بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرمنا بسيّد أنبيائهِ وأشرفِ أصفيائهِ، مُحمّدٍ والنُجباءِ من عترتهِ وأوصيائهِ، حججِ اللهِ في أرضهِ وسمائهِ، صلوات الله عليه وعليهم ما استنارت بحبِّهم قلوبُ أحبائهِ، وانشرحتْ بولائهم صدور أوليائه.
وبعد، هذا هو الجزء الخامس من كتابي (مُعين الخطباء.. في حلّته الجديدة).
المحاضرة الأُولى: شهرُ الله
روى الشيخ الصدوق& بسنده، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا×، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن أبيه سيد الشهداء الحسين بن علي، عن أبيه سيد الوصيين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب^، قال: «إنّ رسول الله’ خطبنا ذاتَ يومٍ فقال: أيّها الناس، إنّه قد أقبلَ إليكم شهرُ اللهِ بالبركةِ والرَّحمةِ والمغفرةِ، شهرٌ هو عندَ اللهِ أفضل الشهور، وأيامه أفضلُ الأيام، ولياليه أفضلُ الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسُكم فيه تسبيح، ونومُكم فيه عبادة، وعملُكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا اللهَ ربَّكم بنيّاتٍ صادقة، وقلوبٍ طاهرة، أن يوفّقَكم لصيامه وتلاوة كتابه؛ فإنَّ الشقي من حُرم من غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعِكم وعطشِكم فيه جوعَ يومِ القيامةِ وعطشهِ....»[1].
جملة من الأسئلة تلوح في أُفق العقل السليم بمجرد أن يشـرف عليه هذا الشهر الفضيل، والسؤال الأوّل هو: كيف نستثمر هذا الشهر المبارك؟
والجواب عن السؤال يتوقّف على معرفتنا للظرف الذي نحن فيه؛ فإذا لم نعرف أين نحن؟ فلن ننتفع؛ لأنّ الانتفاع من الشـيء فرع معرفته ومعرفة قابلياته وإمكانياته؛ فلذا تجد أنّ الإنسان الذي لا يعرف الشـيء وقيمته يتساهل ويتهاون في الحفاظ عليه، بل قد يبيعه بثمنٍ بخس، كما حصل في قصة بيع نبيّ الله يوسف الصديق×، وبقي مَن باعه بحسـرة لا تفارقه بعد أن عرف مَن هو المباع.
وفي التاريخ الحديث يُذكر أنّه: باع جورج هاريشن ـ من جنوب أفريقيا ـ مزرعته إلى شركة تنقيب بعشـرة جنيهات فقط؛ لعدم صلاحيتها للزراعة، وحين شرعت الشـركة في استغلالها، اكتشفت بها أكبر منجم للذهب على الإطلاق، أصبح بعدها هذا المنجم مسؤولاً عن 70% من إنتاج الذهب في العالم [2].
وفيما أملاه إمامنا أبو عبد الله الصادق× على المفضل بن عمر أن قال له: «اعرف يا مفضل ما للأطفال في البكاء من المنفعة، واعلم أنّ في أدمغة الأطفال رطوبة، إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثاً جليلة وعللاً عظيمة، من ذهاب البصر وغيره، والبكاء يسيل تلك الرطوبة من رؤوسهم فيعقبهم ذلك الصحة في أبدانهم والسلامة في أبصارهم. أفليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك فهما دائبان ليسكتانه ويتوخيان في الأُمور مرضاته لئلّا يبكي، وهما لا يعلمان أنّ البكاء أصلح له وأجمل عاقبة. فهكذا يجوز أن في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالإهمال ولو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشـيء أنّه لا منفعة فيه، من أجل أنّهم لا يعرفونه ولا يعلمون السبب فيه، فإنّ كلّ ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون، وكثيراً ما يقصـر عنه على المخلوقين محيط به علم الخالق جلّ قدسه وعلت كلمته»[3].
فجهل الإنسان بالشـيء يجعله لا ينتفع به، بل ويسـيء استخدامه، ويكون في عالم آخر، كما يحصل الآن في قضية الهلال، فنحن نلج الآن للشهر الفضيل وأكبر مشكلة تواجهنا في هذا الشهر الفضيل هي عدم معرفة هذا الشهر بما ينبغي، وبالتالي عدم الاستفادة منه فكأنّنا في وادٍ وشهر رمضان في وادٍ آخر.
لكن عندما نقرأ هذه الرواية الشـريفة نعرف ما هو معنى شهر رمضان؟ روى الشيخ الصدوق& بسنده عن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «سمعت أفضل الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين يقول: إنّ سيِّد الوصيين يقتل في سيِّد الشهور. فقلت: يا رسول الله، وما سيِّد الشهور؟ ومَن سيِّد الوصيين؟ قال: أمّا سيِّد الشهور فشهر رمضان، وأمّا سيِّد الوصيين فأنت»[4].
وأنّه الشهر الذي أُنزلت فيه الكتب السماويّة، فعن النبيّ الأكرم’ أنّه قال: «أُنزلت صحف إبراهيم لثلاث مضين من شهر رمضان...، وأُنزلت توراة موسى لستٍّ مضين من شهر رمضان، وأُنزل إنجيل عيسى لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأُنزل زبور داود لثمان عشـرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل الفرقان على محمّد لأربع وعشرين من شهر رمضان»[5].
الصوم تكليفٌ وتشريف
فالصوم ـ مع أنّه تكليف شرعيّ ـ يعدُّ تشـريفاً من الله} لعباده، وهذا يوجب الشكر؛ إذ أصبحوا موضعَ خطاب الله تعالى وندائه، ومحلّ تكليفه ودعوته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[6]، وأيّ شرف عظيم للإنسان أن تتوجّه إليه العناية الربّانيّة فتدعوه إلى ضيافته الخاصّة، ووفادته المكرّمة! وأيّة كرامة له ـ إذا كان مؤمناً ـ أن يُخَصّ بالنداء الشـريف كي ينهض بتكليف أُعِد بعده الخير والسعادة والإكرام!
نحن في أعرافنا ندرك هذا المعنى، فلو جاء كبيرُ قومٍ بأي نحو من التقدّم وخصّك من دون الناس فطلب منك أن تأتيه بالماء، فإنّ هذا يشعرك بالفخر؛ لأنّه خصّك في ذلك، في حين لو طلب الماء منك مَن هو دونك لاعتبرتها إهانة، فالنبيّ الأكرم’ يقول عن شهر رمضان بأنّه: «شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله».
وينبغي الإشارة إلى أنّ هذه الضيافة تعدّ خاصية من الخصائص التي يختصّ بها شهر رمضان، وميزة يمتاز بها على بقية الشهور، وكذا شهر الحجّ وموسمه.
أركان الضيافة
وكل ضيافة لها ثلاثة أطراف أو أركان: مضيِّفٌ ومائدةٌ وضيفٌ.
الركن الأول: المضيِّف
مَن هو المُضَيِّفُ؟ المضيِّف لا تنفد خزائنه، ولا ينتهي كرمه، وأنّه باسط جوده على الخلق أجمعين، فضلاً عن المؤمنين، فلذا نقرأ في الدعاء الذي يقرأه المؤمنون كلّ يوم: «الحمد لله الفاشي في الخلق امرُه وحمدُه، الظاهر بالكرم مجده، الباسط بالجُودِ يَدَهُ، الذي لا تنقصُ خزائنه، ولا تزيدُهُ كثرةُ العطاء إِلاّ جُوداً وكرَماً، إنّه هو العزيزُ الوهاب... فصـرت أدعوك آمناً، وأسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدِلاً عليك فيما قصدْتُ فيه إليك، فإن أبطأ عنّي عتبتُ بجهلي عليك، ولعلّ الذي أبطأ عنّي، هو خيرٌ لي؛ لعِلمِك بعاقبة الأُمور، فلم أرَ مولىً كريماً أصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ، يا ربِّ إنّكَ تدعوني فأولّي عنك، وتتحببُ إليَّ فأتبغضُ إليك، وتتوددُ إليّ فلا أقبلُ منك، كأنّ لي التطوّل عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي... الحمدُ للهِ الذي يُجيبُني حِين أُناديه، ويَسْتُرُ عليّ كُلَّ عَوْرَةٍ وَأنا أعْصيه، وَيُعَظِّمُ النعمةَ عليّ فلا أُجازيه، فَكَم مِن مَوْهِبَة هَنيئةٍ قَدْ أعْطاني، وعَظيمَة مَخُوفَةٍ قَدْ كفاني، وبَهْجْةِ مُونقَةٍ قَدْ أراني...»[7].
الركن الثاني: المائدة
مائدة للروح بالدرجة الأُولى، وكلّها كرم وعطاء؛ لأنّها من الكريم المطلق، فنحن نرى الكريم من الناس يبالغ في إكرام ضيفه وإتحافه بلذيذ الطعام والشراب، فكيف تكون ضيافة أكرم الأكرمين؟!
والجدير بالذكر أنّها ضيافة مختلفة؛ لأنّها تتقوّم بمنع ضيفه من الطعام والشـراب، فالباري جلّ شأنه، كأنّه يقول لعبده: بأنّ ضيافتي لك في هذا الشهر ليست كضيافة البشـر بالطعام والشـراب فهما لا قيمة لهما، وإنّما هي ضيافة للروح والعقل والضمير وكلّ الذات، ولذلك لا يفهم هذه الضيافة إلّا مَن كان عنده احترام لذاته، ويميّز نفسه عن الحيوانات، أمّا مَن كان لا يرى فرقاً بينه وبين الحيوان، فهو لا يعرف عن أي شيء نتحدّث!!
ومن المؤلم جدّاً أنّ البعض يدرك الأُمور ناقصة، فيعتقد بأنّ الصوم إنّما هو امتناع عن الأكل والشـرب فقط، وبالتالي لا يحصل على شيء من هذه الضيافة الإلهية، بل يخرج منها جائعاً عطشاناً.
يقول الملكي التبريزي&: «إنّك تعلم بالعلم القطعيّ وجه اختيار الله لضيفه الجوع لأنّه لا نعمة أنعم وأسنى من نعمة المعرفة والقرب واللّقاء، والجوع من أسبابها القريبة. وتعلم أنّ الصوم ليس تكليفاً، بل تشـريف يوجب شكراً بحسبه، وترى أنّ المنّة لله تعالى في إيجابه، وتعرف مكانة نداء الله لك في كتابه في آية الصوم وتلتذّ من النداء إذا علمت أنّه نداء ودعوة لك لدار الوصول، وتعلم أنّ الحكمة في تشـريعه قلّة الأكل وتضعيف القوى، وتظنّ أن تأكل في اللّيل ما تركته في النّهار، بل وأزيد»[8].
فالعاقل هو مَن يعرف ويدرك الفرق بين ضيافة الله وضيافة بعض القنوات الفضائية، إنّ القنوات الفضائية قبل حلول شهر رمضان تعرض لنا تلك البرامج والقصص والمسلسلات، التي سوف تُعرض في شهر رمضان المبارك!! والنبيُّ الأعظم’ في آخر جمعة من شهر شعبان عرض علينا عرضاً فأيُّهم نريد وبأيِّهم نأخذ؟
النبيّ الأكرم’ عرض لنا الضيافة الإلهية، بينما القنوات عرضت لنا ضيافة اللهو والأفلام الضارة، النبيُّ الأكرم’ قال: «أنفاسكم فيه تسبيح»، القنوات تقول: أنفاسكم فيه آهات وحسـرات على الدنيا وما فات فيها، النبيُّ الأكرم’ قال: «أقرأوا القرآن»، لكن القنوات قالت: اسمعوا الغناء. النبيُّ الأكرم’ قال: «ارحموا اليتامى والمساكين»، والقنوات تقول: اعطنا أموالك ووقتك بمسجات واتصالات ومسابقات. النبيّ الأكرم’ قال: «غضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصارَكم». بينما القنوات تتعمّد أن تجعل نظري على الحرام، فأنت بين النبيّ العظيم’ وبين القنوات! وهنا تظهر حقيقة الطاعة، ولذا لـمّا سأله باب مدينة العلم الإمام أمير المؤمنين× عن أفضل أعمال هذا الشهر؟ قال’: «الورع عن محارم الله».
الركن الثالث: الضيف
إذا اجتمعت الأركان الثلاثة تتحقق الضيافة ويتمّ المطلوب، والركنان الأولان موجودان لا نخشى فقدهما، وكلّ المعادلة متوقفة على الركن الثالث (الضيف) وهو نحن المكلّفون، فإنّنا مدعوون لأن نكون ضيوفَ الرحمن، فإذا قمنا بما طُلب منّا من صوم وصلاة وتهجُّد وعبادة فحينها نكون ضيوفاً حقيقيين، ونكون قد قبلنا الدعوة ولبّيناها، وإذا لم نتفاعل مع الشهر، ولم نلتزم بما أمرنا به، نكون قد رفضنا الدعوة، وبالتالي نخسـر هذه الضيافة الكريمة من ربِّ العالمين.
