العتبة الحسينيةمؤسسة وارث الأنبياء
مخطوطة العتبة الحسينيةمخطوطة وارث الأنبياء
فقه الإعلام ـ المنبر الحسيني أُنموذجاً

فقه الإعلام ـ المنبر الحسيني أُنموذجاً

  • المؤلف: السيد محمود المقدس الغريفي

  • الطبعة: الأولي

  • الناشر : مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

  • سنة الطبع: 1442 هـ ـ 2021 م

مقدّمة المؤسّسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

إنّ العلم والمعرفة مصدر الإشعاع الذي يهدي الإنسان إلى الطريق القويم، ومن خلالهما يمكنه أن يصل إلى غايته الحقيقية وسعادته الأبدية المنشودة، فبهما يتميّز الحقّ من الباطل، وبهما تُحدد اختيارات الإنسان الصحيحة، وعلى ضوئهما يسير في سبل الهداية وطريق الرشاد الذي خُلق من أجله، بل على أساس العلم والمعرفة فضّله الله  على سائر المخلوقات، واحتجّ عليهم بقوله: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)([1])، فبالعلم يرتقي المرء وبالجهل يتسافل، وقد جاء في الأثر «العلمُ نورٌ»([2])، كما بالعلم والمعرفة تتفاوت مقامات البشر ويتفوّق بعضهم على بعض عند الله ، إذ (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)([3])، وبهما تسعد المجتمعات، وبهما الإعمار والازدهار، وبهما الخير كلّ الخير.

ومن أجل العلم والمعرفة كانت التضحيات الكبيرة التي قدّمها الأنبياء والأئمة والأولياء^، تضحيات جسام كان هدفها منع الجهل والظلام والانحراف، تضحيات كانت غايتها إيصال المجتمع الإنساني إلى مبتغاه وهدفه، إلى كماله، إلى حيث يجب أن يصل ويكون، فكان العلم والمعرفة هدف الأنبياء المنشود لمجتمعاتهم، وتوسّلوا إلى الله بغية إرسال الرسل التي تعلّم المجتمعات فقالوا: (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)([4])، و(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)([5])، ما يعني أنّ دون العلم والمعرفة هو الضلال المبين والخسران العظيم.

بل هو دعاؤهم^ ومبتغاهم من الله لأنفسهم أيضاً؛ إذ طلبوا منه تعالى بقولهم: «وَاملأ قُلُوبَنا بِالْعِلْمِ وَالمَعْرفَةِ»([6]).

وبالعلم والمعرفة لا بدّ أن تُثمّن تلك التضحيات، وتُقدّس تلك الشخصيات التي ضحّت بكلّ شيء من أجل الحقّ والحقيقة، من أجل أن نكون على علم وبصيرة، من أجل أن يصل إلينا النور الإلهي، من أجل أن لا يسود الجهل والظلام.

فهذه هي سيرة الأنبياء والأئمة^ سيرة الجهاد والنضال والتضحية والإيثار لأجل نشـر العلم والمعرفة في مجتمعاتهم، تلك السيرة الحافلة بالعلم والمعرفة في كلّ جانب من جوانبها، والتي ينهل منها علماؤنا في التصدّي لحلّ مشاكل مجتمعاتهم على مرّ العصور والأزمنة والأمكنة، وفي كافّة المجالات وشؤون البشر.

وهذه القاعدة التي أسسنا لها لا يُستثنى منها أيّ نبي أو وصي، فلكلّ منهم^ سيرته العطرة التي ينهل منها البشر للهداية والصلاح، إلّا أنّه يتفاوت الأمر بين أفرادهم من حيث الشدّة والضعف، وهو أمر عائد إلى المهام التي أنيطت بهم^، كما أخبر  بذلك في قوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)([7])، فسيرة النبي الأكرم’ ليست كبقية سير الأنبياء، كما أنّ سيرة الأئمة^ ليست كبقية سير الأوصياء السابقين، كما أنّ التفاوت في سير الأئمة^ فيما بينهم مما لا شك فيه، كما في تفضيل أصحاب الكساء على بقية الأئمة^.

والإمام الحسين× تلك الشخصية القمّة في العلم والمعرفة والجهاد والتضحية والإيثار، أحد أصحاب الكساء الخمسة التي دلّت النصوص على فضلهم ومنزلتهم على سائر المخلوقات، الإمام الحسين× الذي قدّم كلّ شيء من أجل بقاء النور الربّاني، الذي يأبى الله أن ينطفئ، الإمام الحسين× الذي بتضحيته تعلّمنا وعرفنا، فبقينا.

فمن سيرة هذه الشخصية العظيمة التي ملأت أركان الوجود تعلَّم الإنسان القيم المثلى التي بها حياته الكريمة، كالإباء والتحمّل والصبر في سبيل الوقوف بوجه الظلم، وغيرها من القيم المعرفية والعملية، التي كرَّس علماؤنا الأعلام جهودهم وأفنوا أعمارهم من أجل إيصالها إلى مجتمعات كانت ولا زالت بأمسّ الحاجة إلى هذه القيم، وتلك الجهود التي بُذلت من قبل الأعلام جديرة بالثناء والتقدير؛ إذ بذلوا ما بوسعهم وأفنوا أغلى أوقاتهم وزهرة أعمارهم لأجل هذا الهدف النبيل.

إلّا أنّ هذا لا يعني سدّ أبواب البحث والتنقيب في الكنوز المعرفية التي تركها× للأجيال اللاحقة ـ فضلاً عن الجوانب المعرفية في حياة سائر المعصومين^ ـ إذ بقي منها من الجوانب ما لم يُسلّط الضوء عليه بالمقدار المطلوب، وهي ليست بالقليل، بل لا نجانب الحقيقة فيما لو قلنا: بل هي أكثر مما تناولته أقلام علمائنا بكثير، فلا بدّ لها أن تُعرَف لتُعرَّف، بل لا بدّ من العمل على البحث فيها ودراستها من زوايا متعددة، لتكون منهجاً للحياة، وهذا ما يزيد من مسؤولية المهتمين بالشأن الديني، ويحتّم عليهم تحمّل أعباء التصدّي لهذه المهمّة الجسيمة؛ استكمالاً للجهود المباركة التي قدّمها علماء الدين ومراجع الطائفة الحقّة.

ومن هذا المنطلق؛ بادرت الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدّسة لتخصيص سهم وافر من جهودها ومشاريعها الفكرية والعلمية حول شخصية الإمام الحسين× ونهضته المباركة؛ إذ إنّها المعنيّة بالدرجة الأولى والأساس بمسك هذا الملف التخصصي، فعمدت إلى زرع بذرة ضمن أروقتها القدسية، فكانت نتيجة هذه البذرة المباركة إنشاء مؤسّسة وارث الأنبياء للدراسات التخصّصية في النهضة الحسينية، حيث أخذت على عاتقها مهمّة تسليط الضوء ـ بالبحث والتحقيق العلميين ـ على شخصية الإمام الحسين× ونهضته المباركة وسيرته العطرة، وكلماته الهادية، وفق خطة مبرمجة وآلية متقنة، تمّت دراستها وعرضها على المختصّين في هذا الشأن؛ ليتمّ اعتمادها والعمل عليها ضمن مجموعة من المشاريع العلمية التخصّصية، فكان كلّ مشروع من تلك المشاريع متكفِّلاً بجانب من الجوانب المهمّة في النهضة الحسينية المقدّسة.

كما ليس لنا أن ندّعي ـ ولم يدّعِ غيرنا من قبل ـ الإلمام والإحاطة بتمام جوانب شخصية الإمام العظيم ونهضته المباركة، إلّا أنّنا قد أخذنا على أنفسنا بذل قصارى جهدنا، وتقديم ما بوسعنا من إمكانات في سبيل خدمة سيّد الشهداء×، وإيصال أهدافه السامية إلى الأجيال اللاحقة.

المشاريع العلمية في المؤسسة

بعد الدراسة المتواصلة التي قامت بها مؤسَّسة وارث الأنبياء حول المشاريع العلمية في المجال الحسيني، تمّ الوقوف على مجموعة كبيرة من المشاريع التي لم يُسلَّط الضوء عليها كما يُراد لها، وهي مشاريع كثيرة وكبيرة في نفس الوقت، ولكلٍّ منها أهميته القصوى، ووفقاً لجدول الأولويات المعتمد في المؤسَّسة تمّ اختيار المشاريع العلميّة الأكثر أهميّة، والتي يُعتبر العمل عليها إسهاماً في تحقيق نقلة نوعية للتراث والفكر الحسيني، وهذه المشاريع هي:

الأوّل: قسم التأليف والتحقيق

إنّ العمل في هذا القسم على مستويين:

أ ـ التأليف

ويُعنَى هذا القسم بالكتابة في العناوين الحسينية التي لم يتمّ تناولها بالبحث والتنقيب، أو التي لم تُعطَ حقّها من ذلك. كما يتمُّ استقبال النتاجات القيِّمة التي أُلِّفت من قبل العلماء والباحثين في هذا القسم؛ ليتمَّ إخضاعها للتحكيم العلمي، وبعد إبداء الملاحظات العلمية وإجراء التعديلات اللازمة بالتوافق مع مؤلِّفيها يتمّ طباعتها ونشرها.

ب ـ التحقيق

والعمل فيه قائم على جمع وتحقيق وتنظيم التراث المكتوب عن مقتل الإمام الحسين×، ويشمل جميع الكتب في هذا المجال، سواء التي كانت بكتابٍ مستقلٍّ أو ضمن كتاب، تحت عنوان: (موسوعة المقاتل الحسينيّة). وكذا العمل جارٍ في هذا القسم على رصد المخطوطات الحسينية التي لم تُطبع إلى الآن؛ ليتمَّ جمعها وتحقيقها، ثمّ طباعتها ونشرها. كما ويتمُّ استقبال الكتب التي تمّ تحقيقها خارج المؤسَّسة، لغرض طباعتها ونشرها، وذلك بعد إخضاعها للتقييم العلمي من قبل اللجنة العلمية في المؤسَّسة، وبعد إدخال التعديلات اللازمة عليها وتأييد صلاحيتها للنشر تقوم المؤسَّسة بطباعتها.

الثاني: مجلّة الإصلاح الحسيني

 وهي مجلّة فصلية متخصّصة في النهضة الحسينية، تهتمّ بنشـر معالم وآفاق الفكر الحسيني، وتسلِّط الضوء على تاريخ النهضة الحسينية وتراثها، وكذلك إبراز الجوانب الإنسانية، والاجتماعية والفقهية والأدبية في تلك النهضة المباركة، وقد قطعت شوطاً كبيراً في مجالها، واحتلّت الصدارة بين المجلات العلمية الرصينة في مجالها، وأسهمت في إثراء واقعنا الفكري بالبحوث العلمية الرصينة.

الثالث: قسم ردّ الشُّبُهات عن النهضة الحسينية

إنّ العمل في هذا القسم قائم على جمع الشُّبُهات المثارة حول الإمام الحسين× ونهضته المباركة، وذلك من خلال تتبع مظانّ تلك الشُّبُهات من كتب قديمة أو حديثة، ومقالات وبحوث وندوات وبرامج تلفزيونية وما إلى ذلك، ثُمَّ يتمُّ فرزها وتبويبها وعنونتها ضمن جدول موضوعي، ثمّ يتمُّ الردُّ عليها بأُسلوب علميّ تحقيقي في عدَّة مستويات.

الرابع: الموسوعة العلمية من كلمات الإمام الحسين×

وهي موسوعة علمية تخصصية مستخرَجة من كلمات الإمام الحسين× في مختلف العلوم وفروع المعرفة، ويكون ذلك من خلال جمع كلمات الإمام الحسين× من المصادر المعتبرة، ثمّ تبويبها حسب التخصّصات العلمية مع بيان لتلك الكلمات، ثمّ وضعها بين يدي ذوي الاختصاص؛ ليستخرجوا نظريات علميّة ممازجة بين كلمات الإمام× والواقع العلمي.

الخامس: قسم دائرة معارف الإمام الحسين× أو (الموسوعة الألفبائية الحسينية)

وهي موسوعة تشتمل على كلّ ما يرتبط بالإمام الحسين× ونهضته المباركة من أحداث، ووقائع، ومفاهيم، ورؤى، وأعلام وبلدان وأماكن، وكتب، وغير ذلك، مرتّبة حسب حروف الألف باء، كما هو معمول به في دوائر المعارف والموسوعات، وعلى شكل مقالات علميّة رصينة، تُراعَى فيها كلّ شروط المقالة العلميّة، مكتوبة بلغةٍ عصـرية وأُسلوبٍ حديث.

السادس: قسم الرسائل والأطاريح الجامعية

إنّ العمل في هذا القسم يتمحور حول أمرين: الأوّل: إحصاء الرسائل والأطاريح الجامعية التي كُتبتْ حول النهضة الحسينية، ومتابعتها من قبل لجنة علمية متخصّصة؛ لرفع النواقص العلمية، وتهيئتها للطباعة والنشر، الثاني: إعداد موضوعات حسينيّة من قبل اللجنة العلمية في هذا القسم، تصلح لكتابة رسائل وأطاريح جامعية، تكون بمتناول طلّاب الدراسات العليا.

السابع: قسم الترجمة

يقوم هذا القسم بمتابعة التراث المكتوب حول الإمام الحسين× ونهضته المباركة باللغات غير العربية لنقله إلى العربية ومنها إلى لغات أخرى، ويكون ذلك من خلال تأييد صلاحيته للترجمة، ثمَّ ترجمته أو الإشراف على ترجمته إذا كانت الترجمة خارج القسم.

الثامن: قسم الرَّصَد والإحصاء

يتمُّ في هذا القسم رصد جميع القضايا الحسينيّة المطروحة في جميع الوسائل المتّبعة في نشر العلم والثقافة، كالفضائيات، والمواقع الإلكترونية، والكتب، والمجلات والنشريات، وغيرها؛ ممّا يعطي رؤية واضحة حول أهمّ الأُمور المرتبطة بالقضية الحسينية بمختلف أبعادها، وهذا بدوره يكون مؤثّراً جدّاً في رسم السياسات العامّة للمؤسّسة، ورفد بقيّة الأقسام فيها، وكذا بقية المؤسّسات والمراكز العلمية في شتّى المجالات.

التاسع: قسم المؤتمرات والندوات العلمية

ويتمّ العمل في هذا القسم على إقامة مؤتمرات وملتقيات وندوات علميّة فكرية متخصّصة في النهضة الحسينية، لغرض الإفادة من الأقلام الرائدة والإمكانات الواعدة، ليتمّ طرحها في جوٍّ علميّ بمحضر الأساتذة والباحثين والمحقّقين من ذوي الاختصاص، كما تتمّ دعوة العلماء والمفكِّرين؛ لطرح أفكارهم ورؤاهم القيِّمة على الكوادر العلمية في المؤسَّسة، وكذا سائر الباحثين والمحققين وكلّ من لديه اهتمام بالشأن الحسيني، للاستفادة من طرق قراءتهم للنصوص الحسينية وفق الأدوات الاستنباطية المعتمَدة لديهم.

العاشر: قسم المكتبة الحسينية التخصصية

وهي مكتبة حسينية تخصّصية تجمع التراث الحسيني المخطوط والمطبوع، وتجمع آلاف الكتب المهمّة في مجال تخصُّصها.

الحادي عشر: قسم الموقع الإلكتروني

وهو موقع إلكتروني متخصِّص بنشر نتاجات وفعاليات مؤسَّسة وارث الأنبياء، يقوم بنـشر وعرض كتبها ومجلّاتها التي تصدرها، وكذا الندوات والمؤتمرات التي تقيمها، وكذا يسلِّط الضوء على أخبار المؤسَّسة، ومجمل فعالياتها العلمية والإعلامية.

الثاني عشر: القسم النسوي

يعمل هذا القسم من خلال كادر علمي متخصِّص وبأقلام علمية نسوية في الجانب الديني والأكاديمي على تفعيل دور المرأة المسلمة في الفكر الحسيني، كما يقوم بتأهيل الباحثات والكاتبات ضمن ورشات عمل تدريبية، وفق الأساليب المعاصرة في التأليف والكتابة.

الثالث عشر: القسم الفني

إنّ العمل في هذا القسم قائم على طباعة وإخراج النتاجات الحسينية التي تصدر عن المؤسَّسة، من خلال برامج إلكترونية متطوِّرة يُشرف عليها كادر فنيّ متخصِّص، يعمل على تصميم الأغلفة وواجهات الصفحات الإلكترونية، وبرمجة الإعلانات المرئية والمسموعة وغيرهما، وسائر الأمور الفنيّة الأخرى التي تحتاجها كافّة الأقسام.

وهناك مشاريع أُخرى سيتمّ العمل عليها إن شاء الله تعالى.

هذا، وإنّ من أبرز المشاريع التي أنشأتها هذه المؤسسة المباركة هو إصدار مجلّة فصلية متخصصة في النهضة الحسينية، تحمل عنوان (الإصلاح الحسيني)، وقد صدرت تحت عنوانها مجموعة من الأعداد احتوت علىٰ مقالات علمية تحقيقية رصينة، وما زال العمل مستمرّاً في هذا المشروع بعون الله تعالى، وقد اتفقت مجموعة من المقالات على موضوع واحد تمّ تناوله من حيثيات مختلفة، أو في أبحاث متسلسلة، فكان من المناسب ـ بل والضروري ـ أن تُجمع أبحاث كهذه في كتاب مستقل كي تُلملم أطراف البحث الواحد وتعمّ الفائدة المطلوبة، فكان من الأُمور المهمّة التي عمل عليها قسم مجلّة الإصلاح الحسيني هو إصدار سلسلة مؤلّفات بعنوان كتاب المجلة، وهي كالتالي:

1ـ زيارة الإمام الحسين× (بحث استدلالي في روايات الوجوب)، تأليف: الشيخ رافد التميمي.

2ـ أُصول المقتل الحسيني (دراسة تسلّط الضوء على الأُصول الكوفية للمقتل الحسيني)، تأليف: الشيخ عامر الجابري.

3ـ الأهداف والمبادئ السياسية لنهضة الإمام الحسين×، تأليف: الشيخ قيصر التميمي.

وهذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ هو الكتاب الرابع من هذه السلسلة، والذي يحمل عنوان: (فقه الإعلام.. المنبر الحسيني أُنموذجاً)، تأليف: سماحة السيّد محمود المقدَّس الغُريفي، وقد نُشرت بحوثه في أعداد سابقة من المجلّة مع إجراء مجموعة من التعديلات والإضافات الجديدة التي تفضّل بها الكاتب مشكوراً.

وقد تناول هذا الكتاب موضوعاً مهمّاً وحيويّاً يدخل في تكوين وبلورة مجالات تواصلية متعددة، ألا وهو موضوع الإعلام، حيث سلّط الباحث الضوء من خلاله على مجموعة من الأبحاث الإعلامية المتناسقة ليعطي صورة متكاملة عن موضوع دراسته، من قبيل: بيان مفهوم الإعلام، والحديث عن أبرز وسائله وأدواته، وأهمّ أغراضه وأهدافه ومقوّماته، والتطرّق إلى سمات الإعلام الإسلامي وخصائصه، والوجه الفقهي للإِعلام في المنظور الإسلامي. وكان نصيب القضية الحسينية في هذا الكتاب هو جعل المنبر الحسيني أُنموذجاً لهذه الدراسة، مع بيان دوره الإعلاميّ وأثره في المجتمع الإسلامي.

وفي الختام نسأل الله تعالى للمؤلِّف دوام السَّداد والتوفيق لخدمة القضية الحسينية، ونسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أعمالنا إنّه سميعٌ مجيبٌ.

اللجنة العلمية في

مؤسسة وارث الأنبياء

 للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

تصدير

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ الإعلام والتواصل الإعلاميّ ليس وليد اليوم أو أمس، بل هو حاجة إنسانية مُلحّة فرضها الواقع البشري عبر العصور والأجيال، ومنذُ أن كانت الحياة الإنسانيّة حياة بدائية فإنّه لم يستغنِ عن هذا التواصل الإعلاميّ بين أبناء جنسه ومحيطه الاجتماعي، فإنّ الإنسان اجتماعي بطبعه يحتاج إلى التفاهم والحوار مع الآخرين، وتبادل المعلومة والأخبار وتلاقح الأفكار بينهم، وهذه الحاجة الإنسانيّة بقيت وما زالت مستمرّة، بل ازدادت الحاجة إليها وأخذت بالتطوّر والاتّساع والتنوّع في وسائلها وآليّاتها بتدرّج؛ نتيجة تطوّر المجتمعات الإنسانيّة وتعدُّدها وتَشعُّبها، وحسب مقتضـى الحاجة البشـرية حتّى قفزت ثورة الاتّصالات والمعلوماتية قفزة عظيمة خلال القرن العشـرين وحتّى يومنا هذا، وأخذت بالتطوّر الهائل والواسع في مجال نقل المعلومة والخبر، وتنوُّع الأساليب الحديثة وتجدُّدها حسب حاجة الإنسان زماناً ومكاناً.

هذا، وكان العامل المشترك بين كافّة وسائل التواصل الإعلاميّ وآليّاته هو الكلمة، فإنّ لها الدور الأكبر، بل الأهمّ فيما يترتّب عليها سلباً أو إيجاباً في حقيقة التواصل الإعلاميّ والتبليغ المعرفي.

فإنّ الكلمة والكلام والقول، كلُّ أُولئك يحتلّ مكانة متميّزة في الإسلام، فقد أعطى للكلمة حيّزاً كبيراً من الأهمّية، واعتنى بها عناية فائقة، وجعل لها رقابة ومسؤولية مهمّة، فهي مصداق لكلّ خير أو شرّ، بحسب استعمال المتكلّم أو الإعلاميّ أو الكاتب لها، فإنْ كان يدعو إلى الخير والفضيلة كانت خيراً، وإن كان يدعو إلى الشـرّ والرذيلة كانت شرّاً، ولِعظم أهمّية تلك المفردات وخطرها في الإسلام جعل الله عليها رقيباً وحسيباً، كما في قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ([8]).

ثمّ إنّ للكلمة دوراً مهمّاً وعظيماً في التوعية والإرشاد، وهي العنصـر الأساس في الإعلام والتبليغ؛ لأنّها أهمّ وسيلة للتعبير عن أُطروحات الفكر النيِّر، ونشـر المبادئ السامية والأفكار الخلّاقة، بل تُعدّ المحور الأبرز، والدعامة الرصينة الفاعلة التي ترتكز عليها الوسائل الإعلاميّة المختلفة والمتنوّعة، على الرغم من تطوّر مراحلها وتغيّر وسائلها وتعدّد أدواتها وسعتها.

كما أنّ للكلمة ـ وتنوّع استخدام الكلام ـ أثراً بارزاً، فهي عنصـرٌ فاعلٌ ومحرّكٌ في تأجيج الأحاسيس والمشاعر واستيعابها، وبيان ما في القلب والنفس والفكر، فالكلام كما جاء عن الإمام الصادق× هو: «إظهار ما في قلب المرء من الصفاء والكدر، والعلم والجهل»([9]).

والكلام هو عمليّة ربط مضامين الفكر الإنساني بأصوات يُنتجها النطق، وذات دلالات اصطلاحية في البيئة الاجتماعية التي تجري فيها هذه العملية. والأصل في اللغة أن تكون كلاماً ومشافهة، وأمّا الكتابة فتُقصد إلى تمثيل الكلام المنطوق بطريقة منظورة، أي: إنّها تميِّز الكلام الملفوظ([10]).

فالكلمة المكتوبة أو المسموعة هي العنصـر الأساس في دائرة الإعلام، وحولها تدور الوسائل الإعلاميّة المختلفة، فهي قناة الارتباط والتفاهم بين صاحب الرسالة أو الإعلاميّ، وبين الناس والمتلقّين، فينبغي أن تكون الكلمة المُلقاة أو الرسالة المعروضة سليمة في مبناها، قويّة في معناها، مُحكمة في دلالاتها، وأن يكون صاحبها مؤمناً بما يعرضه متمسّكاً به، كما ينبغي أن يتمتَّع بحُسن الأُسلوب وقوّة العَرض والإقناع، ويمتلك قدرة عالية على الاستدلال والبرهان، بعيداً عن الخداع والكذب، والمماطلة والسفسطة الفارغة التي سرعان ما تكشفها الحقائق، وتظهرها الأيام، فيفتضح بين الناس، ويخسـر ثقتهم، وتسقط مكانته من النفوس، فلا يؤخذ عنه ولا يقبل منه، فَيسقط اعتباره بينهم، وتهتزّ مصداقيّته عندهم، سواء أكان شخصاً كالخطيب أو الإعلاميّ، أم وسيلة إعلامية كالصحيفة والقناة الفضائية ونحو ذلك.

إنّ الإعلام المسموع أو المقروء مسؤولية دينيّة وأخلاقية، اجتماعية وسياسية، تربوية وتوعوية، يجب علينا مراعاتها والحفاظ عليها مهما أمكن ذلك؛ تمهيداً لبناء المجتمع السليم والارتقاء بأبنائه.

كما أنّ تعدُّد وسائل الإعلام وتنوّعها، وشيوع وسائل الاّتصال وتطوّرها، مع إمكانية الحصول عليها والوصول إليها بسهولة ويسـر ـ لاسيّما في العقدَين الأخيرين ـ جعل من هذا العالم الكبير بمثابة قرية صغيرة تتناقل المعلومات بين أطرافها المترامية، ساعة الحدث وعين الواقعة، وتتفاعل الجماهير مع الأحداث بأقصـى سرعة ولحظة وقوع الحدث وصدور الخبر، وأصبح الجميع مُتلقّين مُنشَدّين إلى ما تُوصله لهم وسائل الإعلام، وما تَبُثُّه من معلومات ووثائق، وأحداث ووقائع، وأخبار وصور، فقد أصبحت وسائل الإعلام الحديثة الرفيق القريب والصديق الحميم للمجتمع والأُسرة والفرد، على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الفكرية والعقائدية.

وسواء شئنا أم أبينا، لا بدّ من أنّ إحدى وسائل الإعلام الحديثة قد دخلت بيوتنا، بل أصبحت جزءاً أساسياً من لوازم البيت وأدواته، ونازعت بعض خصوصيّتنا، وفرضت إرادتها علينا في الجملة، تاركين وراءها ركائز ثقافتنا وخصوصيّتنا وبيئتنا، وربما قلبنا لها ظهر المِجن كما يقال في المثل([11])، بما تحمله هذه الوسائل الإعلاميّة من قدرة التأثير والإقناع، والتجديد، والإبداع، والحرية، والانفتاح.

فما هو مفهوم الإعلام؟

وما هي أبرز وسائله وأدواته؟

وما هي أهمّ أغراضه وأهدافه ومقوّماته؟

وما هي سمات الإعلام الإسلامي وخصائصه؟

 وما هو الوجه الفقهي للإِعلام في المنظور الإسلامي؟

هذه مجموعة من التساؤلات وأجوبتها كانت محور البحث ـ في هذا الكتاب ـ سنقوم ببيانها في المقام على نحو الإيجاز؛ ليكون ذلك مدخلاً لدراسة أوسع لفقه الإعلام في المنظور الإسلامي. كما أنّنا سنسلّط الضوء على المنبر الحسيني كأُنموذج لهذه الدراسة، ونبيّن دوره وأثره الإعلاميّ في المجتمع الإسلامي.

 وهذه بضاعتي فإن نفعت فتلك غايتنا وإلّا.. فأجرنا على الله إنّه نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

السيِّد محمود المقدَّس الغُريفي

غرَّة صفر الخير 1430     هـ

النجف الأشرف

الإعلام لغةً واصطلاحاً

الإعلام في اللُّغة: يُعبّر عن عدّة معانٍ: كمعرفة الشـيء، أو الإخبار ونشـر المعلومات، أو الدعوة والتبليغ.

فلفظة الإعلام مشتقّة من كلمة (عَلِمَ)، ومعناها معرفة الشـيء على حقيقته([12])، وأيضاً تأتي لفظة الإعلام بمعنى الإخبار([13])، وأعلمْ بالشـيء أي: أبلغْ عنه وأخبرْ به، والتبليغ والإبلاغ أي: الإيصال([14])، ومنه التعليم أي: تبليغ المعلومات وإيصالها.

يقال: بلّغت القوم بلاغاً أي: أوصلتهم الشـيء المطلوب، وفي قول رسول الله|: «بلِّغوا عنّي ولو آية» ([15])، أي: أوصلوها إلى غيركم، وأعلموا الآخرين بها، وقوله| ـ أيضاً ـ: «فليُبلِّغ الشاهد الغائب»([16])، أي: فليُعلِم الشاهد الغائب.

وهناك مصطلحات أشار إليها القرآن الكريم في جملة من آياته الكريمة، تعتبر اليوم من الألفاظ المرادفة لمفهوم الإعلام، منها: الدعوة، والتبليغ، والإرشاد، والتبشير، والمرسل، والمنذر، والهادي، ونحو ذلك من المصطلحات القرآنية التي تتّفق مضموناً مع مفهوم الإعلام الحديث، والتي يتعلّق بعضها بذكر المهامّ التي جعلها الله تعالى على عاتق الرسول| كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)([17])، ويرتبط بعضها الآخر بالطريقة التي أرادها الله تعالى في عملية التبليغ كقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([18])، ويتعلّق بعضها ببيان حدود حركة الرسول| في عملية التبليغ والإيصال كقوله سبحانه وتعالى: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) ([19])، وقوله : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)([20]) وغير ذلك.

وقد استُعملت هذه المصطلحات في أوائل الدعوة الإسلاميّة وما بعدها، ولكن في العصور المتأخّرة أصبح مصطلح (الإعلام) هو الشائع، وإن كان لا مشاحّة في الاصطلاحات كما يُقال؛ فهي معانٍ مترادفة لمفهوم انتقال المعارف والمعلومات وانتشارها في المجتمع من جِهةٍ ما، فرداً، أو جماعةً، أو مؤسّسةً، لِتكون لغة للتفاهم والتفاعل، والتواصل والمشاركة بين أفراده، في ضمن حدودهم الثقافية السائدة والبيئة المحيطة بهم.

أمّا الإعلام في الاصطلاح فهو عبارة عن: «نشـر الحقائق والأخبار والأفكار والآراء بين الجماهير بوسائل الإعلام المختلفة: كالصحافة، والإذاعة، والسينما، والمحاضرات، والندوات، والمؤتمرات، والمعارض، وغيرها؛ وذلك بغية التوعية والإقناع وكسب التأييد»([21]).

وقيل: هو مجموعة الوسائل الهادفة إلى تحقيق الاتّصال ونقل المعلومات والمعارف بموضوعية؛ بغية الإخبار والتوجيه وتشكيل رأي الأُمّة إزاء القضايا المطروحة([22]).

وهناك معانٍ متعدّدة أُخر لتعريف وبيان مصطلح الإعلام، حاولنا لملمتها من هنا وهناك؛ لبيان المصطلح وتوضيحه بأوسع الدلائل وأقرب المعاني.

فهو: تزويد الناس بالأخبار الصحيحة والأحداث الواقعية، ونشـر المعلومات السليمة، ونقل الحقائق الثابتة والمعارف والعلوم الراقية والثقافات الفكرية والسلوكية، وانتقاؤها والتدقيق في صحتها ومنفعتها، بطرق معيّنة ومن خلال وسائل الإعلام وأدواته عموماً المادّية منها والمعنوية، بناءً على وجهة نظر ما في الحياة، وفق سياسة هادفة، وغاية مرسومة، وحسب منهج تربوي معيّن؛ بغية تكوين رأي صائب في الأُمّة، والتأثير على الأفكار والآراء، وتشكيل تصوّرات الشعوب وثقافة أبنائها إزاء قضايا العصر المعروضة، أو مشكلة من المشكلات عند الجماهير، وكيفية معالجة هذه القضايا والمشكلات في ضوء الرؤية والنظرية التي تبنّتها هذه الجهة أو تلك، من خلال وسائلها الإعلاميّة المتاحة والمشروعة، بحيث يعبّر هذا الرأي تعبيراً موضوعياً يعتمد الواقعية والمصداقية في العَرض عن آراء الناس واتّجاهاتهم وميولهم، كما يؤدّي إلى تشكيل اتّجاه الرأي داخل المجتمعات، وقد يكون غير موضوعيٍّ ومبالغاً فيه؛ وذلك لافتقاره إلى المصداقية والواقعية. فإن أضاف للإنسان والمجتمع العلم والمعرفة، والهدى والفضيلة، والخير والازدهار كان ذا اتّجاه صحيح وكان مستقيم الطريقة، وبالعكس إذا كان ينشـر الجهل والضلال، والرذيلة والشرّ كان في اتّجاه الانحراف والضلال والتخلُّف، وهذا من أهمّ أغراضه وأهدافه.

وسائل الإعلام

إنّ مفهوم الإعلام واحد عِبر مختلف العصور وإن تنوّع في الرؤى والأفكار والمعارف، وإنّما المتغيّر فيه هو الآليّات الإعلاميّة والوسائل المتّبعة، والطرق المتنوّعة في إيصال ما يُراد إيصاله للجماهير.

