ﭑ ﭒ ﭓ
الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إنّ العلم والمعرفة مصدر الإشعاع الذي يهدي الإنسان إلى الطريق القويم، ومن خلالهما يمكنه أن يصل إلى غايته الحقيقيّة وسعادته الأبديّة المنشودة، فبهما يتميّز الحقّ من الباطل، وبهما تُحدّد خيارات الإنسان الصحيحة، وفي ضوئهما يسير في سبل الهداية وطريق الرشاد الذي خُلق من أجله، بل على أساس العلم والمعرفة فضّله الله على سائر المخلوقات، فبالعلم يرتقي المرء وبالجهل يتسافل، كما بالعلم والمعرفة تتفاوت مقامات البشر، ويتفوّق بعضهم على بعض عند الله، وبهما تُسعد المجتمعات، وبهما الإعمار والازدهار، وبهما الخير كلّ الخير.
ومن أجل العلم والمعرفة كانت التضحيات الكبيرة التي قدّمها الأنبياء والأئمّة والأولياء^، تضحيات جساماً لا بدّ أن تُثمّن وتُقدّس، والإمام الحسين× تلك الشخصيّة القمّة في العلم والمعرفة والجهاد والتضحية والإيثار، أحد أصحاب الكساء الخمسة الذين دلّت النصوص على فضلهم ومنزلتهم على سائر المخلوقات، من سيرة هذه الشخصيّة العظيمة التي ملأت أركان الوجود، تعلّم الإنسان القيم المثلى التي بها الحياة الكريمة، كالإباء والتحمّل والصبر في سبيل الوقوف بوجه الظلم، وغيرها من القيم المعرفيّة والعمليّة، التي كرَّس علماؤنا الأعلام جهودهم وأفنوا أعمارهم من أجل إيصالها إلى مجتمعات كانت وما زالت بأمسّ الحاجة إلى هذه القيم، وتلك الجهود التي بُذلت من قِبَل الأعلام جديرة بالثناء والتقدير؛ إذ بذلوا ما بوسعهم، وأفنوا أغلى أوقاتهم، وزهرة أعمارهم؛ لأجل هذا الهدف النبيل.
إلّا أنّ هذا لا يعني سدّ أبواب البحث والتنقيب في الكنوز المعرفيّة التي تركها× للأجيال اللاحقة ـ فضلاً عن الجوانب المعرفيّة في حياة سائر المعصومين^ ـ إذ بقي منها من الجوانب ما لم يُسلّط الضوء عليه بالمقدار المطلوب، وهي ليست بالقليل، بل لا نجانب الحقيقة فيما لو قلنا: هي أكثر ممّا تناولته أقلام علمائنا بكثير، فلا بدّ لها أن تُعرَف لتُعرَّف، بل لا بدّ من العمل على البحث فيها ودراستها من زوايا متعدّدة، لتكون منهجاً للحياة، وهذا ما يزيد من مسؤوليّة المهتمّين بالشأن الديني، ويحتّم عليهم تحمّل هذه المهمّة الجسيمة؛ استكمالاً للجهود المباركة التي قدّمها علماء الدين ومراجع الطائفة الحقّة.
ومن هذا المنطلق بادرت الأمانة العامّة للعتبة الحسينيّة المقدّسة لتخصيص سهم وافر من جهودها ومشاريعها الفكريّة والعلميّة حول شخصيّة الإمام الحسين× ونهضته المباركة؛ إذ إنّها المعنيّة بالدرجة الأُولى وبالأساس بمسك هذا الملف التخصّصي، فعمدت إلى زرع بذرة ضمن أروقتها القدسيّة، فكانت نتيجة هذه البذرة المباركة إنشاء مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصّصيّة في النهضة الحسينيّة، التابعة للعتبة الحسينيّة المقدّسة، حيث أخذت على عاتقها مهمّة تسليط الضوء ـ بالبحث والتحقيق العلميّين ـ على شخصيّة الإمام الحسين×، ونهضته المباركة، وسيرته العطرة، وكلماته الهادية، وفق خطّة مبرمجة، وآليّة متقنة، تمّت دراستها وعرضها على المختصّين في هذا الشأن؛ ليتمّ اعتمادها والعمل عليها ضمن مجموعة من المشاريع العلميّة التخصّصيّة، فكان كلّ مشروع من تلك المشاريع متكفِّلاً بجانب من الجوانب المهمّة في النهضة الحسينيّة المقدّسة.