وباختصار الضيف هو المستجيب لأمر الله تعالى ودعوته لقبول الضيافة: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[9]، فالذي يخرج بغنيمة هذا الشهر الفضيل هو مَن ينال الجائزة التي تُعطى في آخر هذا الشهر المبارك، فعن أبي جعفر الباقر×، قال: قال النبيّ’: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ نَادَى مُنَادٍ أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ اغْدُوا إِلَى جَوَائِزِكُمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ، جَوَائِزُ الله لَيْسَتْ بِجَوَائِزِ هَؤُلَاءِ الْـمُلُوكِ، ثُمَّ قَالَ هُوَ يَوْمُ الـْجَوَائِزِ»[10]؛ ولذا يقرأ المؤمنون الدعاء الذي يُستحب أن يُدْعى به، عقيب الشفع: «إلهي، تعرّض لك في هذا الليل المتعرِّضون، وقصدك فيه القاصدون، وأمل فضلك ومعروفك الطالبون، ولك في هذا الليل نفحات وجوائز وعطايا ومواهب تمنّ بها على مَن تشاء من عبادك، وتمنعها مَن لم تسبق له العناية منك»[11]، ونحن نتعرّض في هذا الشهر ولياليه لهذه الجوائز والعطايا، ونعطى ـ إن شاء الله تعالى ـ ذلك بالتفضّل لا بالاستحقاق، نسأل الله تعالى القبول، ومن أفضل ما نستجلب به الجوائز والعطايا هو ذكر سيّد الشهداء، المظلوم العطشان، نذكره عندما نعطش ونجوع؛ فإنّه× قُتل عطشاناً جائعاً[12]، ورحم الله دعبل الخزاعي، حيث يقول:
أفاطمُ لو خلتِ الحسينَ مجدلاً |
***
المحاضرة الثانية: وظائف الرسول الأكرم
قال تعالى في كتابه الكريم: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[14].
لقد صرَّح القُرآنُ الكريمُ نفسُه بأنّ بعثة الأنبياء والـمُرسلينَ لأجل تنبيه الناس على المخزون الفطري الذي عندهم وأُودع في فطرتهم، حيث يقول: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)[15].
وفي هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة بعثة الرسول الأكرم والنبيّ الخاتم محمّد’، وهو في الحقيقة إجابة قويّة على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من حديثي العهد بالإسلام بعد (معركة أُحد)، وهو: لماذا لحق بنا ما لحق؟ ولماذا أُصبْنا بما أُصبْنا به؟
فيجيبهم القرآن الكريم بقوله: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، أي: إذا كنتم قد تحمّلتم كلَّ هذه الخسائر، وأصبتم بكلِّ هذه المصائب، فإنَّ عليكم أن لا تنسوا أنّ الله قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبيّاً يقوم بهدايتكم وتربيتكم، وينقذكم من الضلالات، وينجيكم من المتاهات، فمهما تحمّلتم في سبيل الحفاظ على هذه النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلّفكم ذلك من ثمن فهو ضئيلٌ إلى جانبها، وحقيرٌ بالنسبة إليها.
والجدير بالاهتمام ـ في المقام ـ هو أنّ هذه النعمة قد شُرِّع ذكرها بكلمة (منَّ) التي قد لا تبدو جميلةً ولا مستحسنةً في بادئ الأمر، ولكننا عندما نراجع مادة هذه اللفظة وأصلها اللغوي يتّضح لنا الأمر غاية الوضوح.
وتوضيحه هو: أنّ (منَّ) ـ كما ذكر الراغب في مفرداتهـ ما يوزن به؛ ولذلك أطلق على النعمة الثقيلة: المنّة، ويقال ذلك إذا كان ذلك بالفعل، فيقال: منَّ فلان على فلان، إذا أثقله بالنعمة الجميلة الثمينة، وهو حسن لا بأس فيه[16]، أمّا إذا عظم أحد ـ في القول والادِّعاء ـ ما قام به من حقير الخدمات والأفعال والصنائع فهو في غاية القبح، وعلى هذا فإنّ المنّ الـمُستقبَح هو الذي يكون استعظاماً للصنائع والنعم في القول، أمّا المنّة المستحسنة فهي بذل النعم الكبرى والصنائع العظيمة.
أمّا تخصيص المؤمنين بالذكر في هذه الآية في حين أنّ الهدف من بعثة النبيّ’ هو هداية عموم البشـر؛ فلأنّ المؤمنين هم الذين سيستفيدون ـ بالنتيجة والمآل ـ من هذه النعمة العظمى فهم الذين يستأثرون بآثارها عملاً دون غيرهم.
ثمّ إنّ الله سبحانه يقول واصفاً مهمات هذا النبيّ العظيم: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)[17][18].
لماذا من أنفسهم؟
ثم إنّ الله سبحانه يقول: (مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، وهذه إحدى مميزات هذا النبيّ’، وأهم ما جاء من (مِنْ) هو أنّه من نفس الجنس والنوع البشري، لا من جنس الملائكة وما شابهها؛ وذلك لكي يدرك كلّ احتياجات البشر بصورةٍ دقيقةٍ، ولا يكون غريباً عنها، غير عارف بها، وحتى يلمس آلامَ الإنسانِ وآمالهِ، ومشكلاتهِ ومصائبهِ، ومتطلبات الحياة ومسائلها، ثمّ يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة.
وهكذا كانت رسالة الأنبياء ومهمّتهم تتعطّل وتفقد تأثيرها، ولا تحقق أغراضها؛ ولهذا أُختير الأنبياء من جنس البشر ومن فصيلة الإنسان بغرائزه، واحتياجاته؛ ليمكنهم أن يكونوا أُسوةً لغيرهم من البشر، وقدوةً لسواهم من بني الإنسان[19].
وذكر الشيخ الشيخ الطوسي& ثلاثة أقوال في الجواب على هذا التساؤل:
القول الأول:(مِنْ أَنْفُسِهِمْ)؛ ليكون ذلك شرفاً لهم، فيكون ذلك داعياً لهم إلى الإيمان.
القول الثاني:(مِنْ أَنْفُسِهِمْ)؛ لسهولة تعلّم الحكمة عليهم؛ لأنّه بلسانهم.
القول الثالث:(مِنْ أَنْفُسِهِمْ)؛ ليتيّسر عليهم علم أحواله من الصدق والأمانة والعفّة والطهارة[20].
ما معنى كون النبيّ أُمّي؟
يرد سؤال في غاية الأهميّة وهو: هل كان رسول الله’ لا يعرف القراءةَ والكتابةَ، أو كان يعرفهما، أو أنَّه لا يعرفهما في أوّل بعثته ثمّ عرفهما؟
والجواب: إنّ صريح الآيات القرآنية، كقوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ)[21]، نصّت على أنّه أُمّي، ومعنى ذلك: أي لو كنت تقرأ وتكتب كتاباً لقالوا: إنّما جمعه من كتب الأولين، وليس وحياً من الله} وشكّوا في نبوّتك، أمّا إذا كنت لا تقدر على القراءة والكتابة وأنت تعيش فيما بينهم، وبمرأى منهم ومسمع، وهم مطّلعون على أُمّيتك فلا مجال لهم للارتياب والشكّ في الكتاب الذي تأتيهم به من عند الله ، ولكان لا بدّ لهم من تصديقك والقبول منك[22].
وروي عن جعفر بن محمد الصوفي، قال: «سألت أبا جعفر× محمد بن علي الرضا×، وقلت له: يا بن رسول الله، لم سُمِّي النبيُّ الأُمّي؟ قال: ما يقول الناس؟ قال: قلت له: جُعلت فداك يزعمون إنّما سُمِّى النبيُّ الأُميّ لأنَّه لم يكتب. فقال: كذبوا (عليهم لعنة الله) أنّى يكون ذلك، والله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[23]، فكيف كان يعلِّمهم ما لا يحسن؟ والله لقد كان رسول الله’ يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو بثلاثة وسبعين لساناً، وإنّما سُميَّ الأُمّيّ لأنّه كان من أهل مكّة، ومكّة من أُمّهات القرى، وذلك قول الله تعالى في كتابه: (َلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)[24]»[25].
وقال الشيخ المازندراني+: «والأُمّي بالنظر إلى نفسه؛ لأنّه منسوب إلى أُمّه، أي: هو كما خرج من بطن أُمّه لا يقرأ ولا يكتب»[26].
وفي موضع آخر قال أيضاً: «أي المنسوب إلى أُمّ القرى وهي مكّة، أو أُمّ الكتاب وهو اللوح المحفوظ؛ لعلمه بما فيه، أو إلى الأُمّ في أصل ولادته، لم يقرأ ولم يدرس ولم يكتب، وهو من أوصاف كماله؛ لدلالته أنّ كمالاته التي تُعجز عقول البشر عن الإحاطة بها كانت من فيض الحقِّ، لا من جهة الاكتساب»[27].
وظائف النبّي الأكرم|
أشارت الآية الشريفة إلى وظائف ثلاثة:
الوظيفة الأُولى: تلاوة آيات اللّه على مسامعهم
وقد تحمّل رسول الله’ ما تحمّل في هذا المجال، حتى أنّ القوم ما كانوا ليدعوا رسول الله يقرأ القرآن على مسامع الناس، كما بيّن لنا القرآن ذلك، حيث يقول: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[28]، فكان طريقهم الذي يتصورون به الغلبة هو أن لا يتركوا المجال لرسول الله’ في بيان أهدافه ودينه الجديد الذي يسحق جاهليتهم وأصنامهم.
قال الشيخ الطوسي+: «حكى الله تعالى عن
الكفار أنّهم يقول بعضهم لبعض:
(لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا
الْقُرْآنِ)، الذي يقرؤه مُحمّد’ ولا تصغوا إليه، (وَالْغَوْا فِيهِ)
لكي تغلبوه، ويجوز أن تغلبوه، فاللغو هو الكلام الذي لا معنى له يُستفاد، وإلغاء
الكلمة إسقاط عملها... وقال مجاهد: قالوا خلطوا عليهم القول بالمكاء والصفير، وقال
غيره: هو الضجيج والصياح»[29].
وقال الشيخ الطبرسي+: «فربما صفّروا، وربما صفّقوا، وربما لغطوا ليغلطوا النبيَّ’، فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئاً غريباً، استمعوا إليه، وتفكّروا واشتغلوا عن تغليطه، فيقع القرآن في مسامعهم، ويكون ذلك سبباً موصلاً لهم إلى درك منافعهم»[30].
وتمت وظيفة النبيِّ على أحسن وجهٍ بعد مشقّةٍ وعناءٍ كبيرينِ تعرّض لهما الرسول الخاتم’.
الوظيفة الثانية: تطبيق ما يتلوه عمليّاً لهم لكي يتأسّوا به’
وكان’ يصرِّح بأنّ ما يأمرهم به يقودهم إلى الجنّة، وما ينهاهم عنه يسوقهم إلى النار إن ارتكبوه، كما قال’: «أيُّها الناس، إنّي لم أدعْ شيئاً يقرِّبكم إلى الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد نبّأتكم به»[31].
فإن تكلّم في الصبر جرّبوه واختبروه، فوجودوه كما وصفه خالقه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[32].
وإن أرادوا منه التواضع وجدوه آيتَه الباهرة، وكنوزَه الظاهرة، ولهذه المعاني قصص وعِبَر يطول المقام بذكرها.
الوظيفة الثالثة: تزكية نفوسهم بعد تخليتها من الصفات الرذيلة والأخلاق السيئة
من الأهداف الأصلية لبعثة الأنبياء، ومنهم خاتم الأنبياء والـمُرسلين مُحمّد المصطفى’، تزكية النفوس وتربية الناس على أن ينهجوا الأخلاق الحسنة حتى أنّ تعليم قراءة القرآن بشكلها الصحيح تُعدُّ عند العُلماء مقدّمةً مُوصلةً لتزكية النفوس وتربية الناس، وهو صريح قوله’: «إنّما بُعثتُ لأُتمّمَ مكارمَ الأخلاقِ»[33].
فبقوله (أتمم) إشارة مهمة إلى أنّ الأخلاق هي مهمّة جميع الأنبياء والـمُرسلينَ، وتمامها بشريعة النبيِّ الخاتم’، قال تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[34].
وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على أهمّية الأخلاق في نظر الـمُشرِّع وقد تكرّر هذا المعنى في القرآن الكريم، حيث يقول: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[35].
وهذه المعاني العظيمة التي منَّ اللهُ علينا بها ببعثة النبيِّ هي الرَّحمةُ التي يُصرّحُ بها القرآن في قوله تعالى: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[36].
فالوظيفة الثالثة تخليتهم من الأخلاق الرذيلة التي اعتادها القوم في أيام الجاهلية الجهلاء، وتحليتهم وتزكيتهم بالصفات الحميدة، وهذه العملية يُعبّر عنها اليوم: (بالتخلية والتحلية)، التخلية من الرذائل والتحلية بالمحاسن، وبه تمّ الإخراج من الظلمات إلى النور، ومن شفا جرف الهلكات، كما أشارت إليه ابنتُه الصدِّيقة الشهيدةُ فاطمة الزهراء‘، حيث قالت: «وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطأ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلةً خاشعينَ، تخافون أن يتخطفَكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله برسوله’ بعد اللُّتيا والتي، وبعد أن مُني ببهم الرجال، وذؤبان العرب...»[37].
وهذا المعنى هو ما ختمت به الآية الشريفة حيث تقول: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[38]، كما صرّح أميرُ المؤمنين× أيضاً بهذا المعنى، حيث يقول: «وأنتم معشر العرب على شرِّ دين، وفي شرِّ دار، متنخون بين حجارة خشن وحيات صم، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام فيكم معصوبة»[39].
وبقيت هذه الأثام وتلك الأصنام في صدور قومٍ أبرزوها في أهل بيت رسول’، أبرزوها بالقتل والتنكيل والتهجير.