ويقوم العمل الإعلاميّ على شكل من أشكال الاتّصال بالآخر لتبليغه فكرة ما.. وتتنوّع طرق وأشكال الاتّصال والتواصل، فقد تتمظهر بعدّة مظاهر: كالخطب المنبرية، أو الندوات التثقيفية، وحلقات الحوار، أو طبع المؤلّفات والكتب ونشـر الروايات، وكالمجلّات والجرائد، انتقالاً إلى الرسائل الصوتية والمرئية كالإذاعة والتلفاز، ووصولاً إلى القنوات الفضائية، ووسائل الفنّ الدرامي كالتمثيل في المسـرح والسينما، ومعارض الفنّ التشكيلي، وغير ذلك من الطرق والوسائل والأشكال المتعدّدة والمتجدّدة، التي تُعرف بـ (وسائل الإعلام).

فكلُّ أداة تنقل الآراء والأفكار والرؤى إلى الناس هي في الحقيقة وسيلة إعلاميّة، فهي القناة أو الرابط التي يَعبُر منها الرأي إلى الناس، وفي الغالب أساسها الكلمة أو القول.

إذاً؛ وسائل الإعلام: هي مجموعة الأدوات والآليّات التي من خلالها يُعبِّر صاحب الرسالة الإعلاميّة عن آرائه وأفكاره، وينقل آراءَه ومعارفه ـ أي: مضمون الرسالة وماهيّتها ـ إلى المتلقّين أو المستمعين بشكل مباشر أو غير مباشر، على اختلاف أنواعها وطرقها كالإذاعة، أو التلفاز، أو المسـرح، أو الصحافة المقروءة، أو المؤتمرات، أو المنبر ونحو ذلك.

هذا، وإنّ الفكرة هي أساس العمل الإعلاميّ، وقد تكون سياسية، أو دينية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، ويجب أن تكون الفكرة واضحة ومفهومة، وأن تتمكّن من تحقيق التأثير والاستجابة فعلاً، والسلوك المطلوب من المتلقّي، وأن تخدم مصالحه، وأن يكون بحاجة إليها، وتتماشى مع الصالح العام([23]).

مقوّمات العمل الإعلاميّ

إنّ مقوّمات العمل الإعلاميّ وقاعدته ترتكز على أربعة عناصر أساسية وثابتة لا يمكن الاستغناء عن أحدها لتكامل الصورة الإعلاميّة والهدف المنشود من ذلك، وهي:

الركيزة الأُولى: الإعلاميّ، أو صاحب الرسالة الإعلاميّة

لا بدّ أن يتّصف رجل الإعلام بالوعي والثقافة والفطنة والخبرة في مجال الإعلام وطبيعة العمل، وأن يكون ذا دراية بطبيعة المتلقّي وتفكيره ومحيطه، والظروف الموضوعية التي تُحيط بالواقع وأهمّ أولوياته من الناحية الزمانية والمكانية للجماهير، حتّى يضع الكلام المناسب في المحلّ والزمن المناسب، وهو ما يُعبَّر عنه في علم البلاغة بـ: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أو بـ: لكلّ مقام مقال؛ فضلاً عن اتّصافه بالاستقامة والصدق والموضوعية والثبات على المبدأ، وعدم التلوُّن حسب مقتضـى المصلحة الشخصية ونحو ذلك.

 الركيزة الثانية: المستمع والمتلقّي والمخاطَب، فرداً كان أو جماعة

فإنّه ينبغي للمستمع والمتلقّي أن يكون نبهاً واعياً لما يُعرَض عليه من أفكار ومعلومات، وأن تكون له القدرة والبصيرة التي تمكِّنه من التمييز بين الحقيقة والخداع ولو بالسؤال والاستفسار، وقد أمرنا الله تعالى بالاستماع إلى ما يقال واتّباع أحسنه، كما قال تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)([24]).

وأن يختار بحكمة ودراية الجهة التي يستمع إليها ويأخذ عنها، وأن يعرف أهدافها ومبادئها وسلوكها، لئلّا يقع في مواطن الشكّ والشبهات والضلال، قال جلّ ثناؤه: (أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ([25]).

وقال الإمام الباقر×: «مَن أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإنْ كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»([26]).

الركيزة الثالثة: الرسالة أو المضمون

إنّ الرسالة أو المضمون من فكر، أو ثقافة، أو معلومة، أو خبر ونحو ذلك من المقرّر طرحه إلى المستمع والمتلقّي والمخاطَب لا بد أن يمتاز بميزات إيجابية، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ([27]).

 فإنّ على الإعلاميّ أن يعرض ما يريد عرضه على المتلقّي والجمهور من فكر أو رأي أو معلومة بصورة واضحة جلية سلسة وهادئة، تتماشى مع فكر المتلقّي، لا يشوبه الغموض أو الإبهام أو الفوقية أو الأمر، فإنّ هذا يبعث على التساؤلات والاستفهامات والاستنكارات.

 وأن يكون العَرض والمضمون من وحي الواقع، ويصبّ في خدمة الجمهور في مجالات الحياة كافّة الدينية، والثقافية، والسياسية، والاجتماعية، ونحوها، مع دراسة الأوضاع والظروف المحيطة بالمتلقّي زماناً ومكاناً، واختيار الوسيلة أو الطريقة الملائمة في عرض ما يُريد عرضه عليهم، حتّى يكون التأثير والاستجابة فاعلاً نافذاً عند المستمع والمتلقّي، مع قوّة الفكرة وحسن البيان باختيار الألفاظ المناسبة، وأن يكون أُسلوب العرض مناسباً للجميع.

 وأن يكون الإعلاميُّ ماهراً في تقريب رؤيته وفكرته لأذهانهم على اختلاف طبقاتهم، تبعاً لإمكاناته الذاتية ومكانته في المجتمع، فإنّ ذلك كفيل بالتأثير على الجماهير وإقناعهم ونزع ما قد يعلق في أذهانهم من شوائب غير صحيحة، وقد رُوي عن رسول الله| أنّه قال: «بَشّـروا ولا تُنفّروا، ويَسِّـروا ولا تُعَسِّروا»([28]).

الركيزة الرابعة: الأداة، أو الوسيلة الإعلاميّة

وهي الواسطة بين الإعلاميّ والمتلقّي، على اختلاف أنواعها وتعدُّدها اليوم، سواء أكان المنبر والخطابة، أم الصحيفة والمجلّة والنشـرات الدورية والكتب، أم الإذاعة والتسجيلات المحمولة، أم التلفاز والسينما والمسـرح، أم القنوات الفضائية وبرامجها، فضلاً عن شبكات التواصل الاجتماعي في شبكة الإنترنت. وكلُّ وسيلة من هذه الوسائل الإعلاميّة لها تأثيرها المعيّن على نوع المتلقّي وخصوصيّته.

فإنّ اختيار الوسيلة الإعلاميّة أو الطريقة المناسبة لمخاطبة الجمهور والتأثير عليهم، أمر مهمّ في ظرف زمانيّ ومكانيّ لا يمكن تغافله أبداً؛ بغية نجاح مهمّة الإعلاميّ، ولتحقيق تأثيره البالغ في نفوس الجمهور.

هذا، وإنّ رسالة الإعلام رسالة سماوية، أخلاقية، تربوية، نظير رسالة الأنبياء والأوصياء والعلماء إن لم تكن مُكمِّلة لها.

فلا بدّ أن تُبنى الرسالة الإعلاميّة على عُروضٍ عالية المضمون، سليمة الفكر، ذات هدف سامٍ، بما يخدم الأُمّة وأبناءها، بعيداً عن الخداع والتضليل والمراوغة، والانحراف الفكري والأخلاقي والعقائدي، وهذا هو الهدف الأساس الذي تُبنى عليه رسالة الإعلام، وسلوك الإعلاميّ الملتزم، قال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ([29]).

الإعلام الإسلامي

إنّ موضوع الإعلام هو القيام بإيصال المعارف والعلوم والحقائق، والأفكار والمعلومات والأخبار إلى الجماهير وإعلامهم بها، تبعاً لأهميّتها وتفاعلها معهم، وتثقيفهم بها، عِبر الوسائل الإعلاميّة المتاحة.

والإعلام الإسلامي هو إعلام رسالي دَعَويّ بنّاء، وأُسلوب من أساليب التأثير في الجماهير والرأي العام بشأن العقيدة الدينية، وهو أكبر من مجرّد عملية الإخبار أو الإعلام؛ لأنّه يفترض وجود علاقة ولاء قائمة أو ممكنة، فهو ليس دعاية؛ لأنّه يرفض كلّ تشويه أو تمويه([30]).

إنّه ـ أي: الإعلام الإسلامي ـ عبارة عن: «تزويد الجماهير بصفة عامّة بحقائق الدين الإسلامي، المستمدّة من كتاب الله وسنّة رسوله| بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من خلال وسيلة إعلامية دينية متخصّصة أو عامّة، بواسطة قائم بالاتّصال، لديه خلفية واسعة ومتعمّقة في موضوع الرسالة التي يتناولها؛ وذلك بغية تكوين رأي عامّ صائب يعي الحقائق الدينية ويُدركها ويتأثّر بها في معتقداته وعباداته ومعاملاته» ([31]). وعليه؛ فلا بدّ أن يلتزم الإعلاميّ ـ في المقام ـ بروح الإسلام بكلّ أهدافه ومتبنّياته وما يصدر عنه، وطرق استعمال وسائل الإعلام وأشكاله بصورة معتدلة، وأن يكون تحت إشراف إدارة إعلاميّة ملتزمة قولاً وفعلاً، ومنهجاً وسلوكاً.

وممّا لا شكّ به أنّ الإعلام الإسلامي يمتلك أساسيّات ومضامين ثابتة، فالمشرّع هو الله وحده، وليس لبشر حقّ إنشاء عقيدة أو إحداث عبادة يدعو لها من دون الله، ولكنّ الأمر يختلف بالنسبة لكيفية البلاغ، فليس هناك وسائل وأدوات محدّدة دون غيرها لنشر الدين الإسلامي، بل يجب استخدام كلّ الوسائل المتاحة لتوصيل كلمة الحقّ إلى الناس أجمعين... فمع ثبات المبادىء والقيم تتنوّع الوسائل وتختلف باختلاف الجماهير والبيئات والمعتقدات واللُّغات([32])، بما يتناسب وطبيعة كلّ عصـر، شريطة أَلّا تتناقض مع الشريعة الإسلاميّة وروحها، وأَلّا تستبطن أمراً محرّماً فيه تضليل أو تشويه لحقيقة الإسلام.

ويُطلق على الإعلام الإسلامي في القرآن الكريم لفظ التبليغ، أو البلاغ، أو الدعوة، أو الإرشاد ونحوها، وهو نقل الحقائق والإرشادات السماويّة إلى الناس، دون كذب أو تحريف أو تزييف، وهي مهمّة رسول الله| والأنبياء والأوصياء والأولياء والفقهاء الأبرار، كما جاء في قوله تعالى: (...وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)([33])، وقوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ...)([34])، وقوله سبحانه: (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)([35]). وغيرها من الآيات الشريفة.

فالإعلام الإسلامي هو عملية نقل المعلومات والحقائق إلى المتلقّي بطريقة إسلاميّة، فإنّه يتّصف بكونه إعلاماً ذا مبادئ أخلاقيّة عالية، وأحكام سلوكيّة راقية، ومبانٍ قِيَميّة سامية، تكون مستمدّة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، ومستوحاة من سيرة النبيّ الكريم محمد|، ومن سيرة أهل بيته الأطهار^.

ويجب أن يكون إعلاماً واضحاً غير مشوّش، وصريحاً ليس فيه ضبابيّة، وشفّافاً لا يكتنفه الغموض، عفيف الأُسلوب والعرض، نظيف الوسيلة والطريق، شريف القصد والهدف.

ويتميّز بأن غايته الحقّ، وقوله الصدق، لا يضلّ ولا يُظلّل، ولا يتّبع الأساليب الملتوية ولا الدنيئة في العرض والبيان، ولا يسلك سبل التغرير والخداع والكذب... بل طريقه التثبُّت والدقّة، والوضوح والاستقامة، النابعة من حقيقة الإسلام وعقيدة المسلم، المبنيّة على تحرّي مَواطن العلم واليقين بالأُمور، والابتعاد عن مَواطن الظنّ والوهم والشبهة والريبة، قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ([36]).

 وقوله تعالى: (...  إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) ([37]).

 وقوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)([38]).

 وقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...)([39])، بمعنى: كونوا على جانب منه، وإنّما ذكر الكثير ليحتاط الشخص في كلّ ظنّ، ويتأمّل حتّى يعلم أنّه من أيّ قبيل من الظنّ، فإنّ منه ما يجب اتّباعه: كالظنّ حيث لا قاطع فيه من العمليات، وحسن الظنّ بالله، ومن الظنّ ما يحرم: كالظنّ في مجال التوحيد والنبوّة والإمامة، وحيث يخالفه قاطع، وظنّ السوء بالله وبالمؤمنين، ومنه ما هو مباح كالظنّ في أُمور المعاش، وأمّا قوله : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فهو تعليل للأمر بالاجتناب، والإثم هو الذنب الذي يستحقّ به العقاب([40]).

وعليه؛ فمن الضروري أَلّا يعوِّل الشخص على ظنّ السوء، ويعتبره كأنّه لم يكن، وإذا عوّل عليه وظهر أثر ذلك في قول أو فعل كان مسؤولاً ومستحقّاً للذمّ والعقاب، وهذا هو الظنّ الذي أراده سبحانه بقوله: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). قال الرسول الأعظم|: «ثلاثة لا يسلم منها أحد: الطيرة، والحسد، والظنّ... فإذا تطيّرت فامضِ، وإذا حسدت فلا تبغِ، وإذا ظننت فلا تُحقّق. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) لا تعوّلوا عليه، ولا تعملوا به» ([41]).

كما ينبغي أن يتحلّى أُسلوب الإعلام الإسلامي باللّين والحكمة، والإرشاد القويم في الدعوة إلى منهج الدين الحنيف؛ ولهذا نجد أنّ الباري قد أمر رسوله الكريم| أن يتّسم أُسلوبه في الدعوة الإسلاميّة بالحكمة والموعظة والمُجادلة بالحسنى، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([42]).

والمُجادلة: «بضمّ الميم وفتح الدال مصدر جادل، المناظرة لإفحام الخصم وإسكاته»([43]). وقال الفيّومي في المصباح المنير: «جدل الرجل جدلاً فهو جَدِلٌ من باب تَعِبَ إذا اشتدّت خصومته، وجادل مجادلةً وجدالاً إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحقّ ووضوح الصواب، هذا أصله، ثمّ استُعمل على لسان حملة الشـرع في مقابلة الأدلّة لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحقّ وإلّا فمذموم»([44]).

وقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...) ([45])، أي: لا بدّ أن يكون الجدال عن وعي ودراية ومعرفة وحجّة، بالحكم والموضوع والمناسبة؛ حتّى لا يدخل في قوله تعالى: (...وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ)([46])، وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ...)([47]).

وقد مدح الله تبارك وتعالى رسوله الكريم محمداً| على أُسلوب تعامله مع الناس وطريقة دعوته في نشـر الرسالة الإسلاميّة، فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...)([48]). وهذه كانت من أهمّ مزايا رسول الله| وصفاته، حتّى قال فيه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)([49]).

كما أنّه أمر هارون وموسى÷ عندما أرسلهما إلى فرعون، فقال لهما عزّ من قائل: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)([50])، أي: كلِّماه برفق ولين عن الإيمان بالله تعالى جبّار السماوات والأرض، ولا تغلظا له في ذلك بأن تشدّدا عليه في القول والحوار، لا أقل بأن تُكنِّياه بكنيته عند التخاطب، فإنّ ذلك أسرع إلى الاستماع والقبول، وأبعد عن النفور والتعصُّب.

فإنّ هذا الأُسلوب والطريقة في الدعوة والعرض تبعث روح التآخي والمودّة في المجتمع الإسلامي، وتزرع الأُلفة والمحبّة بين أبنائه على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم، تمسُّكاً بقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا...)([51]).

إنّ الإعلام الإسلامي يعتمد على الوسائل الإعلاميّة كافّة المتاحة في المجتمع الإسلامي والإنساني، من وسائل مقروءة، أو مسموعة، أو مشاهَدة، أو إقامة الندوات والبرامج والمؤتمرات، بعروض وموضوعات هادفة وموجّهة ومُحكَمة. ولا بدّ أن يشمل جميع أنشطة الإعلام في المجتمع الإسلامي، ويؤدّي جميع وظائفه المثلى من التبليغية، والإرشادية، والمعرفية، والإخبارية، وحتّى الترفيهية.

كما يجب أن يتّسم الإعلاميُّ الرسالي والمبلِّغُ الإسلامي بصفات مهمّة تساعده في إيصال الغرض المنشود للمتلقّي، والتأثير في الجماهير، منها:

 

1- أن يكون مؤمناً بما يدعو إليه، ملتزماً به، معتقداً بأنّه الحقّ المبين، مع الإخلاص لله تعالى في عمله.

 2- أن يكون متفقّهاً في الدين الإسلامي، عارفاً بروح الشـريعة، واعياً لما يُحاك من المؤامرات ضدّ الإسلام وأبنائه من طرف الأعداء، وعارفاً بكيفيّة مناقشتها وردّها.

 3- أن يكون واثقاً بنفسه، ذا شخصية قوية ومتّزنة، لا تهزُّه العوارض، متواضعاً ذا خلق جميل يألفه الناس.

 4- أن يكون قدوةً حسنة للناس فيما يدعو إليه سيرةً وسلوكاً.

5- أن يكون فصيح اللّسان متمكّناً من اللُّغة، جزل العبارة حسن السبك للكلام.

 6- أن تكون له قدرة عالية على الصبر والحوار وإيصال الفكرة، وتحمّل المشقّة لأجل ذلك.

7ـ وأخيراً، أن يتّسم الإعلاميُّ الرسالي بحسن المنظر، والهندام الجيد بلا سرف ولا مغالاة، فقد ورد عن رسول الله| أنّه قال: «إنّكم قادمون على إخوانكم، فأصلِحوا رِحالكُم، وأصلِحوا لِباسكُم، حتى تكونوا كأنّكم شامَة في الناس»([52])، فإن المظهر الخارجي له الأثر الفعّال في اللقاء مع الناس والقبول، فتأنس به النفوس وترتاح له العيون، فيكون مقدمة للأخذ منه وطريقاً للإقناع، فإن كثيراً من الناس يحكمون على الأشخاص بَدواً من المظهر الخارجي، قبل الحكم على بقية المؤهلات والخصائص الأُخرى.

الإعلام ووسائله في التاريخ الإسلامي

إنّ الإعلام يرجع في جذوره التاريخية إلى مفهوم التبليغ الإسلامي، التي تتدرّج وسائله وتتطوّر وفق المعطيات الإنسانيّة ومراحل التطوُّر البشري تبعاً للظروف الزمانية والمكانية لذلك المجتمع.

وقد بذل رسول الله| غاية جهده في تبليغ الدعوة الإسلاميّة ونشر الرسالة، فلم يدعْ وسيلةً للدعوة أو آليّةً من آليّات التبليغ إلّا استفاد منها، ولم يترك سبيلاً إلّا سلكها، ولا فرصة سانحة للتعريف بالإسلام إلّا شقّ طريقه إليها وقصدها، وإن طالت المسافة وبَعُدت الشُّقّة.

هذا وقد كانت للنبي الأكرم| وسائله ـ التي نقلها لنا التاريخ ـ في تبليغ الرسالة وإيصالها إلى الناس، على نحو السـرِّية حينما أمره المولى  قائلاً: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) ([53])، ثمّ أمره  بإعلانها للملأ جميعاً بدعوة عشيرته من بني هاشم وأقرب الناس إليه، فقال له : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)([54]). ومن بعد ذلك أمره بإعلانها للملأ العامّ في المجتمع المكّي فقال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)([55]). فقام رسول الله| على جبل الصفا في أيّام الموسم ونادى: «يا أيُّها الناس، إنّي رسول الله ربِّ العالمين»([56])، وقالها ثلاثاً، ثمّ انطلق حتّى أتى جبل المروة ثمّ وضع يده في أُذنه ونادى ثلاثاً بأعلى صوته: «يا أيُّها الناس، إنّي رسول الله ربِّ العالمين»([57]).

واستثمر| فرصة وجود التجمُّعات والمواسم العامّة كالحجّ والعمرة ومواسم التجارة لإلقاء الخطب على الناس، وعرض الدين الجديد عليهم، وبيان أحكامه وسننه وتشـريعاته كما حدث في بيعة العقبة والرضوان، وفي أيّام التشـريق في منى وغيرها، ومن ثَمَّ كان المستمعون يقومون بنقل ذلك إلى قبائلهم وأقوامهم، وما حدث لقبيلتي الأوس والخزرج خير دليل على ذلك.

فكان| يمرُّ على الناس في أسواق الحج ـ ذي المجاز([58]) ـ ويقول لهم: «يا أيُّها الناس، قولوا: لا إله إلّا الله تُفلحوا»([59]).

 وكذا أمر المولى رسوله محمداً| بتبليغ الولاية لعليٍّ× وتنصيبه أميراً للمؤمنين ووليّاً عليهم من بعده، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...)([60]).

فنزل رسول الله| في غدير خم ـ وكان مفترق طرق ـ قبل أن يتفرّق جميع المسلمين، وطلب بأن يرجع إلى هذا المكان جميع الذين تقدّموا على موكبه|، فلمّا أرجعهم وانتظر المتأخّرين عنه ـ وكان يوماً شديد الحرّ ـ أمر بدوحات، فقُمَّ ـ أي: كُنِس ـ ما تحتها، وأمر بجمع الرحال في ذلك المكان ووضعها على شبه المنبر، ثمّ نادى بالصلاة الجامعة، فاجتمعوا وكان أكثرهم يشدُّ الرداء على قدميه من شدّة الحرّ، ثمّ صعد| المنبر ودعا أمير المؤمنين×، وحمد الله، ووعظ وأبلغ، ونعى نفسه إلى الأُمّة، وقال: «إنّي دعيت ويُوشك أن أُجيب، وقد حان منّي خفوف([61]) من بين أظهُركم، وإنّي مخلّف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلُّوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»، ثمّ نادى بأعلى صوته: «أَلستُ أوْلى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى». فقال لهم ـ وقد أخذ بضِبَعي([62]) عليّ× فرفعهما حتى رُئِي بياض إبطيهما ـ: «فمَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه واُنصر مَن نصره واخذُل مَن خذله»([63]).

فتراه| تارةً يدعو الناس على شكل ندوات أو مؤتمرات ـ إن صحّ التعبير ـ وذلك عندما جمع عشيرته وأهله ودعاهم ليبلّغهم رسالته، أو عندما يجتمع الناس على جبلي الصفا والمروة في موسم الحجّ والعمرة، وفي تجمُّعات أندية مكّة وأسواقها المعروفة، حيث يجتمع فيها العرب من مختلف قبائل الجزيرة العربية، وكذا في أيّام منى، وفي غدير خمّ، وغيرها.

وفي الوقت نفسه الذي كان فيه رسول الله| يعرض نفسه في المواسم وأنّه مرسل من السماء ونبيّ هذه الأُمّة، فقد كان يقصد زعماء القبائل العربية ويدعوهم إلى الإسلام، ويتنقّل بين الأسواق الكبيرة المعروفة وفي المناسبات الموسمية؛ لغرض الدعوة والتعريف بالدين الجديد كسوق عكاظ، وذي المجاز، وغيرهما.

كما أنّه| استغلّ منبر الشعر والشعراء وحلبات السباق في نشـر الإسلام، والدفاع عنه، والذبِّ عن أعراض المسلمين.

فإنّ البيئة العربية كانت بيئة شعرية، فالقصيدة سرعان ما يتناولها الرواة وينشرونها في أرجاء الجزيرة العربية فتصل إلى أسماع أغلب القبائل العربية. فكان الشعر من الأدوات الإعلاميّة الفاعلة والمؤثّرة في المجتمع، ووسيلة لإيصال الكلمة الصادقة مباشرة إلى قلوب الناس؛ لأنّه يخاطب أحاسيسهم وعواطفهم، فاستخدم رسول الله| الشعر العربي في مقام الدعوة للدين الإسلامي، وقد عبّر عنه رسول الله|: «إنّ من الشعر لحكمةً، وإنّ من البيان لسحراً»([64])، وقال في الشعراء: «هؤلاء النفر أشدُّ على قريش من نضح النبل»([65]).

فكان| يحرّض شعراء المسلمين على قول الشعر في مدح الإسلام ووصف رسول الله| بما هو أهل له؛ جرياً على عادة العرب في إبراز محاسن قادتهم ومناقبهم، وكان| يشجّعهم ويُكرِمهم ويقرِّبهم ويحثُّهم على هجاء المشـركين، وكان يقول لحسّان بن ثابت: «اهجُ المشـركين وأنا معك»([66])، وفي رواية: «اهجُ المشركين فإنّ جبريل معك»([67]) ونحو ذلك، فكان الشعر وسيلة إعلامية للتعريف بالدين الإسلامي والدعوة له.

كما اعتمد| أُسلوب بعث الكتب والرسائل إلى الزعماء والقادة والحكماء، كوسيلة إعلامية أُخرى لتعريفهم بالإسلام وبنبوّته ورسالته وشريعته|، بل سافر| بنفسه أحياناً للإعلام والتبليغ بدعوته إلى بعض البلدان كالطائف والمدينة، كما أرسل بعض المسلمين إلى الحبشة والمدينة وغيرهما من قبائل الجزيرة العربية كسفراء وممثّلين ومندوبين؛ لبثّ الدعوة الإسلاميّة وإعلام الناس بالدين الجديد وتعليم أحكامه، فكان ممّا أسفر عن هذه التنقّلات انتشار الإسلام في عموم الجزيرة العربية وخارجها.

كما أنّ الأذان الإسلامي يمثّل للمسلمين أهمّ أشكال الإعلام الإسلامي والتعريف بهويتهم، والدعوة لإقامة الصلاة وما يستتبعها من وظائف شرعية وعبادية وتوجيهية، تجمع المسلمين نحو توحيد صفوفهم وآرائهم وتوجُّههم ضمن مؤسّسة دينية عبادية، أسّسها المسلمون بتوجيهٍ وإشرافٍ من رسول الله|، وهو (المسجد)، فكان مركزاً إعلامياً فاعلاً تُبثُّ منه الأحكام والتشريعات الصادرة من السماء، وتصدر منه القرارات والتوجيهات كافّة للأُمّة، وتُعقد فيه اللقاءات والمشاورات مع القادة والزعماء عموماً وغير ذلك.

كما وظّف النبيُّ| الخطابة لنشـر الدعوة وبيان الأحكام والعقائد وتوجيه الناس واستنهاضهم، كما فرض الدين الإسلامي الخطب العامّة في الصلوات الجامعة، وخطب صلاة الجمعة والعيد وغيرها من المناسبات الدينية الأُخرى؛ حتّى أصبحت الخطابة من الوسائل الإعلاميّة المهمّة للدعوة الإسلاميّة، وسنّ لها شروطاً محدّدة ونظاماً ثابتاً، حيث سخّرها في نشـر تعاليم الدين الجديد وتركيز عقائدهِ، ونشـر مفاهيمه ومبادئه بين المسلمين ونحو ذلك من الوسائل في حدود إمكانات ذلك العصـر، بل دعا إلى ذلك تشريعاً وسيرةً وسلوكاً؛ لعظم أهميّتها، ولصلة الجماهير المباشرة بإمامهم أو قائدهم ونحو ذلك.

قال الدكتور محيي الدين عبد الحليم: «الخطبة تُعتبر من أقدم وسائل الإعلام في المجتمعات الإنسانيّة، وقد كانت وسيلة الإعلام والإقناع الممتازة في عصور البداوة الأُولى، وفي هذه البيئات تظهر الموهبة اللسانية، وقد ظهر هذا واضحاً في تاريخ العرب والرومان... وتتميّز الخطبة في أنّها تتوجّه إلى العواطف في أغلب الأحيان، وتُثير الانفعالات في نفوس الجماهير، وتُحرّك مشاعرهم الحماسية، معتمدة على مقدرة الخطيب الكلامية ونبرات صوته، ولهذا فهي أصلح وسيلة لمخاطبة الفئات الشعبية»([68]).


 

الإعلام الإسلامي.. أهمّ وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الإسلام دين شامل لكلّ مفردات الحياة، والإعلام الإسلامي يجب أن يكون كذلك شاملاً لكلّ مفردات الحياة ولكن بضوابط إسلامية، في جميع أنماطه وباختلاف سلوكيّاته.

فالإعلام يُصبح إعلاماً إسلامياً عندما يعالج مختلف قضايا الحياة ومشاكلها وأحداثها ومحدثاتها، ويُجيب عن تساؤلات الإنسان المتنوّعة في مختلف المجالات المعرفية من منظور إسلامي، استناداً إلى القرآن الكريم والسنّة الشـريفة، وعرضها على الجماهير بلغة مفهومة سلسة جيّدة تحاكي مختلف الطبقات الاجتماعية والمستويات الثقافية، وباستخدام الوسائل الإعلاميّة كافّة، المتاحة في كلّ عصـر والملائمة له، وبالاستفادة من التطوّر الإعلاميّ وتنوّع وسائله الحديثة.

بمعنى: أن يكون إعلاماً ذا مضامين إسلامية، يعبّر عن واقع المجتمعات الإسلاميّة ويخضع لضوابطها التي ينطلق منها المجتمع قيماً وعقيدةً، ووفقاً للمفاهيم والسلوكيّات التي تسيطر على المجتمع لتُعبّر عن شخصيّتها الإسلاميّة وإرثها الحضاري للمحافظة على هويتها الخاصّة، والنأي عن الأُسلوب المستورد للممارسات الإعلاميّة الخارجة عن ثقافتنا وقيمنا، التي تحكي عن ثقافات وموروث آخر لا يتناغم مع موروثنا الحضاري الإسلامي؛ وعليه فإنّنا عندما نستفيد من الوسائل الإعلاميّة الحديثة والمتطوّرة في الدول الأُخرى وما موجود هناك من دراسات لأساليبها وأدواتها، ينبغي لنا أن نقوم بإخضاعها إلى ضوابط الإعلام الإسلامي.

هذا، وإنّ جميع الأُمور والوسائل الإعلاميّة يجب أن تجمعها ضابطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بشـروطه وأحكامه، التي روحها وديمومتها كلُّ ما هو حَسن من القول أو العمل أو السلوك المعتدل في المجتمع الإنساني، حيث يسمو بالمجتمع لترقيته نحو الفضائل والكمالات، ويجنّبه كلّ ما من شأنه تنمية الرذيلة والانحطاط.

 إنّ القيام بمسؤولية الإعلام الإسلامي الهادف، وعَرض معالم الفكر الإسلامي النيّر، ودفع الشبهات والأباطيل عن الدين الحنيف ورجاله المخلصين، وفضح الأراجيف الزائفة، التي تُحاك ضدّ المجتمع الإسلامي وأبنائهِ، وبيان الحقائق الناصعة ونشـرها، والأخبار الواقعية من مصدرها الصادق ومنبعها الصافي، يُعدُّ كلّ ذلك من الواجبات الكفائية الأساسية، ومن المرتكزات الدينية الثابتة في الدين الإسلامي، بدلالة قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([69]). فإنّه لا بدّ من وجود جماعة من أبناء الأُمّة تؤدّي الدور الإعلاميّ والتبليغي للأُمّة، وذلك على نحو الوجوب الكفائي لا العيني، حتّى إذا قام به بعضٌ سقط عن الجميع، بأن تدعو غير المسلمين إلى الإسلام وتبيّن لهم عقائده وأحكامه، كما تدعو المسلمين إلى كلّ ما يُرضي الله تعالى ويقرّبهم إليه ويثيبهم عليه، والنهي عن كلّ ما يُغضبه، ويُبعدهم عنه، ويعاقبهم عليه ونحو ذلك.

فقد روى الكليني بسنده عن عليّ بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة ابن صدقة، قال: «سمعت أبا عبد الله× يقول: وسُئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أواجب هو على الأُمّة جميعاً؟ فقال: لا. فقيل له: ولِمَ؟ قال: إنّما هو على القويّ المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلى أيٍّ من أيٍّ، يقول من الحقّ إلى الباطل، والدليل على ذلك كتاب الله قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فهذا خاصّ غير عامّ، كما قال الله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ([70]) ولم يقل: على أُمّة موسى، ولا على كلّ قومه، وهم يومئذٍ أُمَم مختلفة»([71]).

كما نلاحظ أنّ الله في الآية الشـريفة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...)([72])، قد مدح الأُمّة بـ(الخَيريّةِ) حال كونها تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما مدحها بالإيمان به (وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على عِظم هذه الفريضة، وعِظم مكانتها عند الباري، وأهميّتها في الإسلام، ووجوب رعايتها؛ فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو روح الإسلام وديمومته.

كما حضّ على هذه الفريضة وحثّ عليها وأمر بها، على لسان الحكيم لقمان في وصيّته لولده التي ذكرها في القرآن الكريم واستشهد بها، وجعل أهمّية هذه الفريضة بعد الصلاة التي هي عمود الدين؛ لأنّها أي: «فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحِلُّ المكاسب، وتُردّ المظالم، وتُعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر»([73])، فقال عزّ من قائل: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ([74]).