كما ليس لنا أن ندّعي ـ ولم يدّعِ غيرنا من قبل ـ الإلمام والإحاطة بتمام جوانب شخصيّة الإمام العظيم ونهضته المباركة، إلّا أنّنا قد أخذنا على أنفسنا بذل قصارى جهدنا، وتقديم ما بوسعنا من إمكانات في سبيل خدمة سيّد الشهداء×، وإيصال أهدافه السامية إلى الأجيال اللاحقة.
المشاريع العلميّة في المؤسّسة
بعد الدراسة المتواصلة التي قامت بها مؤسّسة وارث الأنبياء حول المشاريع العلميّة في المجال الحسيني، تمّ تحديد مجموعة كبيرة من المشاريع العلميّة الأكثر أهمّيّة، وهي:
الأوّل: قسم التأليف والتحقيق
ويُعنَى هذا القسم بالكتابة في العناوين الحسينيّة التي لم يتمّ تناولها بالبحث والتنقيب، أو التي لم تُعطَ حقّها من ذلك، وكذا العمل قائم على جمع وتحقيق وتنظيم التراث الحسيني، خصوصاً فيما يرتبط بالمقاتل.
الثاني: قسم مجلّة الإصلاح الحسيني
وهي مجلّة فصليّة محوريّة متخصّصة في النهضة الحسينيّة، تهتمّ بنشـر معالم وآفاق الفكر الحسيني، وتسلِّط الضوء على تاريخ النهضة الحسينيّة وتراثها، وسائر أبعادها.
الثالث: قسم ردّ الشُّبُهات عن النهضة الحسينيّة
إنّ العمل في هذا القسم قائم على جمع الشُّبُهات المثارة حول الإمام الحسين× ونهضته المباركة، ثمّ يتمُّ الردُّ عليها بأُسلوب علمي تحقيقي.
الرابع: قسم الموسوعة العلميّة من كلمات الإمام الحسين×
وهي موسوعة علميّة تخصّصيّة مستخرَجة من كلمات الإمام الحسين× في مختلف العلوم وفروع المعرفة، باللغتين العربيّة والفارسيّة.
الخامس: قسم دائرة معارف الإمام الحسين× الألفبائيّة
وهي موسوعة تشتمل على كلّ ما يرتبط بالإمام الحسين× ونهضته المباركة من أحداث، ووقائع، ومفاهيم، ورؤى، وأعلام، وبلدان، وأماكن، وكتب، وغير ذلك، مرتّبة حسب الحروف الألفبائيّة، على شكل مقالات علميّة رصينة.
السادس: قسم الرسائل والأطاريح الجامعيّة
يتمّ العمل على إحصاء وجمع الرسائل والأطاريح الجامعيّة التي كُتبت حول النهضة الحسينيّة، ورفع النواقص العلميّة وإدخال التعديلات وطباعتها، وكذلك إعداد موضوعات حسينيّة وخطط تفصيليّة تصلح لكتابة رسائل وأطاريح جامعيّة توضع في متناول طلّاب الدراسات العليا.
السابع: الترجمة
وذلك لإثراء الساحة العلميّة بالتراث الحسيني وغيره عبر ترجمة ما كتب منه بلغات أُخرى إلى اللغة العربيّة، ونقل ما كتب باللغة العربيّة إلى اللغات الأُخرى.
الثامن: قسم الرَّصَد والإحصاء
في هذا القسم يتمُّ رصد جميع القضايا الحسينيّة المطروحة في جميع الوسائل المتّبعة في نشر العلم والثقافة ضمن أرشيف كبير، ويتمّ إصدار مجلّة شهريّة لتغطية ذلك.
التاسع: قسم المؤتمرات والندوات والملتقيات العلميّة
يعمل هذا القسم على إقامة مؤتمرات وملتقيات وندوات علميّة فكريّة متخصّصة في النهضة الحسينيّة.
العاشر: قسم المكتبة الحسينيّة التخصّصيّة
يضمّ هذا القسم مكتبة حسينيّة ورقيّة تخصّصيّة وأُخرى إلكترونيّة تعمل على رفد القرّاء والباحثين في المجال الحسيني.