بعضٌ
بطيبةَ مدفونٌ وبعضُهمُ |
وقال الشاعر الآخر:
تبّاً
لهم من أُمّــةٍ لـم يحفظوا |
المحاضرة الثالثة: الانقياد لرسول اللّه
قال الله تعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[42].
الغالب في المجتمعات حبّ التمرّد لـمَن يظهر لهم التواضع والاحترام، ويعتبرونه نقطة ضعف في شخصيته، ويعتقدون أنّ الشخصية القويّة هي الشخصية التي تأنف من الجلوس مع الناس، وعدم المبادرة بالسلام، بل ولا ردّ السلام أحياناً، ومتى ما رأوا شخصيةً غايةً في اللطف، والعطف، والرحمة، والخلق العظيم، وعدم الفضاضة والقسوة، نست أو تناست عظم هذه الشخصية، وتعدّت الحدود المرسومة بينهم وبينها، فنادوه كما ينادي بعضهم البعض، بل تصل الحالة بهم إلى عدم المبالاة بوجوده ولا بكلامه، وكان هذا واضحاً من تصرّفات بعض الجهلة من العرب في الجفاء وسوء الأدب في خطاب النبيّ’، مع تصريح القرآن الكريم بعظمة أخلاقه’، حيث يقول الباري فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[43]، وقوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[44]، فأخلاقه العظيمة ورحمته ولينه صار مدعاةً للاستغلال من بعض الجاهلين بمقامه’، فجاءت هذه الآية لتبيّن لهم بأن: «لاتتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول، ولا تغترّوا برأفته، واُنظروا إلى رفعة درجته»[45].
يشكِّل السبب في النزول قرينة على فهم الآية، لكنّه لا يمنع من تعديتها لمصاديق أُخرى تنطبق عليها الآية الشريفة، وأنّ سبب النزول لا يمنع من التعميم كما هو مقتضى الحال في بقية آيات القرآن الكريم بالنسبة للموضوعات الأُخرى؛ لما روي عنهم^ بأنّ القرآن الكريم يجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر، كما ورد في ألسنة الروايات[46].
وفي تفسير القمِّي أنّها: «نزلت في وفد بني تميم، كانوا إذا قدموا على رسول الله’، وقفوا على باب حجرته فنادوا: يا محمد، اخرج إلينا، وكانوا إذا خرج رسول الله’ تقدّموه في المشي، وكانوا إذا تكلّموا رفعوا أصواتهم فوق صوته، ويقولون: يا محمد يا محمد، ما تقول في كذا وكذا. كما يكلِّمون بعضهم بعضاً، فأنزل الله...»[47].
وسبب نزول هذه الآية نلخِّصه في هذه الأقوال الستّة على ما عثرت عليه:
الأوّل: أنّ قوماً كانوا يقولون: لو أُنزل فينا كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآية، قاله قتادة.
الثاني: نُهوا أن يتكلّموا بين يدي كلامه، قاله ابن عباس.
الثالث: لا تعارضوا، أو لا تعجلوا على الله ورسوله في أمر حتى يقضي الله على لسان رسوله’ ما يشاء، قاله مجاهد، فتكون الآية الشريفة على غرار قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[48].
الرابع: أنّها نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلِّي النبي، فأمرهم أن يعيدوا الذبح، قاله الحسن. وفي الصحيح أنّ النبيّ’ قال لأصحابه في يوم الأضحى: «مَن ذبح قبل الصلاة فإنّما هو لحم قدّمه لأهله. فقام أبو بردة بن نيار خال البراء بن عازب، فقال: يا رسول الله، هذا يوم يُشتهى فيه اللحم، وإنّي ذبحت قبل أن أصلِّي، وعندي عناق جذعة خير من شاتي لحم. فقال: تجزئك ولن تجزئ عن أحد بعدك».
الخامس: لا تقدِّموا أعمال الطاعة قبل وقتها، قاله الزجاج[49].
السادس: ما رواه البخاري في صحيحه من الاختلاف بين الشيخين، حيث قال: «إنّ عبد الله بن الزبير أخبرهم أنّه قدم ركب من بنى تميم على النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد بن زرارة. فقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلّا خلافي! قال عمر: ما أردت خلافك. فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت في ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[50]»[51].
وهناك مؤيّدٌ لهذا القول وهو ما رواه العلّامة المجلسي& في البحار أنّه: «قام رجل إلى أمير المؤمنين× فسأله عن قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[52] فيمَن نزلت؟ فقال: ما تريد؟ أتريد أن تغري بي الناس؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكن أحبّ أن أعلم. قال: اجلس. فجلس، فقال: اكتب عامراً، اكتب معمراً، اكتب عمر، اكتب عمّاراً، اكتب معتمراً، في أحد الخمسة نزلت، قال سفيان: قلت لفضيل: أتراه عمر؟ قال: فمَن هو غيره»[53].
بالرجوع قليلاً للآية المباركة نرى أنّ متعلقها مطلقٌ، بمعنى أنّها لم تذكر شيئاً مخصوصاً بعينه؛ فلذا يمكن أن يكون سبب النزول فيها هو الحالة الاجتماعية السائدة آنذاك من العناد وعدم الانقياد للنبيّ الأكرم’، وبكلّ أنحاء التقدّم بين يديه بالفعل والقول والعبادة والاعتراض وما شاكل ذلك؛ لذا قال شيخ الطائفة الطوسي&: «...والأَولى حمل الآية على عمومها، فيُقال: كلّ شيء إذا فُعل كان خلافاً لله ورسوله، فهو تقدّم بين أيديهما فيجب المنع من جميع ذلك.
هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين الذين اعترفوا بتوحيده وإخلاص عبادته، وأقروا بنبوّة نبيِّه محمد’، ينهاهم أن يتقدّموا بين يدي النبي’ بأن يفعلوا خلاف ما أُمر به أو يقولوا في الأحكام قبل أن يقول، أو يخالفوا أوقات العبادة، فإنّ جميع ذلك تقدّم بين يديه، وأمرهم أن يتّقوا الله بأن يجتنبوا معاصيه ويفعلوا طاعاته، (إن الله سميع) لما يقولونه (عليم) بما ينطوون عليه ويضمرونه»[54].
ومثله الشيخ الطبرسي& في مجمع البيان: «...والأَولى حمل الآية على الجميع؛ فإنّ كلّ شيء كان خلافاً لله ورسوله، إذا فعل، فهو تقديم بين يدي الله ورسوله، وذلك ممنوع»[55].
وكذا العلاّمة الطباطبائي+: «... واللفظ مطلق يشمل التقدّم في قول أو فعل حتى التقدّم على النبيّ’ في المشية والجلسة، والتقدّم بالطاعات المؤقتة قبل وقتها وغير ذلك»[56].
وفي عمدة القارئ: «لا تقدموا لا تقطعوا أمراً إلّا بعد ما يحكم الله ورسوله ويأذنان فيه، فتكونوا إمّا عاملين بالوحي، وإمّا مقتدين برسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، وعليه يدور تفسير ابن عباس: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وقال عطية: لا تكلِّموا بين يدي كلامه، وحذف المفعول ليفيد شموله لكلّ ما يخطر بالبال ممّا تقدّم»[57].
وعلى الأسباب المتقدّمة لنزول الآية الشريفة اختلفت أفهام المفسِّرين؛ وهذا شيءٌ إيجابي في النصوص القرآنية في أنّها تتحمّل من المعاني الشيء الكثير الذي لا يحتمله كلام المتكلِّم العادي، فهنا بعض المعاني للآية المباركة:
المعنى الأوّل: أيّها المؤمنون لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكم الله ورسوله فيه، فلا تحكموا بأمر من أُمور الدين قبل علمكم بأنّه بيّنه الله ورسوله، فلا تقولوا ولا تفعلوا شيئاً على أنّه أمر من أُمور الدين إلّا أن تعلموا أنّه ممّا قاله الله تعالى ورسوله، دلالة على تحريم الفعل والقول من غير علم[58].
المعنى الثاني: أي لا تتقدّموا على الله ورسوله بافتراض رأيكم على الرسول والأُمّة المسلمة، فإنّ تقديم الوجوه الاستحسانية على النصّ تقدّم على الله ورسوله، ونعم ما قال الإمام الشافعي: «مَن استحسن فقد شرّع»[59].
نماذج من تقدّم الصحابة بين يدي رسول اللّه’
تبيّن لنا من خلال بيان سبب النزول والإطلاق الموجود في الآية المباركة أنّ الآية الشريفة نهت عن كلّ تقدُّم بين يدي الله ورسوله’، وأنّه من الخلال والصفات المذمومة، وقد خاطبت الآية الشريفة القوم بمنتهى الأدب حيث عبرت بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، لكن للأسف الشديد نحن نرى هناك نماذج من التقدّم بين يدي الله ورسوله’ حتى بعد نزول الآية المباركة، وسنذكر نماذج من ذلك لتبطل دعوى عدالة الصحابة وعصمتهم!
الأُنموذج الأول
حين تحرّك النبيّ’ لفتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة كان ذلك في شهر رمضان، وكان معه جماعة كثيرة، منهم الفرسان ومنهم المشاة، ولـمّا بلغ منزل كراع الغميم أمر بإناء ماء، فتناول منه الرسول وأفطر، ثمّ أفطر مَن كان معه، إلّا أنّ العجيب هو أنّ هناك جماعة منهم تقدّم على النبيّ’ ولم يوافقوا على الإفطار، وبقوا صائمين فسمّاهم النبيّ’ بالعصاة[60].
الأُنموذج الثاني
ومثل آخر ما حدث في حجّة الوداع في السنة العاشرة للهجرة، حيث أمر النبيّ’ أن ينادي المنادي: «مَن لم يسق منكم هدياً فليحل وليجعلها عمرة، ومَن ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه»، ثمّ يؤدِّي مناسك الحج، وأنَّ مَن جاء بالهدي وحجّه حج إفراد فعليه أن يبقى على إحرامه، ثمّ قال’: «لولا أنّي سقت الهدي لأحللت وجعلتها عمرة، فمَن لم يسق هدياً فليحل». إلّا أنّ جماعة أبوا وقالوا: كيف يمكننا أن نحل وما يزال النبيّ محْرِماً؟! أليس قبيحاً أن نمضي للحج بعد أداء العمرة ويسيل منّا ماء الغسل ـ من الجنابة ـ؟! فساء النبيّ ما قالوا ووبّخهم ولامهم[61].
الأُنموذج الثالث
قصّة التخلّف عن جيش أسامة عندما أراد النبيّ’ أن يلتحق بالرفيق الأعلى؛ حيث أمر’ المسلمين أن ينفذوا جيش أسامة ابن زيد ويتحرّكوا إلى حرب الروم، وأمر المهاجرين والأنصار أن يتحرّكوا مع هذا الجيش، ولعلّ النبيّ’ أراد ألّا تقع عند رحلته مسائل في أمر الخلافة ـ وقد وقعت ـ حتى أنّه لعن المتخلِّفين عن جيش أسامة، ومع كلّ ذلك تخلّف جماعة بحجّة أنّهم لا يستطيعون أن يتركوا النبيّ’ في مثل هذه الظروف[62].
الأُنموذج الرابع
قصّة (القلم والدواة) ـ المعروفة كما أنّها مثيرة ـ ففي الساعات الأخيرة من عمر النبيّ’ عندما أمر بقلم ودواة، والأحسن أن ننقل ما جاء من عبارةٍ في صحيح البخاري بعينها هنا، حيث قال: «عن ابن عباس قال: لـمّا حضر النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، قال: وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلم اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده، قال عمر: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) غلبه الوجع! وعندكم القرآن، فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم مَن يقول قرّبوا يكتب لكم رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم مَن يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، قال: قوموا عنّي. قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم»[63].
وهذه القضية من الحوادث المهمّة في التأريخ الإسلامي التي تحتاج إلى تحليل وبسط ليس هنا محله، ولكنّها على كلّ حال من أجلى موارد التخلّف عن أمر النبيّ’ ومخالفة الآية محل البحث، وما يهمّنا هنا هو: أنّ رعاية الانضباط الإسلامي والإلهي تحتاج إلى روح التسليم المطلق، وقبول القيادة الإلهية في جميع شؤون الحياة، والإيمان المتين بمقام القائد الشامخ[64].
الأُنموذج الخامس
ما وقع في أصل موت النبيّ’، حيث خالف فيه عمر بن الخطاب؛ إذ قال: «مَن قال إنّ محمداً قد مات قتلته بسيفي هذا، وإنّما رُفع إلى السماء كما رُفع عيسى×! فقال أبو بكر...: مَن كان يعبد محمداً، فإنّ محمداً قد مات، ومَن كان يعبد إله محمد فإنّ إله محمد حي لم يمت ولن يموت، وقرأ قول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، فرجع القوم إلى قوله. وقال عمر: كأنّي ما سمعت هذه الآية حتى قرأها أبو بكر»[65].
وبأي وجهٍ كنّا نقول، وفي أي سببٍ نزلت الآية الشريفة، فهي صريحةٌ في النهي عن التقدّم على الرسول الأكرم’؛ كما صرّح العلّامة الطباطبائي، حيث قال: «... ولعل التأمّل... يكفيك في المنع عن المصير إلى شيء من هذه الوجوه»[66].
وفي تفسير ابن أبي حاتم الرازي، قال: «عن ابن عباس في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة»[67].