ورُوي عن رسول الله| أنّه قال: «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونَهوا عن المنكر، وتعاونوا على البرّ والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات، وسُلِّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء»([75]).

وعن أبي عبد الله×، قال: «إنّ رجلاً من خثعم جاء إلى رسول الله|، فقال له: أخبرني ما أفضل الإسلام؟ فقال: الإيمان بالله. قال: ثمّ ماذا؟ قال: صلة الرحم، قال: ثمّ ماذا؟ فقال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»([76]).

وعن أبي جعفر×، قال: «سُئل أمير المؤمنين× عن الإيمان، فقال: إنّ الله جعل الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد... والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين [أيّ: بُغض الفاسقين]. فمَن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومَن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق وأمِن كيده، ومَن صدق في المواطن قضـى الذي عليه، ومَن شنأ الفاسقين غضب لله، ومَن غضب لله غضب الله له، فذلك الإيمان ودعائمه وشُعَبُه»([77]).

ومن وصيّة أمير المؤمنين عليّ× لأولاده: «الصلاة الصلاة الصلاة، لا تخافوا في الله لومة لائم، يكفكم الله مَن آذاكم وبغى عليكم، قولوا للناس حسناً كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولّي الله أمرَكم شرارَكم، ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم عليهم»([78]).

فالمؤمن لا يجعل رضا الناس فوق مرضاة الله، بل يجعل نفسه في خانة المولى جلّ وعلا، وأن يكون خليفةً رساليّاً له في كلامه وعمله وسلوكه.

فقد رُوي عن أبي جعفر× أنّه قال: «قال رسول الله|: «مَن طلب مرضاة الناس بما يُسخط الله كان حامده من الناس ذامّاً، ومَن آثر طاعة الله بغضب الناس كفاه الله عداوة كلِّ عدوٍّ، وحسد كلّ حاسدٍ، وبغي كلّ باغٍ، وكان الله له ناصراً وظهيراً»([79]).

كما ينبغي للمؤمن أَلّا يكون منافقاً في أمره ونهيه، ولا مرائياً، بل يجعل مجاري أُموره في ذات الله وقربة له، لا أن يتّخذ ذلك للتشهير والتنفير وتتبُّع زلّات الآخرين بحجّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن في دخالة نفسه مراده وقصده وهدفه هو: كلمة حقّ يُراد بها باطلاً وفتنةً وتزلُّفاً للشيطان لا للرحمن.

فقد روى جابر عن أبي جعفر×، قال: «يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون، يتقرّؤون ويتنسّكون، حدثاء سفهاء، لا يوجبون أمراً بمعروف، ولا نهياً عن منكر، إلّا إذا أمنوا الضـرر، يطلبون لأنفسهم الرُّخَصَ والمعاذير، يتّبعون زلّات العلماء وفساد عملهم، يُقبلون على الصلاة والصيام وما لا يَكلِمُهُم([80]) في نفس ولا مال، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها. إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض، هنالك يتمُّ غضب الله عليهم فيعمُّهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الفجّار، والصغار في دار الكبار... فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكُّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإنْ اتّعظوا وإلى الحقّ رجعوا فلا سبيل عليهم، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وأبغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطاناً، ولا باغين مالاً، ولا مريدين بظلمٍ ظفراً، حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويمضوا إلى طاعته»([81]).

ورُوي عن أبي عبد الله الصادق×، قال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله، فمَن نصـرهما أعزّه الله تعالى، ومَن خذلهما خذله الله تعالى»([82]).

فالواجب الشرعيّ على أهل الإسلام والإيمان، التمسُّكُ بهذه الفريضة العظيمة والالتزام بحدودها ـ ثوابتها ومتغيُّراتها ـ في كلّ الظروف والأزمان، بحسب الإمكان وشرط الصلاح. هذا، وتستمدّ شرعية وجودها وموضوعيتها من كونها صادرةً عن الله.

ولكن ليس كلّ مَن حَمل شعار الإسلام أصبح هو الممثّل الرسمي عنه، بل على المستمع والمتلقّي التنبُّه واليقظة من النوايا والأهداف والطريق والتوجُّه.

فهوية الإعلام الإسلامي أنّه إعلام ملتزم يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحارب الرذيلة، وينمّي الأخلاق، ويشجّع على الفضيلة، ويربط القول بالعمل.

 إنّه إعلام موضوعي لا يتحيّز وفقاً للمصالح الشخصية، ولا التحزّبات السياسية، ولا القومية، أو المناطقية، بل يلتزم الحقيقة وحدها ويعبّر عنها بصدق وأمانة من خلال ما يتناوله من أُطروحات فكرية، وموضوعات دينية عقائدية، ومحاكاة للأحداث التاريخية والمعاصرة، وأن يعرضها ويُفسّـرها تفسيراً عقلانياً موضوعياً من جميع الأشكال والاتّجاهات والرؤى.

فإنّ الإعلام الإسلامي، والتبليغ الرسالي، والدعوة والإرشاد من أبرز مصاديق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو لا حياد فيه، ولا تسامح، ولا صمت، لا سيّما في مقام إنكار المنكر وبيان وجوه الضلال والخداع والزيف، وإلّا يكون (ميِّت الأحياء)، سواء أكان شخصاً، أم جماعة، أم وسيلة إعلاميّة، كما قال أمير المؤمنين الإمام عليّ×: «مَن ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه، فهو ميِّت الأحياء»([83]). فهو وجود لا أثر له محسوس ولا ملموس كالأنعام، بل هم أضلُّ سبيلاً.

وكان أبرز إعلامي شهد له القرآن الكريم ومدحه حيث أدّى رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإخلاص وتفانٍ، وتحمّل أعباء المسؤولية على أتمّ وجه في توجيه المجتمع وإرشاده نحو الطيّبات، وتحصينه ونهيه عن المنكرات والخبائث، هو رسول الله|، فقد قال تعالى فيه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ...)([84]).

فاعلية الكلمة وأهمّيتها

لا يخفى أنّ الكلمة الناطقة هي الوسيلة الأكثر فاعلية في المجتمع، والأقوى تأثيراً في النفوس من الوسائل الإعلاميّة الأُخرى.

فإنّها قد ترفع الإنسان إلى مقـام الأنبياء والمصلحين بدعـوته الصادقة، وكلمته النبيلة، أو بالعكس قد ينحدر إلى هوّةِ الـمُفسدين والمُضلِّلين، إذا خان الكلمة الصادقة، وحاد عن جادة الصِّراط.

لا يزال وسيبقى للكلمة والكلام الدور الأكبر والأبرز في الوسائل الإعلاميّة في الدعوة والتبليغ، والإرشاد والتوجيه، والتربية والتعليم، على مراحل التاريخ؛ فإنّها قطب الرحى لأيّ شكل أو وسيلة أو أداة من وسائل الإعلام، سواء القديمة منها أم الحديثة، مهما تجدّدت وتطوّرت عبر العصور: كالمنبر، والخطابة، والمنتديات العلمية، والمؤتمرات، والرسائل، والصحف، والمجلّات، والمذياع، والتلفاز، ووسائل التواصل الاجتماعي، ونحو ذلك؛ لأنّ الكلمة هي أُسُّ المعرفة وأساسها، ومادّة التفاهم والتخاطب بين العقول، وبها تتلاقح الأفكار وتزدهر، وتتعمّق المعارف وتنتشر.

كما أنّ للكلمة ـ وتنوّع استخدام الكلام ـ أثراً بارزاً، فهي عنصـرٌ فاعلٌ ومحركٌ في تأجيج الأحاسيس وإلهاب المشاعر واستيعابها واحتوائها، وبالكلمة يُعرف ما في القلب من النوايا وما في النفس من المشاعر والأحاسيس، وما في الفكر من المعرفة والحكمة، فالكلام كما قال الإمام الصادق× هو: «إظهار ما في قلب المرء من الصفاء والكدر، والعلم والجهل»([85]).

وهو عملية ربط مضمونات الفكر الإنساني بأصوات يُنتجها النطق، وذات دلالات اصطلاحية في البيئة الاجتماعية التي تجري فيها هذه العملية([86]).

ولهذا نرى أنّ الإسلام أولى الكلمة والكلام الاهتمام الواسع والعناية الفائقة؛ لأنّه بالكلمة يستطيع الإنسان توصيل أهدافه وبيان آرائه، وغاياته ومقاصده النبيلة في بناء المجتمع المؤمن النظيف... أو بالعكس من ذلك، فإنّها قد تُستخدم استخداماً سلبياً، وذلك في التضليل الإعلاميّ، وتشويه الحقائق، ونشـر الرذيلة، أو في نشـر الأفكار المنحرفة أو المشكّكة، والدعوة للآراء الهدّامة، فتُصبح أداة لبثّ الفرقة والتشكيك والرذيلة في المجتمع.

ولهذا جعل المولى رقيباً عتيداً على كلّ ما يتلفّظ به الإنسان من قول، كما قال في كتابه العزيز: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ([87])، أي: حاضر معه لِيُراقِبَ عمله ولفظه، لكي يَضعهُ إمّا في خندق المصلحين الرساليين، أو في خندق المضُلّلين المنافقين. وقد رتّب عليها آثاراً شرعية وأخلاقية، وقيّد بها الإنسان بوجود رقيب عليها؛ إشعاراً له بمسؤولية الكلمة وقوّة تأثيرها وقيمتها.

وقد شبّه المولى  في كتابه الكريم الكلمة الطيّبة المسؤولة بالشجرة الطيّبة الراسخة في الأرض التي تُثمر وتنفع الناس، وبالعكس من ذلك؛ إذ شبّه الكلمة الخبيثة غير المسؤولة بالشجرة الخبيثة التي ليس لها من قرار ولا أساس، بل تذهب مع الريح ولا يبقى لها أثر، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)([88]). فكان للكلمة الدور المهمُّ والفاعل والمؤثّر في النفوس، سواء أكانت بنحو السلب أم الإيجاب.

وعليه؛ فإنّ كلام الإنسان وقوله لا بدّ أن يكون قولاً حقيقياً صادقاً، وأن تكون كلمته واقعية هادفة، ضمن المنظومة الإسلاميّة الشاملة، والموازين الأخلاقية السامية، بعيداً عن الكذب والخداع والتضليل، متجنّباً الفُحش والرذيلة والسُّباب، وهذا ما يميّز الإعلام الملتزم عن غيره، وقد قال أمير المؤمنين عليّ× أنّه: «ما خلق الله شيئاً أحسن من الكلام ولا أقبح منه، بالكلام ابيضّت الوجوه، وبالكلام اسودّت الوجوه»([89]).

 فإنّ الكلمة الصادقة الهادفة ترفع من قيمة الإنسان وشأنه، بعكس الكلمة الخادعة المضلّلة، فإنّها تحطّ من شأنه وتُسوّد وجهه أمام الناس.

كما أنّ الكلمة غير المسؤولة ولا المدروسة التي توجّه للمجتمع عبر وسائل الإعلام المتنوّعة قد تضـرب المرتكزات العقائدية والدينية فيه، وتُغيّر السلوكيات الأخلاقية والاجتماعية بين أبنائه، سواء يعلم صاحب الكلمة أم لا يعلم، وقد تُخلّف حواجز نفسية وموانع ذاتية بين أبناء المجتمع وتحرفهم عن قبول الرأي السليم والصحيح والتأثُّر به وتبنّيه؛ ومن هنا قال رسول الله|: «رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت على سوءٍ فسلم»([90]).

وعن أبي عبد الله الصادق×، قال: «قال رسول الله|: يعذِّب الله اللِّسان بعذاب لا يعذِّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أيْ ربِّ، عذَّبتني بعذاب لم تعذِّب به شيئاً، فيُقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها، فسُفك بها الدم الحرام، وانتُهب بها المال الحرام، وانتُهك بها الفرج الحرام، وعزّتي [وجلالي] لأُعذبنّك بعذابٍ لا أُعذب به شيئاً من جوارحك»([91]).

ولذا ينبغي دراسة الظروف التي تكتنف المجتمع والاطّلاع على أوضاعه، من الأفكار والسلوكيّات المنتشرة فيه، إلى الأعراف والتقاليد المحيطة به، مع الدراية الواعية والمعرفة بالزمان والمكان المناسبين؛ لتكون الكلمة فيه مؤثّرة في النفوس وتُؤتي أُكلها في المجتمع، ولا تكون وبالاً على قائلها ومستمعيها.

فقه الإعلام

بعد أن عرفنا أنّ المحور الرئيس في الإعلام هو الكلام أو القول، الذي به تُخاطَب عقول الناس وقلوبهم، وبواسطته وعن طريقه تصل رسالة الإعلاميّ أو المبلِّغ أو الداعية إلى الناس، سواء أكان ذلك مسموعاً أم مكتوباً. ينبغي لنا ـ هنا ـ معرفة رأي الشـريعة الإسلاميّة تجاه الإعلام، الذي يُعبّر عنه بـ(فقه الإعلام).

فإنّ مفهوم الدين ـ من دان، أي: اعتقد واعتنق ـ هو الخضوع التامّ، والطاعة الكاملة، والامتثال لجملة من المبادىء والعقائد الإلهية والأحكام والقواعد السماوية التي تدين بها أُمّة من الأُمم، وتخضع لها اعتقاداً وعملاً، وتُحكِّم السلوك الإنساني بها.

 والشريعة الإسلاميّة هي ما جاء بها خاتم النبيين رسول الله محمد بن عبد الله|، ودستورها القرآن الكريم الذي آمنّا به وتمسّكنا بنهجه.

وهنا نحاول معرفة رؤيتها تجاه الإعلام من منظور إسلامي فقهي.

أمّا مفهوم الدعوة والتبليغ والإرشاد والهداية ونحوها وإن كان فيها معنى العموم والشمول حتّى لمفهوم الإعلام المصطلح في أيّامنا، ولكن لم تُستخدم هذه المصطلحات المذكورة إلّا في عصـر الدعوة والتبليغ الإسلامي، وفي خطاب المؤسّسات الدينية والحَركية؛ لأنّ هذه المفردات بصيغتها القرآنية والتشريعية ربما ترمز لخصوصية مّا، فإنّ لها رمزية دينية من ناحية العنوان والمضمون تتّفق مع مفهوم الإعلام الإسلامي المعاصر، وأنها تُمثّل ترجمة قواعد الدين وضوابطه الإلهية إلى سلوك عملي على أرض الواقع لـمَن آمن به.

وأمّا مفهوم الإعلام ـ وقد مرّ تعريفه سابقاً ـ فإنّه مصطلح عملي ذو مفاهيم ودلائل واسعة، ووسائل وطرق مختلفة، وأساليب وآليّات متنوّعة، تشمل القضايا الإسلاميّة وغيرها ممّا له صلة بالواقع والحياة.

و(فقه الإعلام): هو الطريق إلى فهم الموقف الشـرعي في المنظور الإسلامي، من خلال أدلّة الشارع المقدّس وأقواله، وفحوى خطابه، ولحن بيانه وخطابه، في ضمن مقاصده الشـرعية التي رسمتها الشـريعة المقدّسة، وأهمّ غاياتها وأهدافها في إطار الأحكام الشرعيّة.

هذا، وبما أنّ هذه الموارد الإعلاميّة لم تُبحث في الفروع الفقهية تحت عنوان (فقه الإعلام) ولم يسلَّط الضوء عليها بصورة مباشرة من قِبل الفقهاء، ولم يُبيَّن تكليفها الشرعي، فإنّنا نحاول هنا الوقوف على ذلك من خلال تصيُّدنا للأُسس الفقهية وتطبيقاتها من خلال العمومات والإطلاقات الموجودة في كلّيات الأحكام الثابتة في النصوص الشـرعية والفقهية التي لها صلة بموضوع بحثنا، وفهم الموقف الشـرعي من الإعلام.

هذا، وبما أنّ للإعلام الدور البارز في التأثير في الناس، وفي صياغة عقولهم وأفكارهم، وبناء ثقافتهم، وتوجيهها توجيهاً صالحاً، وفي نشـر الوعي بينهم نحو الأهداف المقصودة ذات الـمُثل العليا والقيم السامية، فقد أَولى الإسلام أهمّية كبرى للجانب الإعلاميّ، ومنحه رعاية خاصّة؛ للاستفادة منه في نشـر الدعوة الإسلاميّة، وبثّ مبادئها وتعليم أحكامها، واستغلال أدواته على تنوّعها في ذلك.

حتّى عُدّ الإعلام (السلطة الرابعة) في بناء الدولة بعد السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ وذلك لما له من دور المرشد والناصح والرقيب والناقد على مؤسّسات الدولة وما يدور في المجتمع.

فكان رسول الله| يأخذ أيّ وسيلة مشـروعة للدعوة والتبليغ، ويسلك أيّ طريق مُعبّدٍ لنشـر رسالته وإعلانها، بأشكال متعددة وألوان متنوّعة، وحسب المقتضـي والحال.

كما يجب أن يُبنى الإعلام على الصدق والحقائق الموضوعية، بعيداً عن الكذب والتضليل وقلب الحقائق، والترويج للأفكار المنحرفة أو المشكّكة أو الهدّامة، فضلاً عن الفساد الفكري والأخلاقي، وذلك بمحاكاة الغرائز والعواطف، ونشـر الرذيلة.

 فإنّ المصداقية والأمانة من سمات رجل الإعلام الإسلامي، وهو جوهر الدعوة الإسلاميّة وصمّام الأمان فيها. والصدق: صفة بالغة الأهمّية في الإعلام الناجح، فإنّ تتبُّع الحقائق والوقائع والالتزام بروايتها كما وقعت، هي الضمانة الأساسية للفوز بثقة الناس الذين هم غرض المادّة الإعلاميّة، أو هدف الدعوة إلى الله، وليس أدلّ على أهمّية الصدق وتحرّي الحقيقة في الإعلام من تاريخ الوقائع الإسلاميّة نفسها؛ فقد أثبتت حوليات التاريخ الإسلامي أنّ الأكاذيب والأساطير التي وُجِّهت بها دعوة الإسلام قد سقطت كلّها أمام الاستقامة والطهارة في مناقب أصحاب الدعوة إلى الله([92])، فإنّ مدى ثقة الناس بالإعلاميّ وقوّتها هي الأساس الذي يقوم عليه تصديقهم بالرسالة الإعلاميّة التي يعرضها عليهم.

وأمّا الموضوعية فتعني الإنصاف، واحترام الرأي الآخر، والحيادية في الحكم، باعتماد لغة الحوار الهادئ وإقامة الدليل الناهض والبرهان المنتج في مواجهة الإشكاليّات والدعاوى الأُخرى.

وأن يكون إعلاماً ملتزماً بالأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة والتعاليم الإسلاميّة، يسمو بالمجتمع إلى أدبيّات وسلوكيّات راقية، وأفكار وآراء واعية، تنسجمُ مع الأهداف النبيلة التي تسعى إلى إقامة الشـريعة الإسلاميّة بين الناس، وأن يحترم الإنسان ويقدّس العقل، ويخاطبهما بالمنطق السليم.

هذا، والحرية في الإعلام ليس معناها الابتعاد عن كلّ مرجعية دينية وأخلاقية، أو التحلّل من كلّ قيمة إنسانية، أو التهرّب عن كلّ مسؤولية، بحيث يحقّ للإعلامي أن يقول ما يشاء، وأن يعرض ما يُريد، بل لا بدّ أن تكون هناك ضوابط عمل وقواعد سلوك في المنظومة الإعلاميّة في مسارها العملي، لا يمكن أن يتجاوزها الإعلاميّ بأيّ حال، وإلّا فمَن لا يلتزم بهذه القواعد والضوابط فإنّه يكون مسؤولاً أمام الله وأمام الناس.

فالإسلام دين الحياة والواقع، ينظر في تشـريعاته إلى واقع الحياة ومتطلّباتها، والإعلام الإسلامي يقتضـي أن يكون ناظراً في رسالته إلى عنصر الزمان والمكان، وأن يضع الأُسس الملائمة لمواكبة العصـر في طرح الأفكار والرؤى للناس؛ وذلك باستخدام آليّاته وأساليبه الملائمة له، وأن يواكب مستجدّات الزمان ومتطلّبات العصـر، لكسـر كلّ الموانع النفسية والزمانية والمكانية التي قد تمنع من التأثير والتأثُّر في تلقّي الجماهير.

كما ينبغي دراسة الأوضاع والظروف التي تُحيط بكلّ مجتمع، ومعرفة البيئة التي تُحيط به، فإنّ هذا يُسهّل على المُبلِّغ أو الإعلاميّ إيصال ما يودُّ عَرضه عليهم بالطريقة التي يراها ملائمة لهم، حتّى تصل بيسـر وسرعة إلى عقول الجماهير وقلوبهم، فإنّ الله قد أرشدنا لهذا العنصـر المكاني والزماني عند بعثه للأنبياء والرسل، فاختارهم من المجتمع نفسه، يتحدّثون بلسان أقوامهم ولغتهم، فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...)([93])، وقال جلّ ثناؤه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)([94])، وقال : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)([95])، وغيرها.

فقه الإعلام في الكتاب العزيز

بيّنا فيما سبق بأنّ هناك مصطلحات في القرآن الكريم تُعتبر اليوم من الألفاظ المرادفة لمفهوم الإعلام الإسلامي، قد أشار إليها في جملة من آياته الكريمة، منها: الدعوة، والتبليغ، والإرشاد، والتبشير، والمرسل، والمنذر، والهادي، ونحو ذلك من المصطلحات القرآنية التي تتّفق مضموناً مع مفهوم الإعلام الحديث، وهذه الآيات من قبيل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)([96])، وقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...)([97])، وقوله سبحانه: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ...) ([98])، وقوله : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ([99]) وغيرها.

فالمصطلحات الإعلاميّة غير بعيدة عن روح القرآن الكريم ومفاهيمه ولا عن معاني الرسالة الإسلاميّة وأدواتها وإن اختلف استعمال معاني هذا المصطلح في يومنا الحاضر، وعُرف بـ(الإعلام) الشامل لجميع مناحي الحياة واتّجاهاتها، وكما قيل: لا مشاحّة في الاصطلاح.

هذا، وعمدة ما يُستدلُّ به من القرآن الكريم على فهم الموقف الشـرعي في المنظور الإسلامي لفقه الإعلام، وما يرسم طريقه ونهجه وموضوعه ـ فيما أحسبه ـ هو قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)([100]).

والحُسن هو ضدُّ القُبح، الذي هو كلّ ما خالف الشـرع والعقل، والناموس والعرف، والخُلق الحسن والعادات الطيّبة في المجتمع، بل هو كلّ دعوى إلى الانحراف والانحلال عن السلوك المستقيم، والطريق السويّ للمجتمع الإسلامي الملتزم.

فالمراد من القول الحسن هو كلُّ ما يوصل إلى القول والعمل بالمعروف شرعاً، وعقلاً، وعرفاً، والالتزام به والحثّ عليه قولاً، أو فعلاً، أو سلوكاً، وتُلازمه الدعوة إلى النهي عن كلّ منكر وقبيح شرعاً، وعقلاً، وعرفاً، والحثّ على الابتعاد عنه قولاً، وفعلاً، وسلوكاً، وذلك في حدود أحكام الشريعة الإسلاميّة وثقافتها العامّة، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ...)([101])، بعيداً عن تجريح الآخرين والتنكيل بهم وإن خالفوا الدين والعقيدة والمذهب، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)([102]).

وعلى هذا، يُؤسَّس الإعلام الإسلامي الملتزم، ويوجَّه لبناء مجتمع عقائدي واعٍ، متماسك وصالح.

فالحُسن هو اسم جامع عام يضمُّ جميع معاني الحُسن من الخير والصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشـر معالم الدين، واللين في القول، والابتعاد عن إشاعة الرذيلة والفاحشة، واللغو وقبيح القول والفضول فيه، والدعوة إلى التعايش السلمي بين أبناء المجتمع، بل كلّ ما اندرج تحت معنى الحُسن. وبهذا صرّحت جملة من الروايات الشـريفة، منها:

ما رواه الشيخ الكليني بسنـده، عن جـابر بن يزيد، عـن أبي جعفر×، قال: «في قول الله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) قال: قولوا للناس أحسن ما تحبُّون أن يُقال فيكم»([103]).

وما رواه بسنده ـ أيضاً ـ عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله× في مقام بيان المراد من الآية المباركة أعلاه نفسها قوله: «قولوا للناس حسناً، ولا تقولوا إلّا خيراً حتّى تعلموا ما هو؟»([104]).

فإنّ العلم بما يأمر به الإعلاميّ ويوجّه الناس إليه، والمعرفة بما يدعو إليه من الأفكار والآراء، وينهى عنه، من أهمّ شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من أساسيّات العمل الإعلاميّ التبليغي.

والقولُ الحسن يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم المسائل والأحكام، والإرشاد إلى منافع الدنيا والآخرة، وبيان الحقائق وكشف الأباطيل وزيفها، فإنّ كلّ ذلك يندرج في قوله×: «ولا تقولوا إلّا خيراً حتّى تعلموا ما هو».

ولـمّا كانت بوادر اللسان وآفاته كثيرة، نهى× عن القول من غير تفكُّر، وأمر بإحضار القلب، أي: إلتفاته إلى معرفة حقيقة الشيء أوّلاً، ثمّ التكلُّم بما هو الحقّ الخالص([105]).

وقد أُشير في بعض التفاسير إلى أنّ مفردة (حُسْناً) الواردة في الآية المتقدّمة، قد اختُلف في معناها:

 فقيل: هو القول الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو ممّا ارتضاه الله وأحبَّه، وهو المروي عن ابن عباس.

وقيل: هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما عن سفيان الثوري.

وقال الربيع بن أنس: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، أي: معروفاً.

ورُوي عن أبي جعفر الباقر× أنّ المراد هو: «قولوا للناس أحسن ما تحبُّون أن يُقال لكم»([106])، فإنّ الله يبغض اللعّان السبّاب الطعّان على المؤمنين، الفاحش المتفحّش، السائل الملحف، ويحبّ الحليم العفيف المتعفّف.

ثمّ اختُلف فيه من وجه آخر، فقيل: هو عامٌّ في المؤمن والكافر، وهذا القول موافق للرواية المتقدّمة عن الإمام الباقر×.

وقيل: هو خاصٌّ في المؤمن.

هذا، وأنّ القائلين بالعموم قد اختلفوا في المقام أيضاً، فرأى ابن عباس وقتادة: إنّه منسوخ بآية السيف، وبقوله×: «قاتلوهم حتّى يقولوا لا إله إلّا الله، أو يُقرّوا بالجزية». وقد رُوي ذلك أيضاً عن الإمام الصادق×([107]).

وقال الأكثرون: إنّها ليست بمنسوخة؛ لأنّه يمكن قتالهم مع حُسن القول في دعوتهم إلى الإيمان، كما قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...)([108])، وقال في آية أُخرى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ...) ([109])([110]).

على أنّه يستفاد من بعض الآيات الشـريفة الأُخرى المضمون والدلالة نفسها، منها: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)([111])، أي: قولاً صحيحاً.

قال الشيخ الطوسي ـ في (قَوْلًا سَدِيدًا)  ـ: «هو السليم من خلل الفساد... وأصل السديد من سدِّ الخلل، تقول: سددته أسدّه سدّاً، والسَّداد: الصواب، والسِّداد ـ بكسـر السين ـ من قولهم: فيه سِداد من عوز، وسدّد السهم: إذا قوَّمه»([112]).

وقال أيضاً ـ في (قَوْلًا سَدِيدًا) ـ: «أي: صواباً بريئاً من الفساد، خالصاً من شائب الكذب والتمويه واللغو»([113]).

وقال الشيخ الطبرسي: «( قَوْلًا سَدِيدًا)، موافقاً للشرع»([114]).

وأمّا الزمخشـري في (الكشّاف) فقال: «( قَوْلًا سَدِيدًا) قاصداً إلى الحق، والسداد: القصد إلى الحق والقول بالعدل، يُقال: سدّد السهم نحو الرَّمِيَّةِ: إذا لم يعدل به عن سَمْتِها... والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم، فإنّكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة من تقبّل حسناتكم والإثابة عليها ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها»([115]).

والقول السديد هو قول الحقّ والصدق، وعدم كتمان شيء من ذلك وإن كان فيه تبعة على القائل نفسه، أضف إلى ذلك فإنّه وبقرينة قوله تعالى في الآية اللاحقة: (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ...)([116])، فالقول السديد هو سبب لصلاح الأعمال، ومثال ذلك: أن ترشد ضالّا إلى طريق الخير والأمان، أو تنصـر مظلوماً بكلمة العدل، أو تقول كلاماً تُصلح به بين اثنين، وما إلى ذلك من القول الذي ينفع الناس بجهة من الجهات([117]).

ومن الآيات الكريمة التي يُستدلّ بها على مشـروعية الإعلام الإسلامي الملتزم قـوله تعالى: (...وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا)([118])، وقـوله : (...إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا...)([119]). فالقول المعروف: هو قول الخير والصلاح، والقول الحسن الجميل غير الخشن ولا الجافي، وطلب الحلال، والبرِّ والصلة، ونحو ذلك، وهذه الآيات وإن نزل بعضها في قضية خاصة، إلّا أنّ المورد لا يُخصِّص الوارد ـ كما اتّفق عليه المفسّـرون والفقهاء ـ فتكون دلالتها في عموم موضوعها.

 فالقول المعروف «له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل [أعلاه]، إضافة إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ»([120]) وهذه المعاني من أساسيّات وأولويات الإعلام الإسلامي الملتزم والهادف.

وكذلك يمكن الاستدلال على مطلبنا بقوله تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) ([121]).

وقوله  : (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)([122]).

وعند التأمُّل نجد أنّ هذه المعاني والمفردات في الآيات الكريمة من القول الحسن والقول المعروف والسديد ونحوها، يمكن تفسيرها وبيانها بما نصَّ عليه القرآن الكريم نفسه في قوله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)([123]).

وقوله عزّ مِن قائل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) ([124])، وأشباه ذلك ممّا فرضه الله لعمل اللسان، وضرورة أن يكون متلزماً بحقيقة القول والبيان في التبليغ والإعلان.

وهذه الآيات الكريمة يجمعها قول الحقّ مطلقاً، كما في قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ...)([125])، الذي أمر به المولى، ودعا إليه، وأرسل الأنبياء والرسل للدلالة عليه، وأنزل الصحف والكتب السماوية؛ لبيانه وتوضيحه للعالمين أجمع.

وممّا يستدلّ به أيضاً من القرآن الكريم على فهم الموقف الشـرعي في المنظور الإسلامي المتعلّق بالإعلام، وما يرسم طريقه ونهجه، قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([126]).

فإنّ قوله : (وَلْتَكُنْ)  أمر، والأمر يدلّ على الوجوب، وفي هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشـرطه وشروطه، لا وجوباً عينيّاً بل وجوباً كفائيّاً؛ بدلالة (مِنْكُمْ)  التي تفيد التبعيض؛ ولأهمّية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعِظم موقعهما في الدين ومحلّهما منه، ولأنّهما ضرورة دينية عند المسلمين يُستدلّ بهما ولا يُستدلّ عليهما، فإنّ الله تعالى علّق الفلاح بهما، قائلاً: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وكذا في سياق الآية السابقة نفسه يمكن الاستدلال بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)([127])، والإنذار في الآية الكريمة يُفيد مفهوم الإعلام في عصـرنا، وأحد معانيه ومرادفاته.

وكذا يمكن الاستدلال على ذلك بقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...)([128]).

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)([129]).

وقوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ...)([130]). ونحوها من الآيات الكريمات.

فإنّ مصطلح: الدعوة، والتبليغ، والصدع ـ أي: الجهر بالأمر ـ في هذه الآيات الكريمة وغيرها، مصطلحات مرادفة لمفاهيم إعلامية معاصرة. كما أنّ كلمة (ادعُ، وبلّغْ، واصدعْ) أوامر، والأمر يُفيد الوجوب، وهي خطابات موجّهة للنبي|، ولكنّ موضوعها عامّ لجميع المسلمين، كما أنّ المورد لا يُخصّص الوارد كما اتّفق على ذلك المفسِّـرون والفقهاء، فإنّها أوامر شاملة لجميع المسلمين وعليهم الالتزام بها وتطبيقها، ولكن ضمن دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحدوده وشروطه، كما سيأتي.

وممّا يُضاف إلى الخطابات القرآنية المتقدّمة، أمره بحُسن الاستماع والإصغاء إلى القول الحسن واتّباعه فقد قال سبحانه: (...فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)([131])، فأحسن القول هو ما كان فيه نفع للناس في الدنيا وفي الآخرة، سواء أكان من القرآن الكريم: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا...)([132])، أم من الحديث الشـريف: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ([133]).

فعن أبي بصير، قال: «قلت لأبي عبد الله×، قول الله جلّ ثناؤه: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)؟ قال: هو الرجل يسمع الحديث فيُحدِّث به كما سمعه لا يزيد فيه ولا ينقص منه»([134])، بما يؤدّي إلى الكذب وتحريف المعنى عن المراد.

