العتبة الحسينيةمؤسسة وارث الأنبياء
مخطوطة العتبة الحسينيةمخطوطة وارث الأنبياء
المصرع الشين في قتل الحسين (عليه السلام)

المصرع الشين في قتل الحسين (عليه السلام)

  • المؤلف: السيّد علي بن موسى بن جعفر المعروف بابن طاووس

  • المحقق: قسم التحقيق في مؤسسة وارث الأنبياء

  • الطبعة: الأولى

  • الناشر : مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

  • سنة الطبع: 1443هـ ـ 2022م

مقدّمة المؤسّسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين. ‏

إنّ العلم والمعرفة مصدر الإشعاع الذي يهدي الإنسان إلى الطريق القويم، ومن خلالهما يمكنه أن يصل إلى غايته الحقيقيّة ‏وسعادته الأبديّة المنشودة، فبهما يتميّز الحقّ من الباطل، وبهما تُحدّد خيارات الإنسان الصحيحة، وفي ضوئهما يسير في ‏سبل الهداية وطريق الرشاد الذي خُلق من أجله، بل على أساس العلم والمعرفة فضّله الله على سائر المخلوقات، ‏واحتجّ عليهم بقوله: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[1]، فبالعلم يرتقي المرء وبالجهل يتسافل، كما بالعلم والمعرفة تتفاوت مقامات البشر، ويتفوّق بعضهم على بعض عند الله إذ  (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[2]، وبهما تُسعد المجتمعات، وبهما الإعمار والازدهار، وبهما الخير كلّ الخير.

ومن أجل العلم والمعرفة كانت التضحيات الكبيرة التي قدّمها الأنبياء والأئمّة والأولياء^، تضحيات جسام كان هدفها منع ‏الجهل والظلام والانحراف، تضحيات كانت غايتها إيصال المجتمع الإنساني إلى مبتغاه وهدفه، إلى كماله، إلى حيث يجب ‏أن يصل ويكون، فكان العلم والمعرفة هدف الأنبياء المنشود لمجتمعاتهم، وتوسّلوا إلى الله} بغية إرسال الرسل ‏التي تعلّم المجتمعات فقالوا: ‏ (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[3]، فكانت الإجابة: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[4]، ما يعني أنّ دون العلم والمعرفة هو الضلال المبين والخسران العظيم. ‏

بل هو دعاء الأئمّة^ ومبتغاهم من الله لأنفسهم أيضاً، إذ طلبوا منه تعالى بقولهم: «وَاملأ قُلُوبَنا بِالْعِلْمِ وَالمَعْرفَةِ»[5].

وبالعلم والمعرفة لا بدّ أن تُثمّن تلك التضحيات، وتُقدّس تلك الشخصيّات التي ضحّت بكلّ شيء من أجل الحقّ والحقيقة، من أجل أن نكون على علم وبصيرة، من أجل أن يصل إلينا النور الإلهي، من أجل أن لا يسود الجهل والظلام.

فهذه سيرة الأنبياء والأئمّة^ سيرة الجهاد والنضال والتضحية والإيثار؛ لأجل نشـر العلم والمعرفة في مجتمعاتهم، تلك السيرة الحافلة بالعلم والمعرفة في كلّ جانب من جوانبها، والتي ينهل منها علماؤنا في التصدّي لحلّ مشاكل مجتمعاتهم على مرّ العصور والأزمنة والأمكنة، وفي كافّة المجالات وشؤون البشر.

وهذه القاعدة التي أسّسنا لها لا يُستثنى منها أيّ نبيّ أو وصيّ، فلكلّ منهم^ سيرته العطرة التي ينهل منها البشر للهداية والصلاح، إلّا أنّه يتفاوت الأمر بين أفرادهم من حيث الشدّة والضعف، وهو أمر عائد إلى المهام التي أُنيطت بهم^، كما أخبر} بذلك في قوله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)[6]، فسيرة النبي الأكرم’ ليست كبقيّة سِيَر الأنبياء^، كما أنّ سيرة الأئمّة^ ليست كبقيّة سِيَر الأوصياء السابقين^، كما أنّ التفاوت في ‏ سِيَر الأئمّة^ فيما بينهم ممّا لا شكّ فيه، كما في تفضيل أصحاب الكساء على بقيّة الأئمّة^.‏

والإمام الحسين× تلك الشخصيّة القمّة في العلم والمعرفة والجهاد والتضحية والإيثار، أحد أصحاب الكساء الخمسة الذين دلّت ‏النصوص على فضلهم ومنزلتهم على سائر المخلوقات، الإمام الحسين× الذي قدّم كلّ شيء من أجل بقاء النور الربّاني، ‏الذي يأبى الله أن ينطفئ، الإمام الحسين× الذي بتضحيته تعلّمنا وعرفنا، فبقينا.‏

فمن سيرة هذه الشخصيّة العظيمة التي ملأت أركان الوجود، تعلّم الإنسان القيم المثلى التي بها حياته الكريمة، كالإباء ‏والتحمّل والصبر في سبيل الوقوف بوجه الظلم، وغيرها من القيم المعرفيّة والعمليّة، التي كرَّس علماؤنا الأعلام جهودهم ‏وأفنوا أعمارهم من أجل إيصالها إلى مجتمعات كانت ولا زالت بأمسّ الحاجة إلى هذه القيم، وتلك الجهود التي بُذلت من قِبَل ‏الأعلام جديرة بالثناء والتقدير؛ إذ بذلوا ما بوسعهم، وأفنوا أغلى أوقاتهم، وزهرة أعمارهم؛ لأجل هذا الهدف النبيل.‏

إلّا أنّ هذا لا يعني سدّ أبواب البحث والتنقيب في الكنوز المعرفيّة التي تركها× للأجيال اللاحقة ـ فضلاً عن الجوانب ‏المعرفيّة في حياة سائر المعصومين^ ـ إذ بقي منها من الجوانب ما لم يُسلّط الضوء عليه بالمقدار المطلوب، وهي ليست ‏بالقليل، بل لا نجانب الحقيقة فيما لو قلنا: هي أكثر ممّا تناولته أقلام علمائنا بكثير، فلا بدّ لها أن تُعرَف لتُعرَّف، بل لا بدّ ‏من العمل على البحث فيها ودراستها من زوايا متعدّدة، لتكون منهجاً للحياة، وهذا ما يزيد من مسؤوليّة المهتمّين بالشأن ‏الديني، ويحتّم عليهم تحمّل أعباء التصدّي لهذه المهمّة الجسيمة؛ استكمالاً للجهود المباركة التي قدّمها علماء الدين ومراجع ‏الطائفة الحقّة.‏

ومن هذا المنطلق بادرت الأمانة العامّة للعتبة الحسينيّة المقدّسة لتخصيص سهم وافر من جهودها ومشاريعها الفكريّة ‏والعلميّة حول شخصيّة الإمام الحسين× ونهضته المباركة؛ إذ إنّها المعنيّة بالدرجة الأولى وبالأساس بمسك هذا الملف التخصّصي، فعمدت إلى زرع بذرة ضمن أروقتها القدسيّة، فكانت نتيجة هذه البذرة المباركة إنشاء مؤسّسة وارث الأنبياء ‏للدراسات التخصّصيّة في النهضة الحسينيّة، التابعة للعتبة الحسينيّة المقدّسة، حيث أخذت على عاتقها مهمّة تسليط الضوء ـ ‏بالبحث والتحقيق العلميّين ـ على شخصيّة الإمام الحسين×، ونهضته المباركة، وسيرته العطرة، وكلماته الهادية، وفق خطّة ‏مبرمجة، وآليّة متقنة، تمّت دراستها وعرضها على المختصّين في هذا الشأن؛ ليتمّ اعتمادها والعمل عليها ضمن مجموعة ‏من المشاريع العلميّة التخصّصيّة، فكان كلّ مشروع من تلك المشاريع متكفِّلاً بجانب من الجوانب المهمّة في النهضة ‏الحسينيّة المقدّسة.‏

كما ليس لنا أن ندّعي ـ ولم يدّعِ غيرنا من قبل ـ الإلمام والإحاطة بتمام جوانب شخصيّة الإمام العظيم ونهضته المباركة، إلّا ‏أنّنا قد أخذنا على أنفسنا بذل قصارى جهدنا، وتقديم ما بوسعنا من إمكانات في سبيل خدمة سيّد الشهداء×، وإيصال أهدافه ‏السامية إلى الأجيال اللاحقة.‏

المشاريع العلميّة في المؤسّسة

بعد الدراسة المتواصلة التي قامت بها مؤسّسة وارث الأنبياء حول المشاريع العلميّة في المجال الحسيني، تمّ تحديد ‏مجموعة كبيرة من المشاريع التي لم يُسلَّط الضوء عليها كما يُراد لها، وهي مشاريع كثيرة وكبيرة في نفس الوقت، ولكلٍّ ‏منها أهميّته القصوى، ووفقاً لجدول الأولويّات المعتمد في المؤسّسة تمّ اختيار المشاريع العلميّة الأكثر أهميّة، والتي يُعتبر ‏العمل عليها إسهاماً في تحقيق نقلة نوعيّة للتراث والفكر الحسيني، وهذه المشاريع هي: ‏

الأوّل: قسم التأليف والتحقيق

إنّ العمل في هذا القسم على مستويين:

أ ـ التأليف

ويُعنَى هذا القسم بالكتابة في العناوين الحسينيّة التي لم يتمّ تناولها بالبحث والتنقيب، أو التي لم تُعطَ حقّها من ذلك. كما يتمُّ ‏استقبال النتاجات القيِّمة التي أُلِّفت من قبل العلماء والباحثين في هذا القسم؛ ليتمَّ إخضاعها للتحكيم العلمي، وبعد إبداء ‏الملاحظات العلميّة وإجراء التعديلات اللازمة بالتوافق مع مؤلِّفيها، يتمّ طباعتها ونشرها.‏

ب ـ التحقيق

والعمل فيه قائم على جمع وتحقيق وتنظيم التراث الحسيني، وقد تمّ العمل على نحوين:

 الأوّل: التحقيق في المقاتل الحسينيّة، ويشمل جميع الكتب في هذا المجال، ‏سواء التي كانت بكتابٍ مستقلٍّ أو ضمن كتاب، وذلك تحت عنوان: (موسوعة المقاتل الحسينيّة). وكذا العمل جارٍ في هذا القسم ‏على رصد المخطوطات الحسينيّة التي لم تُطبع إلى الآن؛ وقد قمنا بجمع عدد كبير من المخطوطات القيّمة، التي لم يطبع كثير منها، ولم يصل إلى أيدي القرّاء إلى الآن.

الثاني: استقبال ‏الكتب التي تمّ تحقيقها خارج المؤسّسة، لغرض طباعتها ونشرها بعد إخضاعها للتقويم العلمي من قبل اللجنة العلميّة ‏في المؤسّسة، وبعد إدخال التعديلات اللازمة عليها، وتأييد صلاحيتها للنشر، تقوم المؤسّسة بطباعتها.‏

الثاني: قسم مجلّة الإصلاح الحسيني

‏ وهي مجلّة فصليّة متخصّصة في النهضة الحسينيّة، تهتمّ بنشـر معالم وآفاق الفكر الحسيني، وتسلِّط الضوء على تاريخ ‏النهضة الحسينيّة وتراثها، وكذلك إبراز الجوانب الإنسانيّة والاجتماعيّة والفقهيّة والأدبيّة في تلك النهضة المباركة، وقد ‏قطعت شوطاً كبيراً في مجالها، واحتلّت الصدارة بين المجلّات العلميّة الرصينة في مجالها، وأسهمت في إثراء واقعنا ‏الفكري بالبحوث العلميّة الرصينة.‏

الثالث: قسم ردّ الشُّبُهات عن النهضة الحسينيّة

إنّ العمل في هذا القسم قائم على جمع الشُّبُهات المثارة حول الإمام الحسين× ونهضته المباركة، وذلك من خلال تتبّع مظانّ ‏تلك الشُّبُهات من كتب قديمة أو حديثة، ومقالات وبحوث وندوات وبرامج تلفزيونيّة، وما إلى ذلك، ثُمَّ يتمُّ فرزها وتبويبها ‏وعنونتها ضمن جدول موضوعي، ثمّ يتمُّ الردُّ عليها بأُسلوب علمي تحقيقي في عدَّة مستويات.‏

الرابع: قسم الموسوعة العلميّة من كلمات الإمام الحسين×

وهي موسوعة علميّة تخصّصيّة مستخرَجة من كلمات الإمام الحسين× في مختلف العلوم وفروع المعرفة، ويكون العمل فيها من خلال جمع كلمات الإمام الحسين× من المصادر المعتبرة، ثمّ تبويبها حسب التخصّصات العلميّة، والعمل على دراسة هذه الكلمات المباركة؛ لاستخراج نظريّات علميّة تمازج بين كلمات الإمام× والواقع العلمي.  وقد تمّ العمل فيه على تأليف موسوعتين في آن واحد باللغتين العربيّة والفارسيّة.

الخامس: قسم دائرة المعارف الحسينيّة الألفبائيّة

وهي موسوعة تشتمل على كلّ ما يرتبط بالإمام الحسين× ونهضته المباركة من أحداث، ووقائع، ومفاهيم، ورؤى، وأعلام، وبلدان، وأماكن، وكتب، وغير ذلك، مرتّبة حسب الحروف الألفبائيّة، كما هو معمول به في دوائر المعارف والموسوعات، وعلى شكل مقالات علميّة رصينة، تُراعَى فيها كلّ شروط المقالة العلميّة، مكتوبة بلغةٍ عصـريّة وأُسلوبٍ حديث، وقد أُحصي آلاف المداخل، يقوم الكادر العلمي في هذا القسم بالكتابة عنها، أو وضعها بين يدي الكُتّاب والباحثين حسب تخصّصاتهم؛ ليقوموا بالكتابة عنها وإدراجها في الموسوعة بعد تقييمها وإجراء التعديلات اللازمة عليها من قبل اللجنة العلميّة.

السادس: قسم الرسائل والأطاريح الجامعيّة

يتمّ العمل في هذا القسم على مستويين: الأوّل: إحصاء الرسائل والأطاريح الجامعيّة التي كُتبتْ حول النهضة الحسينيّة، ومتابعتها من قبل لجنة علميّة متخصّصة؛ لرفع النواقص العلميّة وإدخال التعديلات أو الإضافات المناسبة، وتهيئتها للطباعة والنشر. الثاني: إعداد موضوعات حسينيّة ـ يضمّ العنوان وخطّة بحث تفصيليّة ـ من قبل اللجنة العلميّة في هذا القسم، تصلح لكتابة رسائل وأطاريح جامعيّة، وتوضع في متناول طلّاب الدراسات العليا.

السابع: قسم الترجمة

الهدف من إنشاء هذا القسم إثراء الساحة العلميّة بالتراث الحسيني عبر ترجمة ما كتب منه بلغات أخرى إلى اللغة العربيّة، ونقل ما كتب باللغة العربيّة إلى اللغات الأخرى، ويكون ذلك من خلال إقرار صلاحيّة النتاجات للترجمة، ثمَّ ترجمته أو الإشراف على ذلك إذا كانت الترجمة خارج القسم.

الثامن: قسم الرَّصَد والإحصاء

يتمُّ في هذا القسم رصد جميع القضايا الحسينيّة المطروحة في جميع الوسائل المتّبعة في نشر العلم والثقافة، كالفضائيّات، والمواقع الإلكترونيّة، والكتب، والمجلّات والنشريّات، وغيرها؛ ممّا يعطي رؤية واضحة حول أهمّ الأُمور المرتبطة بالقضيّة الحسينيّة بمختلف أبعادها، وهذا بدوره يكون مؤثّراً جدّاً في رسم السياسات العامّة للمؤسّسة، ورفد بقيّة الأقسام فيها، وكذا بقيّة المؤسّسات والمراكز العلميّة في شتّى المجالات. ويقوم هذا القسم بإصدار مجلّة شهريّة إخباريّة تسلّط الضوء على أبرز النشاطات والأحداث الحسينيّة محليّاً وعالميّاً في كلِّ شهر، بعنوان: مجلّة الراصد الحسيني.

التاسع: قسم المؤتمرات والندوات والملتقيات العلميّة

يعمل هذا القسم على إقامة مؤتمرات وملتقيات وندوات علميّة فكريّة متخصّصة في النهضة الحسينيّة، لغرض الإفادة من الأقلام الرائدة والإمكانات الواعدة، ليتمّ طرحها في جوٍّ علمي بمحضر الأساتذة والباحثين والمحقّقين من ذوي الاختصاص، وتتمّ دعوة العلماء والمفكِّرين؛ لطرح أفكارهم ورؤاهم القيِّمة على الكوادر العلميّة في المؤسّسة، وكذا سائر الباحثين والمحقّقين، وكلّ من لديه اهتمام بالشأن الحسيني، للاستفادة من طرق قراءتهم للنصوص الحسينيّة وفق الأدوات الاستنباطيّة المعتمَدة لديهم.

العاشر: قسم المكتبة الحسينيّة التخصّصيّة

يضمّ هذا القسم مكتبة حسينيّة تخصّصيّة تعمل على رفد القرّاء والباحثين في المجال الحسيني على مستويين:

أ ـ المكتبة الحسينيّة التخصّصيّة، والتي تجمع التراث الحسيني المخطوط والمطبوع، أنشأتها مؤسّسة وارث الأنبياء، وهي تجمع آلاف الكتب المهمّة في مجال تخصّصها.

ب ـ المجال الإلكتروني، إذ قامت المؤسّسة بإعداد مكتبة إلكترونيّة حسينيّة يصل العدد فيها إلى أكثر من ثمانية آلاف عنوان بين كتب ومجلّات وبحوث.

الحادي عشر: قسم الإعلام الحسيني

يتوزّع العمل في هذا القسم على عدّة جهات:

الأُولى: إطلاع العلماء والباحثين والقرّاء الكرام على نتاجات المؤسّسة وإصداراتها، ونشر أخبار نشاطات المؤسّسة وفعّاليّاتها بمختلف القنوات الإعلاميّة ووسائل التواصل الاجتماعي وعلى نطاق واسع.

 الثانية: إنشاء القنوات الإعلاميّة، والصفحات والمجموعات الإلكترونيّة في وسائل التواصل الاجتماعي كافّة.

الثالثة: العمل على إنتاج مقاطع مرئيّة في الموضوعات الحسينيّة المختلفة، مختصرة ومطوّلة، وبصورة حلقات مفردة ومتسلسلة، فرديّة وحواريّة.

الرابعة: إعداد وطباعة نصوص حسينيّة وملصقات إعلانيّة، ومنشورات حسينيّة علميّة وثقافيّة.

الخامسة: التواصل مع أكبر عدد ممكن من القنوات الإعلاميّة والصفحات والمجموعات الإلكترونيّة في وسائل التواصل الاجتماعي؛ لتزويدها بأنواع المعلومات من مقاطع مرئيّة ومنشورات وملصقات في الموضوعات الحسينيّة المختلفة الشاملة للتاريخ، والسيرة، والفقه، والأخلاق، وردّ الشبهات، والمفاهيم، والشخصيّات.

الثاني عشر: قسم الموقع الإلكتروني

 وهو موقع إلكتروني متخصّص، يقوم بنشر إصدارات وفعّاليّات مؤسّسة وارث الأنبياء، وعرض كتبها ومجلّاتها، والترويج لنتاجات أقسامها ونشاطاتها، وعرض الندوات والمؤتمرات والملتقيات التي تقيمها، وكذا يسلِّط الضوء على أخبار المؤسّسة، ومجمل فعّاليّاتها العلميّة والإعلاميّة. بالإضافة إلى ترويج المعلومة الحسينيّة والثقافة العاشورائيّة عبر نشر المقالات المختلفة، وإنشاء المسابقات الحسينيّة، والإجابة عن التساؤلات والشبهات.

الثالث عشر: قسم إقامة الدورات وإعداد المناهج

يتكفّل هذا القسم بإعداد الدورات الحسينيّة في المباحث العقديّة والتاريخيّة والأخلاقيّة، ولمختلف الشرائح والمستويات العلميّة، وكذلك إقامة دورات تعليميّة ومنهجيّة في الخطابة الحسينيّة، كما يضطلع هذا القسم بمهمّة كبيرة، وهي إعداد مناهج حسينيّة تعليميّة وتثقيفيّة لمختلف الفئات وعلى عدّة مستويات:

الأوّل: إعداد مناهج تعليميّة للدراسات الجامعيّة الأوّليّة والدراسات العليا.

الثاني: إعداد مناهج تعليميّة في الخطابة الحسينيّة.

الثالث: إعداد مناهج تعليميّة عامّة لمختلف شرائح المجتمع.

الرابع: إعداد مناهج تثقيفيّة عامّة.

الرابع عشر: القسم النسوي

يعمل هذا القسم من خلال كادر علمي متخصّص وبأقلام علميّة نسويّة في الجانب الديني والأكاديمي على تفعيل دور المرأة ‏المسلمة في الفكر الحسيني، ورفد أقسام المؤسّسة بالنتاجات النسويّة، كما يقوم بتأهيل الباحثات والكاتبات ضمن ورشات عمل تدريبيّة، وفق الأساليب المعاصرة في ‏التأليف والكتابة.‏

الخامس عشر: القسم الفنّي

إنّ العمل في هذا القسم قائم على طباعة وإخراج النتاجات الحسينيّة التي تصدر عن المؤسّسة، من خلال برامج إلكترونيّة ‏متطوِّرة، يُشرف عليها كادر فنّي متخصّص، يعمل على تصميم أغلفة الكتب والإصدارات، والملصقات الإعلانيّة، والمطويّات العلميّة والثقافيّة، وعمل واجهات الصفحات الإلكترونيّة، وبرمجة ‏الإعلانات المرئيّة والمسموعة وغيرهما، وسائر الأمور الفنيّة الأخرى التي تحتاجها أقسام المؤسّسة كافّة.‏

وهناك مشاريع أُخرى سيتمّ العمل عليها إن شاء الله تعالى.‏

المصرع الشين في قتل الحسين×

إنّ التأريخ لمقتل الإمام الحسين× يعتبر من الأعمال العلميّة والعقديّة المهمّة في التاريخ الإسلامي؛ وذلك لأنّ هذا النوع من التأليف والتصنيف يؤرّخ لحقبة زمنيّة خطيرة في العالم الإسلامي، وكان لها امتداد حاضر إلى يومنا، وهو امتداد طريق الخير والحقّ الذي كان يمثّله الإمام الحسين×، وطريق الباطل والانحراف الذي كان يمثّله يزيد بن معاوية والدولة الأمويّة.

والقيمة التأريخيّة للمقتل الحسيني ـ من جهة علميّة إثباتيّة ـ تعتمد على مجموعة من الأمور، من أهمّها قدم الكتاب وقربه من عصر الواقعة أو قربه من المصادر المعتمدة التي نقلت الواقعة ولكنّها لم تصل إلينا، ومنها: المنزلة العلميّة التخصصيّة للمؤلّف؛ فإنّ سعة الاطّلاع ودقّة المراجعة وكثرة المتابعة والخبرة في النصوص وممارسة التأليف ومعرفة الطرق والأسانيد كلّها عوامل مؤثّرة في شخصيّة المؤلّف للوقوف على وقائع المقتل بالشكل الصحيح والمناسب.

وقد احتوى هذا الكتاب (المصرع الشين في قتل الحسين×) على كلا العنصرين، فهو من مؤلّفات بدايات القرن السابع تقريباً، وذلك العصر كان حافلاً بالمصادر التي بدّدها التأريخ على مرّ القرون ولم تصل إلينا، كما أنّ مؤلّفه هو السيّد علي بن موسى المعروف بابن طاووس، وهو من كبار العلماء، ومن المتبحّرين والمكثرين في التأليف والتصنيف وجمع الأخبار ونقدها وتبويبها وتنظيمها، بالإضافة إلى تعدد تأليفاته في باب المقتل الحسيني.

نسخة الكتاب

إنّ النسخة التي اعتمدنا نصّها تعتبر الوحيدة لهذا الكتاب المهم، وقد كانت طيّ الكتمان والخفاء طيلة هذه القرون، وقد عثرنا عليها في بحثنا المكثّف عن المقاتل الحسينية لإدراجها ضمن موسوعة المقاتل الحسينية التي تعمل عليها المؤسسة والتي صدر منها عدّة أجزاء إلى الآن.

وقد قمنا بتحقيقه والتعليق عليه بما يناسب المقام وضوابط التحقيق في المؤسسة.

وفي الختام نتقدّم بالشكر لقسم التحقيق بالخصوص سماحة الشيخ حيدر البهادلي؛ لما بذلوه في مقابلة الكتاب ومراجعة متنه وتخريج نصوصه وتحقيقه وتقويمه.

نسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أعمالنا إنَّه سميعٌ مجيبٌ.

اللجنة العلمية في

مؤسسة وارث الأنبياء

للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

مقدّمة قسم التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد..

تُعَدّ دراسة وتحقيق المخطوطات من الدراسات الإنسانية المهمة التي تُعنى بالموروث الثقافي وتحقيقه؛ لإخراجه بصورة صحيحة ومتقنة، إذ إنّ كثيراً ما يتسبّب سقط حرف أو كلمة في قلب المعنى المراد إلى غيره، فهنا يجب على المحقّق أن يخرج الكتاب المخطوط إلى أيدي القرّاء بصورة الصحيحة شكلاً ومضموناً كما أرادها صاحب المخطوط.