لكن تعال واُنظر بعين الإنصاف كم من أصحاب النبيّ’ مَن انقاد إلى أوامره ونواهيه، ولم يخالف كتاب الله ولا سنّة رسوله’؟!
بل الخلاف للكتاب والسنّة وصل ببعضهم إلى أظهر مصاديقه وأجلاها، كما في أحكام المواريث، وما ذاك إلّا عناداً وخلافاً لله ورسوله’، وهذا الذي دعا بضعة الرسول’ إلى «أن لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لـمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثم أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتجّ المجلس، ثمّ مهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم، افتتحت كلامها بالحمد لله والثناء عليه، والصلاة على رسول الله’. ثمّ قالت ما قالت، وفيما قالت: أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية يبغون؟! ومَن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟ يا بن أبي قحافة، أترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فرياً، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنِعْمَ الحكم الله، والزعيم محمد، والوعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون. ثمّ انكفأت إلى قبر أبيها’ فقالت:
قد كانَ بعدك أنبـاء وهنبـثــة فليت بعدك كان الموت صادَفَنا |
وهذا الذي تركها غضباء على مَن خالفها، وتدعو عليه بعد كلّ صلاة حتى لفظت نفسها الأخيرة÷...»[68].
***
المحاضرة الرابعة: تقوى اللّه تعالى والإيمان برسوله’ وآثارهما
قال تعالى في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[69].
ليس من اليسير أن يُدرك الإنسانُ سبيلَ سعادته؛ لأنّه غيرُ محيطٍ للعلمِ بها، وليس عنده القدرة على إدراك ما هو أوسع من حجمه، لذا هو محدود العلم من جهةٍ، وجاهلٌ بعالم المصالح والمفاسد، بل ليس هناك مَن يُدرك مصالحَ ابنِ آدم إلّا الذي خلقه وسوّاه، ومنحه وأعطاه، وهو المفيض المطلق، الله تبارك وتعالى، ومَن استمدّ منه}، وهم خلفاؤه في الأرض إذ أطلعهم على ذلك، فمن هنا صار علينا اتّباع ما جاءت به شريعتُنا الإسلامية من أوامر ونواهي، فنمتثل الأوامر ونجتنب النواهي؛ لنحصل على السعادة الأبدية التي رسمها لنا الشارع الأقدس.
لسبب النزول مدخلية في فهم الآية المباركة؛ إذ يتّضح لنا المراد من لحن الكلام الذي أُنزل على النبيّ الأكرم’، وهذه الآية كغيرها من مجموعة من الآيات التي نزلت في واقعة، كما روى ذلك سعيد بن جبير، حيث قال: «بعث رسول الله’ جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي، يدعوه، فقدم عليه ودعاه، فاستجاب له وآمن به، فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلاً: إئذن لنا فنأتي هذا النبيّ، فنسلِّم عليه، فقدموا مع جعفر، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة، استأذنوا رسول الله’، وقالوا: يا نبيَّ الله، إنّ لنا أموالاً، ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا، فواسينا المسلمين بها. فأذن لهم فانصرفوا، فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله فيهم: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [70]، فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين، فلمّا سمع أهل الكتاب ممّن لم يؤمن به قولَه: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا)[71]، فَخَروا على المسلمين، فقالوا: يا معشر المسلمين، أمّا مَن آمن بكتابكم وكتابنا، فله أجران، ومَن آمن منّا بكتابنا، فله أجر كأجوركم، فما فضلكم علينا؟ فنزل قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة»[72].
فالآية جاءت بصدد تسكين قلوب المؤمنين من فخر أهل الكتاب.
القرآن الكريم وأُسلوبه الجذّاب
من أجمل أساليب القرآن الكريم هو أُسلوب الحكمة والموعظة الحسنة الذي استعمله القرآن الكريم وأمر به أيضاً، حيث قال: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[73]، وله سبل عديدة كان من أوضح هذه السُبُل وأكثرها هو أُسلوب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، الذي تكرّر في القرآن الكريم كثيراً، حتى وصل إلى (89) مرّة، يخاطب الباري} عباده فيها بهذا الأُسلوب الرائع.
ولو رجعنا إلى روايات أهل البيت^ نجد أنّهم^ اهتمّوا بهذا الخطاب، بل قال عنه الإمام الصادق×: «لذّة ما في الندا، أزال تعب العبادة والعنا»[74]، فلاحظ أهمّية الأُسلوب في هداية الناس، ولاحظ جيداً قول الإمام×، هذا وكيف أنّ لذة النداء أزالت التعب والعناء، ونحن نلمس ذلك بوضوح في حياتنا، ففرق بين أن تقول لولدك: لو سمحت، أو إذا أمكنك فعل ذلك فافعله. وبين قولك: افعل ذلك.
وهذا الأُسلوب هو نفس الأُسلوب الذي استعمله رسول الله’ وأهل بيته^ في هداية الناس، وهو أُسلوب كلّ إنسانٍ حكيم، وواعظ ناجح، وصاحب قضية يريد لها الانتشار والازدهار، وهو أُسلوبٌ عَمِلَ به المصلحون ونبذه الجاهلون والمعاندون، فأبدلوه بأُسلوبٍ آخر شديد ومتطرِّف، أوصل الإسلام إلى درجة من السخرية والاستهزاء، وصوّر الإسلامَ الحنيف للآخرين دينَ قتلٍ وسفك دماء الأبرياء.
قد يسأل سائل عن سبب خطاب الله تبارك وتعالى المؤمنين خاصة، ولم يعبّر بـ (يا أيّها الناس) مثلاً، والحال أنّه تبارك وتعالى عبّر في آيات كثيرة بهذا التعبير؟!
لعلّ السبب يعود إلى أنّ مضمون الآية الشريفة لا ينسجم مع الروح المظلمة بالشرك، كما هو ظاهر من سبب النزول، وأنّ المؤمنين هم الذين يستحقون الحث والتأكيد على تقوى الله والإيمان برسوله’.
الشرط والجزاء في الآية المباركة
الخطاب في الآية الشريفة صريحٌ في وجود شرطين وجزاء، هما: أنّ مَن اتقى الله تبارك وتعالى وآمن برسوله الأكرم’، فإنّ الله سيؤتيه جزاءً وفيراً على ذلك، وهو نصيبان من رحمته، ونوراً يمشي به، وجزاء ثالث وهو أُمنية كلّ مؤمنٍ ألا وهو غفران الذنوب، فأيّ نعمةٍ يريد الإنسان بعد هذه النعم الثلاث؟!
وتقوى الله والإيمان برسوله’ ليست بالمستحيل فعلها، فالمؤمنون منذ أن أدركوا الإيمان عرفوا أنّ معناه هو: تقوى الله تبارك وتعالى والإيمان برسوله’، أمّا تقوى الله تبارك وتعالى فهي ليست خافية على أحدٍ، وإجمالها ما عبّر به الإمام الصادق×، حيث قال: «التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك»[75].
وأمّا الإيمان بالرسول الأكرم’ فمعناه اليقين برسالته وخاتميتها، والطاعة التامّة له’، قال العلّامة الطباطبائي+: «... أنّ المراد بالإيمان بالرسول الاتّباع التام والطاعة الكاملة لرسوله فيما يأمر به وينهى عنه، سواءً كان ما يأمر به أو ينهى عنه حكماً من الأحكام الشرعية، أو صادراً عنه بما له من ولاية أُمور الأُمّة، كما قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [76]»[77].
ثمّ إنّ الآية الشريفة بعد ما أمرت بتقوى الله والإيمان برسوله’ رتَّبت على ذلك نتائج ثلاث مهمّة، هي:(يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)، فالله سبحانه وتعالى يعطي المؤمنين الذين اتّقوه وآمنوا برسوله هذه الأشياء الثلاثة: إتيانهم كفلين من الرّحمة، ويجعل لهم نوراً يمشون به، ويغفر لهم، فهلمّوا لنتعرّف على هذه الأشياء الثلاثة؛ لنرى كرم الله تبارك وتعالى الذي لا حدود له من جهةٍ، ونشجّع أنفسنا لتقواه تباركت أسماؤه، والإيمان برسوله’ من جهة أُخرى.
الكِفلان: أي نصيبان من رحمته، والكِفل بالكسر: الضعف والنصيب[78]، ثمّ إنّه ينبغي تسليط الضوء على معرفة الكِفلين اللذينِ وعد المؤمنين بهما، فما هما؟ وهنا أقوال:
القول الأوّل: إنّ الكفل الأوّل هو عدم دخول النار، والثاني أن يدخل الجنّة، كما ذكره القمّي في تفسيره[79].
القول الثاني: أنّ المقصود هو أجرين لإيمانهم بعيسى×، وتصديقهم بالتوراة والإنجيل، وإيمانهم بالنبيّ الأكرم’ وتصديقهم به[80].
القول الثالث: أجر على الإيمان، وأجر على التقوى، وأجر على امتثال الأوامر، وأجر على اجتناب النواهي، أو أنّ التثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرّةً بعد أُخرى[81].
وعن جابر، عن أبي جعفر× في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)، يعني: «حسناً وحسيناً، قال: ما ضرّ مَن أكرمه الله أن يكون من شيعتنا ما أصابه في الدنيا ولو لم يقدر على شيء يأكله إلّا الحشيش»[82].
النور أمرٌ ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى بيانٍ، بل هو مظهر الأشياء، ومَن اتّقى الله وآمن برسوله’ أعطاه الله نوراً يمشي به بين الناس؛ فإنّ الإنسان المحكِّم عقله والمتّبع لله ورسوله يكون له نور يعرف به الحقّ من الباطل، فيحكِّمه الناس في أُمورهم، ويستشيرون منه في أعمالهم، كمَن عنده المصباح في الليل المظلم حيث يستنير الناس بنور مصباحه[83]، وجَعْل هذا النور غاية للتقوى والإيمان بالرَّسول دلالة على أنّه لا إيمان ولا تقوى بدونه[84].
لكن ما هي حقيقة هذا النور؟ ففيه أقوال:
القول الأوّل: أنّه الإسلام[85]، أو أنّه الإيمان، كما في تفسير القمي&[86].
القول الثاني: أنّه القرآن، نسبه العلاّمة المجلسي& إلى القيل[87]، وهو قول ابن عباس، حيث قال: «النور القرآن، وفيه الأدلّة على كلِّ حقّ، وبيان لكلّ خير، وبه يستحق الضياء الذي يمشي به يوم القيامة»[88].
لكن ردّه العلّامة الطباطبائي&، قائلاً: «وهذا هو النور الذي يجعله الله لعباده المؤمنين، يستضيئون به في طريقهم إلى ربِّهم، وهو نورالإيمان والمعرفة، وليس المراد به القرآن كما قاله بعضهم؛ فإنّ الآية تصف حال عامّة المؤمنين قبل نزول القرآن وبعده، على أنّ هذا النور وصف لهم يتّصفون به»[89].
القول الثالث: النور هو الأئمّة^، من دون تحديده بإمامٍ مخصوص، ففي الكافي الشريف عنْ أبي الجَارُود، قال: «قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ×: لَقَدْ آتَى الله أَهْلَ الْكِتَابِ خَيْراً كَثِيراً، قَالَ: ومَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: قَوْلُ الله تَعَالَى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ)، إِلَى قَوْلِه: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) ، قَالَ: فَقَالَ: قَدْ آتَاكُمُ الله كَمَا آتَاهُمْ ثُمَّ تَلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)، يَعْنِي: إِمَاماً تَأْتَمُّونَ بِه»[90].
وعن أبي خالد الْكَابُلِيِّ، قال: «سألتُ أبا جعفر× عَنْ قَوْلِ الله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) ، فَقَالَ: يَا أَبَا خَالِدٍ النُّورُ ـ والله ـ الأَئِمَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ’ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وهُمْ والله نُورُ الله الَّذِي أَنْزَلَ، وهُمْ والله نُورُ الله فِي السَّمَاوَاتِ وفِي الأَرْضِ، والله يَا أَبَا خَالِدٍ لَنُورُ الإِمَامِ فِي قُلُوبِ الْـمُؤْمِنِينَ أَنْوَرُ مِنَ الشَّمْسِ الْـمُضِيئَةِ بِالنَّهَارِ، وهُمْ والله يُنَوِّرُونَ قُلُوبَ الـْمُؤْمِنِينَ ويَحْجُبُ الله نُورَهُمْ عَمَّنْ يَشَاءُ فَتُظْلِمُ قُلُوبُهُمْ، والله يَا أَبَا خَالِدٍ لَا يُحِبُّنَا عَبْدٌ ويَتَوَلَّانَا حَتَّى يُطَهِّرَ الله قَلْبَه، ولَا يُطَهِّرُ الله قَلْبَ عَبْدٍ حَتَّى يُسَلِّمَ لَنَا ويَكُونَ سِلْماً لَنَا، فَإِذَا كَانَ سِلْماً لَنَا سَلَّمَه الله مِنْ شَدِيدِ الْحِسَابِ وآمَنَه مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأَكْبَرِ»[91].
القول الرابع: أنّ المقصود بالنور هو الإمام أمير المؤمنين×، كما دلّت عليه بعض الروايات أيضاً، ففي مناقب ابن شهر آشوب عن الإمام الصادق× في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)، قال: «الكفلين الحسن والحسين، والنور علي»[92].