هذا، وإنّ في هذه الآية الكريمة بشارة للمؤمنين والعقلاء والحكماء، فعن الإمام موسى بن جعفر× قائلاً لهشام بن الحكم: «يا هشام، إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: (...فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...)»([135]). فإنّهم أصحاب القلوب الحيّة، والعقول الواعية، والنفوس العالية، (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)، (...وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)([136])، (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ...) ([137]).

وإنّ من أحسن القول عند الله  هو ما يستريح إليه الضمير الإنساني، وتطيب به النفوس، وتسكن إليه القلوب، ولا تمجُّه العقول وتنفر منه الطباع، فهذا هو نهج الإسلام في مبادئه وتشريعاته، وأنّه الطريق الأقوم والأحسن والأكمل والأفضل عقلاً وسلوكاً وإنسانيةً لحياة الفرد وبناء المجتمع، ولا يهم عمَّن يصدر هذا القول الحسن، ومن أيّ وعاء خرج، ما دام داخلاً في مفهوم حُسن القول، فإنّه ورد عن رسول الله| أنّ: «الكلمة الحكمة([138]) ضالّة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحقّ بها»([139]).

وقال الشيخ محمد جواد مُغنية في كتابه (التفسير الكاشف):«ليس المراد بحُسن القول حُسن الكلمات وفصاحة الأُسلوب، وإنّما المراد به ما نفع دنيا وآخرة... أمّا الوصف بالأحسن فهو نسبي ـ مثلاً ـ ردُّ التحية بمثلها حسن، وكذا القصاص بالمثل ممَّن اعتدى عليك، ولكنّ العفو أحسن من القصاص، وردّ التحية بخير منها أحسن من ردّها بمثلها.

وقول الله تعالى أحسن من كلّ قولٍ أيّاً كان قائله، ولا شيء منه تعالى أحسن من شيء قولاً كان أو فعلاً؛ لأنّ الأشياء بالنسبة إليه سواء»([140]).

فحديث الله هو حديث حسن وخير، وفيه المنفعة لأبناء الأُمّة، وكذا هدي رسول الله| وسنّته، كما قد يُستفاد من قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)([141])، وغيرها من آيات التبليغ والدعوة، فإنّها تمثّل تأسيساً لرسالة الإعلام الإسلامي الهادف، ورسالة الإعلاميّ الملتزِم والموجّه للمجتمع نحو الصلاح والفلاح والتكامل الإنساني.

 فإنّ الإعلام الإسلامي هو جزء لا يتجزّأ من المنظومة الاجتماعية والإنسانيّة المتكاملة في بناء الحياة الطاهرة وديمومتها؛ وعليه فهو تفضّل من قِبل الله تعالى علينا، قال : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)([142]). فكان الرسول الكريم| يُمثّل الإعلاميّ الأمثل والأكمل الذي اصطفاه الله تعالى حتّى يكون: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)([143]) لهذه الأُمّة، وقد أدّى دوره بامتياز وعلى أتمّ وجه.

هذه جملة من الآيات الكريمة التي يمكن الاستدلال بها على الموقف الشرعي المتعلّق بالإعلام الإسلامي، والاهتداء بها لمعرفة حقيقة هذا الإعلام، وأهمّية دوره الفاعل بشتّى أبوابه في الحياة الإنسانيّة.

هذا، والدعوة الإسلاميّة وإعلامها الملتزِم لا ينحصـر في نقل النصوص من الأوامر والنواهي الشـرعية، ولا في نقل الأقوال والآراء الفقهية، ولا في بيان السنن المأثورة والآثار والسِّيَر الماضية فقط؛ لأجل إنماء الوعي الديني في أبنائه، وتعزيز روح الانتماء للإسلام، بل تشمل جميع مفاصل الحياة التربوية والمعرفية والعلمية والتعليمية والثقافية والسلوكية ونحو ذلك ممّا يرتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالجوانب الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمفاصل الحياة، بما يعزّز واقع الدين ويجعله سلوكاً عمليّاً ملموساً، يتناسب ومصالح أبناء الأُمّة وتطلعّاتهم نحو بناء مستقبل حضاري زاهر.


 

فقه الإعلام في السنّة الشريفة

إنّ أبرز مصاديق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الإعلام الإسلامي، والتبليغ الرسالي، والدعوة والإرشاد إلى الهدى والحقّ بكلّ ألوانه وأشكاله، وتعابيره، ومعانيه الصادقة الهادفة، الناتجة من أرض الواقع والحياة، التي تنبع من روح الدين الإسلامي، وتغرس الفضيلة بين أبناء المجتمع، بأُسلوب رصين متوازن؛ إذ يمكن الاستدلال بهذه القاعدة الشريفة وتفرُّعاتها وعناصرها على فهم الموقف الشـرعي في المنظور الإسلامي لفقه الإعلام من السنّة الشـريفة، وما يرسم طريقه ونهجه.

فإنّ تبليغ الأحكام السماوية والسنن النبويّة، والإرشاد للخير وبيان الحقائق من أبرز مصاديق الإعلام الإسلامي الهادف والملتزِم، و«أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحِلُّ المكاسب، وتُردُّ المظالم، وتُعمر الأرض، ويُنتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر»([144]).

هذا، ويمكن أن يُستدلّ لذلك بمجموعة كبيرة من المرويات في هذا الباب، وتطبيقها على فهم الموقف الشـرعي في المنظور الإسلامي لفقه الإعلام، وبما أنّه لا يسع المجال لسـرد العديد من الروايات، نرى أنّ أقرب الروايات لبيان ذلك، هو ما ورد في وصيّة للإمام جعفر الصادق× يوصي بها شيعته ومحبّيه، فيما رواه سليمان بن مهران، الذي قال: «دخلت على الصادق جعفر بن محمد‘ وعنده نفر من الشيعة، وهو يقول: معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفُّوها عن الفضول، وقبيح القول»([145]).

فإنّ معنى قوله×: «كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً» هو: كونوا من أهل الورع والتقوى والعمل الصالح؛ لتكونوا زينة لنا، فإنّ حُسن شمائل أَتباع الرجل زينة له؛ إذ يمدحونه بحسن تأديب أصحابه، بخلاف ما إذا كانوا فسقة، فإنّه يصير سبباً للتشنيع على رئيسهم، ويكونون شيناً وعيباً عليه.

ولكنّ عمدة الغرض في هذا المقام هو رعاية التقيّة مع المخالفين وحُسن العشـرة، لئلّا تصير مخالفة هذه الصفات سبباً لنفرتهم عن أئمّتهم^، وسوء القول فيهم من المخالفين؛ وذلك بقرينة تضمينه× للمقطع القرآني المأخوذ من قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)([146])، الذي بيّنا مضمونه ودلالته سابقاً.

 أمّا المراد بـ(حفظ الألسنة) فهو حفظهـا عمّا يخالف التقيّة، وحفظها عن فضول الكلام وزوائده، وما لا منفعة فيه للناس من الخير([147]).

وبناءً على ما تقدّم؛ فالقول الحسن هو خلاف القول القبيح، الذي هو عبارة عن كلّ ما خالف الشـرع والعقل، والناموس والعُرف، والخلق الحسن، والعادات الطيّبة، والسيرة... في المجتمع، والذي هو ـ أيضاً ـ كلّ دعوى إلى الانحراف والانحلال عن السلوك المستقيم، والطريق السويّ في المجتمع الإسلامي الملتزم، وتمزيق وحدته، وتعايشه السلمي واستقرار أبنائه.

فالإعلاميّ الملتزِم أو المبلِّغ الرسالي عليه الابتعاد عن العبارات القاسية والخشنة والقبيحة التي تُثير كوامن النفوس ودخائل القلوب، وتُهيّج العواطف والأحاسيس، وتستنفرها إلى دائرة الجهل والعصبيّة؛ لأنّ بادرة اللسان وزلّاته كثيرة، فنهي الإمام× عن القول من غير تَفكُّر ودراية وحضور للقلب، هو من أجل الوقوف على حقيقة الشـيء ومعرفته، والكلام بما هو الحقّ والواقع.

فعن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه^، قال: «قال رسول الله|: رحم الله عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوء فسلم»([148]).

وورد عن علي بن الحسين÷، قال: «القول الحسن يثري المال، وينمي الرزق وينسي في الأجل، ويحبب إلى الأهل، ويدخل الجنة»([149]).

وقد ورد في تفسير (مفاتيح الغيب) أنّ أهل التحقيق ذهبوا إلى أنّ كلام الناس مع الناس تارةً يكون في الأُمور الدينية، وأُخرى يكون في الأُمور الدنيوية. وعلى الأوّل فإن كان في مقام دعوة الكفّار إلى الإيمان فلا بدّ أن يكون بالقول الحسن، ومصداق هذا الأمر في القرآن قوله لموسى وهارون÷: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)([150])، فقد أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرُّده وعتّوه على الله تعالى. والمصداق الآخر هو قوله سبحانه بشأن نبيّنا الخاتم|: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) ([151]).

ومن الأُمور الأُخرى للكلام في الشأن الديني هو دعوةُ الفسّاق إلى الطاعة، وهنا القول الحسن هو المعتبر أيضاً، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...)([152])، وقال أيضاً: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ([153]).

وأمّا كلام الناس مع الناس في الأُمور الدنيويّة، فمن المعلوم بالضـرورة أنّه إذا أمكن التوصُّل إلى الغرض بالتلطُّف من القول لم يُحسن سواه.

 وبناءً على هذا؛ ثبت أنّ جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)([154]).

كما يمكن أن يُستدلّ له بما رواه الكليني& عن أبي عبد الله×، قال: «قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): بعثني رسول الله| إلى اليمن وقال لي: يا عليّ، لا تقاتِلَنّ أحداً حتّى تدعوه، وأيمُ الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت...»([155]).

والدعوة هنا ـ وإن كانت لهدي الإسلام ـ ولكنّها شاملة لعموم الدعوة إلى الحقّ والحقيقة اللذين قد يغفل عنهما الإنسان، أو لم تتّضح له الصورة بشأنهما، فإنّ الإعلام الإسلامي الملتزِم مصداق لهذا المعنى، فإرشاد الناس إلى الطريق المستقيم وتوجيههم نحو الحقّ والحقيقة والهدى خيرٌ للداعية والإعلاميّ ممّا طلعت عليه الشمس وغربت.

وعكس المفهوم السابق ما ورد في تفسير قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)([156]). فقد روى سماعة، عن أبي عبد الله×، حين سأله عن تفسير قوله تعالى ـ آنف الذكر ـ فقال×: «مَن أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها، ومَن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها»([157]).

وعن فضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر×: «قول الله  في كتابه: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)؟ قال: من حَرقٍ، أو غَرَقٍ. قلت: فمَن أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذاك تأويلها الأعظم»([158]).

بمعنى أنّ الآية الكريمة شاملة لإخراج الناس من الضلال إلى الهدى، وأنّ هذا الوجه هو من التأويلات العظيمة والمهمّة والحقيقية، فإنّ معنى الإحياء عامّ يشمل الحياة المعنوية بهدايتها إلى الصلاح والطريق المستقيم.

قال الشيخ المازندراني: «الحياة الحقيقية عند أهل العرفان هي حياة النفس الإنسانيّة، وهي اتّصافها بالهداية والعلم والإيمان والأخلاق المرضية وسائر الكمالات الإنسانيّة، والمراد بإحيائها جعلها متّصفة بهذه الصفات، والإحياء في الآية ـ وإن لم يكن مختصّاً به ـ لكنّه من أفراده تأويلاً، بل هو من أعظم أفراده»([159]).

 وإنّما يتمّ ذلك من خلال الإرشاد والدعوة، والتوجيه والنصح بالقول والكلام، وبالسيرة العملية.

أمّا في القول فهو كالإعلام الذي أمر به الإمام الرضا×، والذي تعلّق بإحياء أمرهم^، فقد روى عنه عبد السلام بن صالح الهروي قائلاً: «سمعت أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا× يقول: رحم الله عبداً أحيا أمرنا. قلت: وكيف يُحيي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا» ([160]).

وأمّا في العمل فهو كما رُوي عن ابن أبي يعفور، قال: «قال أبو عبد الله×: كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإنّ ذلك داعية»([161]).

 وقال× ـ أيضاً ـ في وصيّته لشيعته: «... وأن تكونوا لنا دعاةً صامتين. فقالوا: يا بن رسول الله، وكيف ندعو إليكم ونحن صموت؟ قال: تعملون ما أمرناكم به من العمل بطاعة الله، وتتناهون عمّا نهيناكم عنه من ارتكاب محارم الله، وتُعاملون الناس بالصدق والعدل، وتُؤدّون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ولا يطّلع الناس منكم إلّا على خير» ([162]).

 وعنه× ـ كذلك ـ أنّه قال للمفضّل: «أي مفضّل، قل لشيعتنا: كونوا دعاةً إلينا بالكفّ عن محارم الله واجتناب معاصيه، واتّباع رضوان الله، فإنّهم إذا كانوا كذلك، كان الناس إلينا مسارعين»([163]).

فإنّ محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق والسيرة الحسنة الملازمة لروح الشريعة إذا رآها الناس في شخصٍ ما، نازعتهم أنفسهم للاقتداء به والتزام هديه وطريقته ونهجه، والتأثّر بما آمن به وذهب إليه.

 ومن هنا، نجد أنّ الناس أصحاب الفطرة السليمة الذين يعاشرون أهل البيت^ ويحتكّون بهم، يسارعون إلى التمسُّك بنهجهم^ ويتقبّلون كلامهم؛ وذلك لأنّ نهجهم وكلامهم^ لا يعدو عن نطاق الشـريعة والدين، ولا يبعد عن العقل والفطرة السليمة، ويدعو إلى تقويم السلوك الإنساني بما لا يشذُّ عن الواقع، ولا ينأى عن السيرة الاجتماعية الصحيحة، بل هم^ أصلُ ذلك وفرعه.

ومن الأُمور الأُخرى المتعلّقة بفقه الإعلام هو أَلّا يكون الإعلاميّ أو المبلِّغ من الذين مقتهم الله تعالى في كتابه العزيز، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)([164]). فإنّ هذا من أشنع الموبقات وأشدّ المحرّمات، وحسابه مع أهل النفاق، ولا وقع لكلامه في النفوس ولا تأثير له في العقول، قال الإمام أمير المؤمنين×: «إذا طابق الكلام نيّة المتكلِّم قبله السامع، وإذا خالف نيّته لم يَحسُن موقعه من قلبه»([165]).

فإنّ مطابقة القول للعمل هو الفارق والفيصل للناجين من غضب الله تعالى، فقد روى المفضّل بن عمر قائلاً: «قلت لأبي عبد الله الصادق×: بِمَ يُعرف الناجي؟ فقال: مَن كان فعله لقوله موافقاً فهو ناجٍ، ومَن لم يكن فعله لقوله موافقاً فإنّما ذلك مستودع»([166]).

وممّا يؤيّد هذا الدور الإعلاميّ في محاربة الضلال ومقارعة الجهل، ونشر الهدى والفضيلة والخير وزرع العلم والمعرفة والحقيقة بين أبناء المجتمع الإسلامي، ما ورد من عظيم الأجر والمنزلة لـمَن مارس هذا الدور الإعلاميّ والتثقيفي والعلمي والتبليغي والإرشادي، فعن جابر عن أبي عبد الله×، قال: «معلِّمُ الخير تستغفر له دوابُّ الأرض وحيتان البحر، وكلُّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في أرض الله وسمائه» ([167])، والخير هو كلُّ ما يعمُّ صلاح الدين والدنيا للمجتمع واستقراره وتكامله.

وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «مَنْ عَلَّم خيراً فله بمثل أجر مَن عمل به. قلت: فإن علَّمه غيره يجري ذلك له؟ قال: إن علَّمه الناس كلُّهم جرى له. قلت: فإن مات؟ قال: وإن مات» ([168]).

كما دعت الشريعة المقدّسة إلى عدم متابعة كلّ أحد بلا وعي ولا دراية ولا هدف، والسير خلف كلّ دعوى، وأن يُردّد كلّ كلام يسمعه من هنا أو هناك، ومن أيّ صاحب دعوى، حتّى لا يكون شخصاً إمّعة([169])، بل لا بدّ أن يكون صاحب رؤية واضحة ومعرفة، ومنهج معروف وثابت، وطريق مستقيم وهدف سامٍ، فعن الفضل بن يونس، عن أبي الحسن الأوّل ـ أي: الإمام موسى الكاظم× ـ إنّه قال: «أبلغْ خيراً وقلْ خيراً، ولا تكونَنَّ إمّعة. قلت: وما الإمّعة؟ قال: لا تقل: أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس، إنّ رسول الله|، قال: أيّها الناس إنّما هما نجدان([170]): نجد خير، ونجد شرّ، فما بالُ نجد الشـرِّ أحبّ إليكم من نجد الخير»([171]).

وسُئل الإمام الصادق×: «أيّ الجلساء خير؟ قال: مَن يذكِّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغِّبكم في الآخرة عمله»([172]).

وأن يعرف الحقّ ويدعو له ولا يكون داعية ضلال، فإنّه ما يزال في سخط الله تعالى وأنّه أعظم من القتل؛ لأنّه يقتل روح الحياة المعنوية وديمومتها الصالحة. روى عبد الله بن بكير، عن الإمام الصادق، عن أبيه÷، قال: «قال رسول الله|: مَن دعا إلى ضلال لم يزل في سخط الله حتّى يرجع منه»([173]).

وقال الإمام العسكري×: «الإضلال أعظم من القتل»([174]).

فإنّ كلّ مَن عمل سوءاً، كان شريكاً فيه كلّ مَن دعا له، أو أشار إليه، أو شارك فيه، وكذا مَن عمل خيراً، وعن رسول الله| أنّه قال: «مَن يشفع شفاعة حسنة، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، أو دلّ على خير، أو أشار به، فهو شريك، ومَن أمر بسوء، أو دلّ عليه، أو أشار به، فهو شريك»([175]).

وقال أمير المؤمنين عليّ×: «لم يمت مَن ترك أفعالاً يُقتدى بها من الخير، من نَشَـرَ حِكمةً ذُكر بها»([176]).

ومن هنا؛ كان الاهتمام بالتبليغ والدعوة والإعلام للناس، وبالاستفادة من تنوُّع طرقه ووسائله المتطوّرة على اختلاف الأزمنة والأمكنة. فإنّ الإعلام الناجح يُعدّ من أهمّ عوامل تكوين ثقافة الإنسان وصياغة رؤيته المعرفية، وبنائه الروحي والفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ونحو ذلك من مفاصل الحياة، كما أنّه أصبح حاجة ضرورية في بناء النظام الاجتماعي والمدني.


 

فقه الإعلام بين الإجماع وحكم العقل

لا يختلف اثنان من المسلمين ـ على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ـ في أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إجماعاً عند عامّة المسلمين، وأنّهما ضرورة دينية عند المسلمين يُستدلّ بها ولا يُستدلّ عليها،

مضافاً إلى ما تقدّم من الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة، وهذا الإجماع ثابت بين عموم المسلمين.

والإعلام ـ محتوى ومضموناً ـ من أهمّ وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما مرَّ؛ إذ يتّصف بإعلام فضيلة لا رذيلة، وإعلام حقيقة ومعرفة لا خداع وجهل، وإعلام تسوده لغة القرآن الكريم وتحوطه مفاهيمه الواضحة، ويرتكز على هدي السنّة المطهّرة الثابتة ودلالاتها، على مختلف المحاور والاتّجاهات، فيلحقه بذلك حكم إجماع المسلمين أيضاً.

بل أجمعت الشرائع السماوية كافّة على نشـر العلم والمعرفة، وبثّ الفضيلة والخير، وزرع روح التآخي والتعايش بين عموم أفراد المجتمع، على اختلاف وسائل الإعلام وتعدُّد أدواتها.

ولا أُغالي إن قلت: أجمع على ذلك عموم المجتمع الإنساني السليم، فإنّه يرى أنّ الإعلام الملتزِم يجب أن ينحوَ هذا الطريق، ويسلك هذا المنهج في نشـر ذلك، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، بعيداً عن الإعلام المضلِّل الذي يتّخذ من النظرية الميكافيلية (الغاية تبرّر الوسيلة) شعاراً له فكراً وأُسلوباً وعرْضاً ومنهجاً، فيُضِلّ ويُضلِّل، ويُشوّه ويُشوّش، ويبثّ روح الفرقة والتكفير بين عموم المسلمين، ويزرع الكراهية والشحناء وسفك الدماء بين أبناء الأُمّة؛ لأنّ الإنسان محترم ومكرّم عند الله، وكذلك يجب أن يكون في المجتمع الإنساني مُحترماً ومُصاناً، فإن لم يكن يربط أبناءه رباط العقيدة والدين، فإنّه خَلقٌ مثلهم مُكرّم من الله تعالى، قال أمير المؤمنين عليّ× في عهده لمالك الأشتر عندما أرسله والياً على مصر: «وأَشعِر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللُّطف بهم، ولا تكونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أَكلَهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق»([177]).

أقول: ومن هنا، ونظراً للحاجة الضـرورية في المجتمع وأهمّية دوره؛ رأى بعضٌ أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضُ عينٍ على جميع المسلمين، وكلاً بحسب قدرته لا أنّه فرضُ كفايةٍ، إذا قام به بعضٌ سقط وجوبه عن الآخرين.

 قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([178]) ما نصّه: «والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأُمّة متصدّية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجباً على كلّ فرد فرد من الأُمّة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: مَن رأى منكم منكراً فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»([179]).

وجاء في تفسير الرازي في تفسير الآية ذاتها: «في قوله تعالى (مِنْكُمْ) قولان: أحدهما: إنّ (من) هنا ليست للتبعيض لدليلين:

الأوّل: إنّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كلّ الأُمّة في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)([180]).

والثاني: هو أنّه لا مكلَّف إلّا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إمّا بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، ويجب على كلّ أحد دفع الضرر عن النفس.

إذا ثبت هذا فنقول: معنى هذه الآية: كونوا دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، وأمّا كلمة (من) فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)([181] ([182]).

وأمّا فيما يتعلّق بحكم العقل في هذه المسألة فهو ممّا يستقلّ بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير حاجة إلى أمر الشارع المقدّس، وبه يلحق حكم الإعلام الإسلامي أيضاً.

فإنّ مجتمعنا الإسلامي خصوصاً لا يخلو من الهجمات الإعلاميّة الشرسة والموجّهة لتضليل أبنائه، وتشويه عقائدهم وحرفها عن الطريق المستقيم، بمختلف الأساليب والدعايات المغرضة والمضلِّلة، ممّا يولّد الفتنة بين أبنائه وعدم الانسجام، فضلاً عن نشـرهم لمقدّمات الرذيلة والفجور وسلب هويتهم؛ حتّى يصل هذا المجتمع إلى الضياع والتيه، والوقوع في شراك الشيطان وإغراءاته، ممّا يؤثّر سلباً على استقراره وبنائه الديني وتماسكه الاجتماعي، وهذا ضرر كبير لا يمكن غضُّ النظر عنه.

ولذا فإنّ العقل والوجدان يقضيان على أبناء الأُمّة بوجوب ممارسة دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفعيل الدور الإعلاميّ لدفع هذا الضـرر المتّجه نحو مجتمعنا، وذلك بكشف زيف هذه الدعايات المغرضة وبيان خداعها وضلالها، وبيان أنّ هدفها هو تمزيق وحدة الأُمّة.

وبذلك يجب نشـر الوعي الديني والمعرفي بمبادىء الإسلام، وتركيز العلم في نفوس أبناء المجتمع، وترسيخ الفضيلة والمحبّة بينهم؛ فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُعدُّ الدعامة الأساسية لحماية الإسلام وأبنائه من الدعايات المضلِّلة والمؤامرات الخبيثة، التي تتربّص بالإسلام والمسلمين، وأنّ الإعلام الهادف الملتزِم من الضـروريات المرجَّحة عقلاً وشرعاً، فالإعراض عنه وإهماله يسبب الفوضى في المجتمع والفساد والإفساد بين أبنائه، وهو عين الضـرر؛ والقاعدة الإسلاميّة المعروفة تقول: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

ولذا ترى أنّ الشـريعة الإسلاميّة اعتنت دوماً بدرء المفاسد والأضرار ودفع المحرّمات، وجعلت ذلك أوْلى من جلب المصالح والمنافع والإلتزام بالأوامر؛ كما في الكذب للإصلاح بين الناس، فإنّ الشارع يرى أنّ مصلحة الإصلاح أعظم من حرمة ومفسدة الكذب.

وبالنتيجة؛ فإنّ إجماع المسلمين قائم على وجوب العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا سيّما إذا كان يلزم منه دفع الضـرر والفتنة بين أبناء الأُمّة.

كما أنّ العقل والوجدان يؤكّد ذلك، بلا حاجة إلى اللُّجوء لأمر الشارع وإن حصل فهو إرشاد لما استقلّ به العقل.

هذا، وأنّ ما يُعرض على بعض وسائل الإعلام المتنوّعة، العالميّة منها والإقليمية والمحلّية، من نشـر الأكاذيب، وقلب الحقائق، وتزوير الوقائع، وترويج الرذيلة والفحشاء، بمقدّماتها ولوازمها، وعَرْض الأفكار المنحرفة والضالّة، عِبر وسائلهم الإعلاميّة الظلامية، بصور متنوّعة، وأشكال جميلة برّاقة، وألوان زاهية جذّابة، بتقنيات عالية راقية؛ فإنّ هذا كلّه مِمّا يمقته العقل السليم، وينأى عنه الحكماء والعقلاء وأصحاب الفضيلة، فضلاً عن أهل الشـرع والدين.

فإنّ هذه الأُمور من مبتدعات الشيطان وجنوده، على تنوّع مسمّياتها واختلافها، من الحركات الماسونية والصهيونية العالمية، ودول الاستكبار والاستعمار ونحو ذلك، التي تحاول السيطرة على مقدّرات الشعوب وإرادتها، وتحجيم طموحاتها وآمالها، بالسيطرة على مفاصل حياتها، وثوابت تفكيرها؛ للتحكُّم بعقولها ورؤيتها لواقعها الخاصّ، بما يُحاك ويُنظّر لها من واقع مغاير لواقعها تماماً، من خلال هذه الوسائل الإعلاميّة المضلِّلة، وتحت مصطلحات برّاقة وموضوعات رنّانة كالحداثة، والتقدُّم والتحرُّر، والانفتاح، والعَوْلمة ونحو ذلك من العناوين التي كأنّها السـراب في الواقع والتطبيق في الجملة، وأشبه ما تكون صـرخة من صرخات (الموضة) والتغيير الشكلي والظاهري.

ذلك: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)([183])، فيتوجّه الخطاب إلى المؤمنين في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)([184]).

فتحصّل من كلّ ذلك: إنّ الإعلام الإسلامي هو رسالة الأنبياء والأوصياء والحكماء والصلحاء ومَن سار على نهجهم، وقد تنوّعت معانيه في القرآن الكريم: كالتبليغ، والدعوة، والإرشاد، ونحوها، وأنّ الدليل الفقهي لفهم الموقف الشـرعي لفقه الإعلام وموضوعه في المنظور الإسلامي، استفدناه من جملة من الآيات الكريمات منها قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)([185])وغيرها.

 كما أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي دعا له القرآن الكريم في آيات عديدة، وحثّت عليه السنّة الشـريفة بروايات مستفيضة، يقع في دائرة بيان الموقف الشـرعي من الإعلام والتبليغ وإيضاح حدوده وشرائطه.

 بل الإجماع ثابت وقائم على ذلك؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة دينية ثابتة عند المسلمين يُستدلّ بهما ولا يُستدلّ عليهما.

بل العقل ممّا يستقلّ بوجوبهما من غير حاجة إلى أمر الشارع المقدّس؛ لوجوب دفع الضـرر المتوجّه نحو مجتمعنا؛ وذلك بكشف زيف الدعايات المغرضة وبيان خداعها وضلالها، التي تهدف إلى تمزيق وحدة الأُمّة، ووجوب نشـر الوعي الديني والمعرفي بمبادىء الإسلام، وتركيز العلم في نفوس المجتمع، وترسيخ الفضيلة والمحبّة بين أبنائه.

المنبر الحسيني أُنموذجاً

المنبر الحسيني وسيلة من وسائل الإعلام الإسلامي الفاعلة في الدعوة والإرشاد والتبليغ والإعلام، والمؤثّرة في أبناء المجتمع الإنساني عموماً والإسلامي خصوصاً، وإن كان يحمل بين ثناياه خصوصية في موضوعه، وهي التعريف بالنهضة الحسينية، وبيان أهدافها وتوضيح أسبابها وأهمّ غاياتها، مع استعراض لمظلومية الإمام الحسين× بأُسلوب عاطفي، وبيان ما جرى عليه من الظلم والقتل والتنكيل والتعسُّف، وسلوك العمل اللّا إنساني واللّا أخلاقي من قِبل الأُمويين وأتباعهم، وما جرى على أهل بيته وأصحابه في معركة الطفّ في العاشر من محرَّم الحرام (سنة 61 للهجرة)، وما استتبع ذلك بعد انتهاء المعركة باستشهاده× وأهل بيته وأصحابه، ومن سبي لنساء آل محمد| والاعتداء عليهن بالضـرب والشتم ونحو ذلك من الأفعال التي يندى لها جبين الإنسانيّة، فضلاً عن العروبة والإسلام.

فالأُسلوب العاطفيّ هو الذي تبنّاه أئمّة أهل البيت^ في استذكارهم لواقعة الطفّ المؤلمة، وما جرى فيها من الفجائع والمصائب على سيّد الشهداء الإمام الحسين×؛ لأنّ استجابة الجماهير تكون دائماً استجابة عاطفية أكثر ممّا هي عقلية([186]).

 فالإثارة العاطفية وتحشيدها هي طريق إلى فهم ودراسة رسالة الإمام الحسين× واستيعاب أهدافها ومضامينها.

وبما أنّ رسالته× هي رسالة جدّه المصطفى|، وأهدافها أهداف الإسلام، مِصداقاً لقول الرسول الكريم|: «حسين منّي وأنا من حسين» ([187])؛ فإنّ حركته النهضوية ستتمحور من دون أدنى شكّ حول الإصلاح والبناء والتكامل الإيماني والإنساني.

وبناءً على ذلك؛ لا بدّ أن تكون رسالة الخطيب الحسيني رسالة الإسلام، وأهدافها عين أهدافه، ومضمونها هو مضمون رسالة الحسين× ودعوته.

فكما أنّ الإمام الحسين× كان ممثِّلاً عن رسول الله| في دعوته ومنهجه الذي يمثّل حُكم الله  في أرضه، فكذلك الخطيب الحسيني يُفترض أن يمثِّل الحسين× في دعوته ونهضته وأهدافه من على منبره.

فالمنبر الحسيني ـ كما عبّر عنه والدنا الشهيد السعيد السيّد كمال الدين المقدّس الغريفي في كتابه (المنبر وأثره في بناء الإنسان) ـ هو فرع من المنبر الإسلامي الخاصّ، ويختصّ بالمسلمين الشيعة، وقد ركّز في صورته ومعناه على ظُلامة الإمام الحسين× وعِظم مأساته وعمق نهضته، مصوِّراً قبح الحكم الأُموي ودمويّته وَبُعدَهُ عن الإسلام.

وهذا المنبر صورة حيّة من صور الإسلام في توجّهه وبنائه، فعمليّة التلبُّس والاتّحاد والفناء بين الحسين× والإسلام جعلتنا ننظر إلى الإسلام على أنّه صورة مشخّصة في الخارج عن طريقه×، فهو الذي آمن بالإسلام وطبّقه وأحياه بعد عودة الجاهلية الثانية، فعملية التجسيد الخارجي للإسلام في الوقت الذي أخذت الجاهلية الثانية تستفحل بإطار جديد ومنظّم جعل الواقع يتمثّل بمقولة: «الإسلام محمّدي الوجود، حسيني البقاء»([188]).

وهذا المنبر يتّحد مع المنبر الإسلامي الخاصّ في المبنى والتوجُّه، والموضوع والغاية عموماً، ولكنّهما قد يفترقان في زمانٍ معيّن أو مكانٍ محدّد.

 فالمنبر الخاصّ قد يتقيّد بزمان مخصوص في صلاة العيدين أو الجمعة وغيرهما، وبأحكام وآداب خاصّة حسب مقتضـى الظرف العامّ، وكذلك في المحاضرات العلمائية الخاصّة في المجتمعات الحوزوية والعلمية، وفي بعض المناسبات والأحداث المهمّة التي تمرُّ على المسلمين وتعصف بهم.

في حين أنّ المنبر الحسيني يتحرّر من هذه الخصوصيات ولا يتقيّد بزمان أو مكان، فأيّام السنة كُلُّها محاضرات وخطب ومواعظ، مع المرور بالنهج الإسلامي الحسينيّ والاستشهاد به وبملحمة الطفّ العظيمة، وذكر الحسين× وما قدّمه في سبيل ثبات الإسلام ورفعته، وبعثه من جديد بعد أن أراد له بنو أُميّة الجمود والتقوقع في ذاته، والرجوع إلى الجاهلية بصورة جديدة.