ولا يخفى علينا أنّ واقعة الطف من الوقائع الخالدة في الإسلام، إذ تحتلّ مكانة واسعة وعميقة في ضمير كلّ إنسان مسلم، فكانت ولا زالت النهضة الحسينية بمجرياتها مدار كتابات الكثير من المؤرخين والباحثين، وإن اختلفت كتاباتهم باختلاف رؤيتهم لهذه القضية، والتي تُعدّ أهم قضايا التاريخ الإسلامي، بامتداد جذورها، كيف لا، وصاحبها سبط النبي الأعظم’ الذي قال فيه: «حسين منّي وأنا من حسين».

 ومن هذا المنطلق ولأهمية تاريخ عاشوراء ارتأينا القيام بتحقيق مخطوط (المصرع الشين في قتل الحسين×) للسيد ابن طاووس (ت664هـ)؛ وذلك للكشف عن جوانب جديدة تفتح لنا مجالاً لتفسير كثير من روايات واقعة الطف، وتفصح عن رؤية جديدة، فارتأينا التعامل مع قضية المقتل بلحاظ تاريخي تحقيقي واضح. فعقدنا العزم على تحقيقه ودراسته؛ لإخراجه إلى النور لأول مرة.

ولم يكن العمل على ذلك بالشيء السهل الخالي من المصاعب، بل واجهتنا صعوبات متعدّدة، من أهمّها كيفية العثور على نسخة مخطوطة لهذه السفر المهم؛ لقلة نسخه في مكتبات وخزائن المخطوطات العالمية، كحال الكثير من الكتب أمثاله المؤلّفة في تلك الحقبة، التي نالها الضياع والتلف.

وقد عثرنا على مخطوطته الوحيدة المصورة في المملكة العربية السعودية في مكتبة المصغرات الفيلمية بقسم المخطوطات بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة. وكان زمن نسخ المخطوط يعود إلى القرن العاشر، كما هو مذكور في الرسالة السابقة على رسالة المصرع الشين، وبنفس الخط، وكما ذكر المستشرق إتان كلبرك بأنّ تاريخ نسخ المخطوطة هو القرن العاشر. ومثبت عليها بعض المعلومات (ORIENTAL MANUSCRIPT 26-6-1957 WVH)) (OR NR:959) ونسخة المخطوط موجودة ضمن مجموعة من العناوين المثبتة على بداية هذه المجموعة وهي :

1ـ رسالة في جواز لعن يزيد.

2ـ رسالة في المصرع الشين في قتل الحسين×.

3ـ أخذ الثأر على يد السادة الأخيار.

4ـ نبذة من جواهر العقدين في فضل الشريفين

وكان عدد أوراق المخطوط (225) ورقة، وفي كلّ ورقة ثلاثة عشر سطراً. وفي نهاية كلّ صفحة يكتب الناسخ أول كلمة من الصفحة التي تليها وهي طريقة ترقيم القدماء، وهي نسخة كاملة جيدة، خطها جيد وواضح إلّا أنّ فيها بعض الكلمات غير واضحة وكثيرة الأغلاط والتصحيف وكثير من الكلمات لم تنقط، وغير ذلك من المشاكل، فكان أول المخطوط (بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين على كلّ أمر، الحمد لله الذي برهن باهر قدرته الباهرة على إثبات وحدانيته ببرهان وجود الموجودات الباطنة والظاهرة). وآخرها (هذا آخر المصرع الشين في قتل الحسين× ويتلوه أخذ الثأر على يد السادة الأخيار إبراهيم والثقفي المختار على التمام والكمال والحمد لله وحده). وبعد بيان المقدّمة من المؤلف صرّح باسمه، قائلاً: (قال عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاووس الحسيني ـ جامع هذا الكتاب ـ عن أبي مخنف لوط بن يحيى رحمة الله عليهم أجمعين في مصرع الحسين×).

وهناك من شكّك في نسبة الكتاب للسيد ابن طاووس، وأنّه لا علاقة لابن طاووس بهذا الكتاب، وإنّما أُضيف اسمه على الكتاب مع نصوص من كتابه اللهوف في قتلى الطفوف، وإنّما هذا الكتاب بالحقيقة هو مخطوط مقتل أبي مخنف الأزدي المنسوخ في القرن العاشر الهجري.

ويمكن الإجابة عن هذا التشكيك عن طريق القرائن الآتية:

القرينة الأولى: تصريح السيد ابن طاووس ـ بعد مقدّمة الكتاب ـ بأنّه هو الذي جمع هذا الكتاب، ويروي رواياته في مصرع الحسين× بواسطة المؤرخ الكبير أبي مخنف لوط بن يحيى (ت:157هـ) رحمة الله عليهم أجمعين.

القرينة الثانية: ابتدأ السيد ابن طاووس برواية أبي مخنف في مقتل أمير المؤمنين×، ثم خلافة ابنه الإمام الحسن×، وبعض أحواله وما جرى عليه أيام حكم معاوية، وأنتهى به الأمر إلى عزل نفسه من الخلافة في الكوفة. ثم ترك الإمام الحسن والحسين العراق وذهبا إلى المدينة المنورة.

وهذا لم نجده في مقتل أبي مخنف في نسخه ومطبوعاته الموجودة بين أيدينا. فالظاهر أنّ السيد ابن طاووس وصل إليه كتاب أبي مخنف الكبير، وأخذ منه المناسب لتأليف كتاب المصرع الشين.

القرينة الثالثة: ذكر المؤلف ـ أعني ابن طاووس ـ مقدّمة شبيه وقريبة من مقدّمة كتابه اللهوف في قتلى الطفوف لخص فيها مقامات وفضائل أهل البيت^، وما جرى عليهم من مصائب، لاسيما سيد الشهداء×. ثم ختمها بروايات عن أهل البيت^، ذكر فيها أجر وثواب البكاء على سيد الشهداء×. وهذا شاهد واضح على أنّ الكتاب المذكور لابن طاووس.

القرينة الرابعة: إن المستشرق اليهودي (إتان گلبرگ) عدّ كتاب المصرع الشين من مؤلفات السيد ابن طاووس تحت الرقم (29).

القرينة الخامسة: نقل السيد ابن طاووس روايات كثيرة في كتابه المصرع الشين ليست موجودة في كتاب مقتل أبي مخنف الموجود، وبلغت نسبة تلك الروايات الربع من مجموع روايات الكتاب التي تخطّت الـ(80) رواية، وهذا بحدّ نفسه يبعد التشكيك في نسبة الكتاب لابن طاووس.

القرينة السادسة: نقل السيد& روايات في مقتله المصرع الشين بلغت (14) رواية عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل (ت:290هـ)، وهو متأخر زماناً عن طبقة أبي مخنف بأكثر من قرن. وهذا أيضاً يقوي نسبة تأليف الكتاب للسيد ابن طاووس&؛ إذ لم نجد ذلك في نسخ وطبعات مقتل أبي مخنف، بل لا يمكن أن تكون في مقتله؛ لما ذكرنا من تأخّر أبي عبد الرحمن عنه بقرن من الزمن.

القرينة السابعة: نقل المؤلف الأحداث في كتابه المصرع الشين برواية طويلة وواسعة عن أبي مخنف، وفيها أكثر تفصيلاً من بقية كتب المقاتل، ثم ذكر أيضاً في موارد عديدة أكثر من رواية في الحادثة الواحدة. وهو يعدّ من باب الفائدة والسعة في مصادر الروايات لكتابه (المصرع الشين) حتى تفرّد في بعضها.

القرينة الثامنة: إنّ السيد ابن طاووس الذي جمع كتابه هذا، حاول أن يرتّب أحداث وروايات المقتل حسب ما يراه مناسباً. وهذا الترتيب في كثير من الموارد يختلف زيادة ونقيصة عن روايات مقتل أبي مخنف في نسخه ومطبوعاته المتوفرة عندنا.

القرينة التاسعة: كثير من روايات المقتل في المصرع موجودة في الكتب المتأخّرة كالمنتخب والبحار وأسرار الشهادات وناسخ التواريخ وغيرها. ولعلّه وصل إليهم نسخ أو كتاب المصرع الشين للسيد ابن طاووس.

القرينة العاشرة: لم نجد في نسخ مقتل أبي مخنف الواصلة إلينا بعض الروايات والأشعار في كتاب المصرع الشين، وهذا قرينة على أنّ السيد ابن طاووس& في كتابه هذا له أكثر من مصدر في تأليفه، نعم كان الأكثر منها اعتماده على مقتل أبي مخنف الذي وصل إليه.

القرينة الحادي عشر: ورد في كتاب المصرع الشين في بعض مروياته ما يوافق رواية اللهوف لفظاً ومضموناً. وهو يقرّب انتساب الكتاب للسيد ابن طاووس.

القرينة الثانية عشر: في الروايات رقم (75 و76 و78) ما يشير إلى أنّ الكتاب من تأليف السيد ابن طاووس؛ حيث علّق السيد في ذيل الروايات المذكورة بتعليقاتٍ لم ترد في رواية أبي مخنف في المقتل المتداول ولا غيره ممّن نقل عنه.

فلا ينبغي التشكيك في صحة نسبة الكتاب إلى السيد ابن طاووس&.

العمل على تحقيقه

ولأجل إعداد هذا التحقيق للمصرع الشين في قتل الحسين× تطلّب منّا الاستعانة بمجموعة من المصادر والمراجع التاريخية التي أفادت الدراسة كثيراً، وتنوّعت بين كتب المقاتل والمعاجم اللغوية والكتب الأدبية وكتب التاريخ العام، وكتب البلدان ومعاجمها، ومن أهمها:

كتب الحديث الشريف

اعتمدنا في التحقيق على كتب الحديث الشريف عند الفريقين، والتي تُعدّ المصدر الثاني من مصادر التاريخ الإسلامي بعد القرآن الكريم، لما شملت من معلومات مهمّة رفدت البحث بحقائق ثابتة. وهي الكتب الأربعة وغيرها وكتب الصحاح والمسانيد عند العامة وغيرها.

كتب المقاتل

 تأتي كتب المقاتل في طليعة المصادر التي اعتمد عليها التحقيق، وتُعدّ أحد مرتكزاته، لأنّها اهتمّت بنقل روايات مقتل الإمام الحسين× ولم تقف عند ذلك، فتطرّقت إلى مسيرة الإمام منذ خروجه من المدينة موضع استقراره ومحل سكنى رسول الله’ حتى وصوله لكربلاء، ومن أبرز كتب المقاتل هو مقتل الإمام الحسين لأبي مخنف الازدي، كما استعنّا بكتب أخرى، من قبيل كتاب مقتل الحسين× المستخرجة مروياته من كتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري، ومقتل الحسين× ومصرع أهل بيته وأصحابه في كربلاء المنسوب لأبي مخنف، وكتاب مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني الذي اختص بذكر مقاتل أهل بيت النبوة^، وكتاب مقتل الحسين× للخوارزمي، وكتاب مثير الأحزان لابن نما الحلي، وكتاب مقتل الحسين× المسمّى اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس، وكتاب المنتخب للطريحي، وكتاب بحار الأنوار، وكتاب إكسير العبادات في أسرار الشهادات، وكتاب ناسخ التواريخ وغيرها. فجاء الكتاب على ذكر أحداث المقتل، مقرونة بتحقيق الكثير من المعلومات المستفادة من كتب المقاتل التي لا غنى عنها بصفتها ذات العلاقة والاختصاص.

كتب التاريخ العام

 رفدت كتب التاريخ العام تحقيقنا بالكثير من المعلومات التي تخصّ الأحداث السياسية، يأتي في مقدمتها كتاب الأخبار الطوال للدينوري الذي يُعدّ مصدراً مهماً في نقل تفاصيل الحروب والأحداث السياسية، وكتاب تاريخ اليعقوبي لأحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي، الذي يحتوي على معلومات وافية ونصوص قيّمة، تميّزت عن بقيّة المصادر التاريخية سيّما ما يخصّ طلب البيعة ليزيد، وكتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري الذي يُعدّ من المصادر العامة والأساسية لدراسة التاريخ الإسلامي، فجاءت أحداثه مرتبة حسب السنوات، وقد كان لهذا الكتاب أهميّة كبيرة في إغناء هذا التحقيق؛ إذ احتوى على مرويات لوط بن يحيى الأزدي، فنقل لنا وقائع واقعة الطف بشكل مفصّل. وكتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي الذي يُعدّ من المصادر المهمّة في التاريخ الإسلامي؛ إذ انفرد في ذكر بعض الروايات فيما يخصّ عدد جيش الإمام الحسين×، كما اعتمدنا على عدد من مصادر التاريخ العام الأخرى ككتاب ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي.

كتب الطبقات وتراجم الرجال

 كانت لهذه الكتب نصيب كبير في دعم التحقيق بمعلومات قيمة عن عدد من الشخصيات الواردة في أحداث المقتل، ومن أهم هذه الكتب كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد الذي أفاد الدراسة بتقديم تراجم وافية لشخصيات الصحابة والتابعين، الذين أسهموا في أحداث واقعة كربلاء، وكتاب طبقات خليفة بن خياط لابن خياط، حيث كانت له أهمية خاصّة؛ لما فيه من معلومات قيمة على الرغم من كونها مقتضبة، ومن كتب التراجم والتي شكّلت مصدراً مهمّاً عوّلنا عليه في تراجم الرجال كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر القرطبي، وكتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الاثير، وكتاب سير أعلام النبلاء للذهبي الذي أمد الدراسة ـ فضلاً عن تراجم الشخصيات ـ بمعلومات هامّة عن أحداث واقعة الطف، وكتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، وكتاب إبصار العين في انصار الحسين× للسماوي، وغيرها من كتب التراجم.

كتب الأنساب

 وقد كانت جملة من كتب الأنساب التي لا غنى عنها في تتبع التسلسل النسبي لكل قبيلة لها نصيب في تحقيق مخطوط المصرع الشين، منها كتاب أنساب الأشراف للبلاذري الذي امتاز بالسعة والشمول بذكر النصوص والروايات التي لم يقف عليها مؤرّخ أخر، سيّما ما يخص الأنساب وأحداث واقعة كربلاء، وكتاب جمهرة أنساب العرب لابن حزم الأندلسي، وكتاب الأنساب للسمعاني، فقد اختص بذكر الأنساب والتعريف بكثير من الشخصيات وغيرها من الكتب.

 كتب الفتوح

 تعد كتب الفتوح من المصادر المهمة التي اعتمدنا عليها في التحقيق، منها كتاب الفتوح لابن اعثم الكوفي الذي اهتم بروايات واقعة الطف اهتماماً كبيراً، والتي زادت من ترصين تحقيق كتاب المصرع الشين فيما يخص كلّ ما يتعلق بمسيرة الإمام الحسين× وأحداث مقتله.

المعاجم والكتب الجغرافية

لم يفتنا الرجوع إلى الكتب الجغرافية ومعاجمها من الكتب المهمّة التي لا غنى عنها في معرفة مواقع البلدان والمدن والأقاليم، والتي تكمن أهمّيتها في احتواء أغلبها على ذكر الأحداث التاريخية، من قبيل كتاب معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع للبكري، وكتاب معجم البلدان لياقوت الحموي والذي امتاز باتساع مادته الجغرافية، وكتاب مراصد الاطلاع في معرفة أسماء الأمكنة والبقاع لابن عبد الحق البغدادي الذي جاء في حقيقة الأمر مختصراً لكتاب معجم البلدان، فكانت الإفادة منه في تحديد وتعريف مواقع المدن الواردة في الدراسة. وكتاب أطلس الحسين للباحث عباس الربيعي الذي امتاز بتحقيق الأماكن والمواضع التي مرّ بها الإمام الحسين×، وكتاب من كربلاء إلى دمشق للكاتب محمد عبد الغني السعيدي الذي بحث فيه المواضع والمناطق التي مرّ بها سبايا أهل البيت^ من كربلاء إلى دمشق.

المعاجم اللغوية والكتب الأدبية

 اعتمدت الدراسة على جملة من المعاجم اللغوية التي رفعت الغموض عن بعض المفردات بشرح وتفسير ألفاظها، منها كتاب العين للفراهيدي، الذي يعد من أقدم المعاجم اللغوية، فقد أفادت الدراسة منه كثيراً في توضيح المصطلحات المبهمة، وكتاب الصحاح للجوهري، وكتاب لسان العرب لابن منظور، وكتاب القاموس المحيط للفيروزآبادي، وكتاب معجم الوسيط لمجمع اللغة العربية.

 أمّا المصادر الأدبية فهي الأخرى لا يمكن الاستغناء عنها في مجال التاريخ الإسلامي ففيها كثير من الحقائق التاريخية التي يستطيع المحقّق أن يستنتجها، منها كتاب العِقد الفريد لابن عبد ربه، فقد تعرّض لذكر سيرة الإمام الحسين× وموقفه من بيعة يزيد، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، الذي أفاد الدراسة كثيراً، باعتباره موسوعة جامعة للأخبار والأدب والأنساب وأيام العرب وأحوالهم الفكرية، وغير ذلك.

التسمية

وأمّا الوجه في تسمية هذا الكتاب بـ"المصرع الشين"، فلم نجد تصريحاً للمؤلف& في ذلك، ولا لغيره، إلّا أنّه يمكن استظهار وجه تسميته من ظاهر العنوان؛ بأن نقول إنّ المراد به الإشارة إلى عظمة الجريمة التي ارتُكِبت في يوم عاشوراء، وقبح ما جاء به الأعداء من انتهاك حرمة رسول الله’، وحرمة أهل بيته^، وانتهاك حرمة الإسلام الذي لم يجوّز مثل هذه الجريمة في حقّ عامة المسلمين فكيف بسادتهم. فهو مأخوذ من الشَين بمعنى القبح والعيب، مقابل الزين[7].

ترتيب الكتاب

رتّب السيد ابن طاووس& كتابه هذا على النحو الآتي:

أ: المقدّمة

ب: الأحداث التي سبقت بيعة يزيد التي أشار بها إلى شهادة أمير المؤمنين× وما جرى على الإمام الحسن× من بعده مع معاوية بن أبي سفيان وشهادته×.

ج: مكاتبة أهل الكوفة ـ في زمن معاوية ـ للإمام الحسين× بعد استشهاد أخيه× يدعونه للمسير إليهم، وأيضاً كانت فيها رسائل بين معاوية والإمام×.

د: وفاة معاوية ووصيّته لابنه يزيد بالبيعة والحكم.

هـ: مبايعة الناس ليزيد وامتناع الإمام× لمّا كان في المدينة وما جرى من أحداث في هذه الفترة.

و: خروج الإمام× من المدينة إلى مكة.

ز: مكاتبة أهل الكوفة للإمام× يدعونه للمجيء إلى الكوفة.

ح: إرسال الإمام× مسلم بن عقيل إلى الكوفة وتفاصيل ما جرى عليه وعلى غيره.

ط: مسير الإمام× إلى العراق وتفاصيله.

ي: وصول الإمام× كربلاء، وما جرى فيها من أحداث إلى شهادته×.

ك: دخول السبايا إلى الكوفة، وما جرى من أحداث فيها عليهم وعلى غيرهم.

ل: مسير السبايا والرؤوس إلى الشام. ثم يذكر المؤلف أحاديث وردت عن النبي’ فيها أخبار عن شهادة الإمام الحسين× ويرجع يكمل ما جرى على السبايا في مسيرهم.

م: دخول السبايا والرؤوس إلى الشام وما جرى عليهم من أحداث وتفاصيل.

ن: رجوع السبايا إلى المدينة المنوّرة وما كان فيها.

ملاحظات حول الكتاب

1ـ يُعدّ كتاب المصرع الشين من كتب المقاتل التي كُتِبت في القرن السابع، وبتأليف من عالم متضلّع.

2ـ عنوان الكتاب (المصرع الشين في قتل الحسين×) هو الاسم الذي اختاره المؤلّف السيد ابن طاووس لكتابه.

3ـ روايات هذا المقتل قريبة من رواية الطبري عن أبي مخنف، خاصّة الأحداث التاريخية التي قبل مسير الإمام× إلى العراق، وبعده وما يتعلّق بأحداث مسلم وهانيء، وبعض أحداث كربلاء والكوفة. نعم توجد في كثير من الأحداث اختلاف عن رواية الطبري عن أبي مخنف، وخاصّة ما جرى على السبايا أثناء مسيرهم إلى الشام وبعض التفاصيل هناك.

4ـ لم يذكر السيد المؤلف أسانيد الروايات، بل اكتفى بذكر الراوي الأول للرواية مثل: (عمار، عدي بن حرملة، علي بن الحسين×، حميد بن مسلم، جديلة الأسدي وغيرهم).

ملاحظات حول المخطوط

1ـ وردت الأسماء المهموزة بدون همزة سواء متوسطة أو متطرفة مثل: (ساير والثلاثا ... وما شاكل).

2ـ وضع همزة (ابن) وحذفها ليس بحسب الضوابط المتفق عليها.

3ـ توجد أخطاء إملائية كثيرة في كتابة بعض الكلمات، فالكلمات المنتهية بالألف الممدودة كُتِبت بالألف المقصورة وبالعكس.

3ـ وردت بعض الكلمات غير منقطة، ولكن أثبتناها بحسب قرينة السياق.

3ـ توجد أخطاء نحوية في بعض الكلمات.

4ـ توجد أخطاء في أسماء بعض الشخصيات والأماكن والكلمات.

5ـ وردت الصلاة على النبي’ عند ذكره المبارك بأسلوب العامة، أي بالصلاة عليه دون آله^ إلّا في موارد قليلة كانت بأسلوب أتباع أهل البيت^، وكذا ورد فيه الترضي على أهل البيت^ بدلاً عن التسليم.

منهجنا في التحقيق

1. ترجمة الشخصيات التي لها دور بارز في النهضة الحسينية، أو ترتبط بها ارتباطاً مباشراً، سلباً أو إيجاباً.

2. بيان المعاني اللغوية للكلمات المبهمة وبيان المواقع الجغرافية.

3. تخريج الروايات والحوادث التاريخية من مصادرها الأولية أو المصادر الثانوية المتأخرة زماناً عن المؤلف.

4. الإشارة إلى المواضيع التي تخالف معتقدات الإمامية وردّها.

5ـ إن كان هناك خطأ إملائي أو مطبعي في المتن، يُشار له ويُصحَّح في الهامش. وإن كان الخطأ متكرراً بكثرة في الكتاب من قبيل إثبات همزة (ابن) في مواضع وجوب حذفها أو حذفها في مواضع وجوب إثباتها، وكتابة الهمزة المتوسطة ياء، وكتابة الألف المقصورة ممدودة أو بالعكس، وحذف الهمزة السائبة من قبيل (كربلا)، فيشار لها في المورد الأول فقط؛ رعاية للاختصار.

6ـ اعتمدنا في التحقيق على كتب التاريخ والسير والمقاتل، بالخصوص على مقتل أبي مخنف؛ لكون المصنف& ينقل عنه. كما اعتمدنا كثيراً على نور العين وأسرار الشهادات والمنتخب؛ لكثرة التشابه بينها وبين كتاب المصرع الشين الذي نحن بصدد تحقيقه، من جهة سردها للأحداث، ومن جهة نقلها عن مقتل أبي مخنف.

7ـ ذكر المؤلف الصلاة على النبيّ’ من دون الصلاة على آله^، فأضفناها بين معقوفتين []، وكذا أضفنا بين معقوفتين بعض الكلمات أو الجمل التوضيحية للمتون التي نقلناها في الهامش.

8 ـ أضفنا عناوين رئيسية تنسجم مع الأحداث التي ذكرها المؤلف، ووضعناها بين معقوفتين [].

9 ـ ترقيم الروايات الرئيسية حتى يسهل على القارئ معرفة تسلسلها والاستفادة منها.

ترجمة المؤلف

هو السيد علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد المعروف بـ (ابن طاووس) يرجع نسبه إلى الحسن المثنى بن الإمام الحسن× ابن أمير المؤمنين×.

وُلِد في مدينة الحلة سنة (589هـ) نشأ وترعرع فيها، ثم هاجر إلى بغداد وأقام فيها أكثر من عشر سنوات في زمن الدولة العباسية ثم رجع إلى الحلة، وانتقل بعدها إلى النجف، ثم إلى كربلاء، فبقي هناك ثلاث سنين، ثم انتقل إلى الكاظمين فبقي فيها ثلاث سنين ثم عاد إلى بغداد سنة (652 ه‍)، فبقي فيها إلى حين احتلال المغول.

كُلِّف السيد في زمن المستنصر بقبول منصب الافتاء تارة. كما تسلّم نقابة الطالبيين بالعراق من قبل هولاكو سنة (661هـ)، واستمر بها إلى آخر حياته.

الثناء عليه

قال عنه الشيخ النوري في خاتمة المستدرك: «السيد الأجل الأكمل الأسعد الأورع الأزهد، صاحب الكرامات الباهرة رضي الدين أبو القاسم وأبو الحسن علي بن سعد الدين موسى بن جعفر بن طاووس آل طاووس، الذي ما اتفقت كلمة الأصحاب على اختلاف مشاربهم وطريقتهم على صدور الكرامات عن أحد ممّن تقدّمه أو تأخّر عنه غيره. ثم تبرك بذكر بعض كراماته».

وأثنى عليه الحر العاملي في أمل الآمل بقوله: «حاله في العلم والفضل والزهد والعبادة والثقة والفقه والجلالة والورع أشهر من أن يُذكَر، وكان أيضاً شاعراً أديباً منشئاً بليغاً».

وغير ذلك كثير من أقوال العلماء فيه.

مشايخه

1.   الشيخ أسعد بن عبد القاهر بن أسعد الأصفهاني.

2.   بدر بن يعقوب المقري الأعجمي.

3.   تاج الدين الحسن بن علي الدربي.

4.   الشيخ الحسين بن أحمد السوراوي.

5.   كمال الدين حيدر بن محمد بن زيد بن محمد بن عبد الله الحسيني، وغيرهم.