وهذا النور لا يُعلم على نحو التحديد متى يُجعل للإنسان المتّصف بالشـرطين؟ وهل يعطاه في الدنيا فقط، أو في الآخرة فقط، أو فيهما معاً؟
قال العلاّمة الطباطبائي&: «... قيل: يعني يوم القيامة، وهو النور الذي أُشير إليه بقوله: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ). وفيه: أنّه تقييد من غير دليل، بل لهم نورهم في الدنيا وهو المدلول عليه بقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) ، ونورهم في الآخرة وهو المدلول عليه بقوله: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)، ثمّ كمل تعالى وعده بإيتائهم كفلين من رحمته، وجعل نوراً يمشون به بالمغفرة، فقال: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)»[93].
فالنور هو رسول الله وأهل بيته^؛ ولذ نقرأ في زيارة الرسول الأكرم’: «أشهد يا رسول الله، أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها»[94].
والنور الذي لا يُطفأ هو الإمام أبو عبد الله الحسين× أيضاً، الذي هو باقٍ متوهج على طول الليالي والأيام، وصدره لا زال إلى هذه الساعة لم يشفَ إلى أن يخرج الإمام صاحب العصر والزمان#، فيأخذ بثأره، عندها يشفى صدر الإمام، فيا ربّ الحسين اشفِ صدر الحسين بظهور الحجة بن الحسن#، ولذا نحن نقرأ في الزيارة المسمّاة بزيارة وارث: «أشهد أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها»[95]، وكذلك في زيارة يوم الأربعين: «بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول الله، أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام الطاهرة»[96]، وهو نفس المعنى الذي أشار إليه الإمام زين العابدين× عندما جاء لدفن الجثث الزواكي، ووقف على بدن أبيه ووضعه في لحده، وضع خدّه على منحره الشّريف قائلاً: «طوبى لأرضٍ تضمّنت جسدك الطّاهر، فإنّ الدّنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أمّا اللّيل فمسهّد والحزن سرمد، أو يختار الله لأهل بيتك دارك الّتي أنت بها مقيم، وعليك منّي السّلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته»[97]، بأي حالٍ خرج إمامنا زين العابدين× من الأسر؟ وماذا رأى؟ وكيف حمل أباه سيّد الشهداء؟! لله در الـحُجّة الشيخ علي الجشي& إذ يخبرنا عن ذلك، حيث يقول:
لَمْ أَنْسَ لـمَّا عاد من أَسْرِ العِدَى |
***
المحاضرة الخامسة: الجانب الإنساني في شخصية الرسول الأكرم وأثره على الناس
روي عن الإمام أمير المؤمنين× في ذكره للرسول الأكرم’ أنّه قال:«دَفَنَ الله بِه الضَّغَائِنَ، وأَطْفَأَ بِه الثَّوَائِرَ، أَلَّفَ بِه إِخْوَاناً وفَرَّقَ بِه أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِه الذِّلَّةَ، وأَذَلَّ بِه الْعِزَّةَ، كَلَامُه بَيَانٌ وصَمْتُه لِسَانٌ»[99].
لشخصية كلّ إنسان ثلاثة جوانب: الجانب الإنساني والإلهي، الجانب العلمي والثقافي، والجانب الاقتصادي[100].
في هذا النص كشف الإمام أمير المؤمنين× عن عمل النبوّة في تغيير القيم السائدة في المجتمع، هذه القيم التي تحكم وتوجّه العلاقات داخل المجتمع بين فئاته وأفراده، وإبدالها بقيم أُخرى متّسقة في طبيعتها مع طبيعة الرسالة النبويّة؛ لأنّها مستمدّة منها. وما يترتّب على ذلك من تغيّر في المفاهيم والقناعات، ومن تبدّل في نوع العلاقات نتيجة لتبدّل القيم الجاهلية بالقيم النبويّة.
لقد ثنيت أزمة الأبصار نحو الرسول الأكرم’ كما كانت تثنى نحو كلّ نبي في مجتمعه؛ لأنّه قد أثار اهتمام الناس كلّهم، وأوجد هزّة راحت تنداح على المجتمع كلّه وتنفذ في أعماقه. وهذه الفكرة تضـيء التحليل الذي يقول: إنّ أثر النبوّة الخيرة لا يقتصـر على المؤمنين بالنبي ورسالته وحدهم، وإنّما يتعدّاهم ليشمل ببركاته المجتمع كلّه. لقد أدّت القيم الجديدة التي جاء بها النبي إلى تغيير المفاهيم، ومن ثمّ إلى تغيير عميق وجذري في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والفئات، وإلى إحداث التبدّلات الاجتماعية[101].
وهذا هو الجانب الإنساني والإلهي تناوله الإمام أمير المؤمنين× في هذه الكلمات النيرات التي سنقف عندها:
الكلمة الأُولى: (دَفَنَ الله بِه الضَّغَائِنَ، وأَطْفَأَ بِه الثَّوَائِرَ)
المقصود به هو الرسول الأكرم’ وقد استعار الإمام أمير المؤمنين× لفظ الدفن لإخفاء الأحقاد به بعد أن كانت ظاهرة مجاهراً بها. ولفظ الإطفاء لإزالة العداوات بين العرب بالتأليف بين قلوبهم، كما قال تعالى في إظهار المنّة على عباده: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)[102].
والضغائن: جمع ضغينة، وهي الحقد، ضغنت على فلان ـ بالكسر ـ ضغناً، والضغن الاسم، كالضغينة، وقد تضاغنوا واضطغنوا: انطووا على الأحقاد. ودفنها: أكمنها وأخفاها[103].
لقد دُفنت به’ الضغائن؛ لأنّ أسباب تولّدها قد زالت، ومن ثَمّ زالت أسباب تفجّرها فزالت الثوائر، لقد نعم المجتمع كلُّه بدرجة عالية من الاستقرار والطمأنينة بعد أن انخفضت إلى أدنى الدرجات مظاهر العنف والتوتر فيه؛ نتيجة لتبدّل المفاهيم والقيم التي كانت سائدة فيه بمفاهيم وقيم أُخرى بثّتها النبوّة[104].
وخير مثال على دفنه للضغائن وإطفائه للثوائر إزالته للحروب التي كانت بين العرب، مثل حروب داحس والغبراء، وحرب البسوس، وحرب الفجّار، والحروب التي كانت بين خزاعة وكنانة[105]، بل يمكن القول إنّه ما اجتمعت للعرب كلمة في يوم من الأيام إلّا على عهد الرسول الأكرم’، وبفضل الله تعالى وفضله’، ولـمّا هاجر إلى المدينة كان بين قبيلتيّ الأوس والخزرج حرب دامية ومتّصلة، فألغى النبيّ’ ما كان بينهما من حرب وخصومة، وكفّ أيدي بعضهم عن بعض[106].
الكلمة الثانية: (أَلَّفَ بِه إِخْوَاناً، وفَرَّقَ بِه أَقْرَاناً)
لقد أدّت القيم الجديدة إلى إيجاد علاقات جديدة، فألفَّ الله بالنبي’ ـ بالقيم التي بشّـر بها وأذاعها في الناس ـ إخواناً في الإيمان، وفرّقت هذه القيم الإيمانية بين أقران اختلفت بهم الطرق حين هتف صوت النبوّة في المجتمع، فسلك بعضُهم طريقَ الإيمان وبقي الآخر على طريقه القديم، وقيمه القديمة، طريق الجاهلية وقيم الجاهلية. كما أدّت هذه القيم الجديدة إلى تغيير في المراتب الاجتماعية؛ لأنّ القيم القديمة التي كانت تجعل أساس الترتيب في البنية الاجتماعية بين الأشخاص أو الفئات متمثِّلاً في المال، أو السلالة والنسب، أو القوّة الحربية، هذه القيم قد زالت وحلّت محلّها قيمٌ جديدة، غدت هي الأساس الذي يقوم عليه الترتيب الاجتماعي، وهي التقوى[107].
وأمّا الأقران المفرّق لهم فهم المؤتلفون على الشـرك، وأمّا ما ألّف به إخواناً؛ فلأنّ الإسلام قد ألّف بين المتباعدين، وفرّق بين المتقاربين، قطع ما بين حمزة× وأبي لهب مع تقاربهما، وألّف بين علي× وعمار مع تباعدهما[108].
الكلمة الثالثة: (أَعَزَّ بِه الذِّلَّةَ، وأَذَلَّ بِه الْعِزَّةَ)
فقوله×: (أعزّ به الذلَّة)، أي ذلَّة الإسلام وأهله، (وأذلّ به العزّة)، أي عزّة الشرك وأهله، وبين كلّ قرينتين من هذه الستّ مقابلة ومطابقة، فقابل بالتفريق التأليف، وبالذلَّة الإعزاز، وبالعزّة الإذلال[109].
فقد أعزّ الله تعالى ـ بالنبي وبالقيم التي جاء بها ـ الذلّة التي كانت تفرضها القيم الجاهلية القديمة على الفقراء والمستضعفين، وأذلَّ به العزّة التي كانت تنشأ من قيم غير إيمانية. فمن تأريخنا الإسلامي تحفل السيرة النبويّة بمئات من الشواهد والنماذج، فالأذلّاء في الجاهلية، كعمار بن ياسر وبلال الحبشي أصبحا أعزّاء في المجتمع الجديد؛ لأنّ القيم الجاهلية التي كانت تفرض عليهم أن يكونوا أذلّاء في مرتبة اجتماعية متدنية قد زالت بالإسلام. وجاء الإسلام بقيم جديدة غيّرت موقعَهم في المجتمع، فجعلتهم من النخبة، والأعزّاء في الجاهلية غدوا أذلاء؛ لأنّ القيم التي كانوا يتكئون عليها ويستمدّون منها اعتبارهم الاجتماعي ويتبوؤن مركز النخبة فيه، هذه القيم قد زالت بالإسلام، وحلّت محلّها قيمة جديدة هي التقوى، وحيث إنّهم لم يتحلّوا بهذه القيمة الجديدة فقد غدوا من الأذلّاء[110].
فبلال الحبشي كان من السابقين إلى الإسلام، ومن المستضعفين من المؤمنين، وكان يُعذّب ليرجع عن دينه، وكان الذي يعذّبه أُميّة بن خلف، يُلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره إذا حميت الشمس وقت الظهيرة، ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة فتُلقى على صدره، ويقول له: اكفر بربّ محمّد، فيقول بلال: أحدٌ أحد. هاجر إلى المدينة، وآخى رسول الله’ بينه وبين أبي رويحة الخثعمي، وقيل: آخى بينه وبين عبيدة بن الحارث، وشهد بدراً وأُحداً والخندق والمشاهد كلّها مع رسول الله’، وهو أوّل مَن أذّن لرسول الله’، علَّمه رسول الله’ الآذان، فكان يؤذِّن له في السفر والحضر، ولم يؤذِّن لَأحد بعد رسول الله’، ثمّ خرج بعد وفاة النبي’ إلى الشام، فأقام بها، «روي أنّ بلالاً رأى النبيَّ’ في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزيناً، فركب إلى المدينة فأتى قبر النبي وجعل يبكي عنده، ويتمرّغ عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يقبّلهما ويضمّهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذِّن في السَحَر، فعلا سطح المسجد، فلمّا قال: الله أكبر الله أكبر، ارتجّت المدينة، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله، زادت رجّتها، فلمّا قال: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، خرج النساء من خدورهن، فما رئي أكثر باكياً ولا باكيةً من ذلك اليوم»[111].
الكلمة الرابعة: (كَلَامُه بَيَانٌ، وصَمْتُه لِسَانٌ)
ليس المقصود باللسان هاهنا الجارحة نفسها، بل الكلام الصادر عنها، قالوا في تفسيره: أراد الكلمة، بقوله×: إنّ كلام الرسول’ بيانٌ، والبيان إخراج الشـيء من حيز الخفاء إلى حيز الوضوح، وصمته’ كلام وقولٌ مفيد، أي: أنّ صمته لا يخلو من فائدة، فكأنّه كلام، وهذا من باب التشبيه المحذوف الأداة، كقولهم: يده بحرٌ ووجهه بدرٌ[112].
فكلامه بيان ٌ لما انغلق من أحكام كتاب الله كقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)[113]. وصمته لسان، استعار لفظ اللسان لسكوته، ووجه المشابهة أنّ سكوته’ مستلزم للبيان من وجهين:
أحدهما: أنّ الصحابة كانوا إذا فعلوا فعلاً على سابق عادتهم، فسكت عنهم النبي| ولم ينكره عليهم علموا بذلك أنّه على حكم الإباحة. فكان سكوته عنهم في ذلك بياناً له، وأشبه سكوته عنه باللسان المعرب عن الأحكام.
الثاني: أنّه يسكت عمّا لا ينبغي من القول فيعلِّم الناس السكوت عن الخوض فيما لا يعنيهم[114]؛ ولذا روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: «لمّا حضـر رسول الله’ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبيُّ’: هلمَّ اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. فقال عمر: إنّ النبيَّ (صلّى الله عليه وسلّم) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم مَن يقول: قرّبوا يكتب لكم النبيُّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) كتاباً لن تضلوا بعده. ومنهم مَن يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، قال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): قوموا. قال عبيد الله: وكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم»[115]، فكان صمته’ أبلغ من الكلام، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم، ودّع رسول الله’ الدنيا وعينه ترمق أهلَ بيته^؛ لعلمه بما يجري عليهم بعد عينيه’:
ورحم الله الشريف الرضي& حيث يقول:
يا رسولَ الله لو عاينتَهم |
***
المحاضرة السادسة: الأُسلوب القرآني في الدعوة إلى اللّه تعالى
قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[117].