فعلى هذا يكون الفارق ليس جوهرياً؛ إذ الاشتراك والتماثل حاصل في جميع الحالات لوحدة المنهجية في الحديث موضوعاً وغاية، وذكر الإمام الحسين× والبكاء عليه لا يضرُّ بهذه الوحدة، سواءً أكان في خطبتي صلاة الجمعة أو العيدين أم في غيرهما ما دامت مسيرته في الله، فَذِكرُهُ تعظيم لشعائر الله سبحانه وتعالى.

وأوّل مَن ثبّتَ معالم المنبر الحسيني هو الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين÷، في خطبته الشهيرة على منبر الدولة الأُموية وجامعها في الشام، وأمام طاغية بني أُميّة حينئذٍ يزيد بن معاوية، ممّا هزّ أركان الحكم الأُموي وجعل الناس في اضطراب وهرج، بعد أن كشف الحقائق، وأظهر زيف ادّعاءات بني أُميّة وإعلامهم، وبيّن فضل أبيه الحسين× وجدّه أمير المؤمنين×، وأنّ هؤلاء السبايا بنات رسول الله|، وعرّف الناس المخدوعين بهم، حتّى أخذوا بلعن يزيد وبني أُميّة بما فرّطوا في حقّ آل محمد^ وأخذوا بالبكاء والندم، فكان أوّل مأتم حسيني في عاصمة بني أُميّة وأمام طاغيتها بعد أحداث واقعة الطفّ الأليمة.

وهكذا بدأ المنبر الحسيني يتفاعل مع المسلمين، وكان على رأسهم أئمّة أهل البيت×، فأخذوا يحثّون الناس على نظم الشعر في الحسين× ورثائه، ويوجّهونهم إلى ندبه والبكاء عليه×، وذلك من خلال إقامة المآتم التي تُخلِّد أحداث ذكرى عاشوراء، وتُبيّن ما جرى فيها وبعدها من مآسٍ ومحن.

وهذا إطار جديد لتفعيل الواقع الإسلامي بما يستحقّه؛ إذ البكاء ثورة صامتة تحكي عن رفضٍ للظلم والطغيان، فكانت الزهراء‘ وإمامنا زين العابدين× والأئمّة من ولده^ إذا حُبسوا عن الكلام عن ظُلامتهم ومُنعوا من كشف الواقع المزيّف نطقت أعينهم بالدموع، فَيَفهم الناس مرادهم ورفضهم للواقع، فيتّخذون المسار المطلوب ضدّ الظالمين، لا ضعفاً منهم^، بل استنكاراً وثورةً على الواقع المعُاش.

فعن زيد الشحّام، قال: «إنّ أبا عبد الله× قال لجعفر بن عفّان الطائي: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين× وتُجيد. قال: نعم. فأنشده فبكى ومَن حوله، حتّى سالت الدموع على وجهه ولحيته. ثمّ قال×: يا جعفر، والله لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون ههُنا، يسمعون قولك في الحسين×، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعتك الجنّة بأسرها وغفر لك. فقال: أَلا أزيدك؟ قال: نعم يا سيّدي. قال: ما من أحد قال في الحسين× شعراً فبكى وأبكى به إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له»([189])، وغير هذا كثير لا يَسَعُهُ المقام.

هذا، وقد تصدّى لارتقاء المنبر الحسيني آلاف من الخطباء، بحسب الترتيب الزماني وبمختلف المراتب العلمية من مجتهدين وفضلاء، ودون ذلك، إمّا للتبرُّك أو لإشاعة العلم والفضيلة، وبيان مصائب أهل البيت× ومظلوميّتهم، والبراءة من ظالميهم وغاصبي حقوقهم بعد كشفهم وفضحهم، والتوجُّه بالمجتمعات نحو تطبيق العدالة، وإجهاض عمليات الغدر والخيانة، وإنعاش روح الولاء والتعاطف مع أئمّة أهل البيت^ وشيعتهم، مع تصحيح المعتقدات الفاسدة عند المسلمين وغيرهم.

كما أخذ هذا المنبر على عاتقه تربية الأجيال ـ جيلاً بعد جيل ـ وتوعيتهم، وإبراز واقعهم، وكشف ما يُحيط بهم من افتراءات وأباطيل في عقائدهم، وكشف زيف التاريخ الإسلامي وما أُدخل فيه من الكذب والدسّ وتشويه الحقائق، بكشفها وإظهارها بصورتها البيضاء الناصعة.

هذا، وقد استمرّ المنبر الحسيني على مدى قرون يتأرجح بين الظهور والخفاء، تبعاً للظروف والسياسات التي كانت تُحيط به، وعقلية الحكّام وثقافتهم، حتّى وصل في مرحلة من مراحله إلى قمّة بزوغه ورقيّه وانتشاره تحت رعاية العلماء الأعلام ومفكّري الإسلام وتوجيههم، كالشيخ المفيد، والسيّد المرتضى، وغيرهما، وإن لم تكن إدارته بيدهم، بعد أن مَرَّ بظرف عصيب لا يقوى خمسة أشخاص أو أقل على الاجتماع لذكر مصاب سيّد الشهداء×، ومناقشة بعض المسائل الدينية وتدارسها بينهم؛ لأنّ عيون الظالمين كانت تحوطهم وتراقبهم إلّا في بعض المجالس التي تقام خلسة بعيداً عن أنظار جلاوزة النظام.

ويتأرجح حيناً آخر بين القوّة والضعف بالعَرض تبعاً للمستوى العلمي والفكري في ذلك العصر وإمكاناته.

ولكنّ هذا المنبر بكلّ صوره ومصاديقه، وفي مختلف أزمنته وأمكنته، كان دائماً يلبيّ حاجات المؤمنين، ويُسهم في بناء الشخصية الإنسانيّة، ويحافظ على فكرها الصحيح، ويُنير دربها بإيضاح الحقائق وكشف الأكاذيب، والسموّ بالإنسان نحو الكمال والرُّقي بالمواعظ والحِكَم الإلهية، والحثّ على الالتزام بالسنن الإسلاميّة، والسير على نهج الرسالة المحمدية التي أقامت أرقى حضارة عالمية، بعد أن فتحت آفاق المعرفة الإلهية للناس بواسطة كواكبها الاثني عشر من أئمّة الهدى^، وفتح طريق التحرّر ومقارعة الظلم والظالمين، والنهل من مدرسة الإمام الحسين× ونهضته العظيمة.

وقد اختصّ هذا المنبر واقتصـر غالباً ـ إن لم يكن كلّياً ـ على المجتمعات الشيعية، التي كانت تعيش تحت ستار تقيّة مكثّفة، في ظروف صنعتها حكومات ودول ظالمة لا تريد إلّا منبرها العامّ الرسمي، فكان هذا المنبر خاصّاً بهم.

وأخذ هذا المنبر بالتطوّر والرُّقي بعد أن أخذ بتصوير واقعة الطفّ المأساوية على أرض الواقع نظرياً، ثمّ وصل الحال إلى تصويرها عملياً أحياناً عن طريق ما يُسمّى بـ(التشابيه)، وبهذا ولد أوّل مسـرح إسلاميّ عربيّ شرقيّ من واقع مأساة الطفّ، وينفرد به محبُّو آل محمد^ وشيعتهم، وقد أشار لهذه الأعمال المستشـرق (لاندو) في كتابه المترجم عن الإنجليزية بعنوان: (تاريخ المسـرح العربي) وعبّر عنها بمسـرحيات التعزية ـ أي: بمصاب الحسين× ـ فقد قال: «لقد كانت مأساة الحسين تُمثّل عادةً في العشر الأوائل من شهر محرّم، وهي تحكي قصّة المذبحة التي أحدثت شرخاً في الحياة السياسية والدينية في المجتمع الإسلامي، لا تزال آثاره باقية إلى اليوم. [ثمّ قال]: وإنّ مسـرحيات التعزية تُعتبر أُولى المسرحيات في الشرق من ناحيتي الشكل والمضمون»([190]).

والمنبر الحسيني جسّد واقعاً يُحاكي الناس بالسبل والطرق والآفاق كافّة حتّى عصرنا الحاضر؛ إذ فُتحت للمنبر الحسيني آفاق عالية، برعاية بعض الفقهاء المجدّدين المجاهدين (قدّس الله أسرارهم)، الذين وَعَوا عمق الهجمة الشرسة على الإسلام وأبنائه من قِبل المستعمرين والمبشّـرين وأذنابهم من أبناء الإسلام والمتأثّرين بهم، والتي تمثّلت بعرض النظريات الهدّامة، والأفكار المشبوهة، واتّهام الإسلام بالرجعية، والدعوة إلى التقدّمية الزائفة، وادّعائهم أنّ آراء الإسلام لا تُواكب أو لا تُساير المجتمع الحديث، وغير ذلك من الأكاذيب التي جازت على بعض المسلمين.

وقد قامت كوكبة واعية ومثقّفة من الخطباء الحسينيين المجاهدين (رحم الله الماضين وحفظ للمنبر الباقين منهم) فأنارت المنبر الحسيني الخاصّ، ووسّعت حدوده، وجدّدت معطياته، وفرّعت مداركه، وأصّلت محاوره، وأدخلت فيه عناصر جديدة، لرّد هذه الشبهات وإبطال هذه النظريات، وإعطاء رأي الإسلام الصحيح بكلّ وضوح وبساطة بعيداً عن الجمود والتقيّد بالألفاظ والمضامين البعيدةِ عن مفهوم العصـر الحديث.

فأخذ المنبر يستقطب الجمهور المثقّف من أبناء الإسلام الذين تأثّروا بعض الشيء بالغرب وآرائه، فأجاب المنبر عن تساؤلاتهم، ورسم لهم توجّهاتهم، وأخذ يُرضي طموحهم بعرض صورة الإسلام الواقعية الناصعة التي تساير وتواكب العصر.

وفتحَ آفاقاً جديدة في عرض النظريات الفكرية والعلمية والثقافية، وإسنادها إلى ما في الإسلام من ثراء فكري، أو دفعها بأُسلوب علمي رصين مقنع إذا كانت بعيدة عن منهجه.

وهكذا جسّدَ هذا المنبر الحسيني الذي انتسب إلى الإمام الحسين× بحكم كون محوره وما يُختم به عادةً هو نهضته× ومأساته وإن كان الموضوع قد لا يتّصل به× مباشرةً([191]).

أهداف نهضة الإمام الحسين× وشعارها

إنّ الإمام الحسين× لم يخرج في نهضته لأهداف دنيوية ولا لمصالح آنيّة، ولم يكن طالباً لسلطة أو مال أو جاه، فإنّه× قد ملك أسباب ذلك كلّه، وحاز أُصولَها وفروعها، وقد استغنى عنها، شرفاً ونسباً، علماً ومكانةً، إخلاصاً وإيماناً، غنىً وكرماً، شجاعةً وحلماً، جاهاً وتواضعاً، منزلةً وزهداً، إباءً ومروءةً، مع احتياج الكلّ إليه في ذلك.

فإنّ نهجه× تجاه هذه الأُمور هو النهج نفسه الذي خطّه والده أمير المؤمنين عليّ× في قوله:

«اللهمَّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لِنَرِدَ المعالمَ من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك؛ فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطَّلة من حدودك»([192]).

إنّها حميّة الرسول خوفاً من ضياع الرسالة، وخوف الوصيّ من إهمال الوصيّة، وحرص المؤمن على حفظ صورة الدين؛ ولذلك قال× في وصيّته التي كتبها لأخيه محمد بن الحنفية عند خروجه من المدينة قاصداً مكّة المكّرمة، والتي رفع فيها شعاره في الخروج على الظالمين والمنافقين، الذين اتّخذوا الدين غطاءً يتستّرون به لإخفاء موبقاتهم ومفاسدهم وجرائمهم، وأعلن فيها عن أهداف نهضته، قائلاً: «وإنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مُفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي|، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب×، فمَن قَبِلَني بقبول الحقّ فالله أوْلى بالحقّ، ومَن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين»([193]).

 كما أنّه× قال عند مسيره إلى كربلاء: «إنّ هذه الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، فلم يبقَ منها إلّا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، أَلا ترون أنّ الحقّ لا يُعملُ به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله مُحقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً»([194]).

هذا، وكما ترى فإنّ أهمّ أهداف الإمام الحسين× من وراء نهضته العظمى هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّه لم يخرج بطراً لطغيان النعمة عليه ولا أشراً وفرحاً، وإنّما كان خروجه عبارة عن الانتقال من القول والإرشاد إلى الفعل والمواجهة، فإنّه× لم يطلب من خروجه مصلحةً مادّيةً ولا معنويةً لشخصه، فإنّ ذلك طوع يديه، بل هو سيّدها، وإنّما خرج لحفظ الدين والشـريعة، وإقامة العدل بين الناس وإماتة الباطل، وصون كرامة الأُمّة وحقوق أبنائها التي سُلبت من قِبل الأُمويين وأذنابهم الفسقة.

 ومن هنا؛ فإنّ خروجه هذا ليس بدعاً من نفسه الطاهرة، وإنّما هو سيرٌ على منهاج جدّه رسول الله|، وعلى هدي أبيه أمير المؤمنين عليّ×.

وهو× ماضٍ على ما عزم عليه، وسائر على ما بدأ به من نهضته بصبر وثبات وإن تُرك وحيداً في مواجهة الظلم والطغيان، حتّى يحكم الله تعالى بينه وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين.

فإنّ الإمام× هو الأعرف في تحديد مصلحة الأُمّة وتقدير ظروفها زماناً ومكاناً، وقد قال رسول الله| فيه وفي أخيه الإمام الحسن÷: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة» ([195]).

وقال|: «ابناي هذان [أي: الحسن والحسين‘] إمامان إن قاما أو قعدا»([196])، أي: بالأمر.

 وقد أخرج ابن تيمية الحرّاني في كتابه (منهاج السنّة) أنّ رسول الله| قال ـ وقد أشار إلى الحسين× ـ: «هذا إمام، ابن إمام، أخو إمام، أبو أئمّة تسعة»([197]).

ومن صفات الإمام أنّه يقوم بحملِ أعباء الرسالة والذبّ عنها، ويعيش همّ الأُمّة، وأنّه الأمين عليها، فإنّ هذا هو جزء من مقام الإمامة والإمام كما وصفهما الإمام الرضا× قائلاً: «إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول|، ومقام أمير المؤمنين×... الإمام أمين الله في خلقه، وحجّته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذابّ عن حرم الله» ([198]).

وهكذا نرى أنّ الإمام الحسين× في جميع تحرّكاته وتنقّلاته كان يدعو الناس إلى هدفه الرئيس والأقوى، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويبيّن لهم تكليفهم ضدّ الظالمين والطغاة، فكان من كلامه في رسالته التي كتبها ـ أثناء مسيره إلى كربلاء ـ إلى بعض أشراف الكوفة قوله: «أمّا بعدُ، فقد علمتم أنّ رسول الله| قد قال في حياته: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يُغيّر بقول ولا بفعل، كان حقيقاً على الله أن يُدخله مدخله»([199]).

أهداف المنبر الحسيني

الهدف هو المطلب والغرض الذي يوجَّه له كلُّ قصد، وهو إستيراتيجيّة يستخدمها الأئمّة^ والحكماء والعظماء وقادة الأُمم؛ لمساعدة الناس في تعزيز الأهداف المقصودة، التي يرغبون في تحقيقها على أرض الواقع وتوجيههم نحوها.

والمنبر الحسيني ـ كحالة جماهيرية لا شخصية ـ لا بدّ أن يكون له هدف إستراتيجي، يركّز عليه لتحقيقه على أرض الواقع، ويؤتي أُكلَه بين جماهيره في كلّ حين، لا أن يكون هامشياً بلا دراسة أو وعي لدوره الفعّال في التأثير على الجماهير وتوعيتها إلى ما ينهض بها في دينها ودنياها.

هذا، وقد أعلن الإمام زين العابدين عليُّ بن الحسين÷ أهداف المنبر الحسيني بين يدي الطاغية يزيد، فقد «رُوي أنّ يزيد (لعنه الله) أمر بمنبر وخطيب ليُخبر الناس بمساوئ الحسين وعليّ÷ وما فعلاه، فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ أكثر الوقيعة في عليٍّ والحسين÷، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد (لعنهما الله)، فذكرهما بكلّ جميل! قال: فصاح به عليُّ بن الحسين: ويلك أيّها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النار.

 ثمّ قال عليُّ بن الحسين×: يا يزيد، ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد، فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ رضا، ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجرٌ وثوابٌ...»([200]).

 فالهدف السامي للمنبر هو أن يكون في الكلام الذي يُطرح عليه (رضا لله تعالى)، أي: أن يكون الله حاضراً في قلب الخطيب الحسيني وفكره، وفيما يعرضه للناس في كلامه، فإنّه سبحانه وتعالى هو الغاية، وإليه المنتهى والرجعى. قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ...) ([201]).

بمعنى أنّ كلّ كلمة طيّبة لا بدّ أن تكون خالصة لله تعالى، وكلُّ عمل صالح خالص ـ مع الحضور والشـرائط الصورية والمعنوية ـ فإنّه يقبله الله تعالى، فإنّ الطيّب لا يقبل إلّا الطيّب ([202]).

 والخير كلُّه بتنوّع اتّجاهاته واختلاف توجُّهاته هو من الكلم الطيّب والعمل الصالح الذي فيه رضا الله تعالى.

وعليه؛ فإنّ ما يُعرض على المنبر يجب أن يحمل المُثل العليا للإسلام، والقيم الراقية التي تمثّل حضارته العظمى، فضلاً عن التبليغ والإرشاد بما جاءت به الشريعة الإسلاميّة من عقائد وأحكام وسنن، والاقتداء بسيرة النبيّ المصطفى| وأهل بيته الأطهار الذين اصطفاهم الله تعالى من بين الأنام.

 بمعنى أنّ الرضا لله تعالى لا يحصل إلّا إذا كان الكلام في أوامر الله تعالى ونواهيه والدعوة إلى طاعته، والاقتداء بسيرة نبيّه وأهل بيته سلام الله عليهم أجمعين.

فإنّ في عرض هذه الموضوعات على الناس وتوعيتهم بها من أهمّ المصاديق التي فيها رضا الله تعالى.

 وليس الرضا عند المولى هو الرضا النفسـي الذي يمرُّ به المخلوقون جلّ شأنه عن ذلك؛ وإنّما رضاه هو ثوابه الجزيل وعطاؤه وكرمه، وقد سُئل الإمام الصادق×: «يا بن رسول الله، أخبرني عن الله، هل له رضا وسخط؟ فقال: نعم، وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، ولكن غضب الله عقابه، ورضاه ثوابه»([203]).

وفي رواية أُخرى: «عن هشام بن الحكم، أنّ رجلاً سأل أبا عبد الله× عن الله تبارك وتعالى له رضا وسخط؟ فقال×: نعم، وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، وذلك أنّ الرضا والغضب دِخالٌ يدخل عليه فينقله من حال إلى حال، مُعتمل، مُركّب، للأشياء فيه مدخل، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه، واحد، أحديُّ الذات، وأحديُّ المعنى، فرضاه ثوابه، وسخطه عقابه، من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلى حال، فإنّ ذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين، وهو تبارك وتعالى القوي العزيز الذي لا حاجة به إلى شيء ممّا خلق، وخلقه جميعاً محتاجون إليه، إنّما خلق الأشياء من غير حاجة ولا سبب اختراعاً وابتداعاً» ([204]).

وهذا الأجر والثواب من المولى الجليل يكون شاملاً للمتكلِّم والسامع أيضاً، بدليل قول الإمام زين العابدين×: «ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجرٌ وثوابٌ»([205]).

كما أنّ من رضا الله رضا أوليائه الطاهرين، وأنّ غضبه من غضبهم والعياذ بالله من ذلك. وقد جاء هذا المعنى صريحاً في الرواية التي أوردها الكليني&: «عن حمزة بن بزيع، عن أبي عبد الله× في قول الله: (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا)([206])، فقال: إنّ الله لا يأسف كأسفنا، ولكنّه خلق أولياءً لنفسه، يأسفون ويرضون، وهم مخلوقون مربوبون، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه؛ لأنّه جعلهم الدعاة إليه والأدلّاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، وليس أنّ ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه...»([207]).

ومن هذا أيضاً ما تواتر عن رسول الله| أنّه قال لفاطمة: «إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» ([208]). وغير ذلك ممّا ورد في عترته الأطهار^.

ومنها كلام الإمام الحسين× لمّا عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً، فقال: «الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، صلّى الله على رسوله وسلّم، خُطّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِيرَ لي مصـرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأنّ منّي أكراشاً جَوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين»([209]).

هذا، وأنّ الكلام عن أهل البيت^ وبيان حقّهم ومكانتهم، وعرض ظلامتهم للناس وما جرى عليهم من ظلم وعدوان وانتهاك للحقوق، والدفاع عنهم... فيه طاعة لهم وفيه رضاهم، وهو إحياء لأمرهم^، وقد أمروا شيعتهم بإحياء أمرهم، فعن أبي عبد الله×، أنّه قال لفضيل: «تجلسون وتُحدِّثون؟ قال: نعم، جُعلت فداك. قال: إنّ تلك المجالس أُحبُّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله مَن أحيا أمرنا. يا فضيل، مَن ذكرنا ـ أو ذُكِرْنا عنده ـ فخرج من عينه مثلُ جناح الذّباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»([210]).

وقال أبو عبد الله الصادق×: «تزاوروا، وتلاقوا، وتذاكروا أمرنا وأحيوه»([211]).

ومن هنا؛ يكون ذكرهم^ على المنبر وبيان فضائلهم ومناقبهم للناس، وما يتعلّق بذلك من التبليغ والإرشاد، وذكر مصاب الحسين× وما جرى عليه وعلى أهل بيته وصحبه فيه رضا الله ، وجزيل عطائه، وللمستمعين الأجر والثواب العظيم.

كما يجب ـ أيضاً ـ بيان مثالب أعدائهم وفضح أعمالهم، وكشف الحقائق أمام الناس حتّى لا ينخدعوا بهم، وقد تنبّه اللعين يزيد لذلك فقال لجلسائه: «إنّه [أي: الإمام زين العابدين×] إنْ صعد لم ينزل إلّا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان»([212]). وهؤلاء ـ آل أبي سفيان ـ هم مصداقٌ من مصاديق الظالمين الفُجّار والمنافقين الكُفّار.

فإنّ الإمام زين العابدين× قد بدأ بذكر فضائل أهل البيت^ لِما فيه من رضا الله تعالى، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، فقد قال: «أيُّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع: أُعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضِّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً، ومنّا الصدِّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد رسوله، ومنّا سبطا هذه الأُمّة.

 مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أيّها الناس، أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن مَن حمل الركن بأطراف الرِّدا، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى، أنا ابن خير مَن طاف وسعى... أنا ابن محمدٍ المصطفى، أنا ابن عليٍّ المرتضى، أنا ابن مَن ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا: لا إله إلّا الله. أنا ابن مَن ضرب بين يديّ رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين... ذاك جدّي عليّ بن أبي طالب. ثمّ قال: أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء.

فلم يزل يقول: أنا أنا. حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشـي يزيد (لعنه الله) أن يكون فتنة، فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام، فلمّا قال المؤذّن: الله أكبر الله أكبر.

 قال عليّ بن الحسين: لا شيء أكبر من الله.

 فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله.

 قال عليّ بن الحسين: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي.

 فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله. التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمّد هذا جدّي أم جدُّك يا يزيد؟ فإن زعمت أنّه جدُّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنّه جدّي فلِمَ قتلتَ عترته؟»([213]).

فجعل المجلس يضجّ بالتساؤل والبكاء، والندم والنقمة على يزيد وزبانيّته، وكان هذا أوّل مجلس حسيني بعد واقعة الطفّ.

فأيُّ هدفٍ لمنبر سيّد الشهداء× أسمى من العلم والثقافة والمعرفة، وذكر أهل البيت^ والاقتداء بسيرتهم وذكر مصابهم، كلُّ ذلك بعين الله ورضاه وبعين رسوله المصطفى وآله الأطهار صلوات الله عليهم ورضاهم.

وأَلّا يكون هدف صاحب المنبر رضا الناس وميولهم ورغباتهم بقدر ما يؤدّي رسالته بصدق وإخلاص، فقد رُوي عن الإمام الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه^، قال: «كتب رجل إلى الحسين بن عليّ×: يا سيّدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة.

 فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ: فإنّه مَن طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس، ومَن طلب رضا الناس بسخط الله وكّله الله إلى الناس، والسلام»([214]).

فإنّ المنبر الحسيني برفعه لهذا الشعار الحسيني العظيم، قد أقضَّ مضاجِع الحُكّام والطواغيت، وأربك المنافقين وأعداء آل محمد، وحيّرَ التبشيريين والمستشـرقين، ثمّ إنّه بنى مجتمعاً ولائياً مخلصاً، ورسَّخ فيه العقيدة المحمدية الصادقة، ورسم لهم دروب التضحية والوفاء، ورفع بينهم راية الحرية والإباء.

المنبر الحسيني.. وسيلة إعلامية فاعلة

المنبر الحسيني أو الإعلام الحسيني هو وسيلة التواصل الحي والمباشر للخطيب الحسيني مع المتلقّين والجماهير ذات التوجُّهات المختلفة والطبقات المتنوّعة في مستوياتها الفكرية والعلمية والثقافية، لنشـر الوعي بالنهضة الحسينية ومعرفة ما جرى في كربلاء بالخصوص، والوعي الرسالي الإسلامي على نحو العموم، ومحاكاة الجماهير من الناحية الفكرية والمعرفية ممزوجاً بالشعور والعاطفة لإيصال المتلقّي للهدف الذي يصبو إليه الإعلاميّ الحسيني. وهذه المهمّة من الصعوبة بمكان؛ إذ «قيل لعبد الملك بن مروان أسرع إليك الشيب؟ فقال: شيّبني ارتقاء المنابر، وخوف اللَّحن»([215]).

وفي رواية أُخرى، قيل له: «عجّل عليك الشيب؟ فقال: وكيف لا يُعجِّل عليّ وأنا أعرض عقلي على الناس في كلّ جمعة مرّة أو مرّتين»([216]).

فالمنبر الحسيني هو وسيلة الاتّصال المباشر بالجماهير، وأنّه الوسيلة التي تتفاعل معهم لحظة بلحظة فكراً وأُسلوباً وطريقةً.

إنّه ـ وبحسب ما عرّفه بعض الباحثين ـ اتّصال جماهيري يتّجه إلى جمهور كبير غير متجانس، باستخدام وسائل الإعلام الجماهيرية، وسريانه يكون باتّجاه واحد من المصدر إلى المستقبلين، وقد يُسمّى هذا الاتّصال بالاتّصال الإعلاميّ.

وهذا الاتّصال الجماهيري والنشاط الاتّصالي الدِّعائي يستهدف حمل الآخرين على موقف أو سلوك معيّن ما كانوا يتّخذونه لولا تعرُّضهم لذلك النشاط، معتمداً في هذا المجال على استمالتهم من الناحية العقلية أو العاطفية.

وبالطبع، يسعى هذا الاتّصال بصورة مباشرة إلى أُسلوب الإقناع، فهو لا يحمل الآخرين على سلوكٍ ما عن طريق الإكراه، أو التهديد، أو الضغط، أو العقاب والثواب، أو المكافئات المادّية، وإنّما يعتمد الدعاية([217]) المؤدّية إلى التأثير في الرأي والمعتقد وطريقة التفكير للجماهير([218]).

والخطيب الحسيني هو الإعلاميّ الملتزِم بأهداف نهضة الإمام الحسين× على نحو الخصوص، والمتمسّك بشعارها ومنهجها ومسيرتها؛ هذه النهضة التي لا تخرج بأسبابها وغاياتها ومخرجاتها عن رسالة الإسلام، بل هي حاكية عنها.

ومن هنا؛ فإنّ غاية الخطيب الحسيني ـ أوّلاً وبالذات ـ هي الحصول على رضا الله تعالى ورسوله| وأهل بيته الأطهار^، وعلى ما أعدّه الله تعالى من الأجر العظيم والثواب الجزيل له وللمستمعين بما يعرض عليهم ويبيّن لهم من مفاهيم الشريعة الإسلاميّة، ويُذكِّرهم بصاحب الذكرى والمصاب سلام الله عليه.

فالمنبر الحسيني هو الوسيلة الإعلاميّة الحيّة والمباشرة التي يتواصل عبرها الخطيب الحسينيّ ـ الإعلاميّ ـ في عرضِ أهدافه ومضمون رسالته، إلى المتلقّين والمستمعين من أبناء المجتمع.

فإنّ الخطاب المنبري يتميّز باللقاء المباشر مع الجماهير، فيخاطب العقول شفوياً على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والعلمية، ويتّسم بسعة المواضيع التي يعرضها ويقوم بتحليلها ودراستها، بأُسلوب هادئ، وبيان سلس للأفكار والآراء، والأحكام والوقائع، ومرونة في الإرشاد والموعظة؛ وكان وما يزال المنبر هو الوسيلة المميّزة التي تَمسّك بها أهل العلم والبيان من المسلمين الأوائل وحتّى يومنا هذا، وأنّه قائم راسخ بنشاطه وحيويته الفاعلة والمتفاعلة مع الجماهير واحتضانهم له؛ لشدّة تأثيره المباشر والفاعل في نشـر الوعي المعرفي، على تنوُّع طرقه واتّجاهاته السليمة.

وبالتالي فإنّه يُعدّ أداةً لتوليد التفاعل الحيّ والترابط الوجداني، بين الخطيب الحسينيّ من جهة، وبين أبناء المجتمع وطبقاته المختلفة من جهة أُخرى، وتعميق التلاقح الفكري والانسجام الثقافي والتآصر التربوي بينهما.

فالمنبر الحسينيّ يمثّل مدرسةً فكريةً تربويةً ثقافيةً متكاملةً، ينفتح مضمون رسالتها على كُلِّ العلوم الدينية، والتاريخية، والأدبية، والعلمية، والاجتماعية، والإدارية، وغيرها، مدرسةً تمتاز بصلتها الوطيدة بحياة الأُمّة ودورها في بناء المجتمع الإسلامي وتكامله، وتمتاز ـ أيضاً ـ بتأثّرها وارتباطها العميقين مع قادة الأُمّة، وقوّة تمسُّكها بأهداف رسالتهم، مع الإخلاص في العرض والمضمون.

فالخطيب الحسينيّ عليه مسؤولية شرعية جسيمة، ورسالة أخلاقية عظيمة، لا بدّ أن يستشعر جلالتها وأهمّيتها قبل ارتقاء المنبر، وأن يكون بمستوى يؤهّله للرُّقي والاستعداد للتكامل الروحي والبناء المعرفي، وأن تكون توجُّهاته وأساليبه منسجمة مع أهداف الأُمّة الإسلاميّة وتطلُّعاتها.

إنّ هذه المسؤولية تُحتّم على الخطيب الحسيني أَلّا يرتقي المنبر حتّى يستحضـر أدواته المنبرية وإمكاناته الأدبية، مضموناً، وأُسلوباً، وأداءً، وأهمّها الإخلاص وصدق النيّة والهدف؛ لأنّ الخطابة مَلَكَةٌ رَبّانيّةٌ يهبها الله تعالى للأنبياء والأوصياء، والمصلحين والحكماء، والرساليين، والأكفاء والأفاضل من الناس، ولا تنحصر بأفراد معيّنين أو بفئة خاصّة.

وأن يكون الخطيب مقتدراً متمكّناً معرفيّاً من الموضوع الذي يَستَعرِضُهُ على المنبر، ومِلؤُهُ الثقة بطريقة أُسلوبه وقيادته له، وإدارة محاوره أمام الملأ؛ حتّى يملك القلوب ويأسرها فضلاً عن العقول.

 وأن يكون ما يعرضه على المنبر من المضامين موضوعياً مرناً، وأن يبتعد عن الأساليب المنفِّرة من الغلظة في الكلام، والفضاضة، والكلمات النابية والخشنة، وعليه مراعاة مقتضى الحال.

كما أنّ بناء الثقة بينه وبين الجماهير هي الأساس الذي تنطلق منه الجماهير في تصديق رسالته الإعلاميّة الموجّهة لهم، حتّى يكون اتّجاه أدائه إيجابياً.

وإذا ضعف الخطيب الحسيني ـ الإعلاميّ ـ وافتقد المؤهّلات اللازمة والمعتبرة لارتقاء المنبر، فإنّه يعجز عن التأثير بالمجتمع وإحداث التغيير فيه، بل ربّما يحدث العكس، فيُسـيء للمنبر ولصاحب الرسالة، ويكون في معرض النقد والتوهين، بل الاستهزاء، فيكون اتّجاه أدائه سلبياً.

فإنّ ارتقاء المنبر له قواعد وأُصول وسنن وآداب خاصّة، فضلاً عن المقوّمات المؤهّلة التي ينبغي أن يتمتّع بها الخطيب الناجح خاصّة؛ حتّى يمتلك الجمهور ويستحوذ على مشاعرهم وتفكيرهم، فيوصل ما يُريده لهم بيسر وسهولة.