الحادي عشر: قسم الإعلام الحسيني
يتمّ العمل فيه على جهتين:
الأُولى: إنشاء القنوات الإعلاميّة، والصفحات والمجموعات الإلكترونيّة في وسائل التواصل الاجتماعي كافّة، وإنتاج مقاطع مرئيّة في الموضوعات الحسينيّة المختلفة، مختصرة ومطوّلة، وبصورة حلقات مفردة ومتسلسلة، فرديّة وحواريّة.
الثانية: الموقع الإلكتروني ومن خلاله يتمّ إطلاع العلماء والباحثين والقرّاء الكرام على نتاجات المؤسّسة وإصداراتها، ونشر أخبار نشاطات المؤسّسة وفعّاليّاتها.
الثاني عشر: قسم إقامة الدورات وإعداد المناهج
يتكفّل هذا القسم بإعداد الدورات الحسينيّة في المباحث العقديّة والتاريخيّة والأخلاقيّة، كما يضطلع بمهمّة كبيرة، بإعداد مناهج حسينيّة تعليميّة وتثقيفيّة لمختلف الفئات وعلى عدّة مستويات.
الثالث عشر: القسم النسوي
يعمل هذا القسم من خلال كادر علمي متخصّص وبأقلام علميّة نسويّة في الجانب الديني والأكاديمي على تفعيل دور المرأة المسلمة في الفكر الحسيني.
الرابع عشر: القسم الفنّي
إنّ العمل في هذا القسم على طباعة وإخراج النتاجات التي تصدر عن المؤسّسة.
وهناك مشاريع أُخرى سيتمّ العمل عليها إن شاء الله تعالى.
وهذا الكتاب:
النهضة الحسينية ودورها في الحركة الثقافية
إنّ كلّ مجتمع من المجتمعات البشريّة تحكمه مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف والقناعات التي يطلق على مجموعها بالثقافة، وهي تتكوّن وتتألّف خلال فترات زمنيّة ليست بالقليلة، وبعضها يكون بشكل عفوي تراكمي، وبعضها يكون من خلال الإملاءات أو التعليم أو الترغيب والترهيب، هذه الثقافة تارة تكون بالنحو الإيجابي وأخرى بالنحو السلبي، وعادة ما يكون الواقع خليطاً منهما يغلب هذا تارة وذاك أخرى. من هنا يأتي دور المصلحين لترجيح كفّة الجانب الإيجابي على الآخر بما يحقّق العدالة ومصالح المجتمع والفرد المشروعة.
جاءت الرسالة الإسلاميّة وبقائدها العظيم الرسول محمّد’ لتغيير ثقافة مجتمع غلب عليه الظلم والحرمان وانتشار الباطل واندثار الحقّ، وقد أعاد الواقع الإيجابي للمجتمع من خلال إحلال العدالة وحفظ الحقوق ونبذ الظلم وإطاعة الخالق وعبادته وما إلى ذلك.
لكن وللأسف أنّ الواقع الثقافي الإيجابي الذي صنعه الرسول الأعظم’ بدأ بالتغيّر شيئاً فشيئاً على يد بعض النفوس المريضة، وتغيّرت مبادئه وأبرز معالمه، فقد تغيّر جوهر التوحيد، وحقيقة النبوّة وانتقص من شخص الرسول’، وزيّف مبدأ الإمامة، كما قد عطّل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح الظلم مشروعاً، والظالم حاكماً والعادل مشرّداً، وأصبحت أموال المسلمين دولة بيد الحكّام الظلمة، وقد ارتكبت المحرّمات وعطّلت الواجبات، وسادت ثقافة جديدة باسم الإسلام لا تحمل منه إلّا الاسم، بل وحتّى الاسم كان مستهدفاً.
في مثل هذه الظروف جاءت النهضة الحسينيّة لإصلاح هذا الواقع الثقافي المأزوم الذي انقلب على الثقافة الإسلاميّة الصحيحة من خلال كلمات وتضحيات ومواقف ودماء الإمام الحسين× الذي أسّس من جديد للثقافة الإسلاميّة التي جاء بها الرسول الأعظم’.
هذا ما سلّط الباحث الضوء عليه لبيان أبعاده وتفصيلاته بالأدلّة والبراهين، وقد أجاد فيما أفاد من بحث وتنقيب وبيان للحقائق.
وفي الختام نسأل الله تعالى للمؤلّف دوام السداد والتوفيق لخدمة القضيّة الحسينيّة.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أعمالنا إنَّه سميعٌ مجيبٌ.
اللجنة العلمية
في مؤسّسة وارث الأنبياء
للدراسات التخصّصية في النهضة الحسينية
ﭑ ﭒ ﭓ
عندما نريد أن نتعرّف على أيّ ظاهرة اجتماعية نحتاج إلى دراسة كلّ ما يحيط بها من ظروف وملابسات لمعرفة الأسباب الطبيعية التي أدّت إلى نشوئها؛ فإنّ الظاهرة الاجتماعية ـ الإيجابية منها والسلبية ـ لا يمكن أن تُولَد وتتجذّر في المجتمع، بحيث تصبح ظاهرة اجتماعية ما لم تتحقّق أسبابُها وعللها.
وفي هذه الدراسة المتواضعة نريد أن نسلّط الضوء على الظواهر الاجتماعية في الأُمّة الإسلامية في زمن الإمام الحسين×، والتي خرج لإصلاحها حينما قال: «إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي»، أو التي استعان بها في نهضته؛ فإنّ هناك ظروفاً تهيّأت في زمن الإمام الحسين× مكّنته من الخروج لم تتوفّر لغيره من الأئمّة^.
لذا فإنّ منحى هذه الدراسة هو البحث عن الظاهرة الاجتماعية، لا عن شخصية المصلح (الإمام الحسين×) إلّا بمقدار ما يرتبط بموضوع الدراسة، ومحلّ البحث. فجاء البحث عن ثقافة المجتمع بما هي ظاهرة اجتماعية، وعن أسبابها، وما هي الحلول التي افترضها المصلح المعصوم لعلاج تلك الظواهر، وما هي نتائج الإصلاح المفترض، وما هو تأثير هذه الحركة على ثقافة الأُمّة؟
وعلى هذا الأساس الذي انتهجناه هدفاً لدراستنا سيكون البحث متضمّناً لمقدّمة وأربعة فصول وخاتمة.
أمّا المقدّمة، فتهدف إلى بيان المفردات المستعملة في البحث، وبيان أهمّية الثقافة في حركة الفرد والمجتمع.
بينما الفصل الأوّل مهمّته بيان الصفات والحالات الاجتماعية المتفشّية في المجتمع على الصعيد الديني بشقّيه العقائدي والسلوكي، وعلى الصعيد السياسي بما هو ظاهرة اجتماعية قبل قيام الإمام الحسين×.
ثمّ يشرع الفصل الثاني في بيان مقوّمات النهضة بشكل عام، ثمّ بيان توفّر هذه المقوّمات في حركة سيّد الشهداء×.
وسيكون الفصل الثالث مخصّصاً لبيان أسباب تقاعس المجتمع عن نصرة الإمام الحسين×، وفشل المجتمع الكوفي في مواصلة النصرة.
أمّا الفصل الرابع، فمعقود لبيان أهداف وثمار النهضة الحسينية التي خرج سيّد الشهداء لتحقيقها، وأسباب الخروج من المدينة، ثمّ الخروج من مكة باتجاه الكوفة دون غيرها من الحواضر الإسلامية. وما هي النتائج التي تحقّقت ببركة نهضة سبط رسول الله’؟
ثمّ ذكرنا في خاتمة المطاف موقف الإمام الحسين× من المشروع الأُموي في زمن معاوية، وفي زمن يزيد.
ولا بدّ من التنويه إلى أنّ المنهج المتّبع في هذه الدراسة هو التعاطي مع النصوص التاريخية، وذلك من خلال تجميع القرائن العقلية والنقلية التاريخية والروائية لمعرفة الحقّ فيها أو اكتشاف التفسير الصحيح لها.
كما لا يفوتني أن أتقدّم بالشكر والامتنان لجميع مَن ساهم في إنجاح هذه الدراسة، وأخصّ بالذكر اللجنة العلمية في (مؤسّسة وارث الأنبياء× للدراسات التخصّصية في النهضة الحسينية)؛ لمِا بذلوه من دقة في المتابعة والمراجعة، وإبداء الملاحظات التي رفعت من مستوى الدراسة مضموناً وهيكلةً، وتنقيتها من بعض جوانب الضعف فيها.
وفي الختام نرجو من الله العلي القدير أن يوفّقنا لإتمام هذا البحث، ويجعله خدمة في طريق دينه، ونصرة أوليائه.
سعد شريف البخاتي
30/ذي القعدة /1443ﻫ