قد يخترع الإنسان عموماً والمبلِّغ الإلهي خصوصاً الأُسلوب النافع لتبليغ أحكام الله وآياته، وقد يصطدم غير المعصوم منهم بأُمور لم يرتضها الشارع المقدّس، بل أحياناً يقع في المحاذير الشرعية في الأُسلوب الذي يبتدعه هذا المبلِّغ أو ذاك، فيما لو خالف الأمر الإلهي في كيفيّة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فـ «لم يكن داعياً إلى الله، مَن خالف أمر الله ويدعو إليه بغير ما أمر في كتابه»[118]، والمؤمن الذي يريد أن يوصل الأحكام بشكل سليم وبأُسلوب مرضيٍّ عليه أن يتّبع الأُسلوب القرآني الذي أشارت إليه هذه الآية المباركة، وقد ذكرت ثلاث مراتب للدّعوة بحسب اختلاف الناس في التعقّل وفي الانقياد، وهو الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
الأُسلوب الأوّل: الدعوة إلى سبيل اللّه بالحكمة
الأُسلوب القرآني الأوّل في الدعوة إلى سبيل الله هو الدعوة بالحكمة، والمقصود بالحكمة ـ كما جاء في كثيرٍ من كلمات الأعلام ـ البرهان[119]، أو العلم المحيط الّذي أعطاه من فضله. والمراد بسبيل الله: دينه الحقُّ[120]، وهذا الأُسلوب ليس من الأساليب العامة، بل هو أُسلوب خاص اتّبعه النبيّ الأكرم’ وأهل بيته الطَّيبين الطَّاهرين^ في بعض الموارد التي تنفع مع الخصم، حتى قال’: «مَن وضع الحكمة في غير أهلها جَهِل، ومَن منع عن أهلها ظَلَم، إنّ للحكمة حقّاً وإنّ لها أهلاً، فأعطِ كلّ ذي حقّ حقّه»[121]، ونحن نلاحظ حكمة النبيّ’ في تصرّفه عندما فتح مكّة وجمع صناديد قريش، وكان أكثرهم من المجرمين والملوثة أيديهم بدماء المسلمين على مدى عشرين سنة، فكان أبو سفيان وجماعته، ومعاوية وخالد وعمرو بن العاص، وهؤلاءكلّهم من المجرمين، لكن الرسول الأكرم’ عفا عنهم، وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، هذا هو أبو سفيان مع أشدّ مراتب الرأفة والرحمة يكون حكمه هو الأعدام، ومع ذلك عفا عنهم، وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وكأنّ شيئاً لم يكن. فالنبيّ’ عفى عن كلِّ الكفّار والمجرمين إلّا عن اثنين لم يعفو عنهم، وهما مغنيتان اثنتان من المغنيات كانتا تتغنيان بهجاء النبيّ الأكرم’ في مكّة، قال’: «اقتلوهما ولو تمسّكا بأستار الكعبة»، وبعد ذلك قتل الصحابة واحدة، ثمّ قتلوا الثانية، فسأله بعض الصحابة: يارسول الله تقتل المغنيتين وتترك المجرم الحقيقي أبو سفيان؟! يقول: نعم، صحيح أنّ أبا سفيان قتل المسلمين لكنّهم ساروا إلى الجنّة وتنوروا بشعلة الشهادة ونور الإسلام، أمّا المغنية التي تغني أغاني جميلة في زمن النبيّ ترسخها في أذهان الناس وهذا قتلٌ للشخصية.
ولذا فيجب أن نحتاط في الشعر، فنحن مع الشعر العقلاني، يعني الشعر الذي يمدح ويروج لما ثبتت صحته بالبرهان، الشعر الذي يتغنّى بالله ويمدح رسوله’ وأهل بيته^ ويشيد بالفضائل، ويروِّج القيم والعدالة الإنسانية والشرف والكرامة، وهذه أشياء مستحبة، وهذه حكمة في التعامل وليس بمعنى البرهان.
وأمّا بمعنى البرهان فدونك المناظرات التي خاضها أهل البيت^ مع الملاحدة والمشككة، كالديصاني الذي كان يقول: «إنّي أحبّ أن ألقى بها أبا عبد الله×. فاستأذن فأُذِن له، فدخل فقال له: أتأذن لي في السؤال؟ فقال له: سل عمّا بدا لك، فقال له: ما الدليل على أنّ لك صانعاً؟ فقال: وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إمّا أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري، فإن كنت صنعتها أنا فلا أخلو من أحد معنيين: إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئاً، فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً وهو الله ربّ العالمين. فقام وما أحار جواباً»[122].
أو مناظرات الإمام الرضا× مع الجاثليق عندما قال له الإمام×: «يا نصراني، والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد’ وما ننقم على عيساكم شيئاً إلّا ضعفه وقلّة صيامه وصلاته، قال الجاثليق: أفسدت والله علمك، وضعّفت أمرك، وما كنت ظننت إلّا إنّك أعلم أهل الإسلام! قال الرضا×: وكيف ذاك؟ قال الجاثليق: من قولك: إنّ عيسى كان ضعيفاً، قليل الصيام، قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قط، ولا نام بليلٍ قط، وما زال صائم الدهر وقائم الليل، قال الرضا×: فلمَن كان يصوم ويصلى؟! قال: فخرس الجاثليق وانقطع»[123].
أو مناظرات تلامذة الإمام الصادق× كهشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد في الإمامة[124].
الأُسلوب الثاني: الدعوة إلى سبيل اللّه بالموعظة الحسنة
الأُسلوب الثاني هو الدعوة إلى سبيل الله بالموعظة الحسنة، وقد ذكر البعض أنّها الخطابة[125]، لكن الخطابة أحد أساليبها، وكذا الكتابة وما شاكل ذلك من الأُمور التي يصدق عليها الموعظة الحسنة، فهي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب، وقيل: الموعظة الحسنة هي القول اللّين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف[126]، أحسنها أن يخاطب المرشد المخطئ بأُسلوب يشعر منه تلقائياً أنّه مخطئ، ومن الحمق أن يفاجئه بالتأنيب والتوبيخ، وقديماً قيل: التلويح أبلغ من التصريح، وبكلمة أنّ الموعظة الحسنة هي التي تحقق الغرض المطلوب[127]، كما قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[128].
والشواهد على ذلك في غاية الكثرة، كما روي: «أنّ الحسن والحسين‘ مرّا على شيخٍ يتوضأ ولا يحسن، فأخذا بالتنازع، يقول كلّ واحد منهما: أنت لا تحسن الوضوء. فقالا: أيّها الشيخ كن حكماً بيننا، يتوضأ كلّ واحد منّا سوية. ثمّ قالا: أيّنا يحسن؟ قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن، وقد تعلّم الآن منكما، وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أُمّة جدّكما»[129].
الأُسلوب الثالث: الدعوة إلى سبيل اللّه بالمجادلة الحسنة
هناك جملة من المفاهيم يمارسها الناس من دون أن يتعرّفوا على نظر الشـريعة الإسلامية فيها، فتراهم يخوضون فيها ولا يخوضون في غيرها؛ لقبحها عندهم بحسب العرف وإن لم تكن مذمومة شرعاً، بل ولا عقلاً في أحيانٍ كثيرة، ومن تلك المفاهيم مفهوم الجدل والمجادلة، والمقصود بالجدل والمجادلة الخصام والمخاصمة[130].
وقد تكون النظرة الأولية للمجادلة هي الذم، بل والمنع، لكن الصحيح هو أنّ الجدال ينقسم إلى قسمين:
القسم الأوّل: الجدال القبيح، وهناك آيات ذمّت الجدل الذي يكون في آيات الله، أو يكون بغير علم، كما هو صريح قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ)[131]، الذامّة للذين يجادلون في آيات الله.
وأمّا الروايات في ذمِّ الجدل والمجادلة فهي كثيرة، فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «إياكم والجدال؛ فإنه يورث الشك في دين الله»[132].
وعن الإمام علي بن موسى الرضا× أنّه قال: «يا عبد العظيم، أبلغ عنّي أوليائي السلام، وقل لهم: أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومُرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، ومُرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض والمزاورة؛ فإنّ ذلك قربة إلي، ولا يشتغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً...»[133].
القسم الثاني: الجدال الحسن، وهو ما أشارت إليه الآية المباركة التي صدّرنا بها الكلام، وبالجمع بين الآيات الناهية عن الجدل والآيات الآمرة ننتهي إلى أنّه لا تعارض بينها؛ لأنّ الآيات الآمرة أمرت بالجدال الحسن دون الجدال القبيح؛ ولذا ذكر عند الإمام الصادق× الجدال في الدين، وأنّ رسول الله’ والأئمّة المعصومين^ قد نهوا عنه، فقال الإمام الصادق×: «لم ينهَ عنه مطلقاً، لكنّه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون الله تعالى يقول: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)»[134].
فإذا كان هذا هو أدب الإسلام عند المحاورة والمجادلة مع غير المسلمين فكيف تكون المحاورة والمجادلة مع علماء المسلمين وأهل الاجتهاد؟! وعلى هذا يجب أن تكون العقول والأفكار بهدف الوصول إلى الحقّ والصواب، ولو كان مخالفاً لما رآه أولاً[135].
ولذا نحن نقرأ في زيارتنا لسيِّد الشهداء×: «... أشهد أنّك قد حلّلت حلال الله، وحرّمت حرام الله، وأقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، ودعوت إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة...»[136]، حيث خاطبهم الإمام الحسين× بكلّ عطفٍ ولين، وكلّ حكمة وموعظة، إذ قال×: «... فإن كنتم في شكٍّ من هذا، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيِّكم؟! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم، ولا في غيركم، ويحكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟!»، فأخذوا لا يكلّمونه[137]، فلم تنفع المواعظ بقومٍ صُمّوا عن النبأ العظيم ثمّ عُموا، فبقوا حيارى لا يستطيعون جواباً، وكما وصفهم شاعر أهل البيت السيد رضا الهندي&، حيث يقول:
لم
أنسه إذ قام فيهم خاطباً |
***
الزهره
تعنت الطف يوم عاشور |
فكيف تعرّفت عليه السيدة الزهراء‘:
تدنت
ليه تشمّه وعرفته حسين |
***
المحاضرة السابعة: أبو طالب × مؤمنٌ مكتملُ الإيمانِ
روي عن إمامنا أبي جعفر الباقر× أنّه سُئل عمّا يقوله الناس أنّ أبا طالب في ضحضاح من نار، فقال: «لو وضعَ إيمانُ أبي طالبٍ في كفّةِ ميزانٍ وإيمانُ هذا الخلقِ في الكفةِ الأُخرى لرجح إيمانُه»[139].
قد يسأل اللبيب: ما هو السبب وراء كلّ هذه الجلبة والضجّة وراء أبي طالب× مع أنّه لا توجد في واحدٍ من أقرانه؟ «وليس لهم مأرباً في آباء المهاجرين أسلموا أو لم يسلموا، أو أنّ لهم غاية في إسلام أبوي أبي بكر، لكنّهم زمّروا لما لم يزل لهم فيه مكاء وتصدية من تكفير سيِّد الأباطح، شيخ الأئمّة أبي طالب، والد مولانا أمير المؤمنين (سلام الله عليهما)، وذلك بعد أن عجزوا عن الوقيعة في الولد فوجهوها إلى الوالد أو إلى الوالدين، كما فعله الحافظ العاصمي في زين الفتى. وكان من تهويلهم في تخفيف تلكم الوطأة أن جرّوا ذلك إلى والدي النبيّ المعظم’ وعليهما، حتى قال العاصمي في زين الفتى عند بيان وجه الشبه بين النبيّ والمرتضى (صلّى الله عليهما وآلهما): أمّا تشبيه الأبوين في الحكم والتسمية فإنّ النبيّ في كثرة ما أنعم الله تعالى عليه ووفور إحسانه إليه لم يرزقه إسلام أبويه، وعلى هذا جمهور المسلمين، إلّا شرذمة قليلون لا يُلتفت إليهم، فكذلك المرتضى فيما أكرمه الله به من الأخلاق والخصال وفنون النعم والأفضال لم يرزقه إسلام أبويه»[140].
وهذا الموضوع قضية قضائية نناقشها بحسب ما وصل إلينا من أدلّة، ولنجعل أبا طالب متّهماً في قضية كبرى وهي الموت كافراً أو مشركاً، ولنسأل أبا طالب هل أنت كنت مسلماً أم كافراً أم مشركاً؟
ولنسمع جوابه عن طريق أقواله وأفعاله، فإنّه سيقول لنا: أما تخافون الله تعالى؟! أما ترجون المعاد؟! أهكذا أباح لكم الدين اتّهام الآخرين؟! أشققتم عن قلبي ورأيتم عقيدتي، أم نظرتم في النجوم فجاءكم الجواب منها: أنّ أبا طالب مات مشركاً؟!