هذا، وإنّ للإعلام التأثير الفاعل والمباشر على بناء المجتمعات والأُمم، واستنهاض همم أبنائها؛ إذ إنّ الأُمّة التي تمتلك أدوات وآليّات الإعلام بكل أنواعه، تكون هي الأُمّة الأوفر حظّاً في بسط قوّتها على العالم.

فما انتشرت ثقافة أُمّة في عصرنا الحاضر ولا برزت قيمها إلّا بقوّة إعلامها، وإرادة إعلامييها وسعة أُفقهم، وما تراجعت ثقافة وانزاحت إلى الهامش إلّا بضعف وسائلها الإعلاميّة، وضحالة إعلامييها وفتور همّتهم([219]).

الخطاب الحسيني.. بين الإعلام الداخلي والخارجي

أصبح العالم اليوم بفضل الثورة التكنولوجية وتطوّر وسائل الاتّصالات والمعلوماتية، والانتشار الواسع لمساحة وبثّ وسائل الإعلام الحديثة، أشبه بقرية صغيرة، فأيُّ حدثٍ يقع في بقعة من بقاع العالم سرعان ما يصبح في متناول معظم شعوب الأرض، ممّا حدا ببعضٍ أن يُطلق اصطلاح (القرية الإلكترونية الصغيرة) على هذا العالم المترامي الأطراف؛ وذلك لأنّ بُعده الثقافي والمعرفي بعد أن كان محصوراً ضمن بقعة جغرافية محدّدة، أو ضمن مجتمع معيّن، قد اتّسع اليوم بشكل كبير ليصبح شاملاً للعالم كلّه.

ولأهمّية وسائل الإعلام الكبيرة وقدرتها على التأثير في الرأي العامّ العالمي بما تمتلكه من قدرات فاعلة ومقوّمات إعلامية جبّارة، سعت بعض الدول الكبرى والمتنفِّذة، ذات المال والقوّة للسيطرة على جوانب الإعلام العالمي ومفاصله عموماً، وبعضها تبنّى حملةً لتشويه صورة التشيُّع وشيعة أهل البيت^ـ على وجه الخصوص ـ بمختلف الطرق والوسائل والأساليب، في محاولة منها لفرض رؤيتها الإعلاميّة العامّة على العالم، أو فرض رؤيتها الخاصّة كالسلفية الوهابية على خصوص العالم العربي والإسلامي؛ ممّا يخلق الإرباك وعدم التوازن في المجال الإعلاميّ بشكله العامّ؛ وذلك من خلال الكذب وتشويه الحقائق، ومن خلال تتبُّع العثرات والزلّات التي تقع من هنا وهناك، فتقوم الدوائر الإعلاميّة ذات الهدف التخريبي بالتركيز عليها وتضخيمها بشكل كبير، وإعادة صياغتها بطريقة تخدم أهدافهم، وبالمقابل تشوّه صورة الآخرين وأفكارهم، بل إنّها تتعمّد تجاهل كلُّ ما هو حسن وإيجابي يصدر من الآخرين، كلّ ذلك لأجل إبراز صورة مشوّهة هجينة عن الطرف المقابل سواء أكان إعلاماً عاماً حرّاً على الصعيد العالمي أم إعلاماً مختصّاً بمدرسة أهل البيت^ على الصعيد العربي والإسلامي.

ومن هنا؛ لا بدّ أن يكون خطابنا الإعلاميّ ـ على المستويين الداخلي والخارجي ـ له القدرة والمسؤولية والنضج والوعي في مقام بيان حقيقة أهل البيت^، وعرض تراثهم وعلومهم ومعارفهم؛ لأنّه يخاطب عموم الناس ولا يختصّ بطائفة أو دين أو جنس أو قومية، بل أصبح رسالة إنسانية للعالم أجمع.

 وأن يعمل على تغيير الصورة المشوّهة التي يحاول أن يرسمها الأعداء والمنافقون عن الشيعة والتشيُّع، وإزالتها من أذهان كثير من المسلمين المخدوعين بالإعلام المضلِّل السلفي، وذلك بعرض التشيُّع ومذهب أهل البيت^ بصورته الحقيقية الناصعة والمشـرقة، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلام أهل البيت^ لاتّبعوهم، ولكان شيعتهم بذلك أعزّ، وما استطاع أحد أن ينتقدهم بشيء([220]).

هذا، وبما أنّ المنبر الحسيني هو الوسيلة الإعلاميّة الفاعلة للتشيُّع، والقناة التي تربط بين الخطيب الحسيني وعموم أبناء المجتمع، ومع توسُّع هذه القناة الإعلاميّة وانتشارها، ومتابعة العالم له وتوجُّهه إليه، على اختلاف أديانه ومذاهبه، وتوجّهاته ومُنعطفاته، وذلك بفضل شيوع القنوات الفضائية وانتشار الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وسهولة الحصول عليها والاتّصال بها، مع التزام بعض القنوات الفضائية ببثّ محاضرات ومجالس المنبر الحسينيّ، لمختلف الخطباء، ومن أماكن وبلدان متنوّعة، وهذا ما جعل المسؤولية على الخطيب الحسيني أعظم وأدقّ، ومهمّته أكبر وأكثر حرجاً، في مجال عرض رسالة الإمام الحسين× وفكر أهل البيت^؛ لأنّ الإعلام الخارجي الدولي المفتوح غير الإعلام الداخلي المحلّي المحصور، ولا يمكن بحال اعتماد عرض الموضوعات والأهداف نفسها، ولا العمل بالأساليب والوسائل نفسها في كلا الإعلامين (الخارجي والداخلي)، فقد كانت المناطق التي يُقام فيها المجلس الحسيني محدودةً، وفي طبقة فكرية وثقافية محصورة، وفي بلدان خاصّة، ذات طابع عقائدي واحد في الجملة، وأنّ ما يُلقى فيها غالباً لا يتعدّى هذه الجموع الحاضرة والبلدان التي تُقام فيها هذه المجالس، فكانت تُعطي للخطيب الحسيني جانباً من الحرّية في عرض الروايات الخاصّة، ومساحة من النقاش لبعض الأُمور الحسّاسة، بلا قيد أو تحجيم، وبما يتناسب مع طبيعة الجماعة الحاضرين، وثقافة البلد الذي أحيا هذا المجلس.

أمّا اليوم ـ وبفضل انتشار المجالس والمحاضرات الحسينيّة في مختلف البلدان، ونقلها عِبر الأثير على العديد من القنوات الفضائية ـ فقد أصبح المتابعون لها من المستمعين والمشاهدين ينتمون إلى مختلف الثقافات والاتّجاهات الفكرية والعقائدية، ومختلف الديانات والمذاهب السماوية والوضعية، فبهذا ازدادت المسؤولية على الخطيب الحسيني وعظمت، واتّسعت صلته بالجماهير على اختلاف ثقافاتهم، وتنوّع توجّهاتهم الفكرية.

وعليه؛ لا بدّ أن يختلف العرضُ والمضمون والأُسلوب والهدف ـ من قبل الخطيب على المنبر في عصرنا الحاضر ـ عن العرض والمضمون والأُسلوب والهدف في العهود السابقة محدودة الحضور والثقافة والبلد والإعلام.

ويفترض بالإعلام الشيعيّ ـ على هذا المستوى ـ أن يكون شديد الحذر وذا كياسة عالية، وله نظرة ثاقبة بعيدة المدى، وأن يكون قادراً على تحسُّس مدارك الآخرين وسعة آفاقهم المعرفية، بل له القابلية على التنبُّؤ بردود الأفعال في إطارها العامّ، والدراية والوعي في كيفية التقريب والتوفيق بين المفاهيم الحضارية المعاصرة وما يعرضه إعلاميّاً؛ حتّى يكون مقبولاً، ويكون كلامه مسموعاً.

ولكن ممّا يؤسف له أنّ كلّ ما يدور ويُعرض في مجالسنا الخاصّة والمحدودة، أصبح يُعرض على الفضائيات بلا التزام ولا انضباط، ولا تأمُّل في أنّ مثل هذا الخطاب هل يصلح للبثّ الفضائي؟ وهل يصلح عرضه أمام عامّة الجماهير وعلى اختلاف مشاربهم، أو أنّه لا يصلح؟

 وهل أنّ هذا الخطيب الفلاني مؤهّل في الظهور على الفضائيات لعرض فكر أهل البيت^، أو أنّه غير مؤهّل لذلك؟

وهل أنّ إدارة هذه الفضائيات تُميّز ذلك، وتفرز بين ما ينبغي أن يُقال على المنبر ممّا لا ينبغي ذكره، وتحديد ما هو الزمان المناسب لذلك أو لا؟

 إنّها أسئلة تدور في كلّ ضمير حيّ صادق، يريد أن يرتفع الفكر الصافي والنقي لأهل البيت^، ويصل إلى العالم بلا شوائب تُكدِّره ولا تشوُّهات تُؤثِّر على صورته الوضّاءة.

إلّا أنّ ما يحزّ في النفس اليوم ما نراه ونسمعه من هنا وهناك على بعض الفضائيات من سوء الخطاب المنبري، وعدم التمكُّن من طرح الأبحاث والموضوعات المعرفية والعقائدية والعلمية بأُسلوب متّزن وواعٍ، فضلاً عن سوء العَرض والبيان، وكذلك عدم إدراك ظرف المرحلة وتقدير حدود المناسبة وحساباتها فيما يُطرح على المنبر، ممّا قد يكون ضرره أكثر من نفعه، قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)([221])، فيؤدّي عدم التقدير الصحيح لعاملَي الزمان والمكان إلى أزمات اجتماعية وتجاذبات فكرية بين الناس بسبب ذلك.

ومن المؤسف أن ترى أغلب القنوات الفضائية التي تتبنّى نقل هذه المحاضرات المنبرية المباشرة، هي قنوات تجارية، أو حزبية سياسية، أو ذات توجُّه ديني خاصّ مغاير للطريقة المتعارفة والمثلى عند الآخرين، فلا ينظرون إلى قيمة الخطيب العلمية ومكانته وفضيلته، بل يتمّ اختيار الخطيب المنبري تبعاً للاعتبارات المالية التي يحصل عليها، أو المحسوبية، أو لكونه من أصحاب التوجُّه الخاصّ؛ فلذا تظهر ـ عادةً ـ للإعلام طاقات منبرية هزيلة وغير ناضجة في طرحها العلمي، بل لا قيمة معرفية وعلمية لها، ممّا يُعرِّض قضية الإمام الحسين× إلى التشويه والتندُّر، والنأي والابتعاد، إن لم يكن عزلاً للخطباء المتميّزين والمعتدلين من ذوي الكفاءة وأصحاب الخبرة الواعية والخطّ المتّزن، فيما يعرضونه من فكر أهل البيت^ وتراثهم، والمشهود لهم بذلك، من خلال دراسة الأوضاع والظروف المحيطة، ومعرفة الزمان والمكان المناسبَين، ومن الحريصين على تحقيق الأهداف الكبرى، من الذين يعيشون لهذه الأهداف لا عليها، ورائدهم في ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)([222]).

??????فالخطباء هم رُسل الإمام الحسين× للأُمّة، ولسان حال أهل البيت^، فعليهم أن يعرضوا الصور المشـرقة لهم^، لا أن يُسيئوا إليهم وينفِّروا الناس عنهم، فعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «رحم الله عبداً حبّبنا إلى الناس ولم يُبغِّضنا إليهم...»([223]).

وعن سليمان بن مهران، قال: «دخلت على الصادق جعفر بن محمد‘ وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً...»([224]).

وأن يكون نهج الخطباء هو الالتزام بما رُوي عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا× يقول: «رحم الله عبداً أحيا أمرنا. فقلت له: وكيف يُحيي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويُعلِّمها الناس، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا...»([225]).


 

وفي رواية أُخرى:

«أَما والله لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعزّ، وما استطاع أحد أن يتعلّق عليهم بشـيء، ولكنّ أحدهم يسمع الكلمة فيحطُّ إليها عشراً»([226]).

فإنّ التمسُّك بعلوم أهل البيت^ والاغتراف من نمير مناهلها، وإيصال محاسن كلامهم ومعارفهم إلى عموم الناس ـ وكلّ كلامهم حسن ـ بالحكمة والموعظة الحسنة في الأُسلوب والعرض، مع إقامة الدليل العلميّ والبرهان والحُجّة، كُلّ ذلك خير معين في مخاطبة العقول، وأسلم الطرق للوصول إلى قلوب عامّة الناس، والمفتاح لنشـر فكر أهل البيت^ إلى عموم الثقافات الأُخرى والمذاهب المختلفة، وبهذا يتأصّل نهجهم، ويتركّز كلامهم، وتثبت معارفهم في النفوس، تمهيداً لاتّباعهم والتمسُّك بمنهاجهم وقبول هديهم.

 بعيداً عن الطعن والسُّباب، والدخول في المحاور المتشنّجة في العَرْض، الذي نأى عنه أئمّة أهل البيت^ من خلال سيرتهم وسلوكهم مع عموم أبناء المجتمع، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، ومذاهبهم الدينية والعقائدية، وتنوّع ثقافاتهم واتّجاهاتهم، بما يحقّق التعايش السلمي بين المسلمين عموماً، وأبناء المجتمع الواحد خصوصاً، وهذا هو السلوك القويم الذي سار عليه أهل البيت^ تبعاً لسيرة جدّهم المصطفى|، الذي مدحه الله  بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...)([227])، وقوله: (غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  )([228])، وقوله: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)([229]).

وقد رُوي عن أمير المؤمنين عليّ× أنّه قال في هذا الصدد: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أَصوَبَ في القول، وأَبلَغَ في العذر»([230]).

فإنّ وَصف الأفعال وعَرض المواقف أقوى وأبلغ في الحجّة والدليل، وأحكم في البرهان، وهذا ما يبتغيه المؤمن الحكيم، ويبحث عنه المنصف العاقل، ويتحرّاهُ طالب الحقيقة الصادق مع الذات، لا الذي يتّبع هوى النفس والجمود على رأي السلف (غير الصالح)! فهو من الذين اشتبه عليهم الحال، فأخطأوا الطريق، قال تعالى: (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)([231]).

فهذا هو خُلق القرآن الكريم، وخُلق الرسول العظيم|، وخُلق أهل بيته الأطهار^، وهذه هي توصياتهم وإرشاداتهم للمؤمنين.

فعلى الخطيب الحسيني أن يلتزم بهذا أيّما التزام، فيتثبّت بالقول الحسن، وبالأُسلوب العلمي الهادئ الرصين على المنبر، بما يرفع مكانة مَن يُريد أن يوصل رسالتهم إلى الناس، ويحبّبهم ويقرّبهم إلى النفوس، ويقوِّي مودّتهم في قلوبهم، وينقل علومهم إلى العالم أجمع، في تبنّي عرض أفكارهم ومعارفهم، والاهتداء بسيرتهم وسلوكهم، فيدفع بذلك عنهم كلّ قبيح يحاول أعداؤهُم إلصاقه بهم وبمنهجهم كذباً وبهتاناً، ولكن بعيداً عن المهاترات والسُّباب، وتجاوز حدود اللياقة في العرض، وتجريح الآخرين.

وهذا الأمر يسري إلى عموم وسائل الإعلام الأُخرى كالصحافة ونشـر الكتب ونحوهما.

وفي خلاف ذلك، فإنّ الأمر قد يجرّ السوء أو القبح إليهم^، والنفور والبُعد عنهم، فيكون بذلك قد شانهم، وخالف أمرهم، والعياذ بالله.

وقد قيل للإمام الصادق×: يابن رسول الله، إنّا نرى في المسجد رجلاً يُعلن بسبّ أعدائكم ويسمّيهم. فقال×: «ما له ـ لعنه الله ـ يُعَرِّضُ بِنا، وقال الله تعالى: (كمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ...)([232])»([233]).

هذا، وقد ربط المولى المازندراني في رواية أُخرى بين التعريض بأهل البيت^ وسبّهم، وبين سبّ الله تعالى في الآية أعلاه بقوله: «وإنّما نسب سبّهم إلى ذاته المقدّسة تشريفاً وتعظيماً لهم، وليس المراد سبّ الله  حقيقة؛ لأنّ أحداً لا يسبّه كما وقع التصريح به في بعض الروايات»([234]).

 

وفي رسالة لأبي عبد الله الصادق× إلى أصحابه وشيعته، جاء فيها:

«وإيّاكم وسبّ أعداء الله حيث يسمعونكم، (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وقد ينبغي لكم أن تعلموا حدّ سبّهم لله كيف هو؟ إنّه مَن سبّ أولياء الله فقد انتهك سبّ الله، ومَن أظلم عند الله ممَّن استسبّ لله ولأولياء الله، فمهلاً مهلاً فاتّبعوا أمر الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله»([235]).

وقال تعالى: (كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ  ...)([236]).

وأجزم أنّ هذا الأمر المهمّ اليوم أحوج ما نكون إلى الالتزام به على المنبر الشـريف، والسير على خطاه وهديه، مع توسُّع قنوات الاتّصال الإعلاميّة وسرعتها، وانتشارها وتنوُّعها؛ لإيصال علوم أهل البيت^ ومعارفهم، التي تخاطب العقول مباشرةً، وتُذعن لها القلوب مُسلِمة، صافية نقية هانئة، بلا شائبة أو دغل، إلى أقاصي بلاد الأرض، وعموم أبناء البشـر، فتدخل إلى أروقتهم ونفوسهم بلا استئذان، من دون جهد وعناء وكلفة.

ثقافة الخطيب الحسيني وسلوكه

قيل: إنّ الخطيب هو مفزع الأُمّة في مشاكلها وأزماتها، والمعبِّر عن الآمها وأدوائها، تقصده الجماهير لتبثّه شكواها وتنتظر منه العلاج.

والمنبر أداة من الأدوات الرسالية الراقية، ووسيلة فعّالة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذو تأثير قوي في نفوس الناس والمستمعين، حيث إنّهم يرتبطون به من الناحية الروحية والدينية فضلاً عن المعرفية.

ولأجل ذلك، يجب على الخطيب الحسيني أن يكون بمستوى عالٍ من الإيمان والورع، والتثبُّت والحكمة والدراية؛ لأنّ الخطيب الرسالي يكون مرآةً صادقةً للآخرين، وصافيةً ناصعةً لا درن فيها ولا صدأ، تعكس آراءهم وأفكارهم، وأفعالهم وأخطاءهم، وعليه توجيهها إلى الطريق الصحيح السليم، وأن يحذر مَن تقمّص السلوك الخاطئ مع نفسه، وينأى عن التلبُّس به؛ لأنّه سرعان ما تنكسـر صورته أمام الناس، ويهتزّ كيانه في المجتمع، فلا يُقبل منه قول، ولا يؤخذ عنه رأي، ويصبح كلامه لا أثر له ولا قيمة في نفوسهم، فيسقط من أنظارهم، ولا تقبله قلوبهم.

وعليه أن يفهم أنّ مسؤوليته هي جزء من مسؤولية الأنبياء والأوصياء والمصلحين الرساليين، بل هو مصلحٌ رساليٌ وسفيرٌ للحسين× ولسانه الناطق، وسيفه الضارب على الجاهلين والظالمين والمارقين، فيكون شجاعاً في العَرْض، لا يهاب أحداً ما دام على الحقّ، ونطق بالصدق، وأن يكون أهلاً لهذه الصفة الإصلاحية الكريمة، وصادقاً في تحمُّل هذه المسؤولية الرسالية.

إنّ المسؤولية الرسالية تُحتّم عليه أن يكون كلامه فيما يرضي الله، ويقرِّب إلى رحمتهِ ورضوانه في كلّ ما ينفع الناس في دنياهم وآخرتهم، ويثبّت إيمانهم ويُقوِّي عزيمتهم، فلا يشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فيجامل ويحابي المفسدين والظالمين والحاكمين، فيكون أداةً يلهو بها الشيطان، يستفرغ سمومه وغوائله عن طريقه، فيكون مفسداً في الأرض لا مصلحاً، فعن أبي جعفر الباقر×، قال: «مَن أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»([237]).

فإنّ ما يرضي الله تعالى فيه الأجر والثواب، كما فيه صلاح الناس وهدايتهم.

على الخطيب الحسيني أنّ يكون بمستوى عالٍ من الثقافة العامّة؛ حتى يُغني المنبر بالبحث والنقاش، ويفتح الآفاق الذهنية للمستمعين على اختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية، بما يدور في المجتمع من أفكار وآراء وأُطروحات، بل وما يدور في عموم العالم المحيط بنا، ولو بالسؤال والاستفسار، من خلال البحث والمتابعة عن ذلك، فلا يهمل الجانب العلمي والمعرفي، ويهتمّ بأطوار النعي فقط، وسرد القصص والوقائع التاريخية، ورواية الأحلام والمنامات والأساطير.

فضلاً عن معرفته ودرايته بثقافة مجتمعه وما يحيط به من أحداث ومشاكل ورؤى على الصُّعُد كافة، حتّى يُنير ذهنية المستمع والمتلقّي، ويوضّح له الطريق الصحيح في الحياة بأُسلوب سليم، طريق ذو مطالب واضحة ليست بالغريبة، وحقائق علمية ثابتة ليست بالفرضيّات، ممّا تتقبله القلوب والعقول، لا أن تنفر منه الطِّباع والنفوس، أو يكون لمجرّد إثارة التساؤل والتشكيك.

وعليه أن يكون مستوثقاً في نقله للروايات والأخبار على المنبر، مميّزاً الغثّ منها عن السمين، وإن كان باعتماده على الكتب المعتبرة والموثّقة والمحقّقة، وأَلّا يكون عَرضُهُ للأفكار والآراء إلّا بعد دراستها وتمحيصها بعد تتبُّع أُصولها ومنابعها، ثمّ التشاور والتباحث فيها مع أهل العلم والفضل والتحقيق؛ لأنّ الخطيب قد يقع في الخَلط أو التشويش من حيث لا يشعر، وذلك بعرض كلّ ما صادفه من رأي، أو سمعه من قول، أو قرأه من كتاب على المنبر، بدون تدقيق أو مراجعة أو تأمّل فيها، وهذه آفة المنبر والأداة الهدّامة لدوره البنّاء في خلق مجتمعٍ إسلاميٍّ واعٍ.

كما ينأى بالمنبر عن سرد القضايا الشخصية والآراء النفسية وغلبة الهوى، بحيث يتطاول على بعض الناس ويسفّه أفكارهم وعقولهم، ويستهزئ بهم لمخالفتهم رأيه الشخصـي مثلاً.

وأن يكون عَرْضه مبنيّاً على العلم والعقل والحقيقة لا على المنامات والأوهام والتخيّلات الشخصية والنفسية، وأن يعتمد على ما أجمع عليه علماء الطائفة واشتهر عندهم، ويبتعد عن شواذّ الآراء والأخبار التي قد يقف عندها المعاند رافضاً طاعناً، والجاهل مشكِّكاً متوقِّفاً، والمتعلِّم مستغرِباً مستهجِناً، لا سيّما مَن كان بعيداً عن مدرسة أهل البيت^، ولم يألف معارفهم وعلومهم، ولم يقف على معانيها ودلالاتها، مع اختلاف النظرة إليها.

 بل عليه أن يكون عَرْضه معتمداً على مبتنيات علميّة، وأُسس عقليّة، وثوابت شرعية، لا يمكن الطعن بمقدّماتها ولا نتائجها، مهما اختلفت ثقافة المتابع أو المستمع.

وعليه أن ينزّه المنبر عن جعله حَلبَةً ووسيلة للصـراعات السياسية والاجتماعية والطبقية التي تَحدُثُ في المجتمع، فإنّ المنبر أجلّ من ذلك كلّه وأسمى.

حتّى يبقى هدف المنبر خالصاً لله، ولما بعث به رسوله المصطفى|، وما بشّـر به أهل بيته الأطهار^؛ وأَلّا يُتّخذ وسيلةً للإفساد والإخلال بين الناس، أو يُستغلّ في مدح الظالمين والدفاع عنهم، إلّا في فضح المارقين عن الدين والضالّين، الذين ثبتت ضلالتُهم في الدين وظهرت للعيان؛ لتحصين الناس الأغمار والسُّذّج من التأثُّر بأفكارهم الضّالة وآرائهم المنحرفة، حتّى لا ينخدعوا بهم، مع بيان وجه الضلالة والشبهات لأبناء المجتمع، وأسباب الانحراف، لا التعرّض لهم بالتنكيل والتطاول والإقصاء فقط، فإنّ هذا الفعل لا يحلّ المشاكل ولا يرفع الشبهات.

وعلى الخطيب الحسينيّ أن يؤمن بأنّ ارتقاء المنبر ليس صنعةً أو مهنةً يعتاش منها، فيكون جُلّ همّه وغايته الحصول على الأموال من طريقه، فيتعامل على أساس ذلك كما يتعامل على بيع أو شراء سلعة من السوق! أو يتّخذه لطلب الرئاسة والجاه؛ ليُشبع شهوته بحبّ الظهور والشهرة، وكلُّ ذلك يكون على حساب ثوابت المنبر ومبادئه، فإنّ في ذلك الذلّ والفقر، فقد رُوي عن الإمام زين العابدين× أنّه قال: «وإيّاك أن تترأس بنا فيضعك الله، وإيّاك أن تستأكل بنا فيزيدك الله فقراً»([238]).

فالخطيب الحسيني يؤدِّي عملاً رساليّاً، مهمّته بناء الأُمّة وإصلاحها، وقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً برسالة الأنبياء والأوصياء والمصلحين الرساليين، الذين ضَحّوا بكلّ غالٍ ونفيس من أجل المبدأ والعقيدة، والوصول إلى الهدف السامي في نشـر الوعي الرسالي وتبليغ الأحكام والعقائد الإلهية الحقّة؛ وهذه المهمّة الجسيمة تُحتّم عليه أن يكون من الذين يحرصون على الأهداف الكبرى لهذا العمل الرسالي ويعيشون لها لا عليها.

وعلى ذلك فالمنبر الحسيني يُعدّ اليوم من أهمّ الأدوات والوسائل الإعلاميّة الفعّالة والمؤثّرة في المجتمع، فهو حيّ وحيوي يواكب كلّ العصور والأزمان ولا يتأثّر بالمكان، يربط بين الوعي المعرفي والتنوير العلمي وبين العمق الدينيّ بما يهبه من أجر وثواب واستثمار للوقت، وما يخلقه من الترابط الاجتماعي والبناء الروحاني بين الناس على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم، قديماً وحديثاً، حاضراً ومستقبلاً، فإنّه ما زال ينبض بالعطاء والحياة برغم تطوّر أدوات الإعلام ووسائله.

المنبر الحُسيني مسؤوليَّةُ مَنْ؟([239])

لا شك في أنّ المنبر الحسيني يمثل وسيلة مهمة للإعلام والتبليغ الديني، الأمر الذي يستلزم تحمل مسؤولية كبيرة تناط بالقائمين عليه، لأن إيصال تعاليم الدين وعلوم الشريعة من أفكار ونظريات إلى الناس، واجتماعهم بين أيدي رجال الدين، يرتوون من منابرهم، ويتغذّون من أفواههم، لهو عطاء جليل، ومهمة كبيرة، الأمر الذي يحتم أن تكون الهمّة عالية، وأنّ الشعور بالمسؤولية كبير، والإحساس بالواقع عميق.

 مع ذلك إنّ الكلمة المسموعة ربّما تتبخّر من الأذهان، أو يُساء فهمها أحياناً، أو لا يسعها المقام، وعلى ذلك فالتوثيق بالكلمة المقروءة والكتابة المدوّنة، أحفظ للفكرة، وأنفع للمتأمّل، وأسهل في المتابعة والرجوع، وأدقّ في التعليق والتحقيق، وإن كان لا يوجد اختلاف بينهما في مجالي التبليغ والإرشاد، خصوصاً مع سعة القاعدة الشعبية والاجتماعية للمنبر.

 فيقتضـي أن يكون هدف المشاريع العلمية التي تعنى بنشر المجلات والكتب هو محاكاة القاعدة المثقّفة، والطبقة الواعية، التي تقرأ وتتابع ما يُكتب ويُنـشر، وما يُعرض من أفكار ونظريات، وبحوث وتحقيقات ونحو ذلك، دون الاقتصار على السماع والتلقّي، وهذه شريحة كبيرة ومهمّة في المجتمع تحتاج إلى العناية والنظر في بيان معالم نهضة الإمام الحسين×، والاستفادة من الآراء والأفكار والرؤى الحديثة، والمعروضة في الساحة الثقافية والعلمية، وكلاهما الكلمة المسموعة (المنبر) والكلمة المكتوبة (المجلة أو الكتاب) إذا استُغِلّا بعنايةٍ وحكمةٍ، ودرايةٍ ومعرفةٍ، وحنكةٍ وبصيرةٍ، وبمسؤولية كبيرة فإن كلّ واحد منهما سيصبح مناراً وقّاداً مستمراً، وعطاءً زاخراً دائماً، وشعلةً وهّاجةً مضيئةً.

ومن هنا راودني السؤال القديم الجديد الآتي:

المنبر الحسيني مسؤوليَّةُ مَنْ؟

إنّه سؤال يطرح نفسه دوماً ويتردّد كثيراً، ونسمع صداه عبر أجيال مرّت، وربما لأجيال قادمة!!

ربما منذُ الخطبة الأُولى لمؤسّس المنبر الحسيني الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين÷([240]) في الشام، وأمام طاغية عصـره اللّعين يزيد بن معاوية وحتّى يومنا هذا، مع استثناءات لبعض الفترات من حياة الأئمّة الأطهار من أهل البيت^؛ إذ كانوا يعيشون مجمل حياتهم في تقيّةٍ شديدةٍ، ورقابةٍ مكثّفةٍ، ولكن مع ذلك تحمّلوا المسؤولية، ووجّهوا شيعتهم، وأرشدوهم للجلوس والتذاكر في أمرهم^، وذكر مصاب الحسين×، وحسب ما تقتضـي الظروف والمرحلة آنذاك.

 فقد رُوي عن أبي عبد الله× أنّه قال للفُضيل: «تجلسون وتُحدّثون؟ قال: نعم، جُعلت فداك. قال[×]: إنّ تلك المجالس أُحبُّها، فأحيوا أمرنا يا فُضيل، فرحم الله مَن أحيا أمرنا...»([241]).

ولا يخفى أنّ التذاكر والتداول في أمرهم^ تذاكر في أمر رسول الله|، وأمره| أمرُ الله ، وهو الدين والشريعة.

هذا، وعلينا أَلّا ننسى رغم جور الظالمين وتنكيلهم، وحقد الحاقدين ومكرهم، وحسد الحاسدين ودسائسهم، على المنبر الحسيني وأركانه، وعلى عوامل نهوضه وديمومته، فإنّك تراه آناً ما ينشط ثمّ يخبو، ويقوى زماناً ثمّ يضعف، ويتماسك بناؤه ثمّ يتصدّع شيئاً ما، إلّا أنّ عمدة نشاط المنبر وبنائه، وأساس قوّته وتماسكه، عادةً ما يكون على مستوى الخطباء الأفراد، المعدودين والمتميّزين، فإذا رحلوا إلى عالم الحسين×، ربما خبا وخفت بريق المنبر ثانية، وتقلّص عطاؤه، وبهت تفاعله مع المجتمع، وأخذ بتكرار ما سبق بما لا يتوافق مع الواقع المعاصر، في حين نريد من المنبر الحسيني أن يكون مدرسةً ذات منهجيةٍ ثابتةٍ واعيةٍ، وبناءً مستحكماً أميناً، وإرشاداً وتوعيةً هادفةً مستمرّةً، حتّى يتواصل عطاؤه وتفاعله في الجوانب الفكرية المعاصرة، وفي المراحل الحياتية كافّة على اختلاف الميادين وتنوُّعها، فيربط الدور السابق باللاحق، ويبني اللاحق للآتي، بخطى واعيةٍ وهادفةٍ، ومواكبةٍ، وتجدُّد عن بصيرة واحتضان ورعاية صادقة، ترتقي بالمنبر إلى إشعاع أكثر، وحدود أوسع، وآفاق أبعد، لا تُحَجِّمهُ المؤثّرات الطارئة، أو تحدُّ من تطوّره ورقيّه العوامل الخارجية، فيبقى دوره نشِطاً لا يتقلّص، وصوته عالياً لا يخبو، وأركانه ثابتةً لا تتصدّع، بل لا بدّ أن يصل إلى مستوى يُحاكي تطوّرات الحياة الجديدة وأُطروحاتها المعاصرة، بحداثتها وعولمتها، ليواكب كلّ حادثٍ على المجتمع، مع ما تهيّؤه من بناءٍ وإعداد الخطباء الرساليين، وما ذلك إلّا رفداً لعطاء المنبر الحسيني في بناء الإنسان وتكامله، وترسيخاً للفكر النيّر البنّاء لأهل البيت^، في تقويم مسيرة المنبر الحسيني وتأصيل دوره العلميّ، ورعاية مضمونه والاهتمام به، والإشراف عليه ومتابعة خصوصياته، بتذليل الصعاب، وتسهيل الإمكانات، وتهذيب الدخيل عليه وتشذيبه؛ لكي يُرى هدفه واضحاً، وهُويته بارزةً معروفةً، فيظهر متألّقاً مُشعّاً، بإخلاصٍ وصدقٍ ومسؤوليةٍ.

إنّ هذا المنبر الشـريف الذي أقضّ مضاجع الحُكّام والطواغيت، وأربك المنافقين وأعداء أهل البيت^، وحيّرَ التبشيريين والمستشـرقين، قد بنى مجتمعاً ولائياً، ورسّخ العقيدة المحمدية الصادقة فيه، ورسم دروب التضحية والفداء، ورفع راية الحرية والإباء، ونشـر دروس الوفاء والولاء؛ إذ إنّه وُلد من رحم نهضة الإمام الحسين×، وانتُزع من بين مخاض دمه الزكيّ في كربلاء، وبُني من وحي أهداف نهضته، وسار على نهج جدّه الأمين|، حاملاً شعاره×: «إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مُفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي|، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب×، فمَن قبلني بقبول الحقّ، فالله أوْلى بالحق، ومَن ردَّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضـي الله بيني وبين القوم بالحقّ، وهو خيرُ الحاكمين»([242]).

هذا، كما أنّه تبنّى خط ونهج الخطيب الحسيني الأوّل والمؤسّس الرائد له، الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين÷ عندما قام ـ وأعلن هدف المنبر الحسيني وشعاره ـ وقال ليزيد: «يا يزيد، ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد، فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ رضا، ولهؤلاء الـجُلساء فيهنّ أجر وثواب»([243]).

 ومن هذا الهدف السامي، وما يعرضه من القيم العليا والمثل السامية، وما يبرزه من المظلومية الأليمة، بما جرى على قربان آل محمد| الإمام الحسين×، من مصائب وفظائع، اهتزّت لها مشاعر الكون، وجاشت لها عواطف الإنسانيّة جمعاء، فضلاً عن المسلمين؛ ومن هنا فَهِم بعضُ النصارى الغربيين أهمّية المنبر الحسيني ودوره في المجتمع الإنساني، حتّى قال: «لو كان عندنا منبر الحسين لنصّـرنا العالم أجمع»([244])، أي: نجعل العالم على دين النصـرانيّة؛ وذلك لعظم أهداف المنبر الحسيني، ونُبل مسيرته ومنهجه، وصدق قضيته ورسالته، فبعرض هذه النتائج الجليلة على المجتمع سرعان ما يستحوذ على قلوب العالم ويُملِّكها للنصـرانية. فهذه رؤية غيرنا إلى أهمّية دور المنبر الحسيني.

فما هي رؤيتنا نحن المسلمون، وبالخصوص شيعة الإمام الحسين×؟

وما هو تصوُّرنا اليوم عن المنبر الحسيني، وعوامل بنائه، وديمومة عطائه الفكري، ومسؤولية استمرار نشاطه قوياً ثابتاً بنّاءً؟

وهل نحن نُـقـدّر عِظم هذه المسؤولية تجاه المنبر الحسيني وأهمّيتها؟ وعلى عاتق مَن تقع هذه المسؤولية؟

هناك نقاط متداخلة، وأرقام متقاربة، ربما لها الدور الفاعل والمسؤول في بناء معالم المنبر الحسيني.

فإنّ المنبر الحسيني يجب أن يكون مدرسةً ثقافيةً متكاملةً، تنفتح على كلّ العلوم الدينية، والتاريخية، والأدبية، والاجتماعية، والسياسية، وغيرها، ومدى صِلتها بِحياة الأُمّة ودورها في بناء المجتمع الإسلامي؛ لأنّ مهمّة المنبر جسيمة، ورسالته عظيمة، فتأمّل في قول أحد المستشـرقين: «إنّ مجالس التعزية [أي: مجالس المنبر الحسيني] مؤتمرات مجّانية، فحسبُ المرء أن يُعلن عن عزمه على إقامة المجلس الفلاني للعزاء، في المكان الفلاني، أو الساعة الفلانية، فيقصده الناس من كلّ جهة، فلا يكلّفه ذلك غير قليل من السجائر والقهوة... فما أكثر المؤتمرات المجانية عند المسلمين، ولو أنّهم أرادوا الاستفادة منها في دراسة شؤونهم، ومعالجة مشاكلهم، في وقت لا نستطيع فيه نحن الغربيين إقامة مؤتمر من أفراد معدودين إلّا بشقّ الأنفس، وبذل الجهد والمال»([245]).

فالمسؤولية في بناء المنبر الحسيني اليوم تكمن ربما بشكل مباشر ـ في حدود نظرنا وتصوُّرنا المتواضع ـ في ثلاث جهات أساسية، تمتلك الدور الفاعل والعنوان المؤثِّر في بناء المنبر الحسيني، وتثبيت أركانه، وديمومته بالعطاء الثرّ والغنيّ، وإسعافه بكلّ مستلزماته ومقوّماته الفكرية، والعقائدية، والشـرعية، والأدبية، والاجتماعية، والسياسية، وما إلى ذلك من نواحي الحياة، في خضم التناقضات والرؤى الوافدة إلى مجتمعنا من الأعداء والمتربصين، وأغلبها ناشئ عن الجهل وسوء الفهم من قِبل بعض الأدعياء، والأهمّ من ذلك بسبب إهمالنا لبعض هذه النظريات والأفكار والرؤى، وعدم التصدّي لها، وتركها حتّى تنتفخ وتنتفخ في مجتمعنا، فإذا انفجرت تفاجأ الجميع وذُهلوا!!

 فإنّ الطفل الذي يلقي بالجراثيم على الأرض جهلاً منه، هل يُهمَل فعله ويُترَك؛ لأنّه طفل وجاهل، لا يعيّ ولا يفهم، لأنّ هذه الجراثيم لم يتأذَّ منها أحد إلى الآن، ولم يتأثّر؟! أو يجب علينا الإسراع للقضاء على هذه الجراثيم ولملمتها قبل الانتشار وشيوع الداء في المجتمع؟!

وهنا نحدّد الجهات الأساسية الثلاث التي يجب أن تضطلع بالمسؤولية، وهي:

1ـ الحوزة العلمية.

2ـ الخطيب الحسيني.

3ـ المجتمع.

 1ـ مسؤولية الحوزة العلمية

إنّ الحوزة العلمية ـ والمتمثّلة بقياداتها العظمى ـ هي الراعي الأوّل، والموجّه المباشر، والمسؤول الأساس، ومَن له الكلمة المؤثّرة في الدور الرقابي على المنبر الحسيني وتحصين أُسسه، وتقويّم بنيانه، والرافد له بكلّ معطيات الفكر الإسلامي الخلّاق، من نظريات وتوجيهات عامّة، وحلول بنّاءة للمجتمع، على جميع المستويات الفكرية، والعقائدية، والاجتماعية، وغيرها من محاور الحياة، برعاية أبويةٍ رساليةٍ صادقةٍ.

وطريق ذلك أن يكون بفتح قنوات اتّصال واسعة مع خطباء المنبر الحسينيّ، والقيام برعايتهم ودعمهم، وتنظيم إعدادِهم في تبليغ رسالة الحوزة العلمية، رسالة فكر أهل البيت^؛ وذلك بفتح مدارس تأهيلية خاصّة لإعدادهم إعداداً علمياً ورسالياً صحيحاً، إمّا في أيام التعطيل الحوزوي، حتّى لا يتعارض ومنهج التحصيل العلميّ العام للحوزة العلمية، أو في عصـر كلّ يوم، بعد الفراغ من الدروس الحوزوية اليومية.

ويكون ذلك أيضاً بإقامة دورات حوارية وفكرية عامّة، بين مدّة وأُخرى لخصوص الخطباء الحسينيين؛ لتصحيح بعض المسارات والاتّجاهات المنبرية، مضموناً وأُسلوباً، بل لا بدّ من عقد ندوات أو مؤتمرات خاصّة للخطباء، بإشراف مراجع الدين وقادة الفكر وعلماء الحوزة العلمية وفضلائها، للتحاور والتشاور، وتبادل وجهات النظر وتدارسها، لا سيّما فيما يُعرض من الأفكار والآراء على المنبر، بصورة علمية مُحكَمة، كي تصل هذه النتائج وتُعرض على المجتمع وفق النهج السليم، إضافة إلى رعاية الخطباء الحسينيين وتوجيههم، والاطّلاع على ظروفهم الحياتية، ومعرفة المعوّقات التي تقف في طريقهم؛ لتذليلها وتخفيفها، وأهمية متابعة انتشارهم وتوزيعهم إلى مناطق التبليغ والإرشاد، بشكل يتناسب مع ظرف المكان والزمان، والمستوى العلمي والثقافي والديني لتلك المناطق والبلدان، وهذه من أهمّ المميّزات التي تُشعر الخطيب بالانتماء والاهتمام والرعاية، فضلاً عن المجتمع.

إنّ من أهمّ المواسم للخطيب الحسيني في التبليغ والإرشاد هما شهر محرّم الحرام وشهر رمضان المبارك، فيكون لقاؤه بالمجتمع لمدّة أطول، واتّصاله بهم أوسع، واحتكاكه معهم أكثر؛ الأمر الذي تراه الحوزة العلميّة ومراجعها الكرام فرصة لاستغلال هذه المواسم بصورة حكيمة، لقول كلمتها وتثبيت رسالتها في المجتمع من خلال ما تجده مناسباً في المقام.

ويمكن أن يكون ذلك بعقد مؤتمر علمي تبليغي، يجمع الخطباء الحسينيين قبل كلّ موسم من هذه المواسم التبليغية؛ لتدارس الأوضاع العامّة التي تهمُّ المجتمع، ومناقشة أهمّ المواضيع الدينية والفكرية التي يجب عرضها على الناس، ومُدارسة ما يدور في ساحتهم من الشبهات العقائدية من أجل رفعها وردّها، وكذلك ما يحتاجونه من الأحكام الشـرعية وكيفية بيانها، بصورة يسيرة وسلسة، وصولاً إلى إيجاد الحلول والبدائل لمشاكل المجتمع وأبنائه، نحو الاتّجاهات والسُّبل الاجتماعية والاقتصادية والعشائرية والسياسية كافّة وغير ذلك، ولا سيّما طبقة الشباب؛ وذلك بتحصينهم وتوجيههم ووضعهم على الجادّة المستقيمة.

هذا، ولا يمكن أن نترك الأُمور على الهامش، والتقليل من شأن هذه المهمّة الرسالية وإهمالها؛ إذ لا يخفى على المتتبّع اللبيب أنّ العالم اليوم يُخطّط لتمزيقنا وضـرب وحدتنا، والتشكيك والطعن بعقائدنا، وتهميش فكرنا، والسيطرة على عقول أبنائنا، وأنّه قد وجّه نحونا أدواته الخبيثة كافّة.

وعليه؛ فلا بدّ أن نقوم في المقابل بالتخطيط لأنفسنا، ولمستقبل أبنائنا، فكرياً وعقائدياً، وحضارياً، والمحافظة على ما نملكه من الأدوات الفاعلة، والوسائل المؤثّرة التي بأيدينا كالمنبر الحسينيّ، فهذا المستشـرق الفرنسـي (غوستاف لوبون) قال: «حضـرت أحد مجالس التعزية في الهند ـ وكان معي ترجمان ـ فسمعت الخطيب وهو على المنبر يقول: أيّها الناس إنّ سيدنا ومولانا ومقتدانا أبا عبد الله الحسين قد ضحّى بنفسه وعياله وماله، ولم يُعطِ بيده إعطاء الذليل، ولم يقرّ إقرار العبيد، وإنّما آثر المنيّة على الدنيّة. فعلمت أنّ الخطيب يُلقي على القوم درساً بليغاً في الوطنية، إنّه يقول لهم: يا أهل الهند، إذا أردتم أن تكونوا أحراراً في بلادكم، وأَلّا يكون لأجنبي سلطان عليكم فاقتدوا بمثل هذا الرجل العظيم، والإمام الكريم، ثوروا في وجه الظلم كما ثار، وضحُّوا من أجل المبدأ والكرامة كما ضحّى، ولكنّ الخطيب والسامعين لم يفهموا هذا المعنى ـ على حدّ فهم المستشـرق وتعبيره ـ وكلّما قصدوا إليه في مجالس التعزية هو أن يبكوا ويتباكوا؛ ليكون لهم ثواب ذلك في الآخرة، وهم لا يعرفون أنّ كلّ عمل مادّي لا بدّ من أن تكون له نتيجة مادّية في الحياة، مضافاً إلى الثواب، فاجتماع عدد كبير من الناس في مجلس واحد، لغرض واحد، عمل مادّي يجب أن تكون له نتائج مادّية أيضاً»([246]).

ولهذا نحن نستشعر عِظم المسؤولية في إدارة هذه المجالس الحسينية شكلاً ومضموناً، مادةً وهيئةً، وهذه المسؤولية العظيمة لا بدّ أن تكون برعاية كريمة من مراجع الحوزة العلمية وعلمائها ومفكّريها وأساتذتها.

ثمّ يأتي دور الطالب الحوزوي ومسؤوليته في متابعة الخطيب الحسيني، في أُسلوب عرضه للموضوع هيئةً ومادةً، فيتدارس معه ما يُطرح على المنبر، بكلّ صدق وإخاء وشفافيّة، فالهدف مشترك، والطريق واحد، وذلك بالتوجيه والتنبيه والإيضاح ولفت النظر، إمّا بالاستفسار المباشر مع بيان المطلب أو الواقعة، أو بالنقاش والتوضيح بالتحقق والتأمّل لبعض المرويات والأحداث التي يسـردها الخطيب على المنبر، للإفادة والاستفادة، فإنّ ذلك يبعث في نفس الخطيب روح البحث والتحقيق، والقراءة والمتابعة، والاستفسار والسؤال، وعدم الاقتصار على التلقّي أو السُّماع ممَّن سبقه، وتبنّي فيه حالة التأنّي والتروّي فيما يقوله على المنبر، بعد التحقّق والتأكّد من وجه الكلام ودلالته.

فهذه المسؤولية والمتابعة، تزيل كثيراً من الشوائب العالقة، والمسلّمات الموهومة، بالتنبيه عليها ساعة الحدث، وزمان الخطبة، فإنّ العلم الصادق النابع عن التحقيق كموجة البحر الشديدة تقذف كلّ ما ترى أمامها من الطحالب والأوساخ فيذهب الزَّبدُ جفاء خارج البحر، ويبقى هو الراسخ الثابت.

كما أنّ مسؤولية أساتذة الحوزة العلمية وفضلائها، وأصحاب القلم والتحقيق من كتّابها ومؤلّفيها، بل وتشمل عموم الباحثين والمثقّفين، التركيز على تثبيت النصوص الصحيحة، وتحقيق الأحداث التاريخية المتناقضة، وإثبات ما هو أقرب للعقل والواقع، وتصحيح المواقف المشوّشة، وردّ الشبهات الحادثة، وعرض رؤية الإسلام المعاصرة للمواقف والأفكار والشبهات الدينية والفكرية المستحدثة في المجتمع، وإعطاء البدائل المناسبة، وعرضها بأُسلوب علميّ هادف ورصين؛ لرفد خطباء المنبر الحسيني وتغذيتهم وتنويرهم بها، لا سيّما موارد الشبهات والأفكار الهدّامة، والمواقف التاريخية الحرجة، والأخبار المتعارضة، وغير ذلك.

 وعلى الحوزة العلمية أن تسعى لطبع هذه البحوث والدراسات ونشـرها، وتوزيعها ـ وبأسعار مدعومة ـ على أبناء الحوزة وعموم أبناء المجتمع، بعد إعداد لجنة علمية لتقييمها، وإسناد مورد ماليّ خاصّ لها، فإنّ هذا ممّا يقوي دعائم الدين، ويعزّز من قواعد المذهب، ويُرضي الإمام×.

إنّ الخطيب الحسيني الرسالي ابن الحوزة العلمية، بها نشأ وترعرع، واستقى منها علومه، والمفروض أن ينطق ويفرغ عمّا تعلّمه ووعاه ونهل منه، وعلى الحوزة العلمية أن تحافظ على أبنائها وترعاهم، فكما أنّ الأب يحافظ على عائلته وأبنائه من الانحراف بلزوم رعايتهم وتوجيههم إلى الطريق القويم، وتحصينهم من كلّ طارئ، فعلى الحوزة العلمية وقادتها أن تدعم الخطيب الحسيني والمُبلِّغ الرسالي، بكل السُّبل والمقوّمات؛ لأنّه ابنها ولسان حالها، بها يقوى وبها يضعف، وأن ترعى المنبر الحسيني؛ لأنّه أداتها الإعلاميّة الإيمانيّة، ورسالتها الروحية والفكرية إلى المجتمع، فإنّ دعمه ورفده بما يحتاجه يُعدّ من أهمّ مسؤوليّاتها.


 

2ـ مسؤولية الخطيب الحسيني

إنّ الخطيب الحسيني رابطة الوصل وهمزته، بين الحوزة العلمية ومرجعيتها من جهة، وبين الحوزة العلمية وقادة الفكر والقلم من جهة ثانية، وبين عامّة الناس والمجتمع من جهة ثالثة.

 وعليه؛ فإنّ الخطيب الحسيني يجب أن يستشعر عِظم هذه الصِّلة والمسؤولية الملقاة على عاتقه، وخاصة عند ارتقائه المنبر.

 إنّ هذه المسؤولية الجسيمة تُحتّم على الخطيب الحسيني أَلّا يرتقي المنبر حتّى يستحضـر أدواته وإمكاناته المنبرية كافّة، أُسلوباً، ومضموناً، وأداءً، وأهمّها الإخلاص وصدق الهدف؛ لأنّ الخطابة ملكة ربّانية يهبها الله تعالى إلى الأنبياء والأوصياء والمصلحين والحكماء.

إنّ الخطيب الحسيني يجب أن يكون بمستوى يؤهّله للرقي والاستعداد للتكامل والبناء الروحي، ويؤهّله أيضاً للارتقاء والاقتداء بسيرة رائد المنبر الحسيني الإمام زين العابدين× ومنهجه، عندما أقام أوّل مجلس حسيني بعد استشهاد أبيه الإمام الحسين× أمام أعتى طواغيت الأرض، بكلّ شجاعة واقتدار وثبات، وهذه من أهمّ صفات الخطيب الحسيني، وهي الشجاعة في العَرْض؛ إذ لا يهاب أحداً ما دام قد دعا إلى الحق ونطق بالصدق، وهذه صفة الأنبياء والمصلحين.

 وعليه أن يكون أيضاً على مستوى عالٍ من الإيمان والورع، ومن التثبُّت والحكمة والدراية؛ لأنّ الخطيب الرسالي مرآة للآخرين تعكس أفعالهم وأخطاءهم.

 وأن يوجّه الناس إلى الطريق الصحيح الـمُعبّد، والحذر من أن يتلبّس بانحراف السلوك ويتقمّص ذلك في نفسه؛ لأنّه سرعان ما تنكسـر صورته أمام الناس، فلا يستقبله أحد، ولا يستمع إليه شخص، ولا يؤثّر في المجتمع؛ قد سقط من العيون والقلوب.

 ولا بدّ للخطيب أن يكون متمكّناً من الموضوع، وأُسلوب العرض، وطريقة القيادة، والاقتدار على المنبر أمام الملأ؛ لأنّه بذلك يملك القلوب ويأسرها فضلاً عن العقول.

 وأن يكون بمستوى عالٍ من الثقافة العامّة؛ حتّى يُغني المنبر في العرض والنقاش والجواب، ويفتح آفاق المستمعين بما يدور في المجتمع من أفكار وآراء ونظريات حديثة، بل والطارئة على العالم المتّصل بنا والقريب منّا، وإن كان ذلك بالسؤال والاستفسار والبحث والمتابعة.

كما لا غنى له عن دراسته الـمُجدّة في الحوزة العلمية، بما يؤهّله لعرض الشبهات والإجابة عنها، بسلامة فكرٍ وحُسن بيانٍ، والقدرة على فهم مدارك الأحكام الشـرعية، وشرحها وتفسيرها، بما يرفع اللَّبس والشبهة عن عامّة الناس، وهذا يكون ناتجاً عن عمق دراسته الحوزوية، والتتبُّع والقراءة المكثّفة للتاريخ الإسلامي، وتشخيص المراحل التي مرّ فيها، وأهمّ الشخصيات التي برزت فيه، ومعرفة أدوار أهل البيت^ في تثبيت معالم الرسالة المحمدية النقيّة، وما بذلوه وتحمّلوه من الصعاب والمشاق في سبيل ذلك، فضلاً عن معرفته بثقافة المجتمع وما يدور به من أحداث ومشاكل وأفكار، على أن يكون العَرْض بأُسلوب سليم، ذي مطالب واضحة ليست بالغريبة، وحقائق علمية ثابتة ليست بالفرضيات، ممّا تتقبّله القلوب والعقول، لا أن تنفر منه الطباع والنفوس، أو يُثير التساؤل والتشكيك.

فلا بدّ أن يكون مستوثِّقاً في نقله للروايات والأخبار، وأن يميّز الغثّ من السمين، وإن كان باعتماد الكتب الصحيحة والموثّقة والمحقَّقة.

 وأَلّا يكون طرحه للأفكار والآراء إلّا بعد دراستها وتمحيصها، بتتبُّع ومشورة؛ لأنّ الخطيب ربما يقع في الإفساد من حيث لا يشعر؛ وذلك بعرض كلّ ما صادفه أو سمعه أو قرأه على المنبر، من دون تدقيق أو مراجعة أو تأمُّل، وهذه آفة من آفات المنبر، وهدم لدوره البنّاء في خلق مجتمع إسلامي واعٍ.

إنّ الخطابة الحسينية ليست صنعة أو مهنة يعتاش منها الخطيب الحسيني، ويكون المقابلُ الماديُّ جُلَّ همِّه، وغاية هدفه ومبتغاه، وإنّما هي عمل رسالي مرتبط برسالة الأنبياء والمصلحين، الذين ضحَّوا بكلّ غالٍ ونفيس، من أجل المبدأ والعقيدة والوصول إلى الهدف السامي، في نشـر الوعي الرسالي وتبليغ الأحكام والعقائد الإلهيّة الحقّة، وقد رُوي عن الإمام زين العابدين× قوله: «وإيّاك أن تترأس بنا فيضعك الله، وإيّاك أن تستأكل بنا فيزيدك الله فقراً»([247]).

إنّ الهدف الرسالي هو المرتكز الأساسي الذي يبني عليه الخطيب الحسيني طريقه ومنهجه، وأن يستوحي هدفه من نهضة صاحب المنبر الإمام الحسين× وهدفه، وأن يكون شعاره هو شعار الإمام× نفسه: «إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مُفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي|، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب×، فمَن قبلني بقبول الحقّ، فالله أوْلى بالحق»([248])، وعليه أن يردّد هذا الشعار ويتبنّاه سلوكاً وغايةً وهدفاً، بل عليه أن يجسّده مع نفسه أوّلاً، ثمّ مع الآخرين، ويردّده الخطيب دوماً مع نفسه، بل يبني سلوكه على قوله×:

1ـ «إنّي لم أخرج أشِراً، ولا بَطِراً»، أي: إنّ خروجي للناس وجلوسي على هذا المنبر الشـريف لا عن بطر ومرح، وتفاخر وتطاول، وإنّما أنا صاحب دعوة رسالية، وهدف سامٍ، وغاية نبيلة، وهي الدعوة لتثبيت نهج الإمام الحسين×، والسير برسالة جدّه المصطفى|.

2ـ «ولا مُفسداً» في الأرض، أي: لست متّخذاً المنبر كوسيلة للإفساد والإخلال بين الناس، أو في مدح الظالمين والدفاع عنهم.

وعليه، أَلّا يجعله أداة ووسيلة لعرض القضايا الشخصية، والآراء النفسية، وغلبة الهوى، أو الدخول طرفاً في بعض النزاعات والاختلافات التي تحدث في المجتمع، فإنّ المنبر لا بدّ أن يكون منزّهاً عن ذلك، وأن يكون هدفه خالصاً لله ورسوله| وأهل بيته^.

3ـ «ولا ظالماً»، بأن لا يعتدي على الناس، ويتطاول على أفكارهم، ويسفّه عقولهم، ويستهزئ بهم على المنبر، بل عليه أن يوضّح لهم الحقائق ويرفع ما التبس عليهم، وما أُبهم فهمه لديهم، بكلّ هدوء ورزانة وأدب؛ لأنّها سيماء الرساليين، إلّا في فضح أصحاب المروق والضلالة، لا سيّما من تسالمت ضلالتهم في الدين، وظهرت للملأ، حتّى لا ينخدع الناس السذّج بأفكارهم الضالّة وآرائهم المنحرفة، مع بيان وجه الضلالة والشبهة للمجتمع، وسبب الانحراف، لا التعرُّض لهم بالتنكيل والإلغاء فقط، فإنّها لا تحلُّ العقدة ولا ترفع الشبهة.

4ـ «وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي|، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...»، ومغزى هذا الشعار هو أن يكون لسان حال الخطيب عبارة عن: إنّي ارتقيت المنبر لطلب وبثّ ونشـر الإصلاح والهداية والعقيدة الصحيحة في أُمّة محمد|، نبييّ وقدوتي سيّد الأنبياء والمرسلين كما نزل عليه، صافياً عذباً زلالاً، بعيداً عن شوائب الظالمين والمنافقين، آمراً بالمعروف حتّى يُعرف ويُعمل به، قدر استطاعتي وجهدي، وأنهى عن المنكر حتّى يُعرف ويُتجنّب عنه ويُترك، قدر استطاعتي وجهدي، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...) ([249]).

فهذه كانت مسيرة الإمام الحسين× وهدفه، وعلى نهجه يسير الخطيب الحسيني، فإنّه سفيره إلى عموم الناس، فعليه ـ إذاً ـ أن يُمثّله× بسلوكه وهدفه وشعاره بما أوتي من قوّة واستطاعة.

كما أنّ على الخطيب أَلّا ينسى الاقتداء بنهج الخطيب الحسيني الأوّل الإمام زين العابدين× وهدفه، وأن يتمسّك بشعار المنبر الحسيني الذي رفعه عندما أقام أوّل مجلس هزّ عرش الطاغية يزيد بن معاوية، وهو يعيش زهو انتصاراته الموهومة، فقد أبرز شعاره× بقوله ليزيد: «يا يزيد، ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد، فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ رضا، ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجرٌ وثواب»([250]).

 فالخطيب الحسيني عليه أن يراعي ما جاء في كلامه×، ويتمسّك به، فيكون حديثه مع الناس دوماً بما يرضي الله، وأَلّا يشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق، وإلّا فليتبوّأ مقعده من النار، وقد قال الإمام الباقر×: «مَن أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإنْ كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان»([251]).

كما أنّ في ذلك الأجر والثواب، والصلاح والهداية للناس والمجتمع؛ لأنّ كلّ ما يأتي من الله تعالى فيه الهداية والخير والأجر والثواب.

ولهذا ارتعب من المنبر الحسيني ورجاله الحكّامُ الطواغيت والظالمون، ومن هؤلاء يزيد بن معاوية الذي قال ـ في معرض ردّه على مَن وافق على صعود الإمام زين العابدين× على المنبر في تلك الحادثة ـ: «إنّه إن صعد لم ينزل إلّا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان»([252]).

بل وفضيحة كلّ طاغيةٍ أو ظالمٍ أو مستبّدٍ أو ضالٍّ، ربما على الخطيب أَلّا يذكره بالاسم ولا بالرسم، ولكنّ الخطيب عندما يُظهر صور الحقّ والحقيقة للناس، ويُعَرِّفَها لهم، ينكشف الظالم والضالُّ والمنحرف لهم، وكما قال أمير المؤمنين×: «اعرف الحقَّ تعرفْ أهله»([253]).

 ولهذا أصبح المنبر الحسيني في مرمى أعداء الدين والمذهب، وأعداء الحرية والإباء.

ومن هنا؛ فإنّ مسؤولية الخطيب الحسيني جزء من مسؤولية الأنبياء والأوصياء والمصلحين الرساليين، بل هو مصلحٌ رساليٌ، وسفيرٌ للحسين×، وإنّه لسان الحسين الناطق، وسيفه الضارب على الظالمين والمارقين.

 فعلى الخطيب الحسيني أن يكون أهلاً لهذه الصفة النبيلة، وصادقاً في تحمُّل هذه المسؤولية الرسالية الجليلة.

3ـ مسؤولية المجتمع

إنّ المجتمع هو قاعدة الخطيب الحسيني، فعلى ذلك ينبغي أن يسعى ـ وكلٌّ حسب حجم مسؤوليته في المجتمع، ودوره وثقافته ـ إلى دعم المنبر الحسيني وتقويمه، بما يؤهّله للارتقاء بمستوى الناطق عن الإمام الحسين× وسفيره، وحامل شعار نهضته ودعوته ضدّ الطغاة والظلم والانحراف بمختلف ألوانه وأشكاله، ومن ثَمّ التعريف بمظلوميته× وما جرى عليه.

 إنّ هذين الأمرين لا ينفكّان عن بعضهما، وهما:

أوّلاً: عَرْض فكر الإمام الحسين× وأهداف نهضته وبيان مشـروعه الإصلاحي، الذي هو فكر الإسلام وعنوان الرسالة المحمّدية، التي سار على خطاها وتبنّى أُسسَها ومفاهيمها وذاب في روحها×، وكما قال جدُّه رسول الله|: «حسين منّي وأنا من حسين»([254]).

وثانياً: التعريف بمظلوميّته× وبيان ما جرى عليه من قساوة الأعداء وتنكيلهم به، وهو ابن بنت رسول الله|، في محاولة منهم لتهميش الفكر الإصلاحي والإيماني الذي دعا إليه، وضحّى لأجله.

إنّ على المتصدّين لقيادة مواكب العزاء الحسيني في المجتمع، والمتعلّمين والمثقّفين وغيرهم كلٌّ حسب مسؤوليته، توجيه عامّة الناس وإرشادهم إلى أهمّية دور الخطيب الحسيني والالتفاف حول منبره، بالقول والعمل والاهتمام به كرسالي، والاستفادة ممّا يعرضه من فكر الإمام الحسين×، وبيان أنّ رسالته إلينا هي رسالة الإسلام.

 وعليهم تنبيه الناس وتوجيههم إلى أنّه× ليس عاطفة ودمعة فقط، وأنّه لم يُضحِّ بدمه لأجل أن نبكي عليه أبداً، بل علينا إحياء شعاره، وتبنّي أهدافه، والسير بهديه ونهج سيرته؛ لأنّه× فكر خلّاق، ورسالة سامية، وهدف إصلاحي قوّم المعالم الرسالية والعقيدة الإسلاميّة، وأقام لها أُسس الثبات والديمومة بدمه الطاهر ودماء أهل بيته وأصحابه الأبرار، بعد أن أراد الأُمويون طمسها، وبناء جاهلية أُخرى بعد الإسلام.

 نستذكر هذه الثُّلَّة الطاهرة في كربلاء، والتي سالت دماؤها على أرضها، لكي نستشفّ منهم أُصول العلم والفكر الرسالي، ونستمدّ منهم الثبات على العقيدة، ونتأسّى بهم للسير على هذا الدرب إذا ما تعرّضت العقيدة للاهتزاز والخمود والطمس، في الوقت نفسه نتعاطف مع هذه الثُّلَّة الطاهرة الخيِّرة التي فـَدت أرواحها في سبيل رسالة الإسلام الصحيح؛ كي تبقى الأجيال القادمة كريمة عزيزة حُرَّة، وتَحزن مشاعرنا عليهم لِعظم ما تحَمّلوه من قساوة الأعداء وإجرامهم، مع قلّة الناصر والمعين.

 نبكي عليهم استنطاقاً لمشاعرنا الصادقة، وتشبيهاً منّا هذه الدموع التي نذرفها حزناً عليهم بالدماء الزكية التي سالت على أرض الطفّ عن علم ووعي، وعقيدة راسخة، ممّا دفعهم إلى التنافس والتسابق على الاستشهاد، ونذرف الدموع أيضاً اقتداءً بدموع أئمّتنا^ ومسلكهم في المواساة، فإذا سبقونا بالدماء والشهادة؛ لأجل ثبات العقيدة الصحيحة، فنحن نواسيهم بالدموع والسير على ما رسمه الإمام الحسين× وخطَّه بدمه الطاهر؛ منهجاً وطريقاً للحياة الكريمة الشريفة، وبذلك نكون قد استفدنا من رسالته× فكراً وعاطفةً.

فاستذكارنا لأيام كربلاء يجب أن يكون بهذا المستوى من الوعي، وبالمنهج والطريق نفسه، وإلّا فنحن قد نخدع أنفسنا، بل ربما قد نكون أحياناً خارجين عن خندق الإمام الحسين× وصفوفه ولا نشعر بذلك.

إنّ الحسين× ليس عاطفة فقط، وإنّما هو فكر ودمعة امتزجا ليثمرا السلوك والسير والتمسُّك بالنهج الإسلامي الرسالي.

 وعلى هذا، فإنّ على المجتمع إجلال الخطيب الحسيني واحترامه، والاستماع إليه والاستفادة منه؛ لبناء عقيدتهم ودينهم، ولا سيّما مسؤولية أصحاب المواكب الحسينية، وقيادات المجتمع الشعبية والثقافية وغيرهم، في توجيه أنظار الناس إلى ما يعرضه الخطيب الحسيني على المنبر، واستيعاب مفرداته، والسير على نهجه، بل عليهم أن يكونوا القدوة في ذلك لعموم الناس؛ لكي نَعي رسالة الحسين×، ونفهم مضمون أهدافه، ونصل إلى طريقه، فكراً وعملاً ومنهجاً.

 ثمّ إنّ امتزاج هذا الفكر الوضّاء بمشاعر الحزن والبكاء، ومعرفة مظلوميته× يُطهّر الفكر والقلب من الشوائب غير الصالحة، بغسيل الدموع الطاهرة، ونور الحكمة المتعالية، المنبعثة من المشاعر الطيّبة الصادقة على سيّد الشهداء×.

إنّ هدف الحسين× هو أن يكون المسلم صادقاً مع نفسه، وذا نهجٍ صحيحٍ، مستقيم الطريقة، ثابت العقيدة، قوي الشكيمة؛ ولذا أعلنها× بكلّ صراحة ووضوح: «أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

 وعلى أبناء المجتمع أن يتفهّموا بأنّ هذا الخطاب الحسيني ومن على منبره الشـريف، هو عرض للفكر الرساليّ أوّلاً، وبناءً للعقيدة ثانياً، وختاماً نستذكر مصاب الحسين× فنبكي عليه، ونحن على استعداد للسير على نهجه، وكلُّنا شوق لطريقه، مع شّدة حبّنا للقائه×.

هذه هي مهمّة المجتمع في الحفاظ على المنبر الحسيني وبنائه، لا أن يُقيِّدوا سفير الحسين× ولسانه، بالاختصار في عَرْض الموضوع، والعُجالة في الوقت، ويكبِّلوه بكثرة ذكر المصاب الشـريف والنعي على الحسين×، وإهمال بيان الجانب الرسالي من أهدافه×؛ لأنّه سوف يولّد لدينا جيلاً من الشباب يَملّ الخطيب الحسيني ويبتعد عنه، كما أنّه سوف يخرج لنا جيلٌ لا يفهم من نهضة الحسين× إلّا البكاء واللّطم والسواد... ولا يعرف من أُمور دينه وعقيدته إلّا ما تعوّدها أو شاهدها، بلا وعيّ منه ولا إدراك، فيكون كالسعفة الضعيفة تميل بها الرياح الخفيفة إلى كلّ جانب، لا الرياح العاتية التي تقلعه من جذوره.

إنّ على وجهاء المجتمع، وشيوخ العشائر، وكبار القوم وقادة المواكب ورجالها المسؤولية الرسالية والأخلاقية ـ وكلٌّ حسب موقعه الاجتماعي، ومكانه الجغرافي، وحدود مجتمعه، ومقدار فهمه، وسعة إدراكه ـ في توجيه المجتمع وعامّة الناس وأغمارهم، وأبناء جلدتهم إلى الوقائع والأُمور، وكذلك توجيه خواصّه إلى التزوُّد من الثقافة الإسلاميّة والحسينية، الصحيحة الهادفة، والاندفاع نحو التعلُّم والفهم، والالتفاف والاستفادة من الخطيب الحسيني ومنبره، وقد قال رسول الله|: «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته»([255]).

 لا أن يكون أكبر اهتمامهم بالمظاهر الخارجية، من جودة صوت الخطيب، وشدّة إبكائه للناس، ومدى تأثيره في العواطف، وغير ذلك.

فإنّ هذا الأمر خلاف ما نهض به الإمام الحسين× وضحّى لأجله، فإنّه× لم يبذل دمه كي نبكي عليه فقط، بصوت حنين رقيق، لشدّة تأثّرنا بذلك، بل إنّ الأعداءَ والظالمين أرادوا طمس الدين ومعالمه، فنهض الحسين× ليُعيد نشـر هذا الدين، ويُثبِّت عمق هذا الفكر الإسلامي، ورسوخ عقيدته في النفوس.

وعلى المجتمع أَلّا يتصوّر أنّ النهضة الحسينية كانت ضدّ يزيد الأُموي فقط، بل نهضته ضدّ كلّ طاغية متجبِّر فاجر، في أيّ عصـر وُلد، وأيّ مِصـر كان، فالمواسي الحقيقي للحسين× هو الذي يهتدي بنوره× ويسير على دربه، فالبكاء عليه× كان وسيلةً لنشـر فكره، والتفكُّر في ظلامته، في زمن كانت التقيّة المكثّفة والخوف الشديد، مع تبنّي الدولة الأُموية جعلَ يوم عاشوراء ومصابه× يوم فرح وعيد وسرور.

فالبكاء صرخة صامتة بوجه الظلم، وإشارة هادفة على خروج بني أُمية عن الدين، بسفك دم ابن نبيّهم| وفرحهم به، وبيان أنّهم أرادوا طمس معالم الرسالة المحمّدية، فإنّ يوم مقتل الحسين× يوم عزاء ومصاب على آل الرسول|، لا يوم فرح وسرور، وهذه هي أضعف الرسائل، وأنبل مواساة.

إنّ الإمام الحسين× أراد بنهضته أن يُصلحنا ويقوِّمنا، والخطيب الحسيني الرسالي هو لسانه الناطق× وسفيره إلى الناس؛ فعلى المجتمع التوجُّه إليه واحتضانه، والاستفادة منه، والنهل من عطائه، في كلِّ الأبواب والاتّجاهات، حتّى نربّي أنفسنا ونُعدّ أبناءنا والمحيطين بمجتمعنا، للتوجُّه إليه والسماع منه، فإنّه خير معين.

 على أنّ لكلِّ بيئة أو مجتمع خصوصيات ومشاكل، وظروف معيّنة، تحتاج حلاً مناسباً، وأفكاراً خاصّةً وملائمةً، فعلى أبناء المجتمع عرض هذه الخصوصيات والمشاكل على الخطيب الحسيني، أو رفعها إلى علماء الحوزة العلمية لدراستها وتدارسها، وإيجاد الحلول المناسبة لها؛ حتّى يتمّ عرضُها على المنبر بقيم توجيهية عامّة، وفق النهج الإسلامي الصحيح، فهي في عرضها على المنبر تكون أقرب إلى نفوس العامّة؛ إذ يكون الخطيب متفاعلاً مع المجتمع، واعياً لِلغة المستمعين، وأُسلوب مخاطبتهم، وقادراً على استيعابهم؛ لأنّ من خصوصياته أن يعيش مع الناس، ويطَّلع على أفكارهم، ويعرف مشاكلهم، وطريق محاورة عقولهم.

هذه هي أهمّ الركائز الأساسية المسؤولة عن المنبر الحسيني في بنائه وتكامله، واستمرار عطائه، فإذا ما تكاملت وتآلفت وتآزرت بعضها مع بعض، فإنّ إحداهُنّ تُكمل الأُخرى، ونكون بذلك قد أحيينا الإمام الحسين× من جديد، ونصـرناه من قِبل الحوزة العلمية بعلمائها وطلّابها فضلاً عن خطباء المنبر وحاملي رسالته، وبمساندة سائر فئات المجتمع ودعمهم، وذلك باحتضانهم المنبر والتفافهم حول الخطيب الحسيني، فإنّنا بذلك نرتقي إلى المجتمع الإسلامي الأمثل الذي يطمح إليه الحسين× في النهوض والتحضُّـر، والتحرُّر من العبودية الدنيوية، ونقمع بذلك شبهات الضّالين والـمُضلّين، فتبتعد عنّا ولا تخرج علينا من وقت لآخر؛ إذ إنّها تجد طريقها وتنتشـر بين الجهل والفقر، وسوء التفاهم والتنازع، والاستبداد والظلم، والمفروض أن يكون مجتمع الحسين× خالياً من هذا ولو نسبياً، ما دام لسان الحسين× يصدح بالحق، وسيفه× قائماً مرفوعاً أمام أنظار الظالمين والضالّين.

وقد وصف المستشـرق الألماني (مارتن) المجالس الحسينية، بأنّها من أهمّ أسباب التقدُّم لدى المسلمين إن هم أحسنوا تنظيمها والاستفادة منها. كما ذكر أنّها عبرة لـمَن اعتبر([256]).

فسلام على الحسين×، وعلى آل الحسين، وعلى أصحاب الحسين، وعلى سفراء الحسين ونوّابه، وعلى خطباء المنبر الحسيني الرساليين، الأحياء منهم والأموات ورحمة الله وبركاته.

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

الاتّصال الجماهيري المنظور الجديد، د.هادي نعمان الهيتي، الموسوعة الصغيرة، نشـر دار الشؤون الثقافية العامّة، بغداد، 1998م.

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، محمد بن محمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (ت413هـ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت^، لتحقيق التراث، نشـر دار المفيد، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1414هـ/1993م.

أُصول الإعلام الإسلامي، د.إبراهيم إمام، نشر دار الفكر العربي، القاهرة.

الاعتقادات في دين الإماميّة، محمد بن عليّ بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق (ت381هـ)، تحقيق: عصام عبد السيّد، نشـر دار المفيد للطباعة والنشـر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1414هـ/1993م.

الإعلام الإسلامي الدولي بين النظرية والتطبيق، د.محمد عليّ العويني، نشر دار الكتب، القاهرة ـ مصر، 1407هـ/1987م.

الإعلام الإسلامي بين الواقع والمرتجى، د. عبد الرحمن حجازي، نشر دار المعرفة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 2017م.

الإعلام الإسلامي وتطبيقاته العملية، د.محيي الدين عبد الحليم، نشـر مكتبة الخانجي، القاهرة، ودار الرفاعي، الرياض ـ السعودية، الطبعة الثانية، 1404هـ/1984م.

إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548هـ)، تحقيق ونشـر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

الأمالي، محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (ت460هـ)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة ـ مؤسسة البعثة، نشـر دار الثقافة للطباعة والنشـر والتوزيع، قمّ المشـرّفة ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1414هـ.

الإمام الحسين×.. سماته وسيرته، السيد محمد رضا الجلالي، الناشر: دار معروف، قم ـ إيران.

الإمامة والتبصـرة، عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي (ت329هـ)، تحقيق ونشـر: مدرسة الإمام المهدي×، قمّ المشـرّفة ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1404هـ/1363ش.

بحار الأنوار، محمد باقر المجلسـي (ت1111هـ)، نشـر مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية المصحّحة، 1403هـ/1983م.

تاريخ مدينة دمشق، عليّ بن الحسن الشافعي المعروف بابن عساكر (ت571هـ)، تحقيق: عليّ شيري، نشر دار الفكر للطباعة والنشـر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، 1416ه‍/1996م.

التبيان في تفسير القرآن، محمد بن الحسن الطوسي (ت460هـ)، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، نشـر مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1409هـ.

تحف العقول، الحسن بن عليّ بن شعبة الحرّاني (ت قرن4)، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري، مؤسسة النشـر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشـرّفة، الطبعة الثانية، 1404هـ/1363ش.

التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، محمد بن عمر الرازي المعروف بالفخر الرازي (ت606هـ)، الطبعة الثالثة.

تفسير جوامع الجامع، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548هـ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة النشـر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1418هـ.

تهذيب الأحكام، محمد بن الحسن الطوسي (ت460هـ)، تحقيق وتعليق: السيّد حسن الموسوي الخرسان، نشـر دار الكتب الإسلاميّة، طهران ـ إيران، الطبعة الثالثة، 1364ش.

جامع أحاديث الشيعة، السيّد حسين البروجردي (ت1383هـ)، المطبعة مهر، قم المشرّفة ـ إيران، 1409هـ.

ذخائر العقبى، أحمد بن عبد الله الطبري (ت694هـ)، نشـر مكتبة القدسي، القاهرة ـ مصر، 1356هـ.

روضة المتّقين في شرح مَن لا يحضـره الفقيه، محمد تقي المجلسـي (الأوّل) (ت1070هـ)، نمّقه وعلّق عليه وأشرف على طبعه: السيّد حسين الموسوي الكرماني والشيخ عليّ پناه الإشتهاردي، نشـر بنياد فرهنك إسلامي ـ حاج محمد حسين كوشانپور.

سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني (ت273هـ)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان.

سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ)، تحقيق: سعيد محمد اللحام، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 1410هـ/1990م.

سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي (ت279هـ)، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1403هـ/1983م.

السيرة النبوية، إسماعيل بن كثير (ت774هـ)، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشـر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، سنة الطبع 1396هـ/1976م.

شرح أُصول الكافي، المولى محمد صالح المازندراني (ت1081هـ)، مع تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعراني، ضبط وتصحيح: السيّد عليّ عاشور، نشـر دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشـر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1421هـ/2000م.

الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد، الشيخ محمد السند، تحقيق: السيد رياض الموسوي، الناشر: دار الغدير، قم ـ إيران، الطبعة الأولى، 142هـ/2003م.

 

طبقات الشافعية الكبرى، عبد الوهاب بن عليّ السبكي (ت771هـ)، تحقيق: محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح محمد الحلو، نشـر دار إحياء الكتب العربية (فيصل عيسى البابي الحلبي).

العمدة في محاسن الشعر، الحسن بن رشيق القيرواني (ت456هـ)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، دمشق ـ سورية، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1972م.

عيون أخبار الرضا×، محمد بن عليّ بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق (ت381هـ)، تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، نشر مطابع مؤسّسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان، 1404هـ/1984م.

غُرر الحكم ودُرر الكلم، من كلام أمير المؤمنين عليّ×، جمعه: عبد الواحد بن محمد الآمدي التميمي، نشر عبد الرسول شرارة وشركائه، 1349هـ/1931م.

الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا (فقه الرضا)، عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي والد الشيخ الصدوق (ت 329هـ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم المشـرّفة ـ إيران، نشـر المؤتمر العالمي للإمام الرضا×، مشهد المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1406هـ.

الكافي، محمد بن يعقوب الكليني (ت329هـ)، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفّاري، نشـر دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الثالثة، 1367ش.

الكامل في التاريخ، عليّ بن أبي الكرم الشيباني المعروف بابن الأثير (ت630هـ)، نشر: دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشـر، بيروت ـ لبنان، 1385هـ/1965م.

الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل، محمود بن عمر الزمخشـري (ت538هـ)، نشـر شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصـر، 1385/1966م.

لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور (ت711هـ)، نشـر أدب الحوزة، قم المشرّفة ـ إيران، 1405هـ.

مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي (ت1085هـ)، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني، نشر مكتب نشـر الثقافة الإسلاميّة، الطبعة الثانية، 1408هـ/1367ش.

مجمع البيان في تفسير القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548هـ)، تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين، نشـر: مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1415هـ/1995م.

المصنّف، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي (ت235هـ)، تحقيق وتعليق: سعيد اللحّام، نشـر دار الفكر للطباعة والنشـر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1409هـ/1989م.

معجم مصطلحات الإعلام، د. أحمد زكي بدوي، نشـر: دار الكتاب المصـري، القاهرة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1985م.

المقنعة، محمد بن محمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (ت413هـ)، تحقيق ونشـر: مؤسسة النشـر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المشـرّفة ـ إيران، الطبعة الثانية، 1410هـ.

المنبر وأثره في بناء الإنسان، السيّد كمال الدين المقدّس الغريفي، نشـر الأمانة العامّة للعتبة الكاظمية المقدّسة ـ قسم الشؤون الفكرية والإعلام، الطبعة الثانية، 1438هـ/2017م.

منهاج السنّة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني الحنبلي (ت728هـ)، الطبعة الأُولى، 1322هـ.

النهاية في غريب الحديث والأثر، المبارك بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري المعروف بابن الأثير (ت606هـ)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي، نشر مؤسّسة إسماعيليان للطباعة والنشـر والتوزيع، قم المشـرّفة ـ إيران، الطبعة الرابعة، 1364ش.

نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ×، شرح محمد عبده، نشـر دار الذخائر، قمّ المشرّفة، الطبعة الأُولى، 1412هـ/1370ش.

المجلات

مجلّة أنوار المنبر الحسيني، تصدر عن رابطة خطباء المنبر الحسيني، النجف الأشرف، العدد الأوّل، 1429هـ/2008م.

مسؤولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، من إصدارات المجلّة العربية، 1998م.

المواقع الإلكترونية

http://gadir.free.fr/Ar/imamali/siretulimam/imamali.net/old/index2b 3c.html?part=4315

http://imamhussain-lib.blogspot.com/2015/02/blog-post_68.html.



[1] البقرة: آية31.

[2]الفيض الكاشاني، محمّد، المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء: ج1، ص 111.

[3] المجادلة: آية11.

[4] البقرة: آية129.

[5] آل عمران: آية164.

[6] الكفعمي، إبراهيم بن علي، المصباح: ص280.

[7] البقرة: آية253.

[8] ق: آية18. والعتيد أي: الحاضر، وجاء في هذه الآية صفة للرقيب. اُنظر: الجوهري، إسماعيل ابن حمّاد، الصحاح: ج2، ص505.

][9][[9] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج68، ص285.

[10] اُنظر: بدوي، د. أحمد زكي، معجم مصطلحات الإعلام: ص153.

[11] المجن: هو الترس والدرع الذي يستجنُّ ويتترّس به المحارب من ضربات العدو، والمراد هنا كناية عن تغيير الحال، ويُقال: قلبت لابن عمّك ظهر المِجَنّ، قال ابن الأثير في النهاية: «هذه كلمة تُضـرب مثلاً لـمَن كان لصاحبه على مودّة أو رعاية، ثمّ حال عن ذلك». ابن الأثير، المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث والأثر: ج1، ص308.

[12] اُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج12، ص417.

[13] فقد ذكر بعض اللغويين بأنّ مادّة خبر تدلّ في أحد معنييها على العلم بالشـيء. اُنظر: ابن فارس، أحمد، معجم مقاييس اللغة: ج2، ص239.

[14] اُنظر: الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، الصحاح: ج4، ص1316.

[15] ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج2، ص202.

[16] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص187.

[17] الأحزاب: آية45 ـ 46.

[18] النحل: آية125.

[19] النور: آية54.

[20] المائدة: آية67.

[21] بدوي، د. أحمد زكي، معجم مصطلحات الإعلام: ص83 ـ 84.

[22] اُنظر: العويني، د. محمد علي، الإعلام الإسلامي الدولي بين النظرية والتطبيق.

[23] اُنظر: بدوي، د. أحمد زكي، معجم مصطلحات الإعلام: ص85.

[24] الزمر: آية17ـ 18.

[25] المائدة: آية57.

[26] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج6، ص434.

[27] البقرة: آية83.

[28] ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد: ج4، ص399.

[29] النحل: آية90.

[30] اُنظر: بدوي، د. أحمد زكي، معجم مصطلحات الإعلام: ص130.

[31]عبد الحليم، د. محيي الدين، الإعلام الإسلامي وتطبيقاته العملية: ص147.

[32] اُنظر: إمام، د. إبراهيم، أُصول الإعلام الإسلامي: ص39.

[33] العنكبوت: آية18.

[34] الشورى: آية48.

[35] المائدة: آية67.

[36] الإسراء: آية36.

[37] يونس: آية36.

[38] النجم: آية28.

[39] الحجرات: آية12.

[40] اُنظر: المقدّس الأردبيلي، أحمد بن محمد، زبدة البيان في أحكام القرآن: ص417.

[41] مُغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف: ج7، ص119.

[42] النحل: آية125.

[43] قلعجي، محمد رواس، معجم لغة الفقهاء: ص405.

[44] الفيّومي، أحمد بن محمد، المصباح المنير: ج1، ص93.

[45] العنكبوت: آية46.

[46] لقمان: آية20.

[47] غافر: آية35.

[48]آل عمران: آية159.

[49]القلم: آية4.

[50] طه: آية43 ـ 44.

[51] آل عمران: آية103.

[52] السجستاني، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود: ج2، ص267.

[53] المدثّر: آية1ـ 2.

[54] الشعراء: آية214.

[55]الحجر: آية94.

[56] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج18، ص241.

[57] المصدر السابق.

[58] وهو أحد الأسواق الأدبية للعرب في الجاهلية، قريب من جبل عرفات، يُقيم فيه القادمون إلى مكّة المكرّمة قبل بداية مراسم الحجّ.

[59] ابن كثير، إسماعيل، السيرة النبوية: ج1، ص662. واُنظر: المطلبي المدني، محمد بن إسحاق، السيرة النبوية: ج4، ص215.

[60] المائدة: آية67.

[61] في مصادر أخرى وردت (خفوق). اُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1، ص262.

[62] الضبع: العضد. اُنظر: الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، الصحاح: ج3، ص1247.

[63] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج1، ص176.

[64] الصدوق، محمد بن عليّ، مَن لا يحضره الفقيه: ج4، ص379.

[65] القيرواني الأزدي، الحسن بن رشيق، العمدة: ج1، ص31.

[66] السبكي، عبد الوهاب بن عليّ، طبقات الشافعية الكبرى: ج1، ص223.

[67] ابن أبي شيبة، عبد الله بن محمد، المصنّف: ج6، ص173.

[68] عبد الحليم، د. محيي الدين، الإعلام الإسلامي وتطبيقاته العملية: ص53.

[69] آل عمران: آية104.

[70] الأعراف: آية159.

[71]الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص59 ـ 60.

[72] آل عمران: آية110.

[73]الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص56.

[74] لقمان: آية17.

[75] الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص181.

[76] البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج1، ص291.

[77] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص50 ـ 51.

[78] المصدر السابق: ج7، ص52.

[79] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص372 ـ 373.

[80] الكَلِم: الجرح، قال رسول الله|: «خالط الناسَ ودينكَ لا تكلِمنّهُ». البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج7، ص102.

[81] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص55 ـ 56.

[82] المصدر السابق: ج5، ص59.

[83] المفيد، محمد بن محمد، المقنعة: ص808 ـ 809.

[84] الأعراف: آية157.

[85] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج68، ص285.

[86] اُنظر: بدوي، د. أحمد زكي، معجم مصطلحات الإعلام: ص153.

[87] ق: آية18.

[88] إبراهيم: آية 24 ـ 26.

[89] الصدوق، محمد بن عليّ، مَن لا يحضره الفقيه: ج4، ص387 ـ 388.

[90] البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن: ج1، ص15.

[91] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص115.

[92]اُنظر: حجازي، عبد الرحمن، الإعلام الإسلامي بين الواقع والمرتجى: ص69، نقلاً عن: لاوند، محمد رمضان، السياسة الإعلاميّة في القرآن بين التاريخ والمعاصرة (مقال)، منشور في كتابالإعلام الإسلامي والعلاقات الإنسانية: ص244.

[93] إبراهيم: آية4.

[94] آل عمران: آية164.

[95] البقرة: آية151.

[96] الأحزاب: آية45 ـ 46.

[97] النحل: آية125.

[98] المائدة: آية99.

[99] المائدة: آية67.

[100] البقرة: آية83.

[101] الكهف: آية29.

[102] الممتحنة: آية7.

[103] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص165.

[104] المصدر السابق: ج2، ص164.

[105] اُنظر: المازندراني، المولى محمد صالح، شرح أُصول الكافي: ج9، ص31.

[106] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص165.

[107] اُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج1، ص286.

[108] النحل: آية125.

[109] الأنعام: آية108.

[110] اُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج1، ص286.

[111] الأحزاب: آية70.

[112] الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن: ج3، ص124ـ 125. واُنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب: ج3، ص207.

[113] المصدر السابق: ج8، ص366.

[114] الطبرسي، الفضل بن الحسن، تفسير جوامع الجامع: ج1، ص376.

[115] الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنزيل: ج3، ص276.

[116] الأحزاب: آية71.

[117] اُنظر: مُغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف: ج6، ص244.

[118] النساء: آية5.

[119] البقرة: آية235.

[120] مكارم الشيرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج13، ص235.

[121] البقرة: آية263.

[122] محمد: آية21.

[123] فصّلت: آية33.

[124] النساء: آية63.

[125] الكهف: آية29.

[126] آل عمران: آية104.

[127] التوبة: آية122.

[128] النحل: آية125.

[129] المائدة: آية67.

[130] الحجر: آية94.

[131] الزمر: آية 17 ـ 18.

[132] الزمر: آية23.

[133] النجم: آية3 ـ 4.

[134] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص51.

[135] المصدر السابق: ج1، ص13.

[136] الفرقان: آية72.

[137] القصص: آية55.

[138] أي: الكلمة ذات الحكمة.

[139] القزويني، محمد بن يزيد، سنن ابن ماجة: ج2، ص1395.

[140]مُغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف: ج6، ص403.

[141] البقرة: آية129.

[142]آل عمران: آية164.

[143] الأحزاب: آية45 ـ 46.

[144]الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص56.

[145] الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي: ص440.

[146] البقرة: آية83.

[147] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج65، ص152.

[148] ابن بابويه القمّي، عليّ بن الحسين، الإمامة والتبصرة: ص37.

[149] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج68، ص310.

[150] طه: آية44.

[151] آل عمران: آية159.

[152] النحل: آية125.

[153] فصلت: آية34.

[154] اُنظر: الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب): ج3، ص169.

[155] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص28.

[156] المائدة: آية32.

[157] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص210.

[158] المصدر السابق: ص210 ـ 211.

[159] المازندراني، المولى محمد صالح، شرح أُصول الكافي: ج9، ص105.

[160] الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا×: ج1، ص275.

[161] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص78.

[162] القاضي المغربي، النعمان بن محمد، دعائم الإسلام: ج1، ص56 ـ 57.

[163] المصدر السابق: ص58.

[164] الصف: آية2 ـ 3.

[165]التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم (مجموعة من كلمات وحِكَم الإمام علي×): ص105.

[166] الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص440.

[167]المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج2، ص17.

[168] المصدر السابق.

[169]قال ابن الأثير: «اغد عالماً أو متعلِّماً ولا تكن إمّعة. الإمّعة (بكسـر الهمزة وتشديد الميم): الذي لا رأي له، فهو يتابع كلّ أحدٍ على رأيه، والهاء فيه للمبالغة، ويقال فيه: إمّع أيضاً... وقيل: هو الذي يقول لكلّ أحد: أنا معك. ومنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه: لا يكونَنَّ أحدكم إمّعة. قيل: وما الإمّعة؟ قال: الذي يقول: أنا مع الناس». ابن الأثير، المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث والأثر: ج1، ص67.

[170]النجد: الطريق الواضح المرتفع، والحاصل أنّه لا واسطة بين الحقّ والباطل، فالخروج عن الحقّ من أجل متابعة الناس ينتهي إلى الباطل.

[171] المفيد، محمد بن محمد، الأمالي: ص210 ـ 211.

[172] الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، هداية الأُمّة إلى أحكام الأئمّة^: ج5، ص138.

[173] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج2، ص22.

[174] الشاهرودي، عليّ النمازي، مستدرك سفينة البحار: ج6، ص474.

[175] الراوندي، فضل الله بن عليّ، النوادر: ص143.

[176] الكراجكي، محمد بن عليّ، كنز الفوائد: ص162.

[177] عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ج3، ص84.

[178] آل عمران: آية104.

[179] ابن كثير، إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم: ج1، ص398.

[180] آل عمران: آية110.

[181] الحج: آية30.

[182] الفخر الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب): ج8، ص177.

[183] الحج: آية53.

[184] النور: آية21.

[185] البقرة: آية83.

[186] اُنظر: بدوي، د. أحمد زكي، معجم مصطلحات الإعلام:ص110.

[187] الطبري، أحمد بن عبد الله، ذخائر العقبى: ص133.

[188] السند، محمد، الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ص227. الجلالي، محمد رضا الإمام الحسين×.. سماته وسيرته:ص123.

[189] الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج١٠، ص٤٦٤.

[190] لاندو، تاريخ المسـرح العربي: ص١٥.

[191] اُنظر: المقدّس الغريفي، السيّد كمال الدين، المنبر وأثره في بناء الإنسان: ص56 ـ 61.

[192] عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ج2، ص13.

[193] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329 ـ 330.

[194] ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن عليّ، تحف العقول: ص245.

[195] الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي: ج5، ص٣٢١. ابن ماجة، محمد بن يزيد، سنن ابن ماجة: ج1، ص44.

[196] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج43، ص278.

[197] ابن تيميّة الحرّاني، أحمد بن عبد الحليم، منهاج السنّة: ج4، ص209.

[198] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص200.

[199] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص382.

[200] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص137.

[201] فاطر: آية10.

[202] اُنظر: المجلسي (الأوّل)، محمد تقي، روضة المتّقين: ج2، ص16ـ 17.

[203]الصدوق، محمد بن عليّ، الأمالي: ص353.

[204] الصدوق، محمد بن عليّ، التوحيد: ص169ـ 170.

[205] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص137.

[206] الزخرف: آية55.

[207] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج1، ص144.

[208]الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين: ج3، ص154. وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه».

[209]الإربلي، عليّ بن عيسى، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة: ج2، ص239.

[210]الحميري القمّي، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد: ص36.

[211] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج2، ص175.

[212] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص138.

[213] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص137ـ 138.

[214] الصدوق، محمد بن عليّ، الأمالي: ص268.

[215]ابن الأثير، عليّ بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص520.

[216] ابن عساكر، عليّ بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق: ج37، ص138ـ 139.

[217] والمراد من الدعاية هنا: هي المشتقة من الفعل نفسه (دعا، يدعو)، بمعنى: الاستمالة، والترغيب، والتحبُّب، والحثّ، ونشـر القيم والمبادىء. اُنظر: إمام، د. إبراهيم، أُصول الإعلام الإسلامي: ص25.

[218] اُنظر: الهيتي، هادي نعمان، الاتّصال الجماهيري المنظور الجديد، الموسوعة الصغيرة: العدد412: ص17 ـ 25.

[219] اُنظر: العرابي الحارثي، ساعد، مسؤولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية: ص8.

[220] اُنظر: الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص229.

[221] الكهف: آية103ـ 104.

[222] الأحزاب: آية39.

[223] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص229.

[224] الصدوق، محمد بن عليّ، الأمالي: ص484.

[225] الصدوق، محمد بن عليّ، عيون أخبار الرضا×: ج1، ص275.

[226] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص229.

[227] آل عمران: آية159.

[228] القلم: آية4.

[229] فصّلت: آية33 ـ 34.

[230] عبده، محمد، شرح نهج البلاغة: ج2، ص185.

[231] المائدة: آية104.

[232] الأنعام: آية108.

[233] الصدوق، محمد بن عليّ، الاعتقادات في دين الإمامية: ص107.

[234] المازندراني، المولى محمد صالح، شرح أُصول الكافي: ج10، ص49.

[235] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج8، ص7 ـ 8.

[236] الإسراء: آية7.

[237] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج6، ص434.

[238] البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة: ج13، ص461.

[239] نُشـر هذا الموضوع في مجلّة (أنوار المنبر الحسيني) النجفية، العدد الأوّل/20جمادى الآخرة 1429هـ/حزيران 2008م. وبما أنّ هذا الموضوع متقارب في الرؤية مع بحثنا هذا، وذو مضمون مشترك، ارتأينا إدراجه هنا، استيفاءً لغرض (الأُنموذج) وزيادة للفائدة، بعد إجراء بعض التغييرات والتعديلات عليه.

 [240]يُعدّ الثالث أو الرابع من شهر صفر الخير سنة (61هـ) يوم مولد المنبر الحسيني الخالد؛ وذلك عندما ارتقى المنبر مؤسِّسُهُ الأوّل الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين× في الشام أمام الطاغية يزيد بن معاوية يوم دخول سبايا الحسين× قصـر هذا الفاجر المتهتّك، فخطب× وبيّن للناس المخدوعين مَن هم أهل البيت^؟ ومَن هو الحسين×؟ وما جرى عليه؟ وما هي رسالتهم؟ حتّى قَلَبَ الأُمور على الطاغية يزيد.

ومن هذا المنبر الكريم أدعو الخطباء الحسينيين كافّة إلى الاحتفاء بهذا اليوم من كلّ عام، وأن يجعلوه رمزاً لرسالتهم ونهضتهم، يُكرّمون فيه خطباء منبر الحسين× الرساليين وشهداء المنبر الحسيني، بل يكون هذا اليوم معنوناً بـ(يوم شهداء المنبر الحسيني) تخليداً لذكراهم وتكريماً لمسيرتهم على خطى سيّد الشهداء×.

[241] الحميري القمّي، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد: ص36.

[242] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص330.

[243] المصدر السابق: ج45، ص137.

[244] اُنظر الموقع: https://bushra.annabaa.org/b77/almagalesalhossainia.htm.

)][245][ (http://gadir.free.fr/Ar/imamali/siretulimam/imamali.net/old/index2b
 3c. html?part=4315
.

[247] البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة: ج13، ص461.

[248] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص330.

[249] آل عمران: آية110.

[250] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص137.

[251] الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج6، ص434.

[252] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص138.

[253] المصدر السابق: ج40، ص125.

[254] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص127.

[255] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج72، ص38.