأنا أحبّ الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة.( أسد الغابة: ج4، ص148؛ وفيما يتعلّق بهذا الموضوع انظر أيضاً هذا الكتاب (النهضة الحسينية وعلم الإمام×): ص290 و291).
[30] قال الدكتور أحمد محمود صبحي: ففي إقدام الحسين× على بيعة يزيد ليتولى منصب الخلافة عن رسول الله| أكبر رزء يحل بالنظام السياسي للإسلام، يتحمّل وزره كل من شارك فيه ورضى عنه، فما بالك إذا كان المقدم على ذلك هو ابن بنت رسول الله’. (نظرية الإمامة: ص334 و344).
[31] قال الدكتور صبحي أيضاً: كان خروج الحسين× بما يحمله من صفة دينية بوصفه سبط الرسول| إفساد لكل الخطط الأيديولوجية التي أرسى معاوية قواعدها طوال أربعين سنة أقامها منذ ما كان والياً ثم خليفة، وقد قال الدكتور حسن إبراهيم: وكان في استشهاد الإمام الحسين× ما أدان الدولة الأموية وأصبح الأمويون في نظر المسلمين طغاة مستبدين لانتهاكهم قوانين الإسلام وشرائعه وامتهانهم لمثله العليا. (نقل بالمضمون عن نظرية الإمامة: ص334 و335).
[32]الأحزاب: آية23.
[33] قال أحمد أمين: فالحق أنّ الحكم الأموي لم يكن حكماً إسلامياً، ويسوّى فيه بين الناس، ويكافأ فيه من أحسن عربياً كان أو مولى، ويعاقب فيه من أجرم عربياً كان أو مولى، ولم يكن الحكّام فيه خَدَمة للرعية على حساب غيرهم. كانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية.(ضحى الإسلام: ج1، ص28).
[34] وقال الدكتور صبحي أيضاً: إذا كانت بواعث خروج الحسين× لم يفصح عنها حين غادر المدينة وقد ألح عليه كبار الحجاز في عدم الخروج أو الذهاب إلى اليمن، وحين رفض أن يخرج تاركاً أهله فإنّ هذه البواعث قد أفصحت كلّها عن نفسها أن تمّت المأساة، فكان الحسين× قد اختار منيته التي تدين الأمويين ولا تجعل لهم أدنى حجة من الدين الذي يفترض عليهم أن يراعوا أحكامه.. وأصبح جمهور المسلمين الذي سلَّم بخلافة معاوية بعد عام الجماعة في صف المعارضين لحكم يزيد والأمويين، وأعرب هذا الجمهور عن معارضته بالسيف حيناً.. ومن ضعف عن الخروج بالسيف أنكر بالقلب وإن كان ذلك أضعف الإيمان إلّا أنّه خلع الإمامة الدينية عن الخليفة القائم.
وإذا كان الحسين× قد هزم في معركة حربية أو خسر قضية سياسية، فلم يعرف التاريخ هزيمة كان لها من الأثر لصالح المهزومين كما كان لدم الحسين×.
ولقد استطاع الحسين× أن ينجح فيما لم ينجح فيه أبوه وأخوه من قبل إذ نجح في إدانة أعداء أبيه من أهل الشام وخاذليه من أهل العراق على السواء، ذلك أنّ أباه قد قتل بسيف خارجي، كما سلّم أخوه الأمر لمعاوية، وكاد يضيع مغزى حروب علي× بين كيد أعدائه وخيانة أنصاره، حتّى جاء مقتل الحسين× الذي استدعاه أهل العراق إلى مصرهم فتركوه في العراء تحت رحمة أعدائه، فتبلور الشعور بالإثم على نحو لم يستشعروه من قبل في عهد علي والحسن×، بل على نحو الشعور بالإثم لم يعرف في مذهب من المذاهب أو في دين من الأديان. (نقل بالمضمون مع تلخيص عن نظرية الإمامة: ص339 و340).
[35]جنة المأوى: ص208.
[36]أهل البيت^: ص502 ـ 503.
[37]أهل البيت^: ص510.
[38]المائدة: آية44.
[39]نهج البلاغة: خ 27.
[40]نهج البلاغة: خ 29.
[41]نهج البلاغة: خ 95.
[42]مقاتل الطالبیين: ص130 و436.
[43]أهل البيت^: ص202 و203.
[44]أهل البيت^: ص513.
[45]أهل البيت^: ص514.
[46] قال عالم آخر من أهل السنّة: ولم يكن تقدير فشل الحركة عسكرياً غائباً عن ذهن الحسين×، فقد أشار إليه قوم من خلّص الناصحين له وعلى رأسهم ابن عباس وابن عمر وابن عمّه عبدالله ابن جعفر، ومن المستبعد أن يكون الحسين× غافلاً عن تقدير مدى إخلاص أهل الكوفة في دعوتهم له، وقد خذلوا أباه وتآمروا على أخيه، ولم يفصح الحسين× مع تقديره لهؤلاء النصحاء ولوجاهة آرائهم عن سبب رفضه لنصيحتهم، وقد نصحوه أن يخرج في عدد من الأنصار الذين هم أشدّ إخلاصاً له ولأبيه من أهل الكوفة فأبى (لأنّ النهضة تتخذ في هذه الحالة طابعاً عسكرياً)، ونصحوه إن أصر على الخروج أن يتجه إلى اليمن فلأبيه فيها شيعة فضلاً عن بُعدها عن مقر الخلافة في دمشق فأبى (لأنّ الخروج إلى اليمن يؤدّي إلى إطالة زمن الحرب، وسفك الدماء، ويجعل أعدائه يتهمونه بسفك الدماء وإثارة الفتنة، وأساساً يكون للنهضة طابع آخر لم يكن له تعبير وتبرير سوى المطالبة بالحكومة في أوضاع سيئة).