كيف تتعرّفون أيُّها المسلمون على إيمان الناس؟ ألا يكفيكم في ثبوت إسلامهم وإيمانهم ما يصدر منهم من أقوال وأفعال في هذا المجال؟
يقول ابن تيميّة ـ في معرض حديثه عن حكم المنافق ـ: «... ولما قال لأسامة بن زيد: أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قال: إنّما قالها تعوّذاً. قال: هلّا شققت عن قلبه؟ وقال: إنّي لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم. وكان إذا استؤذن في قتل رجل يقول: أليس يصلِّي أليس يتشهّد؟ فإذا قيل له: إنّه منافق. قال: ذاك، فكان حكمه (صلّى الله عليه وسلّم) في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم لا يستحلّ منها شيئاً إلّا بأمرٍ ظاهرٍ مع أنّه كان يعلم نفاق كثيرٍ منهم؛ وفيهم مَن لم يكن يعلم نفاقه. قال تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)[141]، وكان مَن مات منهم صلّى عليه المسلمون الذين لا يعلمون أنّه منافق، ومَن علم أنّه منافق لم يصلِّ عليه. وكان عمر إذا مات ميت لم يصلِّ عليه حتى يصلِّي عليه حذيفة، لأنّ حذيفة كان قد علم أعيانهم»[142].
ولنستمع الآن إلى جواب أبي طالب عن التّهمة التي وُجهت إليه، وكيف سيجيب عنها، يقول أبو طالب مدافعاً عن نفسه: أيُّها الناس، أنا أبو طالب شيخ البطحاء عند المسلمين، اتّهمني بعضهم ظلماً وعدواناً، وستثبت براءتي بالوثائق التالية:
الوثيقة الأُولى: أقوالي وأشعاري
وهي التي رواها جميع المسلمين، وهي بين أيديكم، وكثيرة، وسأذكر بعضاً منها، ولكنّكم تعمّدتم عدم مطالعتها، وعدم الاهتمام بها؛ لأجل أن تتمّ دعواكم، لكنّي سأذكر بعضاً منها لكم؛ لكي لا يطول المقام:
1ـ أخرج الحاكم النيسابوري في كتابه المستدرك على الصحيحين، عن ابن إسحاق قال: «قال أبو طالب أبياتاً للنجاشي يحضّهم على حسن جوارهم والدفع عنهم:
ليعلمْ خيارُ الناسِ أنّ
محمّــداً |
فأبو طالب يخاطب خيار الناس بهذه الأبيات بأنّ محمّداً’ نبيّ كسائر الأنبياء، وأنّه مبعوث كبعثتهم^.
2ـ روى الثعلبي في تفسيره[144]، والبغدادي في خزانته[145]، وابن كثير في تأريخه[146]، وابن حجر في فتحه[147]، والحلبي في سيرته[148]، وغيرهم في غيرها[149]: أنّ أبا طالب قال مخاطباً الرسولَ الأكرم’ بهذه الأبيات ـ كما في تاريخ ابن كثير ـ:
والله لن يصلوا إليكَ بجمعهم |
وعلّق الشيخ الأميني& على البيت الأخير ـ بناءً على وجوده، وأنّه لم يكن من إضافات بعض المغرضين ـ قائلاً: «هب أنّ البيتَ الأخيرَ من صُلبِ ما نظمه أبو طالب× فإن أقصى ما فيه أنّ العارَ والسُبّةَ الذين كانَ أبو طالب× يحذرهما خيفة أن يسقط محلّه عند قريش فلا تتسنّى له نصرة الرسول المبعوث’، إنّما منعاه عن الإبانة والإظهار لاعتناق الدين، وإعلان الإيمان بما جاء به النبي الأمين، وهو صريح قوله: (لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً)، أي مظهراً، وأينَ هو عن اعتناق الدين في نفسه، والعمل بمقتضاه من النصرة والدفاع؟ ولو كان يريد به عدم الخضوع للدين لكان تهافتاً بيِّناً بينه وبين أبياته الأُولى التي ينصّ فيها بأنّ دينَ محمّدٍ’ من خير أديان البرية ديناً، وأنّه’ وسلّم صادق في دعوته أمين على أُمّته»[150].
3ـ وأنا القائل أيضاً ـ كما روى ذلك ابن أبي الحديد في شرحه على النهج ـ:
لقد أكرم اللهُ النبيَّ محمّــداً |
وقال ابن أبي الحديد بعد هذين البيتين: «قالوا فكلّ هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر، لأنّه إن لم تكن آحادها متواترة، فمجموعها يدلّ على أمر واحد مشترك، وهو تصديق محمد’، ومجموعها متواتر، كما أنّ كلّ واحدةٍ من قتلات علي× الفرسان منقولة آحاداً، ومجموعها متواتر، يفيدنا العلمَ الضروريَّ بشجاعته، وكذلك القول فيما روى من سخاء حاتم...»[151].
4ـ وأنا القائل ـ كما أخرج السيوطي ذلك عن ابن عساكر في تأريخه ـ: وأبيض يُستسقى الغمام...، حيث قال: «أخرج ابن عساكر في تأريخه عن جلهمة بن عرفطة، قال: قدمت مكّة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، اقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم واستسق. فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنّه شمس دجن تجلّت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بإصبعه الغلام، وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق وأغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب البادي والنادي، ففي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه |
الوثيقة الثانية: أفعالي ومواقفي
وأمّا الوثيقة الثانية على براءتي فهي أفعالي ومواقفي الدالّة على إيماني، وسأكتفي بذكر بعضها:
1ـ موقفي في بدء الدعوة
فقد روى ابن الأثير: «لـمّا أنزل الله على رسوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[153]، اشتدّ ذلك عليه وضاق به ذرعاً، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عمّاتُه يعدنه، فقال: ما اشتكيت شيئاً، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فقلن له: فاُدعهم ولا تدع أبا لهب فيهم؛ فإنّه غير مجيبك! فدعاهم فحضروا معه نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلاً، فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمّك فتكلّم ودع الصباة[154]، واعلم أنّه ليس لقومك بالعرب قاطبة، وإنّ أحقّ مَن أخذك فحبسك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدّهم العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشرٍّ مما جئتهم به، فسكت رسول الله ولم يتكلّم في ذلك المجلس، ثمّ دعاهم ثانية وقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ثمّ قال: إنّ الرائد لا يكذبُ أهلَه، والله الذي لا إله إلّا هو، إنّي رسول الله إليكم خاصةً، وإلى الناس عامّة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنّها الجنّة أبداً والنار أبداً.
فقال أبو طالب: ما أحبّ إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك وأشدّ تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنّما أنا أحدهم، غير أنّي أسرعهم إلى ما تحبّ، فامضِ لما أُمرت به، فو الله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أنّ نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب»[155].
قال الشيخ الأميني& ـ بعد أن نقل هذا النص ـ: «قال الأميني: لم يكن دين عبد المطلب (سلام الله عليه) إلّا دين التوحيد والإيمان بالله ورسله وكتبه، غير مشوب بشيء من الوثنية، وهو الذي كان يقول في وصاياه: إنّه لن يخرج من الدنيا ظلومٌ حتى يُنتقم منه وتصيبه عقوبة. إلى أن هلك ظلوم لم تصبه عقوبة. فقيل له في ذلك، ففكر في ذلك فقال: والله، إن وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته»[156].
2ـ حنوي وحمايتي وخوفي على رسول الله’
فقد روى ابن أبي الحديد ذلك عنّي، حيث قال: «وقرأت في أمالي أبى جعفر بن حبيب&، قال: كان أبو طالب إذا رأى رسول الله’ أحياناً يبكى ويقول: إذا رأيته ذكرت أخي. وكان عبد الله أخاه لأبويه، وكان شديد الحبّ والحنو عليه، وكذلك كان عبد المطلب شديد الحبّ له، وكان أبو طالب كثيراً ما يخاف على رسول الله’ البيات إذا عرف مضجعه، يقيمه ليلاً من منامه، ويضجع ابنه عليّاً مكانه، فقال له على ليلة يا أبت، إنّي مقتول، فقال له:
اصبرن يا بنى فالصبر أحجى كلّ حيٍّ مصيره لشعوب[157] |
فأجاب علي×، فقال له:
أتأمرني بالصبر في نصـر أحمد |
وعلّق الشيخ الأميني& على هذه المحاورة بقوله: «إنّ القرابة والرحم تبعثان إلى المحاماة إلى حدٍ محدود، لكنّه إذا بلغت حدَّ التضحية بولد كأمير المؤمنين هو أحبّ العالمين إلى والده، فهناك يقف التفاني على موقفه، فلا يستسهل الوالد أن يعرض ابنه على القتل كلّ ليلة فينيمه على فراش المفدى، ويستعوض منه ابن أخيه، إلّا أن يكون مندفعاً إلى ذلك بدافع ديني وهو معنى اعتناق أبي طالب بالدين الحنيف، وهو الذي تعطيه المحاورة الشعرية بين الوالد والولد، فترى الولد يصارح بالنبوّة فلا ينكر عليه الوالد، بأنّ هذا التهالك ليس إلّا بدافع قومي غير فاتر عن حض ابنه على ما يبتغيه من النصرة، ولا متثبِّط عن النهوض بها (فسلام الله على والد وما ولد)»[159].
3ـ موقف لا يصنعه إلّا مَن هو مؤمن
وموقفٌ آخر من مواقفي التي لا يصنعها إلّا مَن هو مؤمن، رواه أهل السير، فقال القرطبي: «وروى أهل السير، قال: كان النبي (صلّى الله عليه وسلّم) قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلّي، فلمّا دخل في الصلاة، قال أبو جهل (لعنه الله): مَن يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته. فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثاً ودماً فلطخ به وجه النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، فانفتل النبي (صلّى الله عليه وسلّم) من صلاته، ثمّ أتى أبا طالب عمّه فقال: يا عمّ، ألا ترى إلى ما فُعِل بي؟ فقال أبو طالب: مَن فعل هذا بك؟ فقال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): عبد الله بن الزبعرى. فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلمّا رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، فقال أبو طالب: والله، لئن قام رجل جللته بسيفي. فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بني مَن الفاعل بك هذا؟ فقال: عبد الله بن الزبعرى. فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فلطّخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول»[160].
4ـ وموقف عندما دنت الوفاة
فعندما دنت منّي الوفاة، وهي اللحظات الحرجة التي تمرّ بالإنسان، فقد روى ابن سعد عنّي ذلك، حيث قال: «إنّ أبا طالب دعا بني عبد المطلب، فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمّدٍ وما اتّبعتم أمره، فاتّبعوه وأعينوه ترشدوا»[161].
هذه بعضُ أقوالي وأفعالي، فهل يحقّ لأحدٍ أن يتّهمني بأنّي مت كافراً، وأنّي في ضحضاحٍ من نار؟! كما روى البخاري في سقيمه! حيث قال: «عن عباس بن عبد المطلب، قال: يا رسول الله، هل نفعتَ أبا طالب بشيءٍ، فإنّه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار»[162].
كيف أكون في ضحضاحٍ من النار وولدي عليٌّ أمير المؤمنين قسيم الجنّة والنار؟! ولذا روى المفضّل بن عمر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن أمير المؤمنين علي× أنّه كان جالساً في الرحبة والناس حوله فقام إليه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّك بالمكان الذي أنزلك الله وأبوك معذَّبٌ في النار؟! فقال له: «مه فضَّ الله فاك، والذي بعث محمداً بالحقّ نبياً، لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله، أبي معذّب في النار وابنه قسيم الجنّة والنار؟! والذي بعث محمداً بالحق، إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق إلّا خمسة أنوار: نور محمد، ونور فاطمة، ونور الحسن والحسين، ونور ولده من الأئمّة...»[163].
كيف يكون في النار مَن يرثيه قسيم الجنّة والنار، حيث يقول:
أبا طالبٍ عصمة المُستجيرِ |
***
المحاضرة الثامنة: القرآن.. أحسن الحديث وربيع القلوب
روي عن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «وتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّه أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وتَفَقَّهُوا فِيه فَإِنَّه رَبِيعُ الْقُلُوبِ، واسْتَشْفُوا بِنُورِه فَإِنَّه شِفَاءُ الصُّدُورِ، وأَحْسِنُوا تِلَاوَتَه فَإِنَّه أَنْفَعُ الْقَصَصِ»[165].
القرآن الكريم دستورٌ عمليٌّ متكامل، يأخذ كلُّ واحدٍ منه بقدر ما أفرغه من
قلبه له، من علومٍ وعِبَر، فقد يأخذ البعض منه العبارة ويكتفي بها، ويكون همّه
الشاغل الاهتمام بفنِّ التجويد، ومخارج الحروف، والقراءات المختلفة، وما شاكل ذلك،
والبعض الآخر يشغل عمرَه بمتابعة أسباب النزول، إلى غير ذلك، والحال أنّ القرآن
الكريم كتاب هدايةٍ، الغرض الأصلي منه ليس هذا ولا ذاك؛ لذا يصرِّح القرآن الكريم
نفسُه بماهيته، حيث يقول الله تبارك وتعالى عن كتابه الكريم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ
لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)[166]، فإذا كان صاحب القرآن الكريم
ـ وهو الله تعالى ـ يصرِّح بأنَّ هذا الكتاب كتاب هداية، فلماذا الاهتمام الكبير
في غير هذا الجانب؟! فهل يمكن للإنسان أن يورد على كتابٍ مكتوب في علم الفيزياء
مثلاً أنّه: لماذا لم يتعرّض إلى أقسام الفعل في اللغة العربيّة؟ فهذا كمَن يستعمل
العلاج المعيّن لغير المرض الذي لم يكتب له هذا المرهم أصلاً.