تلاميذه والرواة عنه

1.   إبراهيم بن محمد بن أحمد بن صالح القسيني

2.   السيد أحمد بن محمد العلوي

3.   جعفر بن محمد بن أحمد بن صالح القسيني

4.   الشيخ تقي الدين الحسن بن داود الحلي

5.   جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، المعروف بالعلامة الحلي.

6.   العلامة سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر، (والد العلامة). وغيرهم الكثير.

آثاره العلمية

اهتم السيد بالتصنيف في مجال الأدعية اهتماماً زائداً عنه في سائر الجوانب، حتى كأنّه الصفة الغالبة لمصنّفاته. ومع ذلك فإنّه قد ألّف في سائر العلوم[8]، كالفقه والأخلاق والتاريخ والسيرة والمناقب والملل والنحل ومحاسبة النفس والفهارس، منها:

1 - الإبانة في معرفة أسماء كتب الخزانة.

2 - الإجازات لكشف طرق المفازات فيما يخصني من الإجازات.

3 - أسرار الصلاة.

4 - الأسرار المودعة في ساعات الليل والنهار.

5 - الاصطفاء في تاريخ الخلفاء.

6 - إغاثة الداعي وإعانة الساعي.

7 - الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة.

8 - الأمان من أخطار الأسفار والأزمان.

9 - الأنوار الباهرة.

10 - البهجة لثمرة المهجة.

11 - التحصيل من التذييل.

12 - التحصين في أسرار ما زاد على كتاب اليقين.

13 - التراجم فيما ذكره عن الحاكم.

14 - التعريف للمولد الشريف.

15 - التمام لمهام شهر الصيام.

16 - التوفيق للوفاء بعد التفريق في دار الفناء.

17 - جمال الأسبوع بكمال العمل المشروع.

18 - الدروع الواقية من الأخطار فيما يعمل مثلها كلّ شهر على التكرار.

19 - ربيع الألباب في معاني مهمات ومرادات.

20 - روح الأسرار وروح الأسمار، ألّفه بالتماس السيّد محمد بن عبد الله بن علي ابن زهرة.

21 - ري الظمآن من مروي محمد بن عبد الله بن سليمان.

22 - زهرة الربيع في أدعية الأسابيع.

23 - السعادات بالعبادات.

24 - سعد السعود.

25 - شفاء العقول من داء الفضول.

26 - الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف.

27 - الطرف من الأنباء والمناقب في شرف سيد الأنبياء وعترته الأطائب.

28 - غياث سلطان الورى لسكان الثرى.

29 - فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين رب الأرباب.

30 - فتح الجواب الباهر في شرح وجوب خلق الكافر.

31 - فرج المهموم في معرفة الحلال والحرام من علم النجوم.

32 - فرحة الناظر وبهجة الخواطر.

33 - فلاح السائل ونجاح المسائل.

34 - القبس الواضح من كتاب الجليس الصالح.

35 - كشف المحجة لثمرة المهجة.

36 - لباب المسرة من كتاب مزار ابن أبي قرة.

37 - اللطيف في التصنيف في شرح السعادة بشهادة صاحب المقام الشريف (جعله في ضمن كتاب الإقبال).

38 - المجتنى من الدعاء المجتبى.

39 - محاسبة النفس.

40 - مسالك المحتاج إلى مناسك الحاج.

41 - مصباح الزائر وجناح المسافر.

42 - مضمار السبق في ميدان الصدق.

43 - الملاحم والفتن في ظهور الغائب المنتظر.

44 - الملهوف على قتلى الطفوف.

45 - المنتقى في العوذ والرقى.

46 - مهج الدعوات ومنهج العنايات.

47 - المواسعة والمضايقة.

48 - اليقين باختصاص مولانا أمير المؤمنين علي×.

49 ـ المصرع الشين في مقتل الحسين×. وهو الكتاب الذي بين يدي القارئ.

وفاته ومدفنه

توفي (رضوان الله عليه) في بغداد بكرة يوم الأثنين خامس شهر ذي القعدة من سنة (664هـ).

أمّا مدفنه الشريف فقد اختلفت فيه الأقوال:

قال الشيخ يوسف البحراني: «قبره غير معروف الآن»[9]. وذكر المحدّث النوري: «... في الحلة في خارج البلد قبة عالية في بستان تُنسَب إليه، ويزار قبره ويتبرك فيها، ولا يخفى بعده لو كان الوفاة ببغداد، والله العالم»[10]. ويدفع هذه الشكوك ما ذكره السيد في (فلاح السائل) من اختياره لقبره في جوار مرقد أمير المؤمنين× تحت قدمي والديه، قال قدس سره: «وقد كنتُ مضيتُ بنفسي وأشرتُ إلى من حفر لي قبراً كما اخترتُه في جوار جدي ومولاي علي بن أبي طالب× متضيفاً ومستجيراً ووافداً وسائلاً وآملاً، متوسلاً بكل ما يتوسّل به أحد من الخلائق إليه، وجعلتُه تحت قدمي والديَّ رضوان الله عليهما، لأنّه وجدتُ الله جل جلاله يأمرني بخفض الجناح لهما ويوصيني بالإحسان إليهما، فأردتُ أن يكون رأسي مهما بقيتُ في القبور تحت قدميهما»[11].

مضافاً إلى ما ذكره ابن الفوطي في كتابه الحوادث الجامعة، قال: «وفيها ـ أي سنة 664 ه‍ ـ توفي السيد النقيب الطاهر رضي الدين علي بن طاووس، وحُمِل إلى مشهد جدّه علي بن أبي طالب×، قيل: كان عمره نحو ثلاث وسبعين سنة»[12].

فما ذكره هو الصحيح ومقدّم على أقوال الآخرين؛ لمعاصرته لتلك الفترة، ولهذا فهو أفضل من أرّخ حوادث القرن السابع الهجري.

وبالجملة: هو الحسنيُّ نسباً، والمدنيُّ أصلاً، والحليُّ مولداً ومنشأ، والبغداديُّ مقاماً، والغرويُّ جواراً ومدفناً.

شكر وامتنان

وفي الختام لا يفوتنا أن نتقدّم بالشكر الجزيل لإدارة مؤسسة وارث الأنبياء× للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية، لما قدّموه من مساعي ذلّلت لنا الصعاب. والشكر موصول للجنة العلمية على متابعتهم وملاحظاتهم التي أكملت ما فاتنا، ولجميع كوادر المؤسسة التي كان لها دور في ظهور هذا الجهد إلى النور، ونسأل الله أن يتقبّل منّا ومنهم هذا العمل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الأمة النبيّ محمد’ وعلى ذريته وصحبه المنتجبين، وكلّ من ناصرهم وقاتل معهم، صلاة دائمة غير منقطعة، إنّه سميع مجيب.

قسم التحقيق

14/10/2021

ملحق (1) : صورة الصفحة الأولى من مخطوطة الكتاب[13]

ملحق (2) : صورة الصفحة الثانية من مخطوطة الكتاب[14]

ملحق (3) : صورة الصفحة الأخيرة من مخطوطة الكتاب[15]

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين على كلّ أمر

الحمد لله الذي برهن باهرَ قدرتِه الباهرة على إثبات وحدانيته ببرهان وجود الموجودات الباطنة والظاهرة، القدير الذي قدّرا[16] بقدرته، وحكم عليهم بحكمته، فأرواحهم صايرة[17]، وحيّر الألباب وكتب على الأحباب، فالأنبيا[18] والمرسلين والأوليا الصالحين[19] مطيعة حاضرة[20]. سلب الأنفس بالفجيعة التي بلغ درأوها[21] إلى جبرئيل، والفظيعة التي عظمت على الربّ الجليل[22]. وكيف لا يكون ذلك وقد أصبح لحم رسول الله مجرجراً[23] على الرمال، ودمُه الشريف مسفوكاً بسيف الضلاّل، ووجوه بناته مكشوفة لعين الشايق[24] والشامت، وتلك الأبوار المعظّمة عارية من البنات[25].

مصايب بدّدت شمل التي
أضحوا بالطعن المتلف صابره
[26]

فيا ليت فاطمة[27] وابنها[28] ينظران إلى أولادهما ما بين مسلوب وجريح من الطابقه[29] الكافر[30]. وبنات النبوّة مشقات[31] الجيوب، وناشرات الشعور، وبارزات الخدود[32]، والدموع والدموع[33] لهم غامرة[34].

فيا أيها النظر والأفهام[35] حثّوا أنفسكم بمصرع هؤلا[36] العترة الكرام، ونوحوا بالله على تلك الوجوه العظام، وساعدوهم على تلك الرزية[37] القاهرة[38].

 فإنّ نفوس أوليك الأقوام، وواسع[39] سلطان الأنام، وثمرة فواد[40] سيد الأنام، وقرّة عين البتول، ومن كان يرشف[41] بفمه الشريف ثناياهم[42] الرسول، ويفضّل اُمّهم وأباهم حيث أقول شعره[43]:


إن كنتَ في شكٍّ فسل عن حالهم
سيف الرسول والحكم بالتنزيل
[44]
فهناك أعدل شاهدا
ً[45] لذوي الورى
وثبات فضلهمي
[46] على التفضيلي[47]
ودمية سبقت لأحمد فيهيموا
[48] 

جاءت[49] إليه على يد جبريلِ

فكيف طاب للنفوس مع تداني الأزمان مقابل جدّهم بالقرآن[50] وتكدير عيشه بتعذيب ثمرة فواده وتضعيف قدره بإراقة دم أولاده[51].

فأين موضع القبول بوصيته في عترته وآله؟ وما الجواب عند لقايه وسواله[52] فقد هدم القوم ما بناه، ونادى الإسلام وا كرباه.

 ألم تعلموا أنّ محمد[53] مأثور في جميع أحبابه مقهور، والملائكة تعزيه على جليل مصابه والأنبيا شاركوه في أحزانه[54]؟

فيا أهل الوفا بخاتم الأنبياء ابكوا على هذه المصايب الذي[55] يتسلى بها المرء في جميع الأحباب[56].

فقد رُوِي عن محمد الباقر[57] أنّه قال: كان زين العابدين[58] يقول: أيمّا عين ذرفت[59] لقتل الحسين× حتى تسيل الدموع على الخدود بوّأها الله} غُرفاً[60] في الجنة يسكنها[61].

ورُوِى عن جعفر الصادق[62] (رضي الله عنه) قال: مَن ذُكِرنا عنده ففاضت عيناه ولو قدر جناح ذبابة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زَبَد البحر[63].

 ورُوِى عن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أنّه قال: مَن بكا[64] فيما أصابنا ضمنّا له على الله الجنة[65].

[أحداث قبل بيعة يزيد]

وقال عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاووس الحسيني ـ جامع هذا الكتاب[66] ـ عن أبي مخنف لوط بن يحيى[67] رحمه[68] الله عليهم أجمعين في مصـرع الحسين×:

1ـ قال: لما قُتِل أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب[69] (رضي الله عنه) حين
قتله بن[70] ملجم
[71] بجامع الكوفة. تولّى الخلافة بعده ولدُه الحسنُ[72]، وكنيته
أبا
[73] محمد، ولقبه الزكي، وأمّه فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) سار إلى المدينة في إثر بيعته، وكان قيس بن سعيد[74] قايد جيوشه وعساكره فخرجت عليه الخوارج[75] فقُتل قيس[76] فرجع الحسن إلى الكوفة فلقيه الخارج الأسدي[77] وواسه[78] وغافله وضربه بالخنجر في فخذه فهرب بفخذه فقال بالأمس قتلتوا[79] أبي[80] واليوم تريدون قتلي[81].

ثُمّ إنّه دخل الكوفة وعزل نفسه من الخلافة وكتب إلى معاوية[82] يعلمه بعزل نفسه ودفعها إليه كالنيابة بمال معلوم وقدره ألفين[83] دينار في المبايعة[84].

 ثُمّ خرج الحسن والحسين يريدان قبر جدّهما (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بالمدينه الشريفه، فدخلت عليهم مشايخ العراق يعتبانهما[85] على خروجهما من أرض العراق، فوعظهم موعظه عظيمه يقول فيها: اتقّوا في أموركم تكونوا الآن حفظاً لأموالكم ودمايكم، وإصلاحاً لشانكم، فارضوا بقضا الله تعالى وقدره، وسلّموا الأمر إليه، والزموا بيوتكم. واعلموا أنّي سمعتُ من أبي أمير المؤمنين× يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): مَن أحبّ قوماً بعثه الله معهم[86]، وأنتم معنا في زمرتنا[87].

قال: ثُمّ مضينا من عنده والحسين× يأمر غلمانه بالخروج إلى[88] المدينه، والكأبة والحزن في وجهه[89]، وهو يقول: (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)[90] وقد كان قدر الله قدراً مقدوراً[91]. والله، لو اجتمعت الأنس والجن على أن لا يكون أمراً[92] لما كان لمستطاعوا[93]. لقد كنتُ طبتُ نفساً بالموت حتى عزم علىّ أخي الحسن× أن لا أنقض عهداً، ولا أحرّك ساكناً ما دام الرجل حياً فأطلبه كرهاً منّي[94]، وقد قال الله : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[95]. والآن قد كان صلحاً، وكانت بيعه كنتُ لها كارهاً ولا تنظر[96] ما دام الرجل حياً، فإن هلك نظرنا ونظرتم. فقلنا له: يا أبا عبد الله، ما نحزن لأنفسنا، وإنمّا نحزن إلّا لكم أن تُضَاموا[97] في عِزّكم، وتُنقَصوا من حقّكم. ونحن أنصاركم وشيعتكم متى دعوتمونا أجبنا، ومتى أمرتمونا أطعناكم[98]. فقال×: شكر الله فضلكم ومقالتكم، وعرّفها لكم.

ثُمّ إنّ الحسن والحسين÷ خرجا وخرجوا معهما مشيّعين ومودّعين، فلمّا جازا دار هند[99] نظر الحسين إلى الكوفة وتمثّل بهذه الأبيات:

وما عن قلا[100] فارقتُ دار معاشري
  هم المانعوا
[101] عن ذمتي وديارِ[102]
ولكن قضـى
[103] الله لا شك واقع
 وما دار ذي الدنيا بدار قراره
[104][105]

قال: ثُمّ ودّعهم مشايخُ أهل الكوفة ورجعوا، وسار الحسن والحسين÷. وندبهما على الصلح وردّ الحرب حجر بن عدي[106]، وكان قد حضر عند الحسين يوماً[107] وأنشأ يقول[108]:

دعاني رسول القوم من أرض مسكني

 يقول إمام الحقّ أضحى مسلما
فراجعتُ نفسـي ثُمّ قلتُ لها
اصبري
  فإنّ إمامي كان بالله عالما
فما زلتُ ذا همٍّ أرى بكآبه
 أُراعي نجوماً خاشع الطرف ساجما
فبلّغْه عنّي أنّني كنتُ شيعه
 له وعلي أعدائه كنتُ ناقما
أطاعنهموا بالرمح في دهش
[109] الورى
 وأعلوا بسيفي هامهم والجماجما
فنحن لمن سالمتَ سلماً
[110] ومن يكن
 عدوّك تورده الغدات
[111] المراغما[112]

قال حجر: والله، لقد رأيتُ وجهه (صلوات الله عليه) قد أشرق نوراً، وقال: يا حجر، إنّ الناس ليسوا مثلك، ولا يحبّون ما تحبّ، ولا يتمنّون ما تتمنّا[113].

وخرج من عنده، وكان منهما ممّا[114] كان من خروجهما إلى المدينه، فأقاما على
ذلك حتى قُبِض الحسن (صلوات الله عليه وسلامه) فكتب نفر من أهل الكوفة
من وجوه الشيعه إلى الحسين× يعزونه بمصابه على الحسن ويحثّونه على المسير إليهما[115] وذلك أنّهم اجتمعوا في دار سليمان بن صُرد الخزاعي
[116]، وفيهم
بني
[117] جعده[118]، وكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى الحسين بن علي بن أبي طالب×من شيعته وشيعه أبيه×، فإنّا نحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو أمّا بعد قلنا: قد بلغَنا وفاه أخيك الحسن (صلوات الله عليه) يوم وُلِد ويوم قُبِض ويوم يُبعَث حياً، وغفر الله وتقبل حسناته وألحقه بنبيّه، وفسّح له في قبره، وضاعف لك الأجر بالمصاب، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. ما أُصيبت به هذه الأمّه أمتاً[119] عامه، وما رُزِيت به شيعتنا خاصّه لقد رزيوا به الرزا[120] العظيم، وأُصيبوا بالمصايب الجليل[121]؛ مصاب بن وصيهم، وابن بنت نبيهم، علم الهدى، ونور البلاد والتقى، والمُرجأ[122] لإقامه الدين، وإنفاذ حكم الكتاب، ومحو الجور، وإظهار الحق، وإعادة سنن المرسلين الصالحين. واصبر رحمك الله على ما أصابك (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[123]؛ فإنّ فيك خلف[124] ممّن كان قبلك، وإنّ الله سيهدي بك على يديك المؤمنين، وبك تزول عنهم كلّ شدة، وكلّ من اهتدى بهدايتك، ونحن شيعتك المصابه بمصابك المحزون[125] لحزنك، والمسـرون بسـروركم[126]، والمهديّون بهدايتك، والمنتظرون لأمرك، شرح الله صدرك، ورفع ذكرك، وغفر ذنبك، وردّ عليك حقك. والسلام ورحمة الله وبركاته[127].

 ثُمّ إنّ الناس صاروا يقولون إن هلك معاويه لم يعدل عن الحسين بن علي× عليه أحدٌ. ثُمّ اتصل الخبر بمعاويه أنّ الحسين× يختلفون[128] الناس إليه، ويُكثِرون الجلوس عنده. وأكثروا من ذكره عند معاويه، فكتب إليه معاويه كتاباً فيه يقول:

بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد فقد انتهت إليّ أمور، وما أظنّ أنّ لك فيها رغبه. ولعمر الله إنّ مَنْ أعطى الله صفقته يميني[129] وعهد الله وميثاقه لجدير بالوفا. فإن كان الذي بلغني عنك باطل فأنت والله سعيد ويحفظ نفسك تبدوا وبعهد الله توفي ولا تلومني[130] في قطيعتك، فإنّك متى أنكرتَني أنكرتُك، ومتى تكذّبْني أكذبتُك. فلا تشقّ عصا الأمه فتسير[131] بذلك فتنة، وقد جرّبتَهم وبلوتَهم، وأبوك كان قبلك وهو أفضل منك، وكان قد فسد عليه رأيه. فانظر لنفسك ولدينك، ولا تستخف بك السفها، الذين لا يعلمون. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته[132].

فكتب إليه الحسين جواب كتابه، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد فقد
بلغني كتابك، وفهمتُ خطابك، ولعمري إنّ الحسنات يذهبن السيات
[133]، ولا يهدي ويسدد إلّا الله. وما ذكرتَ أنّه بلغني عنك فإنّما رقا[134] إليك المارقون والمشّاون[135] بالنمائم المفرّقون بين الجموع، وكذبوا وأيم الله. والسلام[136].

قال: فلمّا وصل الكتاب إلى معاويه أمسك ولم يجبه ووصله بما كان يصل إليه؛ وذلك أنّه كان يبعث إليه في كلّ سنه ألف ألف دينار سوا[137] عروض وهدايا من كلّ صنف. والله أعلم[138].

(خبر وفاه معاويه)

2ـ ذكر الكلبي[139] في حديثه أنّ معاويه لما حضرته الوفاه ومرض مرضاً
شديداً ـ وكان ابنه يزيد
[140] لعنه الله غايباً[141] عنه؛ وذلك أنه كان والياً على حمص[142] ـ فدعا بورقه ودواه، وكتب بعد أن تزايدت عليه الأمراض وبدت علته[143]، وتغيّر حالته، فكتب وصيته يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد إنّ خير الأشيا[144] الحاريات[145] التقدم بالوصايا، فقد قال الله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[146] اعلم يا بُني أنّه قد جاني[147] ما كان بعدُ من الموت المحتوم على جميع العباد، وأوصيك يا بُني بوصيه لن تزال بخير ما دمتَ حافظها.

أوصيك ما دمتَ بعدي[148] راعياً وبذمتي وافياً ولوصيتي حافظاً، أوصيك بأهل الحجاز خيراً؛ فإنّهم منك وأنت منهم، وعيبهم يلزمك وعارهم يلحقك، فمن قدِم عليك منهم فأكرمه، ومن غاب عنك تعاهده، ومن تخلّف منهم فافتقده. وأوصيك بأهل الشام خيراً بعد كتابيك ونصرتك[149]، وهم أنصارك وأعوانك، وإذا ما دهمك أمر[150] وقهرك عدوّ فارمِِ بهم إليه، فإذا انتصفتَ من عدوّك فردّ بهم إلى بلاهم[151]، يتخلّقوا بخلاقتهم[152]، ولا يتخلّفوا عنك وينالوا منك. وعليك بأهل العراق خيراً، انظر لهم في أمورهم، وأحسن سياستهم، وإذا سألوك أن تعزل كلّ يوم عامل[153] افعل، فإنّ عزل عامل أهون من شقّ العصا على المسلمين ونقض عهد المؤمنين. واعلم يا بني أنّي قد وطّيتُ[154] لك البلاد، ومهّدتُ لك المهاد، وذلّلتُ لك الصعاب، وقمعتُ لك أرقاب[155] العباد. ولستُ أخشى عليك بعد موتي إلّا من أربع[156] نفر بأنّهم لا يبايعوك[157] على الأمر ولا يطيعونك، الأول عبد الرحمن بن أبي بكر[158] فإنّه صاحب دنيا، فدعه ودنياه، وما يريد لا لك ولا عليك. والثاني عبد الله بنعمر[159] فإنّه صاحب قراه[160] ومحراب، فدعه وما هو عليه لا لك ولا عليك. والثالث عبد الله بن الزبير[161] يغور[162] عنك كما يغور الثعلب، ويجثو جثوة الأسد، فإن حاربك فحاربه، وإن سالمك فسالمه، ولا تطيعه[163] في ترك الأمر، وإن شار عليك فاقبل مشورته. وأمّا الرابع فإنّه الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) فإنّه لا تدعه الأمه حتى يخرجه[164] إليك، ويحملونه عليك، ويكاتبونه فإن أنت ظفرتَ به فاحفظ قرابته من رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)[165]. واعلم يا بني أنّ أباه خيراً[166] من أبيك، وأمّه خير من أمك، وجدّه خير من جدك، وأخاه خيراً من أخيك، وخاله خير من[167]، وعمّه خير من عمّك. فإياك أن تهمل وصيتي أو تنسى نصيحتي، فإذا قضيتُ نحبي وصرتُ إلى ربي فلا يواريني في لحدي إلّا عمُّك أبي[168] عبد الله عمر ابن العاص[169]، فإذا واراني وهَمّ بأن يصعد فجرّد سيفك، والزمه بالبيعة قبل أن يصعد من القبر؛ فإنّه إذا بايعك لا يختلف عليك منهم أحد. وهذه وصيتي إليك والسلام[170].

ثُمّ ختم الوصيه ودفعها إلى أخصايه[171] وكان الضحاك بن قيس الفهري[172] وكان من خواصّ أصحابه، وأمره أن يدفع الوصيه ويسلّمها إلى يزيد عند مقدمه. هذا ما كان من أمر معاويه.

وأمّا يزيد فإنّه لمّا قرأ كتاب أبيه ارتحل مجدّاً[173] حتى ورد دمشق[174] فوجد أباه قضى نحبه ولم يحضره؛ وذلك أنّه لمّا كتب الوصيه أُغمِى عليه فحرّكوه فإذا هو ميتا[175]، فضجّت دمشق بموته.

ثُمّ أخرج الضحاك بن قيس جميع الجند بدمشق ثُمّ أخرج أكفان معاويه مطويه مبخره على يديه، ثُمّ صعد المنبر ثُمّ نادى: معاشر الناس ألا وإنّ أمير المؤمنين معاويه كان عمود العرب، وسيد ذوي الحسب، وعمادها الأمد، وركنها الأسدّ عند الله. ومتّعه الله ما شا من عمره، ثُمّ قبضه لأجلٍ محدود ووقت معلوم، فأجاب لمّا دعا، وهذه أكفانه، ونحن مدرجوه فيها وتاركوه مع ربّه. ثُمّ نزل من على المنبر، وأخذ في أمر معاويه[176] ثُمّ واراه في لحده عمر بن العاص، كما سبق في الوصيه[177].

3ـ قال أبو مخنف (رضي الله عنه): حدّثني مَن أثق به أنّ يزيد لمّا وصل إليه كتاب أبيه مع البريد أنشد من وقته يقول:

جاء البريد[178] بقرطاس يحثّ[179] به
فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا لك الويلُ ماذا في صحافيكم
 قال الخليفة أمسى مُدنفاً
[180] وجعا
فما دمت الأرض أو كادت تبيد
[181] بنا
 بنا لعقد أشعث من أركانه انقلعا
[182]
لما أثبت
[183] لباب الدار منزعجا
 لصوت رملةَ كاد القلب ينصـرعا
ولا أبالي إذا عاتبت مهجتهُ
 من غاب من هاشم بدراً ومطالعا
[184]
ذاك بن هند
[185] الذي يؤمن بوائقه
  لو قارع الناس في أنسابهم قرعا
[186]

ثُمّ إنّ يزيد سار وقدِم دمشق فوجد أباه لم يقضى[187] نحبه[188] فقعد عند رأسه فوصّاه بما تقدّم ذكره. ثُمّ قال له: يا بُني اعلم أنّ أبا بكر ولي هذا الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ثُمّ مضى، وولى من بعده عمر فأسرى[189] كسيرهما، وتقلّد هذا الأمر من بعده عثمان بن عفان فأسرى كسيرتهما[190]، ثم وليتُ من بعدهم[191] فوطّيت البلاد، وأعطيتُ المال في حياتي، وورّثتُه بعد وفاتي، فإذا متُ فاجهد أن لا يلحدني إلّا عمّك أبي[192] عبد الله عمر بن العاص، ولا تدعه يصعد حتى يبايعك ويوس[193] لك الأمر، ويدبّر الأمر فيه الملك[194]؛ فبه استوسق[195] النظام، وبرأيه تدفع الأمور الجسام؛ فإنّه خير موازر وأكرم ناصر، ثُمّ قضى معاويه نحبه، وألحده عمر بن العاص، وهَمّ بأن يصعد، فجرّد يزيد سيفه، وقال: بايع يا عمر، فهزّ لحيته، وقال فعلها معاويه حياً وميتاً، ثُم بايع، وبايع له الناس كافه.

ثُمّ إنّ يزيد رجع إلى منزله فأقام فيه ثلاثه أيام لم يظهر للناس، فلمّا كان في اليوم الرابع خرج لهم أشعث[196] أغبر[197]، وقال: أقبل فرقا[198] المنبر فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، ثُمّ قال:ألا وإنّ أمير المؤمنين معاويه قد عرفتم ما آثره[199]، وما تحقّقتم مفاخره، كان عبداً صالحاً، دعاه مولاه فأجابه، وقد وُلِّيتُ هذا الأمر من بعده، وقد أوصاني في بعض وصيته أن أُحسِن إلى مسياكم[200]، وأتجاوز عن زلتكم، وأتعاهد أموركم، وأغفر خطيتكم، وأصفح عن محركم[201]، وأقوّى ضعيفكم، وأعترف بالحق لشريفكم. ولستُ معتذر[202] لكم، فما أنتم قايلون؟ قال: فبقى الناس متحيّرون[203] لا يدرون ما يقولون، أيعزّونه في الرزيه أم يهنئونه بالولايه. فقام إليه عبد الله بن همام السّلولي[204]، فقال له: يا أمير المؤمنين، آجرك الله على الرزيه، وأجزل[205] لك في العطيه، وبارك لك في الموهبه السنيّه[206]. لقد ورثتَ جليلاً، وأُعِطيتَ عظيماً، فاشكر الله على عطيته، واصبر على رزيته، واكتفي[207] به في نزول بليته، واساله المعونه على توليته.

فبينما عبد الله بن همام يخاطبه، أُدخِل عليه الضحاك بن قيس فوقف بين يديه، وقال له: السلام[208] يا أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين، أصبحتَ خليفه، وورثتَ خليفه، فآجرك الله على الرزيه التي لا شيء أفضع[209] منها، وبارك لك في الموهبه التي لا شيء أفضل منها، وأعانك على الرعيه التي لا يكون أطوع منها. ثُمّ أنشأ يقول:

اصبر يزيد فقد فارقت ذايقة[210]
 واشكر حيا
[211] الذي بالملك أصفاك
لا زر واعلم
[212] والأقوام قد علموا
 ممّا رُزِيتَ ولا عقبا
[213] لعقباكا
وفي معاوية الماضي
[214] لنا خلف
 إذا بقيتَ فلم نسمع بميقاكا
أصبحتَ والي جميع الخلق كلِّهم
 وأنت ترعاهموا والله يرعاك
[215]

 

فعند ذلك تبسّم يزيد بن معاويه، وجزّاه خيراً، ونهض فرحاً مسروراً، وقد بايعوه[216] الناس عنقاً[217] واحداً[218].

4ـ قال أبو مخنف: وكان والي المدينه يومئذ مروان بن الحكم[219] فعزله
يزيد
[220] وولى مكانه الوليد بن عتبه[221] وولي مكه عمر بن سعد[222] بن العاص[223] وولي
الكوفه النعمان بن بشير[224] وولى الريّ[225] عمر بن سعد
[226] وولى عبيد الله بن زياد[227] البصره.

 وأمر جميع هؤلا أن يأخذوا البيعه على كافّة الناس فبايعوه[228] جميع الناس والبلاد ما خلى[229] الكوفه والمدينه فإنّهم لم يبايعوه، فكتب إلى عامله بالمدينه أعني الوليد ابن عتبه: أمّا بعد يا أبا محمد إذا قرأتَ كتابي هذا فخذ البيعه على جميع مَن قِبلك عامّه وعلى هاولاي[230] الأربعه خاصّه[231]، وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) فمن أطاع وبايع وإلّا فضرب[232] عنقه، وأنفذ برأسه مع جواب كتابي هذا. والسلام عليك.

ثُمّ طوى الكتاب ودفعه إلى يزيد العامري بن لؤي[233]، فأخذه وسار
مجدّاً[234] من وقته وساعته حتى ورد المدينه، وكان قدومه لعشر خلون من شعبان[235]. وسلّم الكتاب إلى الوليد ابن عتبه فأخذه وفضّه[236] وقراه
[237] وفهم معناه، أنفذ[238] من وقته وساعته. واستدعا[239] بمروان بن الحكم، ـ وكان قد ولّاه؛ لأنّه كان أميراً قبله على المدينه. ومنهم مَن قال إنّه كان أميراً بدمشق ـ فلمّا رآه رفع مكانه وأكرمه، ثُمّ قرأ عليه كتاب يزيد، وما قاله في حقّ البيعه من هولا الأربعه، وما قد أمره به فيهم، وشاوره فيما يفعله فيهم. فقال له مروان: إنّ الرأي عندي أن تنفذ إليهم في ساعتك وتحضرهم عندك، فإذا صاروا في قبضتك تأخذ البيعه عليهم قبل أن يبلغهم أنّ معاويه قد مات، فلا نأمنهم أن يأخذ كلّ واحد منهم الرياسه لنفسه[240].

5ـ قال أبو مخنف: فأرسل الوليد إليهم ليلاً، وقال لهم بايعوا أمير المؤمنين
يزيد بن معاويه؛ فإنّ معاوية قد قضى نحبه، وقد بايع كافّة الناس ليزيد. فقال له مولاي الحسين×: ـ وكانوا مجتمعين عند قبر رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ـ يا هذا لما
[241] أقبح ما تريد بنا؛ نبايعك ليلاً! ولكن أجمل من هذا أن نبايعك نهاراً جهاراً، ويبايع الناس، ولا يختلف أحداً[242]، فعاد الرسول وأخبر الوليد بذلك، ـ وكان الوليد فتاً[243] حيياً ـ فرجا[244] أن يفعلا ذلك، فأمسك عنهما، فقال له مروان: الري[245] أن تنفذ إليهم، وتلزمهم ببيعة يزيد؛ فإن فعلا[246] وإلاّ فاضرب أعناقهم، ولا تخرهم[247] من ساعة إلى ساعه، وامتثل فيهم أمر صاحبك. فقال له الوليد: ويحك أضرب رقام[248] قوم سامعين غير عاصين، مطيعين غير مخالفين ولا عصاه! فلمّا أضجوا[249] طلبهم فلم يقف لهم على أثر ولا أعطى لهم أحد اخبر[250][251].

6ـ قال صاحب الحديث[252]: ثُمّ إنّ القوم توجّهوا من وقتهم وساعتهم إلى مكه[253]. فلمّا صاروا في بعض الطريق التقى بهم عبد الله بن عمر؛ لأنّه لم يحضر بالمدينه، فقال لهم: ارجعوا ولا تفارقوا جماعه المسلمين. فقالوا له: إنّ معاويه قد مات، وقد ولى الأمر من بعده يزيد ابنه، ولسنا نرجع ونحن متّجهين[254] إلى مكه؛ لننظر ما يكون من الأمر، ثُمّ مضوا. وأقبل عبد الله بن عمر فقدم المدينه من يومه، فأقام بها ينظر ما يكون من الأمر حتى جاته الأخبار من ساير الأمصار بأنّ الناس جميعهم بايعوا ليزيد، فعند ذلك تقدّم عبد الله بن عمر فبايعه[255] ليزيد[256].

قال عبد الله بن عباس[257] وجابر بن عبد الله الأنصاري[258] رضي الله عنهما قالا: ولم يُرَ لبيعه بن عمر؛ وذلك أنّه قال: اللّهم إذ كان ذلك خيراً فأنا رضيٌّ[259] به، وإن كان شراً فإنّي كاره له صابر عليه بايع[260]. وبايع عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله المقدّم ذكره، والمسوم[261] بن محزومه[262].

[دخول الإمام الحسين وأهل بيته^ على الوليد]

7ـ وفي رواية أخرى: أنّه لما جأ[263] رسول الوليد، وهم مجتمعين[264] عند قبر رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) نظر إليه مولاي الحسين (رضي الله عنه) مقبل[265] عليهم، فتبسم ضاحكاً وقال لمن حضره: لا شكّ أنّ معاويه قد قضى نحبه، وقد غلب يزيد على الأمر. وهذا رسوله إليكم من قِبل الوليد لتبايعوا، فما أنتم قايلون[266]؟ فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر[267]: أمّا أنا فأُخل[268] داري وأُغلق بابي. وقال عبد الله بن عمر: أمّا أنا فأُقبل على قراءة القرآن ولزوم ولزوم[269] المحراب وقا[270] عبد الله بن الزبير: أمّا أنا فلا أسمع ولا أطيع ولا أبايع يزيد أبداً.

وقال الحسين×: وأمّا أنا فلا بد ما أدخل[271] على الوليد وأناظره، وأطلب حقي منه. ثُمّ نهض الحسين× في أهل بيته ومواليه، وأقبل مع رسول الوليد إلى الباب. فأوقف من كان معه على الباب، وقال لهم: إذا أنا دخلتُ عليه وخاطبتُه وناظرتُه، وسمعتم الزعقات وقد علت، والضجه وقد ارتفعت، فاهجموا عليّ واستنقذوني من القوم. فقالوا له: حبّاً وكرامه، ثُمّ إنّه دخل إلى الدار، ونظر إلى مروان جالساً إلى جانب الوليد وهو يحادثه، فسلّم عليهما، فردّوا عليه السلام، ونهض له الوليد فجلس بينهما. ثُمّ قال له الحسين×: لِمَ ذا استدعيتَني؟ فقال: تبايع يزيد بن معاويه رمى[272] له كتاب يزيد، فقراه الحسين× حتى أتى على آخره ثُمّ جلد[273] به الأرض، فقال: ما كنتُ أبايع لزيد قط، ولا أطيع له. فقاله[274] مروان: تبايع أمير المؤمنين. فقال الحسين×: كذبتَ ويلك يا بن الزرقا[275]، يا طريد رسول الله، وإنّك لتعلم أنّك كاذباً[276] في قولك؛ نحن المؤمنون فمن أمرّه علينا؟! فعند ذلك وثب مروان وجرّد سيفه، ودفعه إلى الوليد، فقال له: حتى ما أصنع؟ فقال له مروان: تدفعه إلى سيّافك وتأمره أن يضرب عنق الحسين بن فاطمه، وتمتثل فيه أمر صاحبك. فقال له الوليد: ويكون جدّه وأبوه خصماي[277] يوم القيامه! فأقبل الحسين× على مروان وقال: ويلي[278] عليك يا بن الزرقا والله لا كان ذلك[279] حتى يكون هنات وهنات[280]، وتذهب نفوس وتطير راوس[281]. وعلى[282] كلامهما، فسمعوه أهلهم[283] ضجتهم[284]، فكان أوّل مَن جرّد
سيفه ـ وهجم عليهم الدار ـ علي بن الحسين الأكبر
[285]، وعلي الأصغر[286] والعباس[287] ويحيى بن علي[288] وأبو[289] بكر بن علي[290] وإبراهيم بن علي[291] وحمزه بن علي[292] وجعفر بن
 علي[293] وعمر الأصغر بن علي[294] ومطهر بن علي[295] والقاسم بن الحسن بن
علي[296] ومحمد بن عبد الله بن جعفر الطيار[297] وعون بن عبد الله بن جعفر الطيار
[298]
ومحمد بن الحسن[299] وعبد الله بن الحسن[300] ومسلم بن عقيل[301] وعبد الله بن عقيل[302] وعبد الرحمن بن عقيل[303] ومحمد بن عقيل[304] (سلام الله عليهم أجمعين)[305]، فهجموا
عليهم وهمّوا بأن يضعوا سيوفهم فسكّنهم[306] الحسين× وحبسهم[307] عما عزموا عليه، وقال لهم مهلاً فإنّا أهل بيت نحسن لمن يسي
[308] إلينا. ثُمّ خرجوا عن الدار، فقال مروان: والله إذا خالفتَ أمري ليطولَنَّ عليك ما تراه مرة أخرى، ولم تقتله وتدعه حتى تقوى شوكته. وجعل يسفّه رأيه كمنفٍ[309] لمن يقتله. فقال له الوليد: ويحك، والله ما أردتَ بي إلّا ما تذهب بديني ودنياي وآخرتي، وتبقى لي في المخازي ذكراً مويداً لا يفنا وأبؤا[310] بغضب من الله.

 [خروج الإمام الحسين× إلى مكة]

وبلغ بن الزبير ما جرى للحسين× مع الوليد فرحل فلحق بمكه، وأقام بها. وكان يجلس للقضا والحكم ثُمّ لحق به مولا[311] الحسين× ومعه أهله ومواليه وبنوا[312] عمه[313]. وبلغ الناس قدوم الحسين مكه فأقبلوا يهرعون[314] إليه من كلّ جانب وفج[315] وواد. وكان الحسين× يجلس في مجلس وابن الزبير في مجلس[316].

8ـ قال أبو مخنف: وبلغ يزيد نزول الحسين× وعبد الله ابن الزبير مكه فصعب عليه، ثُمّ استدعا[317] بدواة وبيضا[318] وكتب إلى عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) كتاب[319] وهو فيه[320]: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمّا بعد فإنّ عمك[321] حسين وبن الزبير التويا[322] عن بيعتي ولم يطيعا، مرصدي الفتنه معرض[323] أنفسهما للهلكه، فأمّا بن
 الزبير فإنّه إن خالفنا قتلناه، وأمّا حسيناً
[324] فقد أحببتُ أن أعتذر إليكم أهل البيت فيما كان منه؛ فإنّه قد بلغني أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبهم ويكاتبونه، ويمنيهم الإمارة ويمنونه الخلافه. وقد تعلمون ما بيننا وبينكم من القرابه ونتايج[325] الأرحام وعظيم الحرمه وقد قطع ذلك حسيناً[326] وبثه[327]، وأنت زعيم أهل بيتك وسيد بلادك ولا حافر لأحد مراده، فكم حافر أراد غيره فوقع فيه. فاتقى[328] الله في أهل بيت نبيك (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وكم آمل لم يدركه، وكم راجٍ طول عمره وسعة أجله فبينما هو كذلك إذ أتاه أجله بانقضا[329] أمله وبت عمره وأنف كأس[330] دهره وخرجه[331] عن سلطانه إلى سلطان الله وقدرته. فاقبل ما أقول لك من النصيحه، واتق الله في دماً[332] هذه الأمه، وخذ بحظك من الصلاه والركوع والسجود والصيام في آنأ[333] الليل ويناسير[334] النهار، ولا يشغلنّك عن ذات الله شاغل؛ فإنّ ملاذ الدّنيا يفنى ويزول، وكل ما عملتَ من التقوى تبقى فاجمع همّك فيما يرضى ربك يكفيك[335] فيما أهمّك، ولا تُرضِى[336] المخلوقين بسخط الخالق. وانظر حسيناً ولا تعجل لعلّ الله أن يجمع شملاً ويَشْعَب صَدْعاً[337] ويسلم[338] شعثاً، واكتب إليّ بكلما[339] يحدّث قلبك من حاجة، والسلام. هذا ما كان من أمر يزيد[340].

[مكاتبة أهل الكوفة للإمام الحسين×]

9ـ قال أبو مخنف: وبلغ أهل الكوفه موت معاويه، ومسير الحسين× من المدينه إلى مكه، وما جرى له مع الوليد بن عتبه بالمدينه[341].

 10ـ قال أبو مخنف: فلم يزالوا[342] أهل الكوفه في هرج ومرج[343]، ومشاوره حتى اجتمعوا بسيّدهم ورايسهم[344] هاني بن عروه المدحجي[345] (رضي الله عنه)، وقالوا: يا أبا الدّيان اعلم أنّ صاحب هولا القوم قد مات ـ يعنون به معاويه ـ قد[346] وَلى الأمر من بعده يزيد ابنه، وقد قصدناك لتشير علينا فيما نفعله برأيك؟ فقال لهما[347]: الرأي عندي أن تكتبوا إلى سيدكم وبن سيدكم الحسين بن علي (صلوات الله عليهم وسلامه)، وتكون الكتب كلّها على لسان رجل واحد، وتسيلونه[348] القدوم عليكم، والمصير إليكم. فعند ذلك اجتمعوا راوسا[349] الكوفه جميعهم، وكتبوا إلى الحسين× كتاباً يقولون فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد يا بن محمد المصطفى وعلي المرتضى أقدم علينا وسير[350] إلينا؛ يكون لك ما لنا، وعليك ما علينا، فإنّ لك الوفا بذمتنا، وعهد الله لك في أعناقنا أن نذب[351] عنك بأسيافنا، ونطعن برماحنا ونجاهد بين يديك بمجهودنا، واحكم فينا بحكم جدّك (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فإنّا بذلك راضون وبه مؤمنون. واعلم يا أبا عبد الله أنّك تقدِم على جنود مجنّده، وأعوان على طاعتك متآلفه. وإن تقدر على مجيك[352] فابعث إلينا مَن ترتضيه من أهل بيتك، يحكم فينا بالحكم الذي أنزله الله} على جدّك (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وأبوك[353]×، العجل العجل الوحا الوحا[354] الله الله.

ولم تزل الكتب منهم تتواتر، والرسل تتبادر حتى ورد إليه في تلك السنه[355].

11ـ في روايه أبي عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن حنبل[356] (رضي الله عنه) ـ قال بإسناد يرفعه إلى الزبير بن الحرث ـ قال: حدثني غالب بن همام الفرزدق[357]، قال: لقيتُ الحسين بن علي× بذات عِرق[358] حين توجّه إلى الكوفه فقال له: إنّ معي حمل بعير من كتبهم.

[إرسال مسلم بن عقيل× إلى الكوفة]

فلمّا تواترت الكُتب إلى الحسين× استدعا[359] بن عمر بن مسلم بن عقيل[360] (رضي الله عنه) وقال له: اعلم أنّ كتب هولا القوم قد تواترت عليّ بسبب المصير إليهم[361]، وأنّي لاستحي من الله أن أقعد عن نصرة قوم قد استنصروني، وقد رأيتُ من الرأي أن أنفذك إليهم لتأخذ البيعه عليهم، وتنتظر مَن يبايع ومَن يمتنع، فإذا بايعك الناس فاكتب إليَّ حتى أصير إليك. ثم كتب معه وما[362] أراد، واستدعا دليلان[363] يدلّانِه الطريق.

12ـ قال عبد الله أحمد[364] بن حنبل (رضي الله عنه): فاستقبل مسلم طريقه الأدلا[365] فضلّوا طريقهما وأصابهما عطشاً شديداً[366]، فمات أحدهما ووقع الآخر على الجاده[367] ومكثا يومان[368] لم يطعما شياً[369] فاستدعا مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) بدواه وقرطاس وكتب إلى الحسين×: أمّا بعد يا سيدي، اعلم أنّ الأدلا غلطا الطريق فمات أحدهما عطشاً، ووجد الآخر طريقه. فإذا قرأتَ كتابي فاعفني من هذا المسير فإنّا قد بقينا يومان[370] لم نطعم فيهما شياً لا من طعام ولا من شراب. ثُمّ دفع الكتاب إلى قوم طالبين[371] مكه، وقال لهم: سلّموا هذا الكتاب إلى الحسين×. فأخذوا[372] القوم الكتاب وساروا، فلمّا وصلوا إلى مكة سلّموا الكتاب إلى الحسين×. فأخذ الحسين وفضّه وقراه وفهم معناه، ثُمّ كتب إلى مسلم كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد يا بن العَمّ فإنّي أخبرك أنّي سمعتُ جدّي رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: ما فينا من تطيّر[373] ولا من يُتطيّر به[374]. فإذا قرأتَ كتابي هذا فسر على اسم الله تعالى لما أمرتُك به، والسلام.

[دخول مسلم بن عقيل× الكوفة]

ومكث مسلم مكانه يومين حتى عاد له جواب الحسين إليه[375] فلمّا قراه سار من وقته وساعته مجدّاً حتى قدم الكوفه[376].

وأقبل إلى دار سليمان بن صرد الخزاعي[377].

في[378] رواية أخرى حتى دخل الكوفة ليلاً فنزل دار المُختار بن
عبد الله
[379] الثّقفي (رضي الله عنه)[380] فجعل الناس يختلفون إليه، وقرا عليهم كتاب الحسين×[381] فقام عابس بن أبي حبيب البكري[382] فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وقال: يا بن عم رسول الله إنّي لستُ أعلم بما في قلوب الناس، ولكنّي أخبرك بما في نفسي، وإنّي إذا دعوتَني أجبتُك، وإذا أمرتَني أطعتُك، وأجاهد بنفسي بين يديك حتى ألقا[383] الله تعالى. ثُمّ جلس فقام من بعده حبيب بن مُظاهر[384] (رضي الله عنه)، فقال: يرحمك الله قد قضيتَ ما أوجب عليك، وإنّا ـ والله ـ على مثل ما ذكرتَ[385]، وجعل أهل الكوفه يدخُلون عليه عشـره عشـره وعشـرين عشـرين، وأقلّ وأكثر، ويبايعونه. فبايعه في ذلك اليوم من أوله إلى آخره ثمانون ألف رجل[386].

قال[387]: وبلغ ذلك النّعمان بن بشير ـ وكان خليفة يزيد على الكوفه ـ فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وقال: معاشر الناس، إنّي والله لا أقاتل من لا يُقاتلُني، ولا أثب على مَن لا يثب عليّ إليَّ[388]، واحذروا الفتنه وشقّ العصاه[389] على السلطان؛ فإنّه والله إن صحّ عندي ذلك أحد[390] منكم لأضربَنَّ عُنُقه، ولو لم يكن لي ناصرٌ ولا ولا[391] معينٌ. فقام إليه عبد الله بن شُعبه الحضرمي[392]، وقال له: أيّها الأمير إنّ هذا الأمر لا يتم الاّ بالقهر وسفك الدّما، وهذا الذي تكلّمتَ به كلام المستضعفين في ذات الله. ولا أكون من الظالمين[393]، ثُمّ نزل من على المنبر، وخرج عبد الله بن شُعبة (لعنه الله)، فكتب إلى يزيد كتاباً يقول فيه: من عبد الله بن شُعبه إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاويه، أمّا بعد فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم إلى الكوفه، وقد بايعه شيعة الحسين×. فإن كان لك في الكوفه حاجه فانفذ إليها رجُلاً قوياً، فإنّ النّعمان ضعيف[394]. ثُمّ كتب له عمر بن سعد (لعنه الله) بمثل ذلك[395].

[سرجون كاتب يزيد]

قال: فلمّا اجتمعت الكتب عند يزيد فدعا مولا[396] له يقال له: سَرحُون[397] فقال له: أمَا تنظر إلى حسين بن علي كيف قد أنفذ إلى العراق بن عمّه مسلم بن عقيل، وهو بايع أهل الكوفه. وقد بلغني أنّ النّعمان بن بشير ضعيف فيهم. ثُمّ قرا عليه الكتب الذي[398] جات من عند أهل الكوفه، وقال له: ما عندك من الرّأي؟ فأشار عليه بتوليه عبيد الله بن زياد، وعزل النّعمان بن بشير، ففعل ذلك، وضمّ إليه  المصريين[399] من الكوفه كتبوا إلىَّ يخبروني[400] بأنّ مسلم بن عقيل بالكوفة يجمع الناس ويبايعهم للحسين× وقد نقضت كنانتي[401]، فلم أجد فيها سهماً أرمي به عدوّي أجرى[402] منك، فإذا قراتَ كتابي هذا فارتحل من وقتك وساعتك إلى الكوفه، ولا تدع من نسل علي بن أبي طالب أحداً. واطلُب مسلم بن عقيل فاقتُلهُ وابعث لي به، والسلام.

ودفع الكتاب إلى مسلم بن عمر الباهلي[403]، وقال له: سِر إلى البصره، وادفع هذا الكتاب إلى بن زياد فلمّا أتاه وقراه تاهّب[404] للسير إلى الكوفة[405].

[دخول رسول الإمام الحسين× إلى البصرة]

فبينما هو كذلك إذ قَدِمَ عليه رسول[406] من الحسين إلى روسا[407] البصره والأشراف منهم يدعُوهُم إلى نصرته والجهاد بين يديه، منهُم: الأحنف بن قيس التميمي[408]
وعبد الله بن عمر
[409] والمنذر بن الجارود[410] ومسعود بن عمر الأسدي[411]
وعمر بن عبد الله القرشي[412] وقيس بن القاسم بن حباب[413] وغيرهم بنُسخةٍ واحده، يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى شيعته ومواليه من أهل البصره، أمّا بعد فإنّ الله تعالى اصطفى محمداً (صلى الله عليه [وآله] وسلم) على جميع خليقه[414] واكرمهُ بنُبُوّته وحباهُ برسالته ثُمّ قبضه إليه[415] (فصلاة الله وسلامه)
[416]، وقد نصح لعباده وبلّغ ما أُرسِل به في جميع البلاد، وكان أهله وأولياوه وأصفياه[417] وذريته أحقّ الناس بمقامه من بعده. وقد  تأمّر[418] قوم علينا من بعده فسلّمنا ورضينا كراهية الشرّ وطلب الخير، ونحن أحقّ بذلك ممّن تولا[419] علينا ظلماً وعدواناً. وقد بعثتُ إليكم كتابي هذا وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة رسول الله، فإن سمعتم قولي، واتّبعتم أمري أهديكم[420] إلى سبيل الرّشاد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[421].

قال: فلم يبق أحدٌ من الأشراف ممّن قرا الكتاب إلاّ وكتمه، ما خلا المنذر بن الجارود، وكانت بنتُهُ تحت عبيد الله بن زياد (لعنه الله)، وكان اسمه[422] الرسول ذراعاً، وكان أخاً للحسين من الرضاع[423] فلما قرأ ابن زياد كتاب الحسين× أمر بالرسول فضُرِبت عُنُقه، وصُلِب على بيت المال في محلة بني سدوس[424]، وكان ذراع أوّل رسول قُتِل في الإسلام[425].

[خروج ابن زياد إلى الكوفة]

ثُمّ إنّ بن زياد (لعنه الله تع[426]) صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه[427] ثُمّ قال: يا أهل البصره، فإنّ الخليفه يزيد بن معاويه قد ولاّني الكُوفه، وقد عزمتُ على المسير إليها، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان[428]، فاسمعوا قوله، وأطيعوا أمره، واحذروا مخالفته. وإياكم والزخارف[429] والخلاف، فوالله لإن[430] بلغني أنّ رجلاً منكم خالف أمره لاقتلنّ عزيزه ووليّه، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى، والأصغر بالأكبر، والشاهد بالغايب، والجار بالجار، حتى تستقيموا ولا تكونوا فتنة أبداً[431].

ثُمّ خرج من البصره يريد الكوفه[432] ومعه عشيرتُهُ ومواليه وأشراف أهل البصره منُهم مسلم بن عمر الباهلي والمنذر بن الجارود العبدي وشريك بن الأعور الحارثي[433].

[دخول ابن زياد الكوفة]

وسار حتى دخل الكوفه وكان دُخُولُه ممّا يلي البرّ وعليه ثياب بيض، وعمامه سودا مُلثمّاً كلثمام[434] الحسين×، وهو راكب بغلةً شهبا، وبيده قضيب خيزران متشبهاً بالحسين×. وكان قُدومُه يوم الجمعة وقت انصراف الناس عن الصلاه، وهم يتوقّعون قُدوم الحسين×، فجعل لا يمُرّ على ملاء[435] إلّا ويُسلّم عليهم بالقضيب، وهم يردّون عليه السلام، ويقولون له: السلام عليك يا بن رسول الله، ولا يشكُون إلّا أنّه الحسين وهو على بغلة رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم).

 قال: فلمّا رأى بن زياد (لعنه الله) تباشر الناس بالحسين ساه[436] ذلك وعظم عليه وكبر لديه، فلمّا قرب من قصر الإمارة قال مسلم بن عمر: تأخّروا عن الأمير عبيد الله بن زياد، فما هو طَلِبتكُم[437]. فانكشفوا من ورايه[438]، وأشرف عليه النّعمان بن بشير من أعلا القصر، وهو يظُنُّ أنّه الحسين قد سبق إلى الكوفه، فكشف بن زياد لثامه، وقال: يا نعمان، حصّنتَ نفسك، وضيّعتَ مصيرك[439].

ثُمّ نادى في الناس الصلاه جامعه ففعل ذلك واجتمع خلق كثير فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وقال: يا أهل الكوفه هل تعرفوني؟ قالوا: نعم أنت الحسين بن علي بن أبي طالب. قال: ما أنا الحسين، بل أنا عبيد الله بن زياد[440]، سيف أمير المؤمنين يزيد بن معاويه، وقد ولاّني عليكم، وأمرني إنصاف المظلوم من الظالم، وإعطا[441] المحروم، والإحسان إلى محسنكم، والتجاوز عن مسيكم[442]، وأنا مُتّبع بكم أمره[443].

ثُمّ نزل من على المنبر وأمر مُناديه أن ينادي في قبايل[444] العرب بالكوفه أن يلمّوا[445] على بيعة يزيد بن معاويه من قبل أن يبعث إليكُم من الشّام رجالاً يقتلون رجالكم ويذبحون أطفالكم ويستحيون نساكم[446].

فلمّا[447] سمع أهل الكوفه ذلك منه جعل بعضهم ينظر إلى بعض، وقالوا: والله ما لنا بطاقه[448]، وما لنا وللدّخول بين السّلاطين. فنقضوا بيعة الحسين×، وبايعوا يزيد بن معاويه بغير درهم ولا دينار[449].

[ما جرى لمسلم بن عقيل× في الكوفة]

قال[450]: وكان مسلم بن عقيل قد أصبح في ذلك اليوم متوعكاً[451] لم يخرج إلى الصلاه فلمّا كان وقت الظُّهر خرج إلى باب المسجد فأذّن وأقام الصلاه وحدهُ ولم يصلى[452]
معه أحد منهم[453] أهل الكوفه، وقد كان بايعه منهم في يوم واحد ثمانون ألف رجل[454] فلمّا فرغ من الصلاة فإذا هو بغُلام، فقال له: يا غلام ما فعلوا أهل الكوفه[455]؟ فقال له: يا سيّدي إنّهم نقضوا بيعة الحسين× وبايعوا يزيد فلمّا سمع مسلم ذلك صفق يداً على يدٍ، وجعل يخترق الشوارع والدرُوب[456] حتى وصل إلى محلّه بني خُزيمه
[457] وهم الصَيارِفُ[458] فوقف بجانب باب شاهق[459] ينظر إليه. فخرجت إليه من الدار جارية سودا، فقالت له: يا فتا[460] ما لك واقف بباب هذه الدار؟ فقال لها: هي لمَن؟ قالت له: لهاني بن عروه المدحجي، فعرفه مسلم، فقال لها: يا جاريه ادخلي عليه وقُولي له: رجل من أهل البيت، فإن سألكِ عن اسمي فقولي له: اسمه مسلم بن عقيل. فدخلت الجاريه وخرجت إليه، وقالت له: ادخل يا مولاي، فدخل مسلم، وكان هاني مريضاً، فنهض ليعتنقه، فلم يطق النهوض، وجلسا ليتحدثان[461]، حتى جرى في حديثهما إلى عبيد الله بن زياد (لعنه الله). فقال هاني: يا أخي اعلم أنّه صديق لي، ويصله أنّي مريض فيركب ويأتيني يعودني، فخذ أنت هذا السيف وادخل بهذا المخدع[462]، فإن جلس هو، ودونك[463] فاقتله. واحذر أن يفوتك، وإن أنت لم تقتله قتلك. والعلامة بيني وبينك أن أقلع[464] عمامتي من على راسي، وأضعها على الأرض؛ فإذا رأيت ذلك فاقتله. فقال مسلم: أنا أفعل ذلك إن شا الله تعالى.

[زيارة ابن زياد لهانئ بن عروة&]

ثُمّ إنّ هاني بن عروه أرسل إلى ابن زياد ويستجفيه[465] كيف لم يعهده! فاعتذر إليه، وقال: والله ما علمتُ بمرضك، وأنا رايح[466] إليك العشيّه إن شا الله تعالى.

 قال: فلمّا صلّى العصر[467] ركب فرسه، وأقبل وأقبل[468] إلى هاني يعُودُه، ومعه حاجبه، فقيل لهاني: إنّ ابن زياد بالباب يريد الدّخول إليك. فقال لجاريته: ادفعي السّيف إلى مسلم، فدفعته إليه، فأخذه ودخل المخدَع، ودخل عبيد الله بن زياد، ومعه حاجبه على بن هاني[469]، وجلس إلى جانبه، وجعل يحُادثُه ويسأله عن حالته وعلّته. وهاني لا يشكوا[470] إليه، وهو مع ذلك يستبطي مسلم[471] في خروجه، فقلع عمامته عن راسه ووضعها على الأرض، ورفعها من الأرض ووضعها على رأسه، ولم يزل يفعل ذلك ثلاث مرّات، ومسلم في موضعه لم يخرج. فرجع يرفع صوته كأنّه يهذي[472]؛ ليسمع مسلم[473] ما يقول ويتمثّل بهذا الشعر يقول:


ما الانتظار لمسلما[474] لا يحُييها
حيّوا سُليما ويحيّوا
[475] من يُحيّيها
هل شربةٌ عذبةٌ أُسقى على
ظَمإ[476]
 ولو تَلفِتُ وكانت مُنيتي فيها
[477]

وجعل يردّدها وبن زياد لا يفطن ويسمع التهديد. فلمّا كثُر ذلك عليه، فقال: ما شان الشيخ أراد[478] يهذي؟ فقيل له: أيها الأمير من شدّة المرض. ثم إنّ ابن زياد خرج من عنده، وركب فرسه، وأتا[479] قصره. وخرج مسلم بن عقيل بعد ذلك، فقال له هاني: يا سبحان الله! ما الذي منعك عن قتله؟ فوالله لم تظهر[480] به بعد هذا اليوم أبداً.

فقال: منعني عن ذلك خبر سمعتُه عن أمير المؤمنين[481] قال: لا يمان[482] لمن يقتل مسلماً أو مؤمناً[483]. فقال له هاني: أما والله، لو قتلتَه لقتلتَ فاجراً كفاراً[484]، ولكن خشيتَ أن تُقتَلَ به[485].

 [تجسس معقل الشامي على مسلم×]

ثم إنّ بن زياد (لعنه الله) دعا مولا[486] له يقال له معقل[487]، وكان داهية دهيه، فأعطاه ثلاثه آلاف دينار[488] وقال له: أريدك تدور في الكوفه، وتسال عن مسلم بن عقيل وأصحابه، وتستانس[489] لهم، وتعطيهم هذه الدنانير، وتقول لهم: استعينوا بها على حرب عدوِّكم، وتعلمهم أنّك من أصحابهم وأنصارهم وشيعتهم؛ فإنّك إذا فعلتَ ذلك اطمانّوا إليك، ووثقوا بك، ولم يكتمونك[490] شياً من أمورهم، ثم تغدوا[491] وتروح إليهم، وتعدوا[492] إلىَّ بالخبر. ففعل معقل ذلك، وخرج يدور في دروب الكوفه، ويجلس في المجالس والمحافل ويصلي في المساجد ويتجسّس الأخبار، ويقفوا[493] الآثار، حتى وقع على مسلم بن عوسجه الأسدي[494]، وكان صاحباً لمسلم بن عقيل (رضي الله عنه)، وهو يصلي في المسجد، فجلس حتى فرغ من صلاته، ثم قام إليه وسلم عليه، واعتنقه، وأظهر له شرفه وإعظامه وإجلاله وإكرامه، وقال له: يا أبا عبد الله[495]، اعلم رجل من[496] أهل الشّام، وقد أنعم الله عليّ بحبّ أهل البيت، وبحبّ من يحبّهم، ومعي ثلاثة آلاف دينار، وقد أحببتُ أن ألقى هذا الرجل الذي قد قدم إلى الكوفه يبايع الناس لابن بنت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، ولستُ أعرف مكانه، وأحبّ أن تدخلني عليه، وتوقني[497] بين يديه، فأنا ثقة من ثقاته، وعندي كتمان أمره والنصره له على عدوه.

فقال له مسلم بن عوسجه: يا أبا عبد الله، لقد سمعتُ منك ما لا أحبّ سماعه، وما لنا وأهل البيت؟! أعرض أعرض[498] عن هذا الكلام[499]. فقال معقل: يا أبا عبد الله لستُ ممّن تكره، ولقد أُرشِدتُ إليك فلا تقطع بي مما طلبتُ. وإن كنتَ لا تثق بي فخذ عليّ العهود والمواثيق بما تريد. فلمّا سمع كلامه صدّقه، ثُمّ قال له: أن تحلف لي يميناً: إن فويتَ[500] نجوتَ، وإن نكثتَ هلكتَ. فقال له: دونك وما تريد. فاستحلفه، وأخذ عليه إيماناً موكده[501]، ولم  يزل يختلف إليه بكره وعشيه، حتى أدخله عليه، يعني على مسلم بن عقيل، ثُمّ أخبره بجميع خبره من أوله إلى آخره، فوثق به مسلم، وأخذ ببيعته. وأخذ أبو ثمامه الصيداوي[502] المال منه، وكان هو الذي يقبض المال الذي تخرجه الشيعه؛ ليستعين به على يزيد، وهو الذي يشتري السلاح والعده، وكان فارساً من الفرسان[503]، وصار داخلاً وخارجاً، وهو مع ذلك يسمع أخبارهم، ويأخذ أسرارهم وينطلق بها إلى بن زياد[504].

[ما جرى على هانئ بن عروة]

 فلمّا صح عنده ذلك بمحمد[505] بن الأشعث الكندي[506]، وأسما[507] بن خارجه الفزاري[508]، وعمر بن الحجاج الديبا[509]، وكانت بنت عمر بن الحجاج[510] تحت هاني بن عروه، فانطلقوا إليه فوجدوه عرضت له إليك، وقد أمرنا بحضورك، فقام مع القوم[511] حتى إذا دنى[512] من القصر حسّت نفسه ببعض ما كانت[513] تنويه[514]، فقال لأسما بنت[515] خارجه: إنّي خايف من هذا الرجل، ونفسي تحدّثني بما أكرهه. فقال له: والله يا أخي[516] ما أتخوّف عليك منه شياً، وسار معه حتى دخل على بن زياد. فلمّا رآه بن زياد أعرض عنه، وكان يكرهه فأنكر هاني أمره عند ذلك[517].

ثُمّ إنّ هاني[518] سلم عليه فلم يردّ عليه السلام. فقال له: ماذا أصلح الله الأمير؟ فقال له: يا هاني خبيت[519] مسلم بن عقيل في ذلك[520]، وجمعتَ له الرجال والسلاح، وظننتَ أنّه يخفى علينا، فقال: معاذ الله! فقال: معاذ الله[521] أيّها الأمير أن أفعل ذلك. فقال بن زياد: قد فعلتَ ذلك، وأنّ الذي أخبرني به لأصدق عندي منك. ثم قال: يا معقل، اخرُج فكذّبه. فخرج معقل، فقال: مرحباً بك يا هاني أتعرفني؟ فقال: نعم أعرفك فاجراً كاذباً كافراً. ثُمّ علم هاني عند ذلك أنّه كان عيناً لابن زياد (لعنه الله)، وأنّه أخبره بجميع بما[522] كانوا عليه. ثم إنّ بن زياد قال لهاني: والله، لا أفارقك أو تأتيني بمسلم بن عقيل. قال: فغضب هاني من كلامه،
وقال: إذاً والله لا تقدر على ذلك أو تهرق سيوف مدحج
[523] دمَك. فغضب بن زياد من كلامه وضرب وجهه بقضيب كان معه، فضرب هاني بيده إلى قايم سيفه وأهوى به على بن زياد فجرحه جرحاً منكراً فاعترضه معقل بالسيف هاني[524] فقطع نصف وجهه، فنادى بن زياد: ويلكم خذوه على راوس[525] الرماح، وشفار[526] الصفاح[527]. فداروا من حوله، فجعل يقاتل فيهم حتى قتل منهم اثنى عشر رجلاً، وهو يقول: والله لولا[528] أنّ رجلي على طفل من آل محمد لما رفعتُها عنه حتى حتى[529] تقطع[530].

قال: وكان سيف صارم لا يعلوا[531] به أحد فيعود إليه، فتكاثروا[532] عليه الرجال، وداروا[533] من حوله الأبطال، فضرب فيهم حتى اتقطع[534] السيف وجرح أكثرهم، فحملوا عليه حملة واحدة، فأخذوه أسيراً، وأوثقوه كتافاً، وأوقفوه بين يدي عبيد الله بن زياد، وكان بيده عمود من حديد، فضـربه على صفحة جبينه، فقتله (رحمة الله عليه). فأتى الصياح إلى قومه فأتوا إلى قصـر الإماره، وأحاطوا به، فسمع عبيد الله بن زياد الضجه، فقال: ما هذه الجلبه[535]؟ فقالوا له: هذه مدحج قد أقبلت في السلاح من أجل رايسهم[536] وعميدهم هاني بن عروه. فأقبل عبيد الله ابن زياد (لعنه الله) على حاجبه، وقال: اخرج إلى هولا فسكّتهم، فأشرف عليهم من أعلا القصر، وقال: مهلاً يا مدحج فإنّ هاني حياً[537] لم يمت، فلم يصدّقوه، فأخرَج إليهم القاضي شريح[538] فقال لهم: مهلاً مهلاً يا مدحج؛ فإنّ هاني[539] لم يمت، وإنّما اعتقله الأمير لأمر يساله عنه[540].

13ـ وفي روايه أبي[541] عبد الله بن أحمد بن حنبل (رضي الله عنه) أنّه قال: قال وهب بن جرير بن حازم عن أبيه انّه قال: لمّا طلب عبيد الله بن زياد (لعنه[542]) مسلم بن عقيل من هاني بن عروه أنكره ولم يعترف، فقال له عبيد الله: أتحلف بالطلاق والعتاق أنّك ما تعرف له موضع[543] ولم تعلم له علماً؟ فقال هاني (رضي الله عنه): إنّكم ـ بابني[544] زياد ـ لا ترضون إلّا بهذه الأيمان الخبيثه؛ لأنّكم ترجون إلى أديانكم وتتّكلون عليها في معاصيكم ومعادكم، وتنالون لها التاويل. فعند ذلك ضربه بن زياد (لعنه الله) بالعمود. وهو الصحيح[545].

14ـ وفي روايه أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل بإسناد يرفعه
 إلى شيوخه أنّ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) لم يعلم بمستقر مسلم بن عقيل إلّا بحيله عملها ومكيده فعلها؛ وذلك أنّه دفع إلى مولى له ثلاثه آلاف درهم، وأمره
أن يطلب مسلم بن عقيل، وقال له: إذا وصلتَ إليه فقل له: أنا رجل من
أهل حمص، جيتُ في سبب نصره أبي عبد الله الحسين، ومعي مالاً له أستعين به، وأقوّي به إخواني في هذا الأمر، وأريد أدفعه إليك حتى تقوّى ما أنت عليه.
وأخذ الغلام المال، وجعل يستدلّ على الرجل الذي عنده مسلم بن عقيل. وكان عند مسلم بن عوسجه وساله عنه، فقال: مالي به علم ولم يزل يتردّد إليه، ويلج[546] عليه حتى أنس به مسلم بن عوسجه، وأدخله على مسلم فأخذ منه المال
وبايعه. وكان في ذلك اليو[547] قد بايع لمسلم الرفا[548]. وكان في مجلسهم رجل يهودي[549] يزيد بن معاويه، فقال
[550] له عبيد الله الحضرمي، فقام إلى النعمان بن
بشير[551] فقال له: إنّك لضعيف أو مستضعف. فقال: وما ذاك؟ فقال له: إنّك قد أفسدتَ المصير
[552]. فقال له النعمان: أكون ضعيفاً في طاعة الله أحبّ إليَّ من أن أكون قوياً في طاعة المارد اللعين، وما كنتُ لأهتك ما ستره الله.

 [ما جرى على مسلم بن عقيل×]

قال: ثُمّ خرج مِن عند مسلم بن عقيل (رضى الله عنه) فأخبر لابن[553] زياد خبر مسلم بن عقيل بطلبه، فخرج من عنده مسلم بن عوسجه أتى دار رجل من شيعته[554]، وقد تحقّق أنّها مكيده عليه. ثُمّ جمع له أربعة آلاف رجل من أهل الكوفه وعبّاهم[555] قلب[556] وجناحين وميمنهم وميسرهم[557]، وأقبل إلى باب قصره[558] الإماره وكان عبيد الله زياد[559] (لعنه الله) قد أقعد عشاير الكوفه، فجعلوا يكلّمونه وردّدهم[560]، وأصحا[561] مسلم يتسلّلون ويرجعون عنه، الواحد، والخمسه، والعشره، والأقل والأكثر، حتى بقى معه خمس مايه فارس. ثم اختلط الظلام...[562] وتفرّق عنه مَن بقي معه، فعند ذلك أقبل يطلب لنفسه النجاه، حتى أتى دار هاني، وأنفد[563] بن زياد خلف هاني، وساله عن مسلم بن عقيل، فأنكره، فأخرج عند ذلك صاحب الدراهم، فوافقه وجرى على هاني[564].

فهذه الروايات التي ذكرتُها فأحببتُ أنّي لا خل شي[565] منها.

15ـ قال أبو مخنف: ثُمّ إنّ مسلم بن عقيل لمّا عرف ما قد تمّ على هاني خرج هارباً يخترق السكك والشعاب؛ يطلب لنفسه (رضى الله عنه) مخلصاً[566]،
إلى أن خرج عن الكوفه[567] وأتى إلى الِحيرَه[568]. فنظر إلى امرأة
[569] جالسه على باب. فوقف بإزائها ينظر إليها ثُمّ إنّه أطال وقُوفه؛ فصاحت: يا فتى، ما وقوفك على باب هذه الدار وفيها محرماً[570] لغيرك؟! فقال: والله، يا أختي ما خطر ببالي شياً[571]
ممّا قلتي
[572]، ولا ضممتُ[573] بشـيء مما ذكرتِ. وإنّما أنا رجل هارب مظلوم
مخيف مطلوب. فقالت له المرأه: ومن يطلبك؟ فقال: عبيد الله بن زياد، وإنّي
أريد من يجيرني بقيّت[574] نهاري، فإذا جنّ الليل طلبتُ لنفسـي مخلصاً وخرجتُ
عن مصـركم. فقالت: ومن أيّ الناس أنت؟ قال: فقال: قريشاً
[575]. فقالت:
من أيّ قريش؟ فقال: من عبد المطلب، فقالت: من أيّ عبد المطلب؟ فقال:
من هاشم. فقالت: من أيّ هاشم؟
[576] فقال: من أجلِّها حسباً، وأثبتها نسباً،
وأزكاها شجرةً، وأطيبها ثمرةً، وأطولها باعاً، وأسترها قناعاً، وأعزرها[577] فجاجاً[578]، وأضؤها
[579] سراجاً، وأنضـرها عوداً، وأطولها عموداً. فقالت له:
لج
[580] البيت ـ يا سيّدي ـ فأنا ـ والله ـ أحق مَن أجارك، وحمي ذمارك، وكان من أنصارك، فدخل مسلم. وقد وطّيت[581] له بيتاً في أفضـى[582] الدار، فجلس وحده، وجلست منه قريباً؛ لأن لا يكون له حاجه فتشـرع في قضائها. فلما هجم[583] الظلام وجنّ اللّيل، وقد همّ مسلم بالانصراف، إذ أقبل ابن المرأه، وكان أبوه من قوّاد عبيد الله بن زياد، فنظر إليها وهي تُكثر الدخول والخروج إلى ذلك البيت. فقال: مال[584] أراكِ تتردَّدين منذ الليله؟ فقالت: من أجل رجل استجارني البارحه. فقال لها: لا يكون مسلم بن عقيل الذي يطلبه الأمير عبيد الله بن زياد؟! ثم جعل يسارق[585] اُمّه النظر حتى أثبت صفته، وحقّق معرفته، فلّما عرفه، قال لها: يا اُمّاه أكرميه؛ فقد والله أحسنتِ إذا أجرتيه. فقالت له: والله يا بني مالي به علم، ولا أعرفه.

وبات الغلام على باب البيت ليلته. فلمّا كان وقت السحر انتبه
فرأى العجوز وهي تَغِطُّ[586]
، ومسلم قايم يصلي وهو يقرى[587] خاتمه
يس[588]. ومنهم مَن قال: إنّه كان يقرى
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)[589]. قال: فخرج الغلام وفتح الباب قليلاً قليلاً، وأقبل يسعى حتى وصل إلى باب قصر الإماره، فدخل الدِّهليز[590]، ثُمّ إنّه جعل سبابتيه في أذنيه، ونادى: النّصيحه النّصيحه. فقال له أبوه: ما وراوك[591] يا بُني؟ فقال: يا أبا[592] قد صارت اُمّي تجير أعدآ[593] الأمير، وأنّ عندها مسلم بن عقيل في دارنا؛ استجارها البارحه. فسمع بن زياد كلامه، فقال: ما يقول هذا؟ فقال أبوه: يذكر كذا وكذا، فقام بن زياد وقعد وفرح فرحاً شديداً، ثُمّ طوّق الغلام وسوّره، ثُمّ خلع[594] عليه[595]. ثُمّ إنّه استدعا[596] بمحمد بن الأشعث وأمّره على ألف[597] وقال له: انطلق مع الغلام فاتني بمسلم بن عقيل إمّا أسيراً أو قتيلاً، فسار بن الأشعث بمَن معه، حتى وفا[598] الدار. فلمّا قرب منها سمعت الأمرأه صوت الخيل وقعقعه اللُّجُم[599] ووهج[600] القوم واصطفاق[601] الرماح وزعقات الرجال، فأخبرت مسلم بن عقيل بذلك، وقالت له: والله هذه خيل بن زياد مقبلة نحونا. فقال لها: ناوليني درعي. فناولته إياه فلبسه وتقلّد بسيفه وشدّ وسطه بمحرمته[602] وتاهّب لقتالهم. فقالت له: يا سيّدي أراك تاهّبتَ للموت؟! فقال لها مسلم: والله ما طَلِبَةُ القوم غيري، وأخشى أن يهجمون[603] عليَّ وأنا في داركِ فأراكِ بين يدي قتيله أو جديله[604]؛ فيسوني[605] ذلك. قالت له: والله إنّه ليسرّني أن أكون بين يديك قتيله، ويسواني[606] أن أراك قتيلاً بين يدي فألقا[607] الله شهيده. فجزا[608] مسلم خيراً، وقال: ليس هذا مقام النسا[609].

ثُمّ إنّه (رضى الله عنه) عمد[610] إلى باب الدار فأقلعه ـ وكان ضخم الدّسيعه[611] ـ ثُمّ هجم عليهم، وحمل فيهم، وصاح بهم صيحة عظيمه، فانكشفوا من بين يديه، فقتل منهم أربعه عشر رجلاً[612]، وجرح جماعه؛ فوجّه محمد بن الأشعث إلى
عبد الله
[613] بن زياد (لعنه الله)، وقال: أيّها الأمير امدبا[614] بالجيوش والعساكر. فبعث إليه بن زياد (لعنه الله) بخمس ماية فارس، فحمل عليهم مسلم، فقتل منهم جماعه[615]. ولم يلبثون[616] بين يديه ساعة، وجرح منهم جماعه، وأجفل[617] الباقون منهزمين، فوجّه محمد بن الأشعث امدني بالرجال فنفذ إليه بن زياد وقال له: ويلك يا بن الأشعث قد نفذتُك إلى رجل واحد، قد قتل منكم مقتله عظيمه. وخرج جماعه منهم[618]: أعطيه[619] الأمان وإلّا فناكم[620] جميعاً. فنفذ إليه محمد بن الأشعث: يا بن زياد، ثكلتك أمّك، وعدموك[621] قومك، والله إنّك لغبي. ويلك! أظننتَ أنّك نفذتني إلى بقّال من سوق الكوفه أو جرمقاني[622] من جرامقه الحِيرَه؟! أوَ ما علمتَ أنّك نفذتني إلى سيف من سيوف آل محمد المصطفى (صلى الله عليه [وآله] وسلم)[623].

ثم إنّ محمد بن الأشعث قال له: يا مسلم لك الأمان عندي. فقال: لا أمان لكم عندي يا أعدا الله الفاسقين، وجنود بن مرجانه اللعين، ثم حمل عليهم[624]، وجعل يقول شعر[625]:

أقسمتُ لا أُقتَل إلّا حُرّاً
 ولا أرى الموت مذاقاً مرا
يا عصبة الكفّار أنتم شرّاً
 عليكم اللعنه دهراً تترا
[626][627]

ولا يزال يقاتلهم قتالاً شديداً حتى وقعت به ضربه على حاجبه الأيمن؛ اختلط بها وجهه، وبدر الدم على محاجر[628] عينيه، فغشا[629] بصره، وهجموا عليه، وهو يكر[630] عليهم، فأخذوه صحيحاً أسيراً، سحبوه على وجهه وأتوا به قصر
الإماره
[631]. فلمّا دخل الدليز[632] نظر مسلم إلى بُرّاده فيها كيزان[633] ماء، وكان له يومان لم يذق طعاماً ولا شراباً، فقال لساقيه: اسقني ما[634]، فإذا أنا عشتُ، وكان لي حياة كافيتُك، وإن متُّ كان المكافي لك الله ورسوله في عرصه المحشر. فدفع الساقي إليه كوز[635] من ماء بارد، فلمّا قرّبه فيه[636] وافقت حراره الدم برودة الما فسقطت ثناياه في الكوز فصار الما عبيطاً[637]، فعاد دفع[638] الكوز إلى الساقي، وقال له: خذ فلا حاجة لي فيه حسبي الله توكلت عليه[639].

 [شهادة مسلم بن عقيل×]  

ثُمّ أدخل مسلم بن عقيل (رضى الله عنه) على عبيد الله بن زياد (لعنه الله) فلمّا رآه مسلم نادى: السلام على مَن اتبع الهدى[640] وخشي عواقب الرّدى وأطاع الملك الأعلى. فأقبل بن زياد على مسلم ووجهه ضاحكاً فرحاً[641]، فقال رجل من بعض جلسايه: يا مسلم ما ترى الأمير ضاحكاً إليك، ومقبل[642] بوجهه عليك، سلمتَ[643] عليه بالاردة[644]، ودخلتَ في طاعه أمير المؤمنين يزيد بن معاويه؟ فقال مسلم: والله ما أعلم أنّ لي أميراً غير سيدي الحسين، المعلم الطرفين، الشريف الأبوين، السيد بن السيدين. فقال له بن زياد (لعنه الله): أتفتخر بابن عمك عليا[645]، وترمي بشرّك إلينا أوَ ليس قريشٌ أكفّا؟ فقال له: يا بن مرجانه الحجّامه[646] أتساوي الأجاج[647] العذب[648]؟! أوَ يستقيم قط[649] الذاوي[650] والرطب؟! بنا هُدِيتم لا بكم هُدِينا. فقال له بن زياد (لعنه الله): يا مسلم عليك[651] سلّمتَ أو لم تسلّم؛ فإنّك مقتول في ساعتك هذه لا محالة[652]، فقال له مسلم: إن كان لابدّ لك من قتلي فليقم لي رجل حتى اُوصيه بوصيّه، وليكن قرشيّاً فقام إليه عمر بن سعد. فقال له مسلم: يا عمر هاهنا، فأخذه وانزاح[653] ثُمّ خلا به وعبيد الله بن زياد (لعنه الله) ينظر إليهما. فقال له: أوّل وصيتي إليك أنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له[654]، والثانية فقد استدنتُ في قصركم[655] هذا سبع ماية[656] درهم، فتبيع درعي هذا وتقضي به ديني. والثالثه وهو[657] العظمى والحاجه الكبرى أن تكتب إلى سيّدي الحسين بن علي× بأن لا يصل إلى أرضكم ولا يقرب بلادكم فيصبه[658] ما أصابني، فقد صُنِع بي ما لم يُصنَع بأحد قط مثله. وقد بلغني أنّه قد خرج بأهله ومواليه ومن شا الله؛ قاصداً نحوكم، وأنّه والله قد صار إلى دار قد بيّتت[659] له بالغدر فليكن صلتك لأرحامنا وقرابتك إلى آباينا، وهو ذلك لأوليانا في هذه أن تبعث إليه من يخبره بما جرى وتحذره مما صرتُ عليه ليرجع من حيث جا، وينصرف من حيث شا. فقال عمر بن سعد: أمّا ما ذكرتَ من أمر الشّهاده فكلّ مسلم ومسلمه يقرّ بها. وأمّا ذكرتَ[660] من قضي[661] الدين فصاحبه بالخيار إن شا ترك وإن شا أخذ. وأمّا ذكرتَ من أمر الحسين× فلابدّ ما[662] أُعلم به الأمير[663]. ثُمّ التفت عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد (لعنه الله) ذلك[664] التفت إلى عمر بن سعد، وقال: قبّحك الله من مُستَكتَمٍ سراً أباح به جهراً! والله لو أسرّ اليّ بما أسرّ إليك لكتمتُ أمرَه، ولأدّيتُ عنه رسالته، وتحمّلتُ أمانته. وإذ قد فشيتَ[665] عليه ذلك. والله لا خرج[666] إلى قتال الحسين أحداً[667] غيرُك[668].

ثُمّ إنّ عبيد الله بن زياد (لعنه الله وخزّاه وقبّح منقلبه ومثواه) أمر بأن يعلى
مسلم بن عقيل على أعلا القصر، وأن يُلقى على أُمّ راسه، ففعلوا به كما أمرهم. ثُمّ استاذن عليه رجل من بني كنده[669]، فقال له مسلم: يا هذا دعني حتى أُصلّي ركعتين. وافعل ما بدا لك. فقال له: ما أُمِرتُ بذلك. فعند ذلك بكا
[670] مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) تأسّفاً لمفارقه الحسين×[671] ثُمّ نادى: وا شوقاه إليك يا أبا عبد الله، ثُمّ جعل ينشد ويقول:

جزا[672] اللهُ عنّا قومَنا شرَّ ما جزا
 شِرارَ الموالي بل أعه
[673] وأظلَما
هُمُ منعُونا حقَّنا وتظاهروا
 علينا ورا
[674] أن ندلّ[675] ونُرغما
أغارُوا علينا يَسفِكون دمانا
[676]
  ولم يرقَبوا فِينا دماً ولا دَما
[677]
ونحن الروايا والطريقه فيهموا
[678]
 حميم أبت أركانه أن يهدما
[679]
فاُقسمُ لولا حبسهم آلَ مدحجٍ
 وفرساننا والخير منا المقدما
[680]

فلمّا فرغ من شعره قال: يا ويلك يا عمر بن سعد! ألقِهِ في سبيل المهالك، فدَعَّه من أعلا القصر على اُمّ راسه، فقضى نحبه (رضى الله عنه)[681].

[شهادة هانئ بن عروة×]

وبلغ شعره مدحج وذكرَتَهم[682] فركبوا عن آخرهم، واقتتلوا قتالاً شديداً مدة ثلاثه أيام. وكانوا يسحبون جثتهما في الأسواق، فغلبتهم مدحج، وأخذوهما وغسّلوهما وكفّنوهما وصلّوا عليهما ودفنوهما هناك (رحمة الله عليهما)[683].

وكان يرثيهما عبيد الله بن الزُّبير[684] وقيل الفرزدق[685] شعر:

إذا كنتِ لا تدرينَ بالموتِ فانظُري
  وانظر إلى هاني في الأسواق
[686]
إلى بطلٍٍ قد هشّم السّيفُ أنفه
  وآخرَ يهوي متحدراً
[687] قتيلِ
أصابَهُما ريبُ الزمانِ فأصبحا
 أحاديثَ مَن يسعى بكُلّ سبيلِ
فتاً كان أحيا من فتاتِ
[688] حياتهِ
  وأقطع من ذي شَفرتينِ صَقيلِ
أتركب
[689] أسما الهماليج[690] آمناً
  وقد طلبته مِدحجٌ بذحولِ
[691]
فإن أنتموا لم تأخذوا النار[692] عاجلاً

 فكونوا بغا أرميت وقتيل[693][694]

قال: فبلغ مدحج، فقالوا: والله إنّ أسما قال[695] خارجه أجلّ عندنا من أمر صاحبنا هاني بن عروه، ولو كنّا طالبين بدمه لأخذنا[696] من محمد بن الأشعث، ولكنّ ذلك أمر السّلطان.

[ ما جرى بعد شهادة مسلم وهانئ]

ثم إنّ بن زياد (لعنه الله) نادى[697] ـ لمّا قُتِلَ هاني ومسلم ـ أمر براسيهما أن يذهبوا بهما إلى يزيد بن معاويه مع هاني بن أبي حبة الوداعي[698] والزبير بن الأروح[699]، ويعلموه بما كان من أمر مسلم بن عقيل وهاني بن عروه. وكتب كتاباً يقول فيه: الحمد الله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه من عدوّه وكفاه شرّه. واعلم أنّ[700] الخليفه أنّ مسلم بن عقيل ورد إلى دار هاني بن عروه، وأنّي جعلتُ عليه العيون ومكرتُ بهما حتى استخرجتُهما، وأمرتُ بضرب رقبتهما. وقد نفذتُ براسهما[701] إلى حضرتك مع هاني بن أبي جند[702] والزبير بن الأروح، وهما من أهل السمع والطاعه فاسالهما عمّا في نفسك؛ فإنّ عندهما وعلماً[703]. فلمّا وصل الكتاب إلى يزيد بن معاويه، فكتب جوابه:

أمّا بعد فإنّك كما أحبّ، وقد علمت أو علمت علم الحازم[704]. وقد سألتُ رسُوليك كما ذكرتَ فوجدتُهما فوق ما وصفتَ فاستوصِ بهما خيراً. وقد بلغني أنّ الحسين بن علي قد توجّه نحو العراق، فضعِ عليه العيون، واكتب لي كلّ يوم بما يتجدد عندك[705].

 وكان محمد بن الأشعث أخذ سيف مسلم بن عقيل ودرعه، وفي ذلك يقول عبد الله بن عمر[706] شعر:

أتركتَ مُسلمَ لم يُقاتِل دونَهُ[707]
حَذرَ المنيّةِ أن تكون صريعا
وقَتلتَ وافدَ آل بيتِ محمدٍ
 وسَلبتَ أسيافاً لهُ ودُروعا
لو كُنتَ من أسدٍ عَرفتَ مكانَهُ
 ورجَوتَ أحمد في المعاد شفيعا
[708]

 [مسير الإمام الحسين× إلى العراق]

16ـ قال: قال أبو حنيف[709]: ولما قُتِل مسلم بن عقيل وهاني بن عروه انطوى خبرهما عن الحسين× فجمع أهله وأمرهم بالرحيل من مكه إلى المدينه[710] ولم يزل سايراً حتى ورد المدينه، فأقبل إلى قبر جدّه رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) فاعتنقه وبكا بكا[711] شديداً. ثُمّ حملته عينه فنام فراى في منامه رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وهو يقول له: يا ولدي الوَحا الوَحا، العجل العجل، أقدم على أبوك وأخوك[712] وأمّك وجدّتك، ونحن مشتاقون إليك فبادر إلينا. فانتبه باكياً حزيناً شوقاً إلى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)[713].

قال هشام المخزومي[714]: إنّ مولاي الحسين× لمّا قدم المدينه وطلب المسير إلى الكوفه، فدخلتُ عليه، وقلتُ له: يا بن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، قد أتيتُك بنصيحه. فقال له: قل، والله ما أستغشك ساعة قط. فقلتُ له: يا مولاي، قد بلغني أنّك تريد المسير إلى الكوفه، وأنّي لمشفق عليك في سيرك؛ لأنّك تاتي إلى بلد فيه أمرا[715] وعمال، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن تتقاتل[716] مع عدوّك مَن كاتبك ووعدك بالنصر. فقال الحسين×: جُزِيتَ خيراً يا بن عمر[717] فقد نصحتَ وأحسنتَ، وأنا قابل نصحك ورأيك. قال هشام: فانصرفتُ من عنده، ودخلتُ على الحارث بن خلف بن العياض[718]. فقال له: هل أتيتَ الحسين؟ فقلت: أجل. فقال له: ماذا قلتَ له؟ وماذا قال لك؟ فأعدتُ عليه الحديث، فقال: نصحتَ وربِّ الكعبه، وأنّ الرأي الذي أشرب[719] به قَبِله أم تركه[720].

ثُمّ دخل عليه عبد الله بن العباس، وقال له: يا بن العم بلغني أنّك ساير إلى أرض العراق في هذا اليوم أو اليومين، ولكن أُخبِرك ـ يرحمك الله ـ واسمعْ منّي، فأنت تسير إلى قوم غدروا بأبيك، فإن كانوا قتلوا أميرهم، ونفوا عدوَّهم، ولزموا بلدهم، فسر إليهم، وإن كانوا ممّا فعلوا ذلك، فاعلم أنّهم دعوك للحرب الشنيع والأمر الفضيع[721]. ولستُ آمن عليك أن يغدروك ويخذلوك. ثُمّ ناشده بالله وبالرحِم أن لا يخرج، وخرج من عنده[722].

فدخل عليه عبد الله بن الزّبير فحدّثه ساعه. ثُمّ قال: لستُ أدري لأيِّ حالة تركنا هذا الأمر يتولّاه غيرُنا، ونحن أحق به وأولى. فقال الحسين×: والله لقد حدثتني نفسي بالمسير إلى الكوفه، وقد كتبتْ إليَّ شيعتي وأشراف أهل الكوفه بأن يبايعوني. فقال له بن الزبير: والله لو كان لي مثل شيعتك لما عدلتُ بها شياً. ثُمّ خشى أن يتهمه، فقال: والله لو أقمتَ بالحجاز، وأردتَ هذه الأمور ههنا لما صعب عليك. ثُمّ أقام[723] وخرج من عنده، فقال في نفسه: إنّ هذا أمر شين عنده، واخروجي[724] من المدينة إلى العراق لِيخلُوا له الحجاز.

 قال: فلمّا كان من الغد أعاد عليه عبد الله بن العباس، فقال له: يا ابن العم إنّني أتخوّف عليك من هذا الوجه الذي أنت متوجّه إليه، وأنت تعلم أنّ أصحاب العراق أصحاب غدر ومكر، فلا تغترّ بهم، وأقم في حرم جدّك، فإن كان أهل العراق يريدونك ـ كما زعموا ـ فاكتب إليهم حتى يقتلوا عدوك، ثُمّ اقدم عليهم. فإن أبيت إلّا الخروج فسر إلى اليمن[725] فإنّ فيها حصوناً وشعاباً[726]، وهي أرض طويله عريضه، ولك[727] فيها شيعة، وأنت عن الناس بمعزل، فتكتب إلى الناس وترسل برسلك، وتبث دعاتك فإنّي أرجوا[728] عند ذلك أن تنال الذي تحبّ وتختار. فقال له الحسين: والله يا بن العم إنّي أعلم أنّك ناصح[729] مشفق، ولكن لا بدّ لي من المسير. قال: إذا كان ولابدّ لك من المسير فلا تخرج بصبيانك ونسايك؛ فإنّي أخشى عليك أن تقتل، كما قتل عثمان بن عفان ونساوه ينظرون إليه. ثُمّ قال له: يا بن العم اليوم قرّت عين بن الزبير بتخليتك الحجاز له وخروجك منها، وهو اليوم لا ينظر إليه معك أحد. ثُمّ خرج من عنده فمر بابن الزبير وهو جالس، فقال له: قرّت عينُك يا بن الزبير ثُمّ تمثّل بهذا الأبيات[730]:

يا لكِ قُنبَرة[731] بمَعمَرى
 
خَلا لكِ الجّو فبيـضي واصفِرِي
وانقرِي[732] ما شئتِ أن تُنقّري
  قد رُفع الفخّ فماذا تحذري
إنّ[733] الحسين راحلاً[734] ما تنظري
 نحو العراق راجياً أن
يظفري[735][736]

قال له بن الزبير[737]: يكون الحسين بن بنت محمد (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ساير[738] إلى العراق، وأنت ضحك[739] شامتاً[740]؟! وأنا سمعتُ ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: يُقتَل بالحرم رجل يكون فتنته[741] العالم على يده. والحسن والحسين هما حبي[742] جدهما (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فمن آذاهما فقد آذاني[743].

17ـ وفي رواية أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل (رضي الله عنه) أنّ الحسين× لم يسير[744] إلّا لمّا وصل إليه كتاب مسلم بن عقيل[745] يخبره أنّ الناس قد بايعوا قبل هلاكه[746].

18ـ وفي رواية أخرى لأبوا[747] مخنف لوط بن يحيى الأزدي: لمّا سار الحسين× وورد المدينه فأقبل إلى قبر جدّه (صلى الله عليه [وآله] وسلم) فاعتنقه وبكا فحملته عينه فنام، فراى النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) في منامه وهو يقول: له الوَحا الوَحا أقدم يا حسين على أمّك وأخيك وجدّك وأبيك، فنحن مشتاقين[748] إليك، فبادِر إلينا. فانتبه الخليل[749]× وهو باكي[750] حزين شوقاً إلى جدّه (صلى الله عليه [وآله] وسلم). ثُمّ نهض من وقته[751]، وأقبل إلى أخيه محمد بن الحنفيّه[752] (رضي الله عنهم)، وكان يومئذٍ عليلاً ـ وكان سبب علته أنّه أُهدِىَ إليه درعاً[753] فأخذه ولبسه، ففضُل عنه، فجمع ما فضل وفركه بيده فقطعه؛ فانته[754] عين فيه، ولحقه مرض شديد ـ فحدّثه بحديث وقصّ عليه قصّته وما راى في منامه، فبكى محمد بن الحنفيّه، وقال له: يا أخي ما تريد أن تصنع؟ فقال له: الدخول إلى العراق لأنّي قلق مهموم بسبب مسلم بن عقيل، ولا شك إلّا إنّه هلك[755]. فقال له محمد: سألتُك يا أخي بحقّي عليك إلاّ ما عدلتَ عن هذا، ولا تمضي[756] إلى قوم غدروا بأبيك وأخيك، ونكثوا بيعتك، ولم يوفوا بعهدك. أقم في حرم جدّك (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وإلّا فارجع إلى حرم الله؛ فإنّ لك فيه أعوان[757] خير أعوان[758]. قال الحسين×: لا بدّ لي من الدخول إلى العراق. فقال له محمد: والله يا سيّدي لم يُبقِى[759] إليّ الدهرُ مَن التلا[760] به عن همّي، وأجلوا[761] به حزني وغمي غيرَك. والله إنّه ليفجعني فراقك وبعد مرادك، وما يقعدني عن نصرتك ومحاربه من يحاربك ـ وكنتُ أكون[762] صحبتك ـ إلاّ ما ترى بي من التوعّك، وما لي يد تقبض على لهذم[763] ولا تمسك مخذم[764]. والله والله لا فرحتُ بعدك أبداً، ولا تلذّذتُ بشرب ما وهوى[765]. ثُمّ بكا بكا شديداً حتى غمى[766] عليه. ثُمّ قال له: يا أخي استودعك خير مُستودَع، ثُمّ اعتنقه الحسين× واعتنقه الآخر، وقال: استودعتُك الله من غريب شهيدٍ مظلومٍ[767] طريد، يُطالَب بأحقادٍ بدريه، وثارات جاهليه، وثارات اُحديه، وطعاين محمديه[768]. ثُمّ ودّعه وتوجّه سايراً في أهل بيته ومواليه.

فبينما هو سايراً[769] إذ سمع قايلاً ـ يسمع صوته ولا يرى شخصه ـ وهو يقول: يسير إلى المنايا[770] والمنايا تسير إليهم عاجلاً[771]، فأنشأ يقول شعر:

سأَمضِـي وما بالموتِ عارٌ عَلى الفتَى
 إذا عاش محموداً ومات مسلمَا
وواسا[772] الرّجال الصّالحين بنفسه
 وعاند مرتداً وخالف
مجرما
فإن مـتُّ لم أندم وإن عشتُ لم أبل[773]
 وما الذل إلّا بنفس فترغما
[774]

وبلغ عبد الله بن جعفر الطيار[775] مسير الحسين فدعا بولديه محمد وعون، وكتب معهما كتاباً، يقول فيه:

 بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد فإنّي سالتك يا ابن العم بالله إلّا ما رجعت عما أنت متوجه إليه، فإنّي أخاف أن يكون فيه هلاكك، فإن هلكتَ طُفِى نور الله، فلا تعجل، وأنت على الهدى ومصباح الدجى. وتوقّف فإنّي في أثر كتابي، والسلام.

فلما وصل إليه الكتاب فردّ عليه الجواب لستُ أرجع[776]. وسار، وسار معه عون وأخيه[777] أولاد جعفر[778] بين يديه وسار الحسين×، وهو ينشد هذه الأبيات:

إذ المر[779] لم يحمي[780] أباه وعرسه
  ونسوته كان
الليم[781] المسببا
وفي دون ما يبغى يزيد بنا
عنا[782]

 لحوض غشا الموت[783] شرقاً ومغرباً

ونضـرب ضرباً كالحريق مقدماً
 إذا ما رآه خائفاً يتكبكبا
[784]

19ـ قال أبو مخنف: وسار الحسين× متوجهاً نحو الكوفه[785] فبلغ بن زياد (لعنه الله) فبعث الحصين بن نمير[786]، وكان صاحب شرطته في أربعة آلاف فارس فنزل القادسيّه[787] قريباً من القُطقُطانِيَه[788]، وسار الحسين× حتى وصل الجناب[789] من بطن الرّمله[790]، وبعث قيس بن مهر[791] إلى الكوفه، وكتب معه كتاب[792]، يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى إخوانه المؤمنين، أمّا بعد فإنّ كتاب مسلم بن عقيل ورد إليّ يُخبرني بحسن رايكُم واجتماعكم على نُصرتنا، والطلب بحقّنا، وسالت الله سبحانه وتعالى أن يُحسن لنا ولكم الصنيع، وأن يثبكم[793] أجل الثواب، وأنا ساير إليكم إن شا الله تعالى يوم الثلاثا لثمان مضين من ذي الحجه. فإذا قدم إليكم رسولي فاصنعوا ما أنتم محتاجون إليه، والسلام.

قال: وسار قيس بن مهر بالكتاب، طالب[794] الكوفة حتى وصل القادسيّه أخذه الحُصين بن نُمير، وأوثقهُ كِتافاً، وبعث به إلى بن زياد فلمّا وصل إليه قال له: يا ويك[795] اصعد به على سور[796] هذا القصر وسُبّ الكذّاب بن الكذّاب يعني الحسين بن علي÷.

 قال: فصعد قيس إلى أعلا القصر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: أيُّها الناس إنّ الحسين بن علي بن ابي طالب فارقته بالجناب[797] من بطن ذي الرمله، وأنا رسوله إليكم فاجيبوه فهو واصل على أثري. ثُمّ سَبّ بن زيا[798] وصلّى على الحسين×[799].

قال: فأمر برميه من أعلا القصر، فرُمي وقضى نحبه (رضي الله عنه)[800].

20ـ قال عدّي بن خزيمه[801] الأسدي: حدثني عبد ربه[802]، قال: كنّا بمكه، وقد حججنا فلّما قضينا حجّنا لم يكن لنا همّه إلّا اللّحوق بالحسين×. قال: فأقبلنا نسير حتّى لحقناه، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل مقبل من نحو الكوفه، فمضينا إليه، وسلّمنا عليه، وقلنا: مَن الرجل؟ قال: من أسد[803]. فقلنا له: اخبرنا عن الناس بالكوفة. فقال: لم[804] خرجتُ من الكوفه حتى قُتِل مسلم بن عقيل وهاني بن عروه، ورأيتُ رأسيهما في الأسواق تلعب بهما الصبيان. فلمّا سمعنا ذلك منه أقبلنا على الحسين× وسلّمنا عليه، وسايليناه[805]، وقلنا له: رحمك الله يا أبا عبد الله إنّ عندنا خبراً، إن شيت أخبرناك به سراً أو جهراً؟ فنظر إلى أصحابه، ثُمّ قال: ما دون هولاء من سر. فقلنا له: هل رأيتَ الراكب الذي استقبلناه؟ قال: رأيتُه، وأردتُ مسايله[806]. فقالوا: قد كافيناك[807] ذلك، وقد أخبرنا أنّه لم يخرج من الكوفه حتى قُتِل مسلم بن عقيل وهاني بن عروه. فقال الحسين: (ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ)[808] (رحمة الله عليهما). فقلنا له: ناشدناك بالله لا تقتل نفسك وأهل بيتك، وارجع من هذا الموضع؛ فمالك في الكوفه ناصر ولا معين، ونحن نتخوّف عليك أن يكونوا[809] أهل الكوفه عوناً عليك.

قال: فوثب أولاد مسلم بن عقيل، فقالوا: والله ما نبرح حتى ناخذ بثار أبينا أو نذوق ما ذاق أبينا[810]، فنظر إليهم الحسين×، وقال: لا خير في الحياه من بعد هولا[811].

قال: فعند ذلك عزم على المسير، فقلنا له: آجرك على الله في ذلك. وبات ليلتَهُ، فلمّا كان وقت طلوع الفجر الأول قال لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الما، واسقُوا خُيولَكُم. ففعلوا ذلك، وساروا، وجعل لا يمرُّ على باديه إلّا تبعته حتى انتهى إلى زُباله[812] فنزل بها[813].

ثُمّ قام خطيباً، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وذكر النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وقال: أيُّها الناس إنّما جمعتكم على أنّ العراق لي، والآن فقد جاني أمرٌ فضيع[814] عن بن عمّي مسلم بن عقيل وهاني بن عروه، وقد خذلتنا شيعتنا[815]، فمن كان منكم يصبر على حرّ الهواجر[816]، ووقع الصوارم[817]، وإلّا فلينصرفْ، فليس عليه من أمري شي، وهو في حِلّ من جهتي. فجعلوا يفرّون عنه يميناً وشمالاً في أودية شتى، وشعاب مختلفه[818]، حتى بقي في أهل بيته ومواليه في نيّف عن سبعين[819] رجلاً، وهم الذين خرجوا معه من مكه. وإنّما فعل ذلك لأنّه علم أنّ العرب[820] لم تتبعه إلّا أنّها ظنّت أنّه ياتي إلى بلد قريب، قد استقامة[821] له طاعة أهلها فكرِهَ أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون على ما يُقدِمون.

وسار حتى وصل إلى الثّعلبيّه[822][823]، فنزل بها، وإذا قد أقبل إليه رجل نصرانيّ ومعه والدته، فقال له: السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمته وبركاته. فردّ عليه السلام، وقال: يا مولاي أنا رجل نصرانيّ، وقد أحببت أن أجاهد بين يديك، فأمدّ يديك، أنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله. وأسلمت أمُّه، وحسن إسلامهما[824].

قال: وجعل الحسين لا يمرّ بقبيله إلّا استنجدها، حتى وصل قيد[825]، وهو في خمسين ألف فارس وراجل.

وفي روايته[826] أخرى ثمانيه وسبعين ألف فارس وراجل[827]، فبينما هو نازل بقيد إذ أقبل فارس من صدر البريه على راحلة له، فقام إليه رجل يقال له: علي بن الفارضيه[828]، فأوقفه وقال له: من أين أقبلتَ؟ فقال: من الكوفه. فقال: كيف خلّفتَ مسلماً بن عقيل وهاني بن عروه؟ فقال الأعرابي: والله، ما خرجتُ من الكوفه حتى رأيتُ رأسيهما مقطوعتان[829] عن جسديهما، والحبال في أرجلهما، وهما يجران في الأسواق، وأنّ الكراع[830] والسلاح مع بني أميه. ثُمّ مضى الأعرابي، وأقبل علي بن الغاضرية[831] بما قاله الأعرابي، فأخبر الحسين×[832]، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

 ثُمّ قام في الناس خطيباً فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر جدّه وأثنى عليه (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، ثُمّ قال: أيُّها الناس، إنّما جمعتُكم معي على أنّ العراق بيدي، وتحت طاعتي، والآن فقد نقضوا عهدي، ونكثوا بيعتي، وغدروني. وقد قتلوا مسلم بن عقيل، وهاني بن عروه. فمَن ذا يبايعني على الموت جداً؟ قال: فتصدّع[833] العسكر عن الحسين×[834].

21ـ قال أبو مخنف: وجعلوا يتفرّقون عنه الخمسه والعشره والأقل والأكثر حتى لم يبقَ معه سوى أهل بيته ومواليه وعددهم اثنا وسبعين[835] رجلاً كما تقدّم[836].

22ـ وفي روايه أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنّهم كانوا خمسة وأربعين فارس[837] وماية رجل[838].

23ـ قال أبو مخنف: وسار الحسين× حتى نزل بالثّعلبيّه. فبينما الحسين
 نازل بالثّعلبيّه إذ أقبل سواد عاتي
[839]، فقال لأصحابه: ما هذا السواد؟ فمضى
رجل من أصحابه على راحلته غير بعيد وعاد، فقال له الحسين: ما الذي رأيتَ؟ فقال: يا مولاي خيل مقبله نحونا، فقال: عرّجوا[840] بنا عن الطّريق. فعرّجوا، ونزلوا على بير هناك. وأقبلت الخيل يقدمهم يزيد بن الحصين
[841] ومعه الحر
بني
[842] يزيد الرياحي فقالا: يا أبا عبد الله سبقتنا إلى الما. فأمر الحسين فسقا[843] خيلهم وسقاهم. وكان قد حان وقت صلاة الظهر، فأذّن مؤذّن الحسين، فصلّى بهم جماعه، وكانوا صَفين. فلمّا فرغ مَن صلاته قام فيهم خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، وذكر جدّه فصلّى عليه. ثُمّ قال[844]: أيُّها الناس مَن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عرفه[845] نفسي: أنا بن محمد المصطفى، بن علي المرتضى، بن فاطمة الزهرا، بن خديجة الكبرى[846]. أنا بن سيد الأوصيا، أنا بن زمزم والصفا[847]، أن[848] ابن قيس
وحرا[849]، وما جيتُكم حتى جاتني كتبكم. فقال له يزيد بن الحصين: اعلم يا أبا عبد الله أنّ الذين كاتبوك هم اليوم خواصّ عبيد الله بن زياد، قلوبهم معك وسيوفهم عليك[850]. فقال له الحسين: وأنت لأيّ شي جيتَ؟ قال: بعثني عبيد الله بن زياد (لعنه الله) حتى ألقاك. فقال له: يا ويلك، وما أتيتَ إلّا وأنت عدواً[851] لنا، معين على الغدر بنا، قبّحك الله. قال: أمّا أنت يا أبا عبد الله، فما أقدر أردّ عليك، ولكن لو كلّمني غيرك أجبتُه عنّي وعنه، ولو خاطبني أهل الأرض. فقال له الحسين: ما مثلك من يحارب مثلي. قال له يزيد بن الحصين: فأنت إلى أن[852] تريد وعزمتَ عليه؟ فقال الحسين: إلى الكوفه أن شا الله. فقال له: لم أومر بذلك. وعرجوا بالحسين على الطريق، وكان قد خرجت من الكوفه خيل لنصرة الحسين ، فيهم الأشعث بن واثله الكندي
[853] والطّرماخ بن عدي[854] (رضي الله عنهم)، فوقعوا في عسكر ابن الحصين، فمنعهم عن الحسين، وحال بينهم وبينه، فصاحوا يا أبا عبد الله نحن قومٌ محبيك[855]، وخواصّّ شيعتك، وقد جينا لنصرتك، وقد حال بيننا وبينك هذا الرجل.

فصاح به الحسين: خلّ عنهم ـ ويلك ـ وإلّا كان بيني وبينك الحرب. فخلّا[856] عنهم، ولحقوا بالحسين[857].

ثُمّ ساروا حتى صبّحوا قصر بني مقاتل[858]، وإذا بمضرب[859] مضروب، وفرس مربوط، ورمح مركوز، فقال الحسين: هذا لمن؟ قالوا: الرجل[860] من الكوفه، يقطع الطريق ويخون السبيل يقال له: عبد الله بن الحرّ الحنفي[861]، يُعد بألف فارس، فاستدعاه الحسين بابن عم له وكان معه يعرف بالحجّاج بن الحرّ الحنفي[862]، فقال له: امض إلى بن عمك، واساله أن يسير معنا ويكون كأحدنا. فأقبل الحجّاج إلى بن عمه عبد الله الحر فدخل عليه فسلم، فردّ السلام عليه ورحب به. ثُمّ قال له: يا بن العم، هذا الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قد أقبل وهو يسلك أن تلقا[863].

فقال: يا بن العم اعتقني من لقايه[864]، والله ما أشتهي لقايه من غير بغض له، فعاد الحجّاج أخبر الحسين بما قال. فنهض الحسين، وأقبل حتى دخل على عبد الله بن الحرّ، فسلم عليه، فلمّا راه قام قايماً على قدميه، وقبّل يديه ورجليه، وجلس بين يديه، فقال له الحسين: أما تعرفني؟ فقال له: أعرفك حق المعرفه، وأعرف شرفك. لعن الله من لا يعرفك ويوفي بعهدك. أنت ابن محمد المصطفى وعلي المرتضى ويكفيك بهذا شرفاً في العلا. فقال له الحسين: اعلم أنّه قد ورد علىَّ من أهل الكوفه ثمانون ألف كتاب يسالوني المصير إليهم والقدوم عليهم، وقد أتيتُ إليهم فهل لك أن تكون معنا؟ فإن كنتَ لنا فلك ما لنا وعليك ما علينا، وإن قُتِلتَ بين يديَّ فزتَ بها. فقال له: يا أبا عبد الله أنا أخشى من بن زياد يدعوني إلى قتالك فإن حابتُك[865] طالبني جدّك بدمك ويكون يوم القيامه خصمي[866]، فأرد الموقف وأنا أحس[867] خلق الله متحيراً، وأمضي نار[868] جهنّم مع الكافرين. فقال له الحسين: فمَن يعلم بهذا ويتخلف عن نصرتي ويقعد عن مساعدتي؟ فقال: يا أبا عبد الله هذه فرسي لاحق[869] ليس لها في زمانها نظير، خذها وهذا كيس فيه ألف دينار خذه استعين[870] به على قومك. فقال له الحسين: امّا فرسك فما تنجيني من المقدور ولا تدفع محذور[871]. وأمّا مالُك فلا يصحبني ولا ينصرني من يطمع مني في مال ولا يرغب في نوال[872]، وجميع أصحابي راغبين[873] في العُقْبَى[874] زاهدين[875] في الدنيا. وأنت لو أردتَ تحشر معنا في زمرتنا وزمرة جدي عاناقه[876] من نور لم توقف عن مصيرك معنا ونصرتك لنا. وإن قد بخلتَ على رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بنفسك فلا حاجة فيما قِبَلك. ثُمّ نهض الحسين من عنده وهو يقرا: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)[877].

ثُمّ إنّ عبد الله بن الحر بعد خروج الحسين ندم على تخلّفه عنه، وما تكلّم به في حقّه، وجعل يلوم نفسه في ذلك، ثم أنشا يقول:

لقد فاز الذي نصـروا حسيناً
ومَن عاداه خاب بكل النفاقِ
[878]
فيا لكِ حسـرةً في القلب منّي
 تُردّدُ بين صدري وتراق
[879]
وإن يدعوا
[880] بنصـري وانتصاري
  على أهل العداوة والشقاق
فلو أنّي أُواسيهِ بنفـسي
 لَنلِتُ الفوزَ في يوم التّلاق
[881]
ولو أنّي أجود له بروحي
 لَنلِتُ كرامةً عند السّباق
لقد فاز الّذي
نصَـروا حُسيناً
 وكان الآخرون ذوي نفاق
فعدتُ[882] عن بن فاطمه حُسيناً
 فعال الآخرين ذوي الشقاق
[883]

 [نزول الإمام الحسين× أرض كربلاء]

24ـ وقال أبو مخنف: ثم سار الحسين حتى نزل أرض كربلا ـ وكان ذلك يوم الأربعا ـ فوقع الفرس من تحته، ولم يزل يركبُ فرساً بعد فرسٍ حتى ركب ستة[884] أفراسٍ، وهي لا تنحث[885] من تحته خُطوه. فنزل وقبض قبضه من الصعيد[886] واستنشقها. ثُمّ قال: يا قومُ ما يقال لهذه الأرض؟ فقالوا: أرض نينوه[887]. فقال لهم: هل اسم غيره؟[888] فقالوا: نعم أرض الغاضريّه[889]. فقال: لها اسم غيره؟ قالوا: نعم شاطي الفراه[890]. فقال: لها اسم غيره؟ قالوا: نعم نهر العلقمي[891]. فقال: يا قوم، بحق جدّي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) هل تعرفون بهذه[892] الأرض اسم غير هذا الاسم؟ قالوا: نعم أرض كربلا. فلمّا سمع حينئذ عرفه، فتغرغرت[893] عيناه بالدموع، وقال: صدق ـ والله ـ جدّي (صلى الله عليه [وآله] وسلم). ثُمّ تنفّس الصُّعدا[894]، وقال: ها هنا ـ والله ـ محطُّ رحالنا، وسفكُ دماينا، وسبي حريمنا، وقبور شيعتنا، ومن هاهنا يحشرون. وأنشد يقول شعر:

يا دهرُ أُفاً[895] لك من خَليلي
 كم لَكَ بالإشراقِ
والأَصيلِ
مِن طالبٍ بحقّهِ قَتيل
 
والدَّهر لا يقنَعُ بالبَديلِ
وإنَّما الأَمر إلى الخليلِ
 
وكلُّ حيٍّ سالكُ السَّبيل[896]

25ـ وفي رواية أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل (رضي الله عنه)
بإسنادٍ يرفعه إلى سبط التميمي، قال: حدثني بهرثمه[897] عن رجل من بني
 تميم[898]، قال: كانت لي امراه، يقال لها: جرادا[899] كانت قبلي، تحبّ عليّ بن أبي طالب ، قال: فأقبلنا معه من صِفين[900] حتى إذا كنا بكربلا صلا[901] بنا صلاة الفجر، ثُمّ أخذ كفاً من تراب أرض كربلا، فشمّه، ثُمّ قال: يأتي أَغْلِمة[902] يُقتَلون في هذا الموضع يدخلون الجنه بغير حساب. قال: فرجعتُ إلى جرادا زوجتي، فقلتُ: ويحك أظهر هذا الكذب للناس. فقالت: وما ذلك؟ فقلتُ: إنّا رجعنا معه من صِفين حتى كنا بكربلا صلا بنا صلاة الفجر. ثُمّ أخذ كفاً من تراب كربلا، وقال: يأتي غِلْمة[903] يقتلون في هذا المكان، يدخلون الجنة بغير حساب. ومن أعلمه بذلك؟! فقالت: اسكت فانّي أشهد بالله إن كان قاله فإنّه حق وصدق. ثُمّ ضرب الدهر جانبه، ومضت عليه الأيام، فبعث عبيد الله بن زياد (لعنه الله) إلى قتال الحسين وقد نزل كربلا، فلمّا سمعه
[904] يسال عن اسم الموضع، ذكّرني قول عليٍّ عند رجوعه من صِفين، ورأيتُ وقوفه بالموضع، وعرفتُ الموضع، فضربتُ فرسي، ولحقتُ بالحسين، فأخبرتُه بالخبر، فقال: أتلحق بنا؟ قلتُ: لا. قال: لا تنج[905]، لا ترى لنا سواداً ولا تسمع صوتاً لنا؛ فإنّه لا يرا[906] لنا أحداً[907]، ولا يسمع لنا صوتاً، ولا يغيثنا إلّا عذّبه الله عذّبه الله[908]}. قال: فضربتُ فرسي، ولحقتُ بالكوفه[909].

26ـ وفي رواية أبي عبد الرحمن بن[910] عبد الله بن أحمد بن حنبل (رضي الله عنه) أنّه قال: لا يرى أحداً سواد[911]، ولا يسمع لنا صوتاً، ولا يغيثنا إلّا أكبّه الله على وجهه في نار جهنم[912].

27ـ قال أبو مخنف (رضي الله عنه): فبينما الحسين مفّكراً في نفسه، إذ أقبل فارس يركض من نحو الكوفه قاصداً إلى الحصين، ومعه كتاب من عبيد الله بن زياد (لعنه الله) يقول فيه: أمّا بعد يا بن الحصين[913] اترك[914] الحسين بالغبرا[915]، بحيث لا ما ولا مرعا[916]. فلمّا قرا الكتاب قال: انزل يا أبا عبد الله. قال: فنزل الحسين، وضرب مضرب[917]، وأدخل بنيه وأهله وبنات رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ونسل فاطمه^ وحرم أَل علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم اجمعين) في المضرب، وأنزل أصحابه من حوله. وأمر بأن يُحفَر خدقاً[918] ويُملَأ بالحطب، ويُضرَب[919] فيه النار؛ حتى يكون القتال من جانب واحد. فلمّا نظر بن الحصين إلى ذلك استدعا[920] بدواه[921] وبيضا[922] وكتب كتاباً إلى عبيد الله بن زياد (لعنه الله) فيه يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد أيّها الأمير أنّهم كانوا بالثّعلبيّه، فأخذتُ الرجل، وسرتُ به، وكلّ من كان معه تفرّق عنه. وجميع عسكره اثني وسبعين[923] رجلاً، منهم سبعة عشر رجلاً من أهل بيته، وقد أنزلتُه بكربلا بحيث لا ما ولا مرعا[924]، ولا جدار ولا بنا، فلمّا فرغ من كتابه طواه، ونفذ به إلى عبيد الله بن زياد (لعنه الله)، فلمّا قراه أمر منادياً ينادي في جنبات الكوفه مَن تخلّف عنّي إلى ثلاثه أيام ضربتُ عنقه فلا يَلُومَنَّ أحداً[925] أحداً، والدعا[926] بشريح[927] فولاه القنطره[928] وادعا[929] بعمر بن حريث[930] فولّاه الكوفه، وقال: لا يطلع عليكما أحداً[931] من شيعة الحسين إلّا ضربتم عنقه.

قال: فرجع رجل من العسكر يريد الكوفه، فقال له عمر ابن حريث: ويلك لِمَ رجعتَ؟ فقال له: ابنت عمي حامل وقد ضربها المخاض، وقد نفذوا أهلي خلفي، فرجعتُ لأجلها. فقال له: كذبتَ، بل أنت من شيعة أبي تُراب[932]، ثُمّ قدّمه فضرب عنقه (رحمه الله). ثُمّ رجع آخر فأتى به، فقال له: لِمَ رجعتَ؟ فقال له: من أجل دوابّ لي. فقال: كذبتَ، ثُمّ أمر فضُرِب عنقه[933].

28ـ قال أبو مخنف: ثُمّ إنّ عبيد الله بن زياد (لعنه الله) لمّا جمع العساكر نادى فيهم من يأتي برأس الحسين، فله خراج البصره والكوفه والعراق عشره سنين[934] متواليات. فلم يجبه أحداً[935]، ونادى ثانياً وثالثاً، فلم يجبه أحداً، فعند ذلك التفت إلى عمر بن سعد، وكان يزيد قد ولّاه الراي[936]، وكتب له بها عهداً ولم يمضه بعد: فقال عبيد الله بن زياد (لعنهم الله اجمعين): تخرج أنت إلى قتال الحسين، وتكفينا أمره وتخمد ذكره، وتحطّ قدره وتخمد جمرته، وتبيد مشافته[937]، وتهلك شيعته، وتفني أثره، ولا تأخذك به رحمه[938]. فها هو أقبل من الحجاز، وكلّ عسكره اثنى وسبعين[939] رجلاً، وهو بأرض كربلا، فقال ابن سعد: أيّها الأمير من هذا[940]. فقال له: واضيفا[941] إلى توليتُك طَبَرِسْتَانَ[942] وقَاشَان[943]. فقال: اعفني أيّها الأمير. فقال له: عند ذلك عبيد الله بن زياد أن أبيت الخروج فرد علينا عطانا. فلمّا نظر عمر بن سعد أنّه قد ألزمه بخروجه، وأنه لابدّ من الأمتثال لأمره قال له: لقد غلبت الشقوه[944] عليّ أيّها الأمير. ثُمّ قال له: أتريد أن توجّلني[945] ليلتي هذه؟ قال: قد أجلتُك. ثُمّ نهض من عنده وهو أنحس[946] خلق الله منحراً، وأقبحهم ذكراً، فأتى إلى داره فدخل عليه أولاً[947] المهاجرين والأنصار، فقالوا له: يا عمر بن سعد أكفرٌ بعد إيمان، وضلال بعد برهان؟! أما تتقي الله} تحارب بن بنت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)؟! أما تعلم موضعه من الله ورسوله؟! بأيّ وجه تلقى جدّه، وأنت مطالب بإثمه؟! فقال: كلا لستُ أفعل.

وبات تلك الليل[948] لم تغمض له عينٌ، ولا استقر له مهاد[949]، بل يفكّر في قتل الحسين وملك الريّ، وترجيح الدنيا على الآخره. وغلّب ملك الري على دينه، ولم يزل كذلك حتى استحوذ على قلبه الشيطان فصدّه عن الإيمان، وأنساه ما نطق به القرآن، وغلبت الشقوة على قلبه، واحتوى الكفر على لبّه[950]، فأنشأ يقول شعر:

فوالله ما أدري وإنّي لَصادقٌ
أُفكّر في أمري على خَطَرينِ
أأترُكُ مُلكَ الريُّ والريُّ مُنيتي
 أم أرجعُ مأثوماً بقتل حُسينِ
حُسين عمّى
[951] والحوادث جمّةٌ
 لَعمري ولي في الريّ قُرة عينِ
وإنّ إلهَ الخلق يغفرُ زلّتي
 ولو كنتُ فيها آخر الثّقلينِ
ولكنّها الدُّنيا لخير مُعجّل
 وما عاقلٌ باعَ بالوجود
[952] بدَينِ
فإن صَدَقوا
[953] كَذِبوا فُزنا بريّ عظيمه
 ومُلكٍ عظيم دايم الحِجلَينِ
[954]
وإن صَدَقوا فيما يقُولون إنّني
  أتُوبُ إلى الرّحمن من سَنتينِ
[955]

29ـ قال: قال أبو مخنف لوط بن يحيى: وكانت أوّل راية خرجت إلى
 الحسين بن علي (رضي الله عنه) راية عمر بن سعد في ستة[956] آلاف فارس ثُمّ ادعا
بالشمر بن ذو[957] الجوشن الضبابي[958] (لعنه الله) فعقد له رايه على أربعة آلاف فارس، ثُمّ دعى[959] بسنان بن أنس النخعي[960] (لعنه الله) فعقد له رايه على
أربعة[961] آلاف فارس، ثُمّ أدعى بالقشعم[962] فعقد له راية على ثلاثه آلاف فارس وراجل، ثُمّ ادعى بخوله بن يزيد الأوصحي[963] فعقد له رايه على ثلاثه
[964] آلاف فارس وراجل، ثُمّ أدعى بالجيش واستعرضه فكان جملته أربعة وعشرين ألف فارس وراجل[965]. ثُمّ ساروا يقدمهم الخزي والوبال والعقاب والنكال بالعدد الكامله، ليس فيهم شاميّ ولا بصري[966] فنزلوا بإزا[967] الحسين[968]، وقال لأصحابه: المعروفون هاولا[969]؟ قالوا: نعم هذا عمر بن سعد قايد جيش عبيد الله بن زياد، وزعيمهم وتحت طاعتهم. فلمّا استقر بالجيش النزول استدعى عمر بن سعد برجل يقال له كثير بن شهاب[970] وقيل: كان اسمه خُزيمه[971] وقال له امضِ برسالتي إلى الحسين بن علي، وقل: يا أبا عبد الله ما الّذي أقدمك؟ وما علامة جد عزمك؟ وفِيمَ[972] أتيتَ العراق؟ وما الذي تريد أن تصنع؟ فأقبل الرجل حتى وقف بإزا الحسين، فقال الحسين لأصحابه: هل فيكم من يعرف هذا الرجل؟ فقالوا: نعم هذا كثير بن شهاب أو خزيمه. وهو رجل فيه خير وصلاح وفضل ومعرفه إلّا أنّه قد شهد هذا الموقف. فقال الحسين: سلُوه ما الذي تريد؟ فقال: الدخول على سيّدي الحسين. فقالوا له: إلقِ عنك سلاحك وادخل. فقال: حُبّاً وكرامه، ثُمّ دخل إليه فانكب يقبّل قدميه ويتضرع بين يديه، ثُمّ قال: يا سيّدي يا أبا عبد الله ما الذي أقدم[973]؟ فقال: كُتبكُم جات لي تتواتر ورودها عليّ تَحثُّوني على المصير. فقال: لعن الله مَن كاتبك فكذَبك وعاهدك فخذَلك، ومَن أزعجك مِن حرم جدّك (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، ولعن مَن خفر[974] ذمتك، وجحد أبويك، وحال عن نصرتك.

فقال له الحسين: فأنت ترجع إلى صاحبك تخبره الخبر. فقال كثير: يا سيّدي جُعِلتُ فداك، ومَن يطيب قلبه أن يخرج من الجنّه ويدخل النار ويُصلى بغضب الجبّار؟! وأيّ عذر لي أقوم به في عرصة المحشر عند جدّك وأبيك وأمّك وأخيك فأرجع عنك إلى عدوك؟! كلّا ـ والله ـ لا كان ذلك أبداً، بل أجالد[975] بسيفي بين يديك، وأطعن برمحي محاربَك. فقال له الحسين: وصَلَكَ الله إذا وصَلتَنا، وشكر لكم ذلك إذا نَصرتَنا. وأقام مع الحسين[976].

 ثُمّ إنّ عمر بن سعد ضرب مضربه بإزا الحسين، وكان يُبسَط له بِساطاً وللحسين بِساطاً[977]، فيجلسان فيتحدّثان عليه عامّه[978] ليلّهم، ثُمّ يرجع كلّ واحد منهم إلى مضـربه[979]. وكان خولي بن يزيد الأوضحي[980] من مبغضي الحسين، فكتب إلى ابن زياد (لعنه الله) كتاباً. وقيل: إنّ الشمر (لعنه الله) كتب يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد أيّها الأمير ممّا أُعلِمك أن عمر بن سعد قد صبا[981] إلى الحسين، وأنّه يُبسَط له كلَّ ليله بساط، فيتحدّث معه عامّه ليله، ثُمّ يرجع كلّ واحد منهم إلى موضعه، وقد أدركته الرّحمه للحسين[982]، فلمّا وصل الكتاب إلى عبيد الله بن زياد (لعنه الله) قراه، وكتب من وقته إلى عمر بن سعد: أمّا بعد إن كنتَ قد كرهتَ القتال فردّ علينا عهدنا، وإلّا نازل الحسين بالقتال، وامره[983] أن ينزل على حكمنا، وامنعه ما[984] الفرات، فقد حلَّلتُهُ للكلام[985] وحرّمتُهُ عليه[986].

وطوى الكتاب، ونفذ به إلى عمر بن سعد، فلمّا قراه فهم معناه لم يلبث حتى أدعى[987] بشبيب بن ربعي[988]، وأمّره على ألف فارس، وأمَرَهُ أن ينزل على مشرفه نينوه[989] واستدعا بعمر بن الحجّاج وكان في أربعه[990] فارس[991] وأمَره أن ينزل على مَشرَعةِ الغارضيه[992]، وأخذوا عليه المشارع من كلّ مكان ومنعوه الما[993].

 [شهادة العباس×]

30ـ قال أبو مخنف: وأقبلوا[994] أصحاب الحسين حتى يردوا الما فرشقوهم بالنبال ومنعوهم منه، فعادوا إليه وقالوا له: يا بن رسول الله ألا ترى إلى القوم قد منعونا الما، ونحن محتاجين[995] إليه! فأمر الحسين فحفر بير[996] فعمد بن سعد فطمّها ثُمّ حفر ثانيه فطمّها. واشتد بهم العطش ومنعوهم الما ثلاثه أيام. فلمّا كان صبيحة اليوم الرابع وقد كضّهم[997] العطش استدعا الحسين بأخيه العباس ـ وكان أصغر أولاد[998] عليّ ـ ثُمّ قال: يا خي[999] ما تريد؟ قال: ما ترى[1000] الحرم والأطفال كيف ينضون[1001] عطشاً؟! وأخوالك من بني كلاب[1002] نزلوا على الما ـ وكانت اُمّ العباس يقال لها: اُمّ البنين بنت حارس بن خالد الوحيد الكلابي[1003] ـ فقال له العباس: كيف أصنع؟ فقال له الحسين: تأتيهم بغته. فقال: سمعاً وطاعه. ثُمّ ضمّ إليه ثلاثون[1004] رجلاً، فأخذوا معهم القِرَب[1005] وساروا حتى أتوا المشرعه ليلاً، وكان بها عمر بن الحجاج الزبيدي بن أبي لجيه، فأحسن[1006] بهم. فقالوا[1007] لهم: مَن أنتم؟ فقال[1008] لهم: نحن من شيعة الحسين. فقال لهم: عبد الرحمن بن دحيه[1009]: وما تصنعون يا شيعة الحسين ههنا؟ فقالوا لهم: قد كفا[1010] العطش. فقال: ومن زعيم القوم فيكم؟ قالوا: معنا قرابه الأمير عمر بن الحجاج. فقال: اصبروا حتى أستأذن لكم الأمير، ثُمّ دخل عليه، فقال له: إنّ قرابتك قد وآفا[1011]، وهو يذكر أنّه عطشان، ومعه جماعة نفر[1012]، وقد وردوا الما فمنعتُهم منه. فقال: عليّ به. فأُدخِل عليه فرحّب به، وقال له: قل ما تشا. قال الحرم عطشانين[1013]، وأنا عطشان، فقال لهم: أَفرَجُوا[1014] له عن الما يشرب وحده. فقال له العباس: ويلك أكفرٌ بعد إيمان وضلال بعد برهان؟! لا أشرب ما[1015] وسيّدي الحسين ظمأن، وبنات رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) عُطَاش[1016]. فقال له: فكان[1017] أخاك الحسين أحبّ إليك من نفسك؟! فقال له العباس: يا ويلك! والله إنّ شعره من الحسين أحبّ إليَّ من قومي كلّهم. فقال له: لا أنت تشرب، ولا الحسين يشرب من الما جرعه، ثُمّ ثارت بهم الخيل، وثارت خيل العباس بهم أيضاً.

وفي روايه أخرى: أنّهم يأتون الما الّا نهاراً[1018] وهو الصحيح. ثُمّ إنّهم اقتتلوا قتالاً شديد[1019].

31ـ قال أبو مخنف: فقاتلت الثلاثين فارس[1020] التي كانت مع العباس الأربعين[1021] ألف فارس[1022] التي كانت مع عمر بن الحجاج (قبّح الله فعله). فلمّا تكاثروا عليهم التفت العباس إلى أصحابه، وقال لهم: الحقوا بسيّدي الحسين، فمضوا عنه وبقي وحدَه، فقال له الأبراد الكلبي[1023]: من أنت يا فتى؟ فقال: أنا العباس بن علي بن أبي طالب. فقال له: ابن أخت زهره[1024]؟ قال: نعم، قال: ما تشا؟ قال: أنا عطشان، فأمر أصحابه يفرجوا[1025] له عن الما فملا السقا[1026] وغَرفَ من الما، وهَمّ أن يشرب فذكر عطش الحسين، فقال: والله لا ذُقتُ ما[1027] وسيّدي الحسين عطشاناً. ثُمّ احتمل السقا وصعد من الفراه[1028].

32ـ قال أبو مخنف في روايته: إنّ العباس حمل عليهم فكشفهم عن الما، واغترف وجعل يقول:

لا أرهبُ الموتَ إذ الموت رَقا[1029]
  حتى أُوارا
[1030] بالمَصاليتِ[1031] لقا[1032]
نَفسي لنفسِ السيّد الطهور
[1033] وِقا
 إنّي أنا العبّاس أغدوا
[1034] بالسّقا
ولا أخاف السـر
[1035] يوم الملتقا[1036]
 لقد طغيتم ثُمّ عمتم في الشقا
[1037]

ولم يزل يقاتل ويحمل عليهم فيقتل منهم أبطالاً ويجرح رجالاً ويتلقى سهماً منهم بنحره وصدره ويكر فيهم ويرتجز يقول:

تَعَدَّيْتُمْوا يا شَرَّ قَوْم ! بفِعْلِكُمْ
 
وَخالَفْتُمْوا فِينَا النبيّ مُحَمَّد
أَما كانَ خَيْرُ الرُّسُلِ أوصاكُمْ بِنا
 أَما كانَ جَدِي خَيْره الله أَحْمَد
أَما كانَتِ الزَّهْرا أُمّي دُونَكُم
  أَما نَحْنُ مِنْ نَسلِ الإمام الْمُسَدَّد
لُعِنْتُمْ وَأُخْزيتُمْ بِما قَدْ جَنَيْتُموا
 وسَوْفَ تُلاقُوا حَرَّ ناراً
[1038] توقد[1039]

فقتل منهم خلق كثير[1040] ووقف يرتجز ويقول:

يا نفسُ من بَعْدِ الحسينِ هُوني
 فبَعْدَه لا كنتِ أن تكُوني
هَذا الحسينُ ضَامِي
[1041] المَنُونِي[1042]
 
أتشـربينَ بَارِدَ الْمَعِينِي؟
هَيهاتَ ما هذا الطّريقُ ديني
 حتى أذوق الكأس من المَنُونِي
حيي أبداً ربي
[1043] معيني
 يصد
عَنِّي كلّ من ينعيني[1044]

ثُمّ حمل عليهم، وحمل عليه رجل يقال له: الأبرد بن شتوي الجهني[1045] ضربه ضربةً على يمينه فقطعها، وطاحت عنه والسّيف فيها، فأخذ العباس السّيف بشماله، وحمل عليهم ويده تشخب دماً، فقتل جماعه، وهو يرتجز ويقول:

والله إن قَطعتُمُوا يمينــــي‏
 إنّي أُحامِي أَبَداً عن دِيني
وعنْ إمامٍ صَادِقِ اليَقِيني
 
سبط[1046] الطّــاهِرِ الأَمينِي

وحمل عليهم، فحمل عليه عبد الله الشهباني[1047] فضربه على شماله فقطعها، فحمل عليهم، وهو يرتجز ويقول شعر:

يا نفسُ لا تخشـي من الكُفَّارِ
 وأدني بخيرِ
صحةِ[1048] الأخيارِ
مع النبيِّ سيِّدِ الأبرارِ
 قدْ قَطَعُوا ببغيِهِمْ يَسَارِ
فأَصْلِهِم يا ربِّ حَرَّ النارِ
 فقد طغوا معاشر الكفار
[1049]
وخالفُوا الله العليّ الباري
  وعاودوا عبادة الأحجار
[1050]

وجعل العباس (رضوان الله عليه) يصادمهم[1051] حتى قلّت[1052] نفسه الزكيه عليها أفضل الصلاه والسلام. فلمّا بلغ الحسين قتله أثّر فيه الغمّ واعتر به الكابة[1053] والهمّ، ثُمّ قال: لا حولَ ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم. ثمّ إنّه أجرى[1054] فرسه حتى وقف على مصرعه، فلمّا راه بكا بُكا شديداً، ثُمّ نزل عن فرسه وجعل يقبّله ويقول: جزاك الله من أخٍ خيراً[1055]، ثُمّ قرا (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)[1056].

33ـ وفي مسند أبي[1057] عبد الله بن أحمد بن حنبل (رضي الله عنه) بإسناد يرفعه إلى رجل من بني ضبّه[1058]، قال: كنتُ مع علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ليال[1059] نزل كربلا عند رجوعه من صِفّين فرايتُه قام تنحّا[1060] وحده ما قربه أحدٌ، وأشار بيده فقال: ههنا ـ والله ـ مناخ ركابهم وموضع رجالهم، ثُمّ ضرب بيده إلى تربة الأرض فأخذ منها قبضةً فشمّها، ثُمّ قال وا حبّذا بدماء تُسفَك فيك. وهو قايم وحده ما قربه أحداً[1061]، وأنا أنظر إليه. ثُمّ مضى ذلك لشانه، وكان من الأمر ما كان[1062].

ثُمّ إنّ الحسين خرج حتى نزلها، وكنتُ في الخيل التي بعث عبيدُ الله بها إلى الحسين، فوالله ما كان إلّا أن انتهيتُ إلى ذلك الموضع، ونظرتُ إلى مقام عليٍّ، وأشار بيده[1063]، فأثنيتُ فرسي ساعة قتل العباس، وأقبلتُ إلى الحسين فسلّمتُ عليه، وقلتُ: إنّ أباك كان أعلم الناس، وإنّي سمعتُه يقول كذا وكذا، وإنّه قام هذا المقام، وأشار بيده، ثُمّ قال: وا حيدا[1064]! واهاً بدماء تسفك فيك! وإنّك لمقتول الساعه، فخذ لنفسك واصنع ما أنت صانع. فقال الحسين: ما تريد أن تصنع؟ أتتبعنا أم تلحق بأهلك؟ قال فقلتُ: والله إنّه علىَّ عيال ودين[1065]، وما أظنّ إلّا سألحق بأهلي. فقال الحسين: أما فانظر ما هنالك. قال: فنظرتُ وإذا بمالٍ موضوع. فقال: خذ حاجتك منه قبل أن يحرم عليك، والله ما يرى البارقه[1066] أحداً[1067] ولا يسمع أحداً الواعيه[1068] ثُمّ لا يغيثنا ـ أو قال لا ينصرنا ـ إلّا كان ملعوناً على لسان محمد (صلى الله عليه [وآله] وسلم). قال فقلتُ: والله لا أجمع عليك أمرين: أخذلك ثُمّ آخذ مالك. قال: ثُمّ إنّ الحسين دعا رجل[1069] من أصحابه يُقال له: أنيس الكاهلي[1070] وقال له: اذهب إلى هولا القوم، فذكّرهم الله ورسولَه؛ عيسى[1071] أن يرجعوا عن قتالنا، فإنّي أعلم أنّهم لا يرجعون، ولكن لتكون الحجّه عليهم إلى يوم القيامة. فانطلق أنيس حتى دخل على عمر بن سعد (لعنه الله) ولم يسلّم، فقال له: يا كاهل[1072] ما منعك أن تسلِّم عليَّ حين دخلتَ؟! ألستُ مسلماً ؟! قال: لا والله.

 فقال عمر: واللهِ ما كفرتُ بعد ما عرفتُ الله ورسوله. فقال له أنيس: كيف عرفتَ الله ورسوله، وأنت تريد قتل وَلد رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وأولاده؟! فنكّس[1073] رأسَهُ ساعة، ثُمّ قال: والله إنّي أعلم أنّ قاتلهم في النار، ولكنّ الله قدّر بهذا. فلمّا سمع أنيس كلامه رجع إلى الحسين وأعلمه بما جرى[1074].

34ـ قال أبوا[1075] مخنف: ثُمّ إنّ الحسين رجع عن مصرع أخيه العباس ثُمّ جمع أصحابه، وقال لهم: يا قوم إذا هجم الظلام فخذوا لأنفسكم النجاة، وسيروا ودعوني؛ فما طَلِبة[1076] القوم غيري. فأجابوه[1077] جميعُهم، أهلُه وبنوا[1078] عمِّه ومَن معه من مواليه: بأيِّ وجهٍ نلقى الله وجدّك (صلى الله عليه [وآله] وسلم)؟ فقال لهم: ما قَصدُهم إلّا ياي[1079]، وأنتم فقد بذلتم مجهودكم، وأعطيتم ما عندكم. فقال له زهير بن القين[1080]: حاشا لله أن نفعل ذلك أبداً، بل نذبُّ عنك بأسيافنا، ونطعن برماحنا، ونحمي ما حملتْنا سروجُنا. وأعظم البليه تصير[1081] شنيعة في القبايل، وحديث[1082] في المحافل، ومثلاً تسير به الرُّكبان في البلدان، يقولون: كأنّكم سرتم مع بنت[1083] نبيِّكم، وسيّد قومكم، وزعيم دينكم، حتى أسلمتموه إلى المهالك، وخذلتموه في أضيق المسالك، حتى أشفيتموا[1084] أعدايه[1085] منه، ورجعتم عنه. واللهِ ما نزول عنك أو نُذبَح كما تُذبَح الإبلُ في مواسمها، وإلى الله المنقلب. فجزّاهم الحسين عند سماع قولهم خيراً[1086].

 ثُمّ تنفّس الصعداء وأنشأ يقُول:

يا رَبِّ ! لا تَتْرُكْني وَحيدا
 قَدْ أَظْهُروا الْفُسُوقَ وَالْجُحُودا
وَصَيَّرُونا بَيْنَهُمْ عَبيدا
 يُرْضُونَ في فِعالِهِمْ يَزيدا
أَمّا أَخي فَقَدْ مَضـى شَهيدا
 مُجَدِّلاً في دَمهِ فَريدا
[1087]

قال: وكان قد حان وقت صلاة الظهر فصلّى الحسين بأصحابه صلاة الظهر، ثُمّ حملته عيناه فنام فراى في منامه جدَّه رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وهو يقول: يا حسين الوحا الوحا[1088]، فانتبه وهو باكي[1089] حزيناً ممّا رأى. فقالت له اخته زينب[1090] ـ وكانت تحبه حباً شديداً ـ: يا سيّدي نامت عيناك وانتبهت فزعاً مرعوباً مكروباً، فخير[1091] رأيتَ؟ وخير يكره[1092]؟! فقال لها: يا ختي[1093] الساعه رأيتُ جدّي وهو يقول: يا حسين الوحا الوحا. قال: فبكيت[1094] زينب‘، وقالت: بنفسي أفديك، ومهجتي من الأسو[1095] أتقيك.

ثُمّ إنّ الحسين بات في تلك الليله في جهد[1096] مجتهداً إلى الصباح، فلمّا صلّى
 الغداه نادى عمر بن سعد (لعنه الله) في عسكره: أن خذوا هبتكم
[1097] فركبت الخيل،
ثُمّ عبّا الصحابه ميمنة وميسره وقلب
[1098] وجناحين، فجعل في الميمنة الشمر بن
ذي الجوشن المضابي[1099] (لعنه الله)، وجعل في الميسره سنان بن أنس النخعي (لعنهم
الله أجمعين)، كلّ واحد منهم في ستة آلاف فارس. ثُمّ جمع بقية عسكره معه
ووقف بنفسه في القلب. ثُمّ أخذ عمر بن سعد سهماً ورمى به الحسين فوقع بباب الخيمه، فلمّا راه الحسين قال لهم: هذا رسول حرب القوم قد أتاكم فأُعبّيكم
[1100]. فقالوا له: عَبّنا، فواللهِ لا نزال بين يديك مجاهدين، وفي طاعة الله ورسوله صابرين إلى أن تهشّم النواجذ[1101]، وتكلّ[1102] السواعد، وتفلّق الهام، وتبثوا[1103] الجسام. فعند ذلك عبّأهم؛ فجعل في ميمنته زهير بن القين (رحمه الله) في عشرين رجلاً، وجعل في ميسرته قيس بن مشروق العبسي[1104]، وقيل كان نافع بن هلال البجلي[1105] (رضي الله عنه)، وجعل سعد بن مالك النخعي[1106] على الساقه[1107] في عشرين فارساً، وجمع ما بقي معه، ووقف في القلب. وجمع الأطفال والحريم في خيمة، وكان قد حفر حولها خَندقاً وأضرَم فيه النار كما ذكرنا في أول الحديث حتى يكون القتال من وجهٍ واحد[1108].

قال: فوقف العسكران ساعة من النهار، فقال الحسين لأصحابه: ما وقوفكم عن جمع الكفر وعصبة الشرك[1109]، ثُمّ أنشا وجعل يقول:

الْحَمْدُ لِلهِ على الشَّدايدِ
 وإنّني لله غيرِ جاحدِي
قَدْ قَتَلُونا قَتْلَةَ الأوابدِ
[1110]
وأنتَ يا ربّاهُ غير راقدي
أرجُوك في يومِ المعاد العايد
 يا رَبِّ لا تَغْفَلْ عَنْ مُعاندِي
قد جحدوا جدّي وحقَّ والدي
  وعاودو
[1111] الأصنام والجلايدِ[1112]

35ـ قال أبو مخنف: ثُمّ برز من أصحاب بن سعد رجل، يقال له جويزه[1113]، فقال: يا حسين لقد استعجلتَ بالنار في الدّنيا قبل الآخره. فما استتمّ كلامه[1114] حتى تقرّب فرسه على ساقية هناك، فوقع فتقطّع إرباً إرباً حتى لم يبقَ سوى رجله معلّقه في الرِّكاب[1115].

36ـ وفي روايه أبي عبد الله أحمد بن حنبل بإسناد يرفعه إلى رجل يقال له
علقمه بن واثله
[1116] أنّه قال: شهدتُ المقام يوم كربلا، وسمعتُ الرجل والحسين، فبينما هو قايم إذ جاه رجل فقال: أيُّكم حسيناً[1117]؟ فقال: مَن أنت؟ فقال: أنا جويزة، أبشر يا حسيناً[1118] لقد استعجلتَ النار في الدنيا قبل الآخره. فقال الحسين: اللّهم جزوه[1119] إلى النّار. فما استتم الحسينُ كلامَه حتى تقرّب به فرسُهُ فألقته في نار الخندق، فاحترق وعجّل الله بروحه إلى النار، فكبّر عند ذلك الإمامُ ثلاثَ تكبيرات[1120].

37ـ وبإسناده أيضاً يرفعه إلى هشام بن حسان، يرفعه عن محمد بن سيرين[1121] عن أصحابه أنّ علياً قال لعمر بن سعد (لعنه الله): كيف لي بك يا عمر إذا قمتَ صفان[1122] ما، تُخيَّر بين الجنة والنار فتختار النار؟![1123].

38ـ وبإسناده أيضاً أنّه قال: قال أنس بن مالك[1124]: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): الحسن والحسين شباب[1125] أهل الجنة، وفاطمه أمّهم سيدت[1126] نسا أهل الجنه. فمَن أحبّهم فقد أحبّني، مَن بغضهم[1127] فقد أبغضني[1128].

39ـ قال أبو مخنف لوط بن يحيى: لما هلك الرجل قال له[1129] زهير بن القين للحسين: يا سيّدي أتأذن لي أن أتكلم[1130] القوم؟ فقال له الحسين: قد أذنتُ لك في ذلك. فناداهم زهير: يا أهل الكوفة، يا معاشر العرب، أتدرون أيّ دمٍ تريقون؟! وأيّ كبد تصدعون؟! وأيّ جسد ترمون؟! وأيّ فادح تفدحون؟! وأيّ بطل تقاتلون؟! ويلكم! أما تعلمون أنّ كبد رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ترمون؟! وعن الدّين تصدّون؟! وحشاشة قلبه تلذعون؟! وعن الصراط تحيدون؟! (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)[1131]، ثم قرا (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[1132] ويلكم! لو كان خارجي[1133] من بلاد الروم ما كنتم فاعلون[1134].

40ـ قال أبو مخنف لوط: ثُمّ حمل القوم بعضهم على بعض واشتدّ الحربُ عليهم، وصبر الحسينُ هو وأصحابه حتى انتصف النهار، وهم يقاتلون من وجه واحد؛ لتقارب البيوت بعضها من بعض. فلمّا نظر بن سعد (لعنه الله) إلى ذلك أمر بإحراق البيوت، فقال الحسين لأصحابه: دعوهم يحرقوانها[1135] فإنّهم إن أحرقو[1136] البيوت لم يصلوا إليكم؛ لأجل النار، ولم يكن قتالهم إلّا من وجه واحد[1137].

 ثُمّ إنّ شمر[1138] (لعنه الله) حمل حتى طعن فسطاط النسا، وقال: عليَّ بالنار حتى أُحرِق بيوت الظّالمين. فحمل عليه أصحابُ الحسين، فكشفوهم، وناداه الحسين وقال: يا شمر، أتحرق حرم رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)؟! قال: نعم. فرفع طرفَهُ إلى السما وقال: اللّهم لا يعجز شمر أن تحرق جسده بالنّار يوم القيامه. فغضب شمر (لعنه الله) فصاح: يا ويلكم؟! كرّوا عليهما[1139] كرةَ رجلٍ واحدٍ وأبيدوهم عن آخرهم. فحملوا عليهم وتفرّقُوا عن شمايلهم وأيمانهم وبين أيديهم ومن خلفهم، وجعلوا يرشقُونَهم بالنّبال ويطعنونهم بالرّماح ويضربونهم بالصفاح، فبين ضَيع[1140] وجريح وقايم وطريح[1141].

فلمّا را أبوا[1142] ثمامه عمر بن عبد الله الصّيداوي إلى إحاطة القوم بهم أقبل على الحسين وقال: يا بن عم[1143] رسول الله إنّنا مقتُولون لا مُحاله، وقد حضرة[1144] الصلاه، فصلّي[1145] بنا فإنّي أرى أنّها آخر صلاة نُصلّيها، فلعلّنا نلقى الله تعالى على فريضه. فقال: نعم. ثُمّ أذّن فلمّا فرغ من الأذان نادا[1146]: يا عمر أنسيت شرايع الإسلام؟ ألا تقف عن الحرب ساعةً حتى نُصلّي ثُم نعود إلى الحرب؟ فلم يُجبهُ فناداهُ الحُصين بن نُمير[1147]: يا حسين صلّي[1148] ما بدا لك أن تُصلي؛ فإنّ الله لا يقبل صلاتك. فقال له حبيب بن مطهّر ـ وكان وقفا[1149] بين يدي الحسين (عليه الصلاة والسلام) ـ: ثَكلتك أمّك، يا ويلك! لا تُقبل صلاة بن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وتُقبل صلاتك يا بن الحمارة[1150]! فغضب الحُصين حين ذكر أمّه، وبدر نحوه، وهو يقول شعر:

دونَك ضربَ السّيف يا حَبيبي[1151]
 وافاكَ ليثٌ بطلٌ نَجيبُ

وافاكَ ليثٌ بطلٌ نَجيبُ
في كفّهِ مُهنّدٌ قضيبُ
كانَّه من صعده صَليبُ

كأنَّه من صعده صَليبُ

ثّم نادى: يا حبيب، ابرز إلى ميدان الحرب، ومعدن الطعن والضرب، فلمّا سمع حبيب كلامه، سلّم على الحسين وودّعه، وقال: يا مولاي إن تنقضي[1152] صلاتُك وأصلي في الجنّة، وأُقرى[1153] أباك وجدّك وأخيك[1154] السّلام.

ثمّ إنّه برز إلى الحُصين بن نُمير وهو يقول:

أنا حبيبٌ