ثمّ نصحوه أن يترك أهل بيته في الحجاز فأبى، ولا يعقل أن يكون الحسين× غافلاً عن ذلك، وعلى أيّ حال وبأيّ شكل أردنا أن ندقق في المسألة فالقدر المسلّم أنّه كان يرى بأنّ شهادته في هذه النهضة أفضل من النصر العسكري الذي لم يتحقق لأبيه وأخيه، وكانت المسألة واضحة جدّاً بحيث إنّ عبدالله بن عمر عندما ودّع الإمام كان يقول: أستودعك الله من قتيل. (اُنظر: نظرية الإمامة: ص336 و337 و343).
[47]الكامل: ج3 ص276؛ الطبري: ج7 ص287.
[48]نفس المصدر.
[49]الكامل: ج3، ص277، الإرشاد: ص229، الطبري: ج7 ص280 وبحسب نقل أسد الغابة: ج2، ص21 في جواب ابن عباس وابن عمر ومحمّد بن الحنفية وآخرين حيث قال: رأيت رسول الله’ في المنام وأمرني بأمر فأنا فاعل ما أمر.
[50]التوبة: آية51.
[51]الكامل: ج3، ص277ـ الأخبار الطوال: ص209، 222؛ الإرشاد: ج7، ص290 و291.
[52]الإرشاد: ص231 و232؛ الكامل: ج3، ص277و278؛ الطبري: ج7 ص290 و291.
[53]الكامل: ج3، ص278، الإرشاد: ص232، مقاتل الطالبيين: ص110، الطبري: ج7، ص292و193.
[54]الكامل: ج3، ص278، الإرشاد: ص233، مقاتل الطالبيين: ص110، الطبري: ج7 ص293و294.
[55]الأخبار الطوال: ص223، الطبري: ج7، ص264. في الكامل «كلّما قُدّر نازل عند الله نحتسب أنفسنا»، وفي الأخبار الطوال بعدما ذكر تفرّق مجموعة كانت قد التحقت بالإمام في الطريق، واختصر مسألة عدم تأثير الحوادث الدامية في الكوفة وشهادة مسلم وهاني وقيس بن مسهر على عزم الإمام بكلمة واحدة وهي (فسار)، ولم يذكر جملة (كلّما..).
[56]الكامل: ج3، ص278؛ الإرشاد: ص233و234.
[57]الفصول المهمة: ص171.
[58]الإرشاد: ص234؛ إعلام الورى: ص137؛ البداية والنهاية: ج8 ص169 ولفظ هذا الكتاب (أذل من قرم الأمة).
[59]الإرشاد: ص268؛ إعلام الورى: ص130.
[60]الإرشاد: ص268.
[61]ويؤيّد هذا الحديث رواية عن الإمام علي× قال لعمر بن سعد: كيف بك عندما تخيّر بين الجنة والنار وتختار النار. (كنز العمال: ج7، ص111 ح961)، ويؤيّد هذه الرواية ما نقله المفيد رضوان الله تعالى عليه في الإرشاد: ص268 عن عبد الله بن شريك العامري حيث كان يقول: كنت أسمع أصحاب علي× إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين ابن علي÷.
[62]الطبري: ج7 ص272 و273؛ الفصول المهمة لابن الصباغ: ص167.
[63]أهل البيت^: ص506.
[64]أهل البيت^: ص508. وقد وردت في أمالي أبي طالب (ص91 ب6) رواية تذكر بأنّ الإمام عندما نزل في بستان بني عامر (قرب المشعر الحرام) كتب إلى محمّد أخيه وأهل بيته: «أمّا بعد فإنّكم إن لحقتم بي استشهدتم، وإن تخلّفتم عنّي لم تلحقوا النصر، والسلام».
[65]أهل البيت^: ص514.
[66]الفصول المهمة: ص162؛ كشف الغمة: ص183.
[67]سير أعلام النبلاء: ج3، ص197.
[68]سير أعلام النبلاء: ج3، ص199.
[69]تاريخ الإسلام: ج2، ص343؛ البداية والنهاية: ج8، ص163.
[70]تاريخ الإسلام: ج2، ص345؛ سير أعلام النبلاء: ج3 ص206؛ البداية والنهاية: ج8، ص169؛ نظم درر السمطين 214.
[71]سيرأعلام النبلاء: ج3 ص206، البداية والنهاية: ج8 ص169.
[72]سير أعلام النبلاء: ج3ص 193إلى 196.
[73]الخصائص الكبرى: ج2 ص127.
[74]البداية والنهاية: ج8 ص165؛ سير أعلام النبلاء: ج3 ص196؛ مروج الذهب: ج3 ص5.
[75]شرح نهج البلاغة: ج1، ص210، طبعة قديمة مصر.
[76]شرح نهج البلاغة: ج1، ص208؛ كنز العمال: ج7، ص110 ح952؛ الخصائص الكبرى: ج2، ص125.
[77]أسد الغابة؛ الاستيعاب؛ الإصابة؛ الخصائص الكبرى: ج2ص25؛ تاريخ ابن عساكر: ج4 ص338.
[78]الصواعق: الفصل 3 الباب 11 ص190و191؛ الخصائص لكبرى: ج2، ص125 ـ 127؛ كنز العمال: ج7 الحديث 904و901و902و905و906و907و908و909؛ مرآة الجنان: ج1 ص134. وفي تهذيب التهذيب ج2 ص347 و348 عن علي× وأم سلمة، وزينب بنت جحش، وعائشة، وأم الفضل، وأبي إمامة، وأنس وآخرين.
[79]إسعاف الراغبين: ص186و187؛ تذكرة الخواص: ص251؛ نظم درر السمطين: ص214.
[80]مقاتل الطالبيين: ص207 و208و248 و255 و256.
[81] وروى نظير هذا الخبر بخصوص زيد الشهيد أحد كبار علماء الزيدية عن الإمام الصادق× وأرسله إرسال المسلّمات، وهذه عين عبارته: وكان جعفر بن محمّد÷ قد أشار عليه أيضاً بعدم الخروج وقال له: إنّا نجد في العلم المكنون أنّ الأمر في هذا الأوان لبني أمية. أي أنّ الإمام الصادق× أشار إلى زيد (عمّه) بترك الثورة والخروج.( غاية الأماني في أخبار القطر اليماني: ج1، ص122).
اُنظر لهذا العلم المكنون أيّ علم هو بحيث كان يمتلكه الإمام الصادق× ولم يمتلكه عمُّه زيد مع ماله من مقام رفيع؟ إنّ كل علم مكنون كان لدى الإمام جعفر الصادق× من باب أولى قد كان لدى الإمام الحسين×، فالإمام كان عالماً بشهادته وعدم إمكان النصر العسكري وتأسيس الحكومة الإسلامية
[82]القدر: آية3.
[83]الإسراء: آية60.
[84]الدر المنثور: ج4ص191 وج6ص371؛ تاريخ الخلفاء: ص9؛ سير أعلام النبلاء: ج3، ص182؛ النزاع والتخاصم: ص52؛ أسد الغابة: ج2 ص14؛ الإشاعة: ص23؛ شرح نهج البلاغة: ج2 ص466 و467؛ شرح نهج البلاغة: ج2 ص466 و467؛ النصائح الكافية: ص110 ـ 113.
[85]القدر: آية4.
[86] حدد في الكثير من الروايات مكان شهادة الإمام وزمانها وفي أيّ فترة من حياته ستقع، ومن جملة ذلك ما رواه الطبراني حيث نقل أكثر من خمس عشرة رواية حول التفاصيل المتقدّمة (الأمالي الخميسية: ج1، ص184؛ كنوز الحقائق للمناوي، حرف الياء، المعجم الكبير للطبراني، ترجمة الإمام؛ جواهر العقدين (نسخة خطية تابعة لمجلس الشورى)).
ابن أبي الحديد من خلال شرح الخطبة التي وردت فيها عبارة: «أيّها الناس الغافلون غير المغفول عنهم»، قال في توضيح جملة: «والله لو شئت أن أخبر كل رجل بمخرجه ومولجه، وجميع شأنه لفعلت»: روي عندما قال الإمام: «سلوني قبل أن تفقدوني...»، أنّ تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترضه، وقال: كم في رأسي طاقة شعر؟ فقال له: أما والله إنِّي لأعلم ذلك، ولكن أين برهانه؟ لو أخبرتك به ولقد أخبرتك بقيامك ومقالك. وقيل لي: إنّ على كل شعرة من شعر رأسك ملكاً يلعنك وشيطاناً يستفزك، وآية ذلك أنّ في بيتك سخلاً يقتل ابن رسول الله|، ويحض على قتله.
فكان الأمر بموجب ما أخبر به، كان ابنه حصين يومئذ طفلاً صغيراً يرضع اللبن، ثمّ عاش إلى أن صار على شرطة عبيد الله بن زياد، وأخرجه عبيد الله إلى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين× ويتوعده على لسانه إن أرجأ ذلك، فقتل صبيحة اليوم الذي ورد فيه الحصين بالرسالة في ليلته (شرح نهج البلاغة: ج2، ص508 و509).
روى ابن الأثير: «لما أراد الحسين× المسير إلى الكوفة بكتب أهل العراق إليه أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهو بمكة فقال له: إنِّي أتيتك لحاجة أريد ذكرها نصيحة لك فإن كنت ترى أنّك مستنصحي قلتها وأدّيت ما عليّ من الحق فيها، وإن ظننت أنّك لا مستنصحي كففت عما أريد. فقال له: قل فوالله ما أستغشك وما أظنك بشيء من الهوى. قال له: قد بلغني أنّك تريد العراق وإنِّي مشفق عليك أنّك تأتي بلداً فيه عماله وأمراءه ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد الدينار والدرهم فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممن يقاتلك معه.
فقال له الحسين×: جزاك الله خيراً يا بن عم فقد علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل ومهما يقض من أمر يكن أخذت برأيك أو تركته فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح» (الكامل، ابن الأثير: ج4، ص37). حقاً وإنصافاً ما الذي تفهمه من هذا الكلام الذي جرى بين الإمام وهذا الرجل المشرف على الأوضاع والملتفت إليها؟ وهل يفهم سوى أنّ الإمام لم يكن يأمل أبداً بالنصر الظاهري، وكان متوقعاً لأمر شهادته الذي يعتبره أمراً حتمياً، فمضى إليها بكل عزم؟ وهل كان معنى جملة: «ومهما يقض من أمر يكن أخذت برأيك أو تركته» غير الإعلان عن الشهادة واليأس من النصر الظاهري؟
[87]الحسن والحسين سبطا رسول الله|: ص158.
[88]يقول صاحب شذرات الذهب: نقل الاتّفاق على الثناء على خروج الحسين على يزيد حتّى ابن خلدون يقول في ذلك: الحسين شهيد مشمول بالثواب وعلى الحق، حتّى يقول: ومن أعدل من الحسين في زمانه وفي إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء. مقدّمة ابن خلدون: ص390.
[89]أهل البيت^: ص521.
[90]أهل البيت^: ص513.
[91]أهل البيت^: ص513.
[92] النساء: آية83.
[93]الثائر الأوّل في الإسلام الحسين سيّد الشهداء: ص12.
[94]على مؤلف كتاب الشهيد الخالد طبقاً لمنطقه أن يفسر عمل عابس يوم عاشوراء حيث خلع الدرع عن جسده لشدة الحب والوفاء لسيد الشهداء×.
[95]يجدر الالتفات إلى أنّ المقصود من أهل السنّة هنا ليس جميعهم؛ لأنّ باحثيهم المنصفين يرون بأنّ النهضة الحسينية في صورة ومستوى أسمى من أن يوردوا عليها أدنى إشكال، بل المراد من أهل السنّة هم الذين أبدوا آراءهم بناءً على قلة معرفتهم وقصور تحقيقهم أو التعصبات والميول الخاصّة، والدفاع عن بني أمية وسياسات الحكومات التي هي ضدّ أهل بيت الرسالة، كما يوجد من بين المستشرقين أشخاص ـ عن قصد أو دون قصد ـ قد وجّهوا اتّهامات لهذه النهضة المقدّسة مستندين في ذلك على كتابات ومؤلفات أموية مغرضة، أو جريا على أهدافهم الاستعمارية التي يتكفل بها مجموعة من المستشرقين المغرر بهم والذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية ترويجها، لا أنّ جميع دراساتهم وتحقيقاتهم خاطئة.
[96]ليس خفياً أنّ ظاهر عبارة السيّد أنّه ذكر هذا الموضوع على شكل نقل غير معتبر، ومثله لا يعتمد على هكذا أخبار آحاد أبداً إلّا في مقام إقناع الخصوم.
[97]تذكرة الخواص: ص257
[98]كامل الزيارات: ص73
[99] الأنفال: آية37.
[100]كما أخبر قاطعاً في فتح خيبر على يد علي× حينما قال: «لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله».
[101]على ما ذكر في تاريخ الطبري: ج5ص 379، بعد مقتل مسلم وهاني، ضربت عنق عبد الأعلى الكلبي الذي ألقي القبض عليه من قبل كثير بن شهاب، وكذلك ضربت عنق عمارة بن صلخب الأسدي.
[102]الحج: آية68.
[103]طه: آية44.
[104] يقول الياقوت في معجم الأدباء ج2، ص230: كان شيعياً وهو عند أصحاب الحديث ضعيف. برأينا هذه العبارة مشعرة بمدحه وأنّ علة تضعيفه هو التشيع.
[105]المناقب: ج4، ص88.
[106]الإرشاد: ص229، الكامل: ج3، ص277، تاريخ الطبري: ج7، ص280، تاريخ الإسلام: ج2، ص343.
[107]نفس المهموم: ص38، منتهى الأمال: ص219؛ بحار الأنوار: ج10، ص175، ونحقق في هذا الخبر في فصل قصة الملائكة والجن مستقلاً.
[108]يستفاد مما ذكر في: ص207 أنّ الانتهاء من تأليف (إثبات الوصية) قد كان سنة 332 هـ.
[109]تاريخ الطبري: ج7، ص232 والشاهد على أنّ لفظ الكوفة والعراق قد استخدما كمترادفين هو ما ذكر في كلمات ابن مطيع (البداية والنهاية: ج8، ص162) حيث كتب: «فأمتعنا بنفسك ولا تسر إلى العراق».
[110]تاريخ الطبري: ج7، ص275.
[111]تاريخ الطبري: ج7، ص273.
[112]تاريخ الطبري: ج7، ص274.
[113]تاريخ الطبري: ج7، ص273.
[114]تاريخ الطبري: ج7، ص277.
[115]تاريخ الطبري: ج7، ص274.
[116]تاريخ الطبري: ج7، ص274.
[117]الأخبار الطوال: ص223.
[118]تاريخ الطبري: ج7، ص292 و293.
[119]البداية والنهاية: ج8، ص169.
[120]الإرشاد: ص233.
[121]البداية والنهاية: ج 8، ص163.
[122] تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام: ج2، ص354.
[123]النساء: آية165.
[124]تذكرة الخواص: ص257.
[125]ص219، 222، 223.
[126]تاريخ الطبري: ج7، ص275 و276.
[127]تاريخ الطبري: ج7، ص277.
[128]تاريخ الطبري: ج7، ص291.
[129]الكافي: ج4، ص535، الاستبصار: ج2، ص328، ح 1163.
[130]كامل الزيارات، ص73.
[131]الكافي: ج4، ص535، الاستبصار: ج2، ص327، ح1160.
[132]الإرشاد: ص228.
[133]تاريخ الطبري: ج7، ص273، البداية والنهاية: ج8، ص159.
[134]تاريخ الطبري: ج7، ص274، البداية والنهاية: ج8، ص160.
[135]لا يخفى أنّ المؤلف قد أخطأ في تخريج رقم الصفحة من كتاب حجّة السعادة، حيث كان رقم الصفحة الصحيح هو 10 (اللهم إلّا أن يكون المؤلف قد أخذ عن طبعة أخرى غير الطبعة القديمة).
[136]مروج الذهب: ج3، ص357، روضات الجنات: ص756، الكنى والألقاب: ج1، ص116.
[137]ما نقوله حول درجات هؤلاء الشهداء هو باعتبار استنباطنا الشخصي، وإلّا فنحن لا نرقى لإبداء رأي يقيني حول الدرجة الرفيعة لمثل حمزة، والله ورسوله والأئمة^ على علم بذلك. والتحقيق في ذلك يحتاج إلى مراجعة أكثر للأخبار. رضي الله عنه وعن جميع الشهداء.
[138] وأكثر صراحة من العبارة التي وردت في زيارة الأربعين، العبارة التي وردت في زيارة الإمام الحسين× يومي عيدي الفطر والأضحى، وهي: «وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة» والتي يستفاد منها بمنتهى الوضوح الردّ على كتاب الشهيد الخالد.
[139]البحار: ج 10، ص175.
[140]الذريعة: ج8، ص247. خريط بالطاء سهو ظاهراً والصحيح بالتاء.
[141]الإرشاد: ص6 ـ 9 وص170 ـ 171.
[142] يوسف: آية33.
[143]الأنفال: آية42.
[144]النساء: آية165.
[145] آل عمران: آية178.
[146] الأعراف: آية182.
[147]الإرشاد: ص223.
[148]تاريخ الطبري: ج4، ص292.
[149]يقول العلّامة الجليل ونابغة زمانه السيّد شرف الدين+ في (مقدّمة المجالس الفاخرة) الذي وللأسف بعد ترتيب المطالب صار كتاباً للزيارة في ص45: «وتاللهِ لَولا ما بَذَلَهُ الحُسَینُ× فِى سَبیلِ إحیاء الدین مِنْ نَفسِهِ الزَّکیة ونُفُوسِ أحِبّائِهِ بِتِلك الکیفیة لأمَسَى الإسلام خَبَراً مِنَ الأخبارِ السالِفةِ وأضحَى المُسلِمُونَ مِنَ الأُمَمِ التالفة إلخ».
أوصي القرّاء الأعزاء بمطالعة هذا الكتاب النفيس خاصّة من ص51 إلى 62 الذي يثبت فيها بالأدلة القاطعة علم الإمام ويقينه بشهادته.
[150]التوبة: آية111.
[151]القصص: آية21.
[152] أوّلاً: إنّ هذا الفرض مرفوض، وهو أن يطيق يزيد ونظامه الحاكم عدم بيعة الإمام والتي تعتبر أوضح وأهم من عدم بيعة كافة المسلمين، بحيث لا يبدي أيّ ردَّة فعل تجاه تلك الضربة القاصمة التي أصابت قلب النظام الأموي الفاسد والمشرك. وثانياً: لو لم تهاجم الحكومة الإمام لكان الإمام يعلم أفضل من أيّ شخص آخر بالخطة التي يجريها.
[153] تاريخ اليعقوبي: ج1، ص215.
[154] العنكبوت: آية2.
[155]الأنفال: آية37.
[156]الأعراف: آية164.
[157] تذكرة الخواص: ص257.
[158]روى الذهبي في تاريخ الإسلام: ج2، ص343، أنّ عبدالله بن جعفر كتب كتاباً إلى الإمام يحذّره فيه من أهل الكوفة ويقسم عليه بالرجوع، فكتب إليه الحسين: إنّي رأيت رؤيا ورأيت فيها رسول الله| وأمرني بأمر وأنا ماض له ولست بمخبر أحداً بها حتّى ألاقي عملي.
(1) هذه الاقتراحات الثلاثة غير ثابتة تاريخياً، وبحسب رواية عقبة وشهادة حال الإمام ومقاله فهي باطلة ولا أساس لها، أضف إلى أنّ الإمام يدري أنّ هكذا اقتراحات لن تقبل، إلّا أنّ مؤلف الشهيد الخالد يريد أن يقول: إنّ الإمام لم يكن عالماً بعدم قبول هذه الاقتراحات، وكان حاضراً أن يذهب إلى يزيد حتّى يبايعه. فلا حول ولا قوّة إلّا بالله.
[160] ج5، ص413، طبعة دار المعارف وفي ج7، ص314 طبعة انتشارات جهان.
[161]الكافي: ج2، ص53 و54، وقد روى نظير هذا الخبر في أسد الغابة لكنه اختص بحارثة بن سراقة: ج1 ص356.
[162]نهج البلاغة: الخطبة 23 ج1، ص57.
[163]نهج البلاغة: الرسالة 53 ج3، ص122.
[164]نهج البلاغة: الخطبة 154 ج2، ص56.
[165] الحسن والحسين سبطا رسول الله’ : ص60.
[166] تاريخ الخلفاء: ص140.
[167]راجع الصواعق واليعقوبي.
[168]تاريخ الخلفاء: ص139.
[169] إنّ آراء المنصفين والمفكّرين والباحثين من أهل السنّة ممتازة جدّاً في خصوص هذا الموضوع، وفهم وتفسير بعضهم وتعابيرهم أعمق وأكثر وعياً حتّى من بعض الكتّاب الشيعة؛ لذا لا ينبغي أن نحمّل أهل السنّة كافة أو أكثريتهم إشكالات أثارها بعض الأفراد من النواصب والمغرضين والأراذل.
[170]تاريخ الطبري: ج5، ص375.
[171]شذرات الذهب: ج1، ص68.
[172]مقدّمة ابن خلدون: ص388 و390.
[173]آل عمران: آية170.
[174] النصر: آية1.
[175]كلام هذا الرجل طويل، فليراجع كتاب أشعة من عظمة الحسين× ص362 و363، وانظروا كلام السيّد قطب ومحمّد الغزالي أيضاً في هذا الكتاب: ص353و 354 و356 و357.
[176]طه: آية134.
[177] المسألة التي تلفت الانتباه هي أنّه بحسب بعض الروايات المسندة (اُنظر: أمالي أبي طالب: 91)، أنّ هذه الخطبة أوردها الإمام عند خروجه إلى العراق، ونص الرواية هي: «لمّا أراد الحسين بن علي× الخروج إلى العراق»، وبناء على ذلك تدل مثل بقية الأحاديث وخطبة (خط الموت) على أنّ الإمام كان عالماً بشهادته حين الخروج من مكة المكرمة إلى العراق.
[178]تاريخ الطبري: ج7، ص393؛ الكامل لابن الأثير: ج3، ص278؛ البداية والنهاية: ج8، ص168 و169؛ الأخبار الطوال: ص223.
[179]الإمامة والسياسة: ج2، ص5 و6.
[180]مقتل الخوازمي: ج1، ص229. لا يخفى بأنّنا لم نحصل في ترجمة تاريخ ابن الأعثم ـ بمقدار ما تابعناه ـ على إشارة لهذا الموضوع (شورى الصحراء)، مع ذلك فالله أعلم كيف ورد هذا الموضوع في مقتل الخوازمي.
[181]كان رجوع الإمام إلى بني عقيل في هذا الوقت الذي افتقدوا فيه شخصية مثل مسلم، نوع من المواساة والتفقد وإبراز العناية بهم، وهم أيضاً أجابوا بشكل أثبتوا فيه صمودهم وعزمهم على الشهادة، ولو فرضنا أنّهم كانوا يريدون الرجوع لكان الإمام قد أحلّ بيعتهم منه واتّجه نحو مقصده.
[182]الإمامة والسياسة: ج2، ص6.
[183]ينبغي أن نسأل هذا الكاتب المثقف: كيف عمل الإمام طبقاً لقرار الشورى من الثعلبية إلى زبالة فقط، ولم يهتم في المراحل السابقة بآراء الشخصيات السياسية؟ ولماذا لم تعد هذه الشورى اجتماعها مرّة أخرى؟ ولماذا لم يتشاور مع أحد حول وضعه وبرنامجه في منزل زبالة الذي أذن فيه لأصحابه بالانصراف؟ لم يكن السبب في ذلك سوى أنّ الإمام كان عالماً بالقضية، وكان يعمل طبقاً لبرنامجه.
[184]الطبري: ص294؛ الإرشاد: ص233؛ إنّ ألفاظ كلام الإمام نقلت طبقاً لرواية الطبري.
[185]الإرشاد، المفيد: ص233.
[186]هذا المقطع يدل دلالة واضحة على أنّ كافة المرافقين للإمام من غير الأعراب كانوا يعلمون نهاية هذا السفر.
[187]الطبري: ج7، ص298.
[188]روى أبو حنيفة الدينوري الخطبة الأولى بعد صلاة الظهر، وألفاظها مشابهة لألفاظ الطبري تقريباً، لكنه لم يذكر الخطبة التي بعد صلاة العصر، ولم يذكر سوى هذا المقدار وهو أنّه قال مثل قوله الأوّل. الأخبار الطوال: ص224.
[189]مقاتل الطالبيين: ص111.
[190]الأخبار الطوال: ص225. إنّ عبارة ابن الأثير تدل أيضاً على أنّ الإمام سلك طريق كربلاء في هذا الوقت؛ لأنَّه يقول فيها: فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، والحر يسايره، ويقول في الصفحتين التاليتين: فلم يزالوا يتياسرون حتّى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين (الكامل: ص280و 282).
[191]مثير الأحزان: ص19ـ20.
[192]مقتل الحسين×: ص222.
[193]البداية والنهاية: ج8، ص74. إنّ ما يستفاد من هذه الجملة بعد الخبر الذي ذكره الطرماح الذي كان مفاده أنّ ظاهر الكوفة مملوءة بالخيول والجيوش يعرضون ليقصدونك، هو أنّ ما كان يروم إليه الإمام الذهاب إلى كربلاء والشهادة؛ لأنّ قصد الذهاب إلى الكوفة وتأسيس الحكومة في ذلك الوقت لم يكن منطقياً.
[194]الأخبار الطوال: ص225.
[195] وتهذيب التهذيب: ج2، ص347 و348 والمعجم الكبير للطبراني، وشمائل الرسول لابن كثير: ص444 إلى ص447
[196]الإرشاد: ص177.
[197]الصواعق: ص191؛ ذخائر العقبى: ص148؛ تذكرة الخواص: ص260؛ الفتن لسليلي، والفتن لأبي يحيى طبقاً لنقل الملاحم والفتن: ص79 و80 و126؛ البداية والنهاية: ج8، ص199.
[198] كما روى ذلك أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في التبصرة: ج2 ص13 و14.
[199]الخصائص الكبرى: ج2، ص125؛ البداية والنهاية: ج8، ص199؛ كفاية الطالب: ص281 و282؛ تاريخ ابن عساكر: ج4، ص338.
[200]رجال الكشي: ص52.
[201]أو ـ نجي ـ نقلاً عن تهذيب التهذيب: ج2، ص347 والأمالي الخميسية: ج1، ص159.
[202] أو ـ هرثمة بن سلمى ـ وفقاً لرواية الأمالي الخميسية: ج1، ص184.
[203]توجد متون وأسانيد أخرى لهذا الخبر، مثل رواية الحافظ الطبراني عن شيبان بنقل (مقتل الخوارزمي: ص162)، وقد اكتفينا هنا بما هو مذكور؛ لأنّنا لسنا في مقام الاستقصاء. وكذلك انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، طبعة مصر، ج1، ص278، شرح (اللهم إنِّي أعوذ بك من وعثاء السفر)، وتاريخ صفين: ص140 و141 و142، طبعة 1382؛ وتهذيب التهذيب: ج2، ص348.
[204]مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: ص75؛ كشف الغمة: ص189.
[205]اللهوف: ص71.
[206]ترجمة تاريخ ابن أعثم: ص366.
[207]أنت أيّها المسلم التقي، الذي ارتكبت التحريفات والمغالطات في هذا الكتاب الذي كتبته وكشفت فيه عن تقواك الأدبية والعلمية، لماذا تجاسرت على السيّد ابن طاووس وهو مثال للتقوى والورع والصدق والأمانة، وكان مفخرة لأهل بيت الرسالة، واعتبرته في هامش ص304 معذوراً لكن بشرط صحة كلام المحدِّث النوري.
[208]كنز العمال: ص110 ج7 ح951.
[209]نظم درر السمطين: ص215 و216؛ ووفقاً لما دوِّن في ذيل الصفحة روى هذا الحديث الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: ج9، ص981 والمحب الطبري في ذخائر العقبى: ص147 باختلاف يسير.
[210]الملاحم والفتن: ص79 ب24.
[211]الأخبار الطوال: ص277.
[212]اُنظر: كامل الزيارات: ص259ـ266.
[213]تاريخ الإسلام، الذهبي: ج2، ص343؛ الكامل لابن الأثير: ج3، ص276؛ تاريخ الطبري: ج7، ص280.
[214]أبو الشهداء: ص142 و143.
[215]ص20 إلى ص25. تمّ تأليف هذا الكتاب في القرن الثالث الهجري، وهو من أقدم الكتب التي روي فيها خطبة السيّدة الزهراء‘، وخطبة الحوراء زينب وأم كلثوم÷.
[216]مقتل الحسين وحديث كربلاء: ص128، يوجد في هذا الكتاب أيضاً بحث مفيد حول اصطحاب الإمام للعائلة في: ص125.
[217] هود: آية88.
[218]مقتل الخوارزمي: ج1، ص188.
[219]يعتبر في الفقه أحياناً قسماً من الرواية حجة، والقسم الآخر ليس بحجة لعدم العمل به، ولكن لا يثيرون شبهة حول أصل صدور الخبر.
[220]الإرشاد: ص222.
[221]المائدة: آية44.
[222]لا يخفى أنّ كلامه هنا مبهم ومتداخل، أمعنوا النظر في السطرين الأخرين من ص348، فما معنى أنّ التشريع مناط بالقرآن والسنّة؟ إنّ القرآن والسنّة بالمعنى الأعم الذي فسرناه (قول المعصوم وفعله وتقريره) قانون.
يقول في السطر الأخير: يعني يجب أن يكون هناك علماء... فما هو مرادك من هؤلاء العلماء؟ إذا كانوا الأئمة^ فإنّ هذه الألفاظ والمصطلحات دون شأنهم، وإذا كانوا العلماء والفقهاء فالجواب ما كتبناه في المتن.
[223]اُنظر: مقتل الخوارزمي: ج1، ص242 وترجمة ابن أعثم: ص369.
[224]اُنظر إلى كتاب الشهيد الخالد: ص204 و205 و206.
[225]أمالي الصدوق: ص99، المجلس 31.
[226]توجد لدي نسختان باللغة الفارسية ونسخة باللغة العربية من كتاب السياسة الحسينية في هامش كتاب (مقدّمة المجالس الفاخرة) قد لا تكون كاملة. أرقام الصفحات موافق للنسخة المطبوعة في طوس مشهد.
[227]إذن يتضح أنّ إنكار علم الإمام بشهادته والتخطيط لهذه النهضة على أساس ما طرحه كاتب الشهيد الخالد ناجم عن التأثر بالغرب وارتباك النفس في قبال أشخاص يريدون أن ينظروا إلى كافة الأمور بمنظار واحد ضيق ومحدود جدّاً، وأن ينظروا إلى الأنبياء والأولياء وأهدافهم السامية بنظرة سطحية ظاهرية.
[228]على أساس عقيدة ماربين، وإلّا فإنّ عيسى× لم يُقتل بصريح الآية المباركة: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).
[229]الدلائل والمسائل: ص9 و10 س66.
[230]البقرة: آية177.
[231]ثالثاً: إنّ وقوع أفجع المصائب والشهادة في سبيل الله تؤدّي إلى زيادة الثواب؛ لذلك كان عبدالله ابن جحش وهو من أبرز الأصحاب والمهاجرين وشهداء أحد يدعو الله ويطلب منه الشهادة بصورة يقتله فيها الكفّار ويبقروا بطنه ويجدعونه (الطبقات: ج3، ص90).
[232] لو أنّ شخصاً يبحث بحثاً علمياً، ويقول: قد يكون الظن أو العلم بتوفر شروط تأسيس الحكومة قد أخذ في موضوع حكم وجوب النهضة، وبعبارة أخرى: أن يكون للظن أو العلم موضوعية لا طريقية، فتكون النهضة على أساس ذلك واجبة مع الظن أو العلم بوجود أسباب وشروط تأسيس الحكومة، وإن كان الظن أو العلم خلاف الواقع وغير مصيب.
الجواب: لا يرتفع الإشكال إذا كان دخالة العلم أو الظن في الموضوع على نحو جزء موضوع؛ لأنّه فضلاً عن الظن أو العلم هناك دخل أيضاً للوجود الواقعي لتلك الشروط في الحكم بالوجوب. ونتيجة أخذها في الموضوع على نحو الجزئية هي أنّ تحقق الشروط واقعاً لا يكون له أثر دون العلم أو الظن بذلك، كما أنّه لا تأثير أيضاً للعلم أو الظن دون تحقق الشروط واقعاً. ولو قيل بدخالة العلم أو الظن على نحو تمام الموضوع، يقال:
أوّلاً: لا يعقل احتمال أن يكون العلم أو الظن في مثل هذه الحالات تمام الموضوع.
وثانياً: لا يوجد دليل يُستظهر منه هذا المعنى، وبملاحظة مناسبة الحكم والموضوع نجد أنّه من الخطأ أيضاً استظهار موضوعية العلم أو الظن هنا؛ لأنّ مصلحة النهضة تعود إلى واقع الظروف وأسباب تأسيس الحكومة، وليس للعلم أو الظن دخل في ذلك. وعلى فرض وجود المفسدة والضرر في حالة عدم إصابة العلم أو الظن، لن تكون هناك مصلحة بالذات في العمل (النهضة)، بل مفسدة، ولا يعتنى باحتمال وجود مصلحة في نفس الحكم أو بملاحظة بعض الجهات الخارجة عن ذات الموضوع، والتي تكون أهم من المفسدة الحاصلة في حال عدم إصابة الواقع؛ لذلك لا يمكن تعقل وتقديم تبرير صحيح للوجوب الحقيقي للنهضة إن كان الهدف هو تأسيس الحكومة عندما تكون نتيجتها الهزيمة في علم الله تعالى، ولا للوجوب الجدّي والواقعي لاقتراح الصلح مع علم الله بعدم قبوله وعدم إتمام الحجة.
وثالثاً: على فرض أنّنا اعتبرنا هذه المسائل غير المعقولة معقولة، فكيف يفسّر ويبرر الكاتب المحترم مهمّة الإمام، وما وقع من حوادث بعد فشل النهضة لتأسيس الحكومة، وبعد رفض اقتراح الصلح على حدّ تعبيره؟
[233]مقتل الخوارزمي: ج2، ص7و8.
[234] التوبة: آية32.
[235] التوبة: آية56.
[236] البقرة: آية246.
[237] النساء: آية77.
[238] نهج البلاغة، الحكمة: 81.
[239] تاريخ الطبري: ج4 ص352.
[240] البداية والنهاية: ج8 ص228.
[241] الأخبار الطوال: ص227.
[242] مقتل الحسين للخوارزمي: ج2 ص42، حفيدة الرسول ص44، السيدة زينب ص14، بطلة كربلاء زينب بنت الزهراء ص135و تاريخ الطبري وابن كثير وكتب أخرى.
[243] البداية والنهاية ج8 ص198، نفس المهموم ص230، تنقيح المقال ج1 ص393.
[244]من جملة المواضيع التي تستحق الدقة وتسترعي الانتباه، أنّنا لم نجد ولو شخصاً واحداً من الأصحاب أو النساء أو الأطفال اقترح على الإمام التسليم أو البيعة، في كافة المحاورات التي جرت بين الإمام وأصحابه وأهل بيته وعياله، من الصغير إلى الكبير حول موضوع الشهادة والتضحية وسبي أهل البيت^ والأخطار التي وقعت، وأساساً لم يخطر هذا الموضوع الذي يهزّ تصوّره الرجال الأشداء على ذهن أهل بيت النبوة^.
[245]تاريخ الطبري: ج7، ص365.
[246]تاريخ الطبري: ج4، ص349.
[247]مجمع البيان: ج1، ص484.
[248]الخصال: ج1، ص144، ح248؛ البحار: ج44، ص271.
[249]اُنظر: تاريخ الطبري: ج7، ص131 إلى ص134.
[250]أمالي الصدوق: ص78، المجلس 27، ح2.
[251]نهج البلاغة: ج3، ص188، الكلمة/147.
[252]فيما يتعلّق بأسناد ومتون ودلالة هذا الحديث، اُنظر: الكتاب الذي كتبته بخصوص إثبات حجية مذهب الشيعة ووجوب الرجوع إلى أحاديث الموسوعات الشيعية.
[253]مثير الأحزان: ص62.
[254]أبو الشهداء: ص21 و23.
[255]أبو الشهداء: ص77.
[256]الكامل، ابن الأثير: ج3، ص317.
[257]فيما يتعلّق بتعريف يزيد باختصار، اُنظر كتاب: (أشعة من عظمة الحسين×: ص229 إلى 277).
[258]مقتل الخوارزمي: ج1، ص184.
[259]مقتل الخوارزمي: ج1، ص184؛ اُنظر: شرح كلام الإمام هذا في كتاب (أشعة من عظمة الحسين×)، الفصل الثالث: أسباب النهضة.
[260]اُنظر: مقتل الخوارزمي: ج1، ص191؛ كنز العمال: ج6، ص223، الحديث 3949؛ أشعة من عظمة الحسين×: ص80؛ مجمع الزوائد: الهيثمي: ج9.
[261]نفس المهموم: ص129.
[262]مقتل الخوارزمي: ج2، ص9.
[263]جاء في بعض النسخ، بين السلّة والذلّة، وفي البعض الآخر بين الثلّة والذلّة، وفي نسخة مقتل الخوارزمي المطبوعة في النجف، بين القتلة والذلّة.
[264]مقتل الخوارزمي: ج2، ص7.
[265]مقتل الخوارزمي: ج2، ص8.
[266]آل عمران: آية193.
[267]الحشر: آية10.