وفي هذه الكلمة للإمام أمير المؤمنين× مقاطع أربعة أقف عندها بالميسور إن شاء الله تعالى:
المقطع الأول: تعلّم القرآن الكريم
لقد ورد الحثّ الأكيد على تعلّم القرآن الكريم والاهتمام به، فقد روي عن النبيّ الأكرم’ أنّه قال: «خيرُكم مَن تعلّم القرآن وعلّمه»[167]، ومن الطبيعي أنّه ليس المراد بالتعليم حفظ ألفاظه ومعرفتها، بل المراد به معرفة معانيه، وتفسير ألفاظه، ومعرفة ما يؤدّي إليه لفظه من المعاني، ليستدلّ به على التوحيد، ومعرفة الأحكام الشرعية، كما أنّ فيه دلالة على أنّ ذلك أفضل العلوم، والمقصود منه حثّ الناس وتحريضهم على تعلّم ذلك العلم وتعليمه معاً[168].
وعنه’ أنّه قال: «ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلّا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمَن عنده»[169]، ولو لم نعثر ولا على روايةٍ واحدة في الحثّ على تعلّم القرآن الكريم، فالعقل يدعونا لذلك؛ لأنّه لا نتمكّن من العمل به ما لم نتعلّمه، والغرض من وراء هذا الكتاب هو العمل، فأصبح التعلّم مقدمةً لازمة للعلم.
ثمّ إنّ الإمام× علّل السبب في الحثّ على تعلّم القرآن الكريم بأنّه أحسن الحديث، أي أحسن الكلام، وسمّى الكلام به بالحديث؛ لتجدّده وحدوثه شيئاً فشيئاً، ولعلوّ مقامه، وسموّ مكانه، وحسن نظمه، وجلالة قدره، وبعد غوره، وعذوبة معناه، ودقّة مغزاه، واشتماله على ما لم يشتمل عليه غيره من كلام المخلوقين، كان أحسن الكلام، وأمر× بتعلُّمه بذلك الاعتبار، مضافاً إلى ما يترتّب على تعلُّمه من عظيم الفوائد ومزيد القسم والعوائد[170].
فكم هو جميلٌ أن يكون حديثنا القرآن الكريم، ومنهل علومنا القرآن الكريم، ونعيش معه ومع علومه، ونستشهد به في مجالسنا ومواعظنا وكلّ شيء.
المقطع الثاني: التفقّه في القرآن الكريم
ثمّ ينتقل الإمام× في المقطع الآخر إلى التفقّه في القرآن الكريم، حيث قال:«تَفَقَّهُوا فِيه فَإِنَّه رَبِيعُ الْقُلُوبِ»، أي: تفهّموا في القرآن؛ وذلك لأنّه ربيع القلوب، واستعار× له لفظ الرّبيع باعتبار كونه جامعاً لأنواع الأسرار العجيبة، والنكات البديعة، والمعاني اللّطيفة، والعلوم الشريفة التي هي متنزّه القلوب، كما أنّ الرّبيع جامع لأنواع الأزهار والرياحين التي هي مطرح الأنظار ومستمتع الأبصار.
ومحصّل المعنى: أنّه يجب عليكم أخذ الفهم في القرآن؛ كيلا تُحرَموا من فوائده، ولا تغفلوا عن منافعه؛ فإنّه بمنزلة الرّبيع المتضمِّن للفوائد الكثيرة والمنافع العظيمة.
ويحتمل أن يكون المراد بالتفّقه التبصّر والبصيرة في أمر الدّين، والفقه أكثر ما يأتي في الحديث بهذا المعنى، وعلى هذا الاحتمال فتعليل الأمر بالتفقّه بكونه ربيعاً إشارة إلى أنّ الرّبيع كما أنّه مورد الاعتبار بما أودع الله فيه من عجائب العِبَر والأسرار، وأخرج فيه من بدايع النبات والأزهار وغيرها من شواهد الحكمة وآثار القدرة، فكذلك القرآن محلّ الاستبصار بما تضمنّه من حكاية حال الأُمم الماضية والقرون الخالية، وتفصيل ما أعطاه الله سبحانه للمطيعين من عظيم الثواب، وجزاه للمسيئين من أليم العقاب والعذاب، وغير ذلك ممّا فيه تذكرة لأُولي الأبصار، وتبصرة لأُولى الألباب[171].
المقطع الثالث: الاستشفاء بنور القرآن الكريم
ثمّ يأتي المقطع الثالث عنه×: «واسْتَشْفُوا بِنُورِه فَإِنَّه شِفَاءُ الصُّدُورِ»، شفاءٌ لها من الأسقام الظاهرية والباطنية، كما يدلّ عليه ما رواه في الكافي الشريف بسنده، عن أبي عبد الله، عن آبائه^، قال: «شكى رجلٌ النّبيَّ’ وجعاً في صدره، فقال: استشفِ بالقرآن؛ فإنّ الله يقول: (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)[172]»[173].
وممكن لنا أن نضع أيدينا على بعض المصاديق في الاستشفاء بنور القرآن الكريم:
1ـ شفاء الأمراض الظاهرية: وهذا بحاجة إلى عقيدةٍ قويّةٍ بالقرآن الكريم، كباقي الأُمور التي يعتمد الإنسان عليها، فالدعاء والاستشفاء بالتربة الحسينيّة المقدّسة فرع العقيدة الصحيحة، فقد ورد في بعض النصوص الشريفة أن ندعو ونظن أنّ حاجتنا بالباب، فقد روي عن الإمام أبي عبد الله× أنّه قال: «إذا دعوتَ فاقبل بقلبك، وظنّ أنّ حاجتك بالباب»[174]، وأمّا أن يستعمل الإنسان القرآن الكريم للتجربة، فحاله كحال الذي يريد أن يختبر الكريم، ويجرّب الجواد، فإنّه من أشدّ التصرّفات التي تؤذي أهل الجود والكرم.
2ـ شفاء الأمراض الباطنية: سواء كانت عقلية أم فكرية، أم غيرها من الأمراض، فمقتضى الإطلاق في الآية الشريفة ـ شفاءٌ لما في الصدور ـ يكون شفاءً لكلّ ما في باطن الصدور، وما الذي في الصدور؟! في الصدور القلوب التي تعمر بالإيمان، وفي الصدور العقائد الحقّة، وفيها الظنون الطيبة والظنون السيئة، إلى غير ذلك ممّا لا يعلمه إلّا الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[175]، القلوب التي تعمى بالذنوب والمعاصي: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[176]، وتحيى بالموعظة، كما صرّح القرآن الكريم بذلك، حيث يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)[177].
فكم من عقيدةٍ خاطئة صحّحها التدبّر في نور القرآن الكريم، يقول أحدهم: «قبل حوالي أربعين عاماً، حيث كنت في مدينة كربلاء المقدّسة، كُتب في إحدى المجلات آنذاك أنّ أحد علماء السنة اعتنق المذهب الشيعي، فلما سُئل عن سبب تشيُّعه، قال: لقد شيّعني حرف جر واحد في القرآن الكريم!!
فقيل له: وما هو؟ قال: أنا أقرأ القرآن كثيراً، وفي إحدى المرّات كنت أقرأ سورة الفتح: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)[178]، حتى وصلت إلى آخر آية من السورة (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ...)[179]، أي أصحاب النبي الأكرم’، لاحظت أنّ الله قد ذكر أصحاب النبي’ في هذه السورة ثلاث عشرة مرّة بصيغة الجمع أو مع ضمائر الجمع، ولكنّه سبحانه وتعالى حين يتحدّث عن مسألة الدخول إلى الجنة، يذكرهم بصيغة التبعيض وليس الجمع، فيقول سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ)[180]؛ وكلمة (مِنْهُمْ) للتبعيض، فرحت أستغرق في التفكير في هذا الأمر، ولماذا لم يشملهم الخطاب جميعاً؟
وقلت مع نفسي: يجب أن أحقّق وأدقّق في ذلك، فوجدت في آخر المطاف أنّ صيغة التبعيض هذه تعود إلى الأصحاب أنفسهم؛ وهكذا صرت شيعيّاً»[181].
إذن علينا جميعاً أن لا ندع أوقاتنا تذهب هدراً، بل علينا أن ندرس ونطالع بشكل صحيح؛ لأنّ أهل العقائد الباطلة إنّما يتّبعون ما تشابه منه.
المقطع الرابع: الإحسان في تلاوة القرآن الكريم
ثمّ يأمرنا الإمام× بالإحسان في تلاوة القرآن الكريم، حيث يقول×: «وأَحْسِنُوا تِلَاوَتَه فَإِنَّه أَنْفَعُ الْقَصَصِ»، ولا شكَّ أنّ الإحسان في التلاوة فرع التلاوة، وعليه فلا بدّ أن نتأمّل في بعض ما روي في فضل وثواب تلاوة القرآن الكريم من خلال التأمّل في هذه الرواية الشريفة، روى الشيخ الكليني& في الكافي الشريف عن سيدنا ومولانا الإمام أبي جعفر الباقر× أنّه قال: «قَالَ رَسُولُ الله’: مَنْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، ومَنْ قَرَأَ خَمْسِينَ آيَةً كُتِبَ مِنَ الذَّاكِرِينَ، ومَنْ قَرَأَ مِائَةَ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، ومَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْخَاشِعِينَ، ومَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ مِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْفَائِزِينَ، ومَنْ قَرَأَ خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، ومَنْ قَرَأَ أَلْفَ آيَةٍ كُتِبَ لَه قِنْطَارٌ مِنْ تِبْرٍ، الْقِنْطَارُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ مِثْقَالٍ مِنْ ذَهَبٍ، والْمِثْقَالُ أَرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ قِيرَاطاً أَصْغَرُهَا مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ وأَكْبَرُهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ»[182].
هذا هو بعض فضل التلاوة، وأمّا الإحسان فيها، فقد يكون أحد معاني الإحسان لتلاوة القرآن الكريم تلاوةً يحيي بها القارئ قلبَه، وأحد طرق تحصيل ذلك هو أن نقرأ بطريقة الترتيل بحسب اصطلاح القرآن الكريم، فقد روى الشيخ الكليني& في الكافي الشريف بإسناده، عن عبد الله بن سليمان، قال: «سألت أبا عبد الله× عَنْ قَوْلِ اللَّه : ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ×: بَيِّنْه تِبْيَاناً ولَا تَهُذَّه هَذَّ الشِّعْرِ، ولَا تَنْثُرْه نَثْرَ الرَّمْلِ، ولَكِنْ أَفْزِعُوا قُلُوبَكُمُ الْقَاسِيَةَ، ولَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ»[183].
فعلى القارئ أن يتلو القرآن الكريم تلاوةً يُفهم بها عقلَه أنّه في محضر القدس الإلهي، وبين يدي جبّار السماوات والأرضين، ولأجل تحصيل هذا الشعور عليه أن يتذكّر أنّ المُنزِل لهذا الدستور العظيم والمحافظ عليه هو الله تعالى، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[184]، وأنَّ المُنزَل عليه هو خاتم الأنبياء والمرسلين المصطفى محمّد’، وأنّ الشهر الذي أُنزل فيه هذا الكتاب هو شهر رمضان المبارك، وهو أعظم الشهور وأفضلها، وأنّ الليلة التي أُنزل فيها هي ليلة القدر، وأنّها ليلة مباركة عظيمة، وأنّ المفسِّر والمبيِّن لهذا القرآن الكريم هم محمّد وآل محمّد^، فبهذه المعاني يكون القرآن حاضراً في قلب التالي له، فيستشعر العظمة الحقيقية، فيتعامل معه على هذا الأساس[185].
ثمّ يعلّل الإمام أمير المؤمنين× هذا الأمر ـ الإحسان في التلاوة ـ بقوله×: «فَإِنَّه أَنْفَعُ الْقَصَصِ»، يعني: أنّه لـمّا كان أحسن القصص وأنفعها، كما يرشد إليه قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا)[186]، لا جرم أنّه ينبغي أن تُحسن تلاوته، وأن يُتلى حقّ التلاوة بحسن التّدبّر والنظر؛ لتُدرك منافع قصصه، وتُنال بها من الفوائد العظيمة[187].
ومن فوائد القصص القرآني الكريم أخذ العِبَر من تلك القصص والتفكّر فيها، ومقايسة الإنسان نفسه بصاحب القصة، فعندما يمرّ بقصة بلعم بن باعورا، التي جاءت في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)[188]، يتأمّل فيها جيداً ويحذر أن يكون مصداقاً آخر لهذه القصّة.
وقد روي عن الإمام أبي الحسن الرضا×: «أنّه أُعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، فكان يدعو به فيُستجاب له، فمال إلى فرعون، فلمّا مرَّ فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادعو الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى وأصحابه فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها، فأنطقها الله ، فقالت: ويلك! على ما تضربني؟! أتريد أجئ معك لتدعو على موسى نبي الله وقوم مؤمنين؟! فلم يزل يضربها حتى قتلها وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه، وهو قوله (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ)»[189].
ويتأمّل في قصة نبي الله يوسف× وما صنع به إخوته، ويتأمّل صنع الله به، وهكذا يتأمّل في قصّة فرعون وقارون وأصحاب الكهف وسائر القصص القرآني؛ فإنّ العِبرَة في التفكّر، كما ذكر لنا القرآن الكريم نفسه، حيث قال: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[190]، ونتفكّر بالظلم الذي وقع على أهل بيت العصمة والطهارة، ونتفكّر بحال الظالمين، نتأمّل تأريخ الإمام أمير المؤمنين× وتأريخ أعدائه الذين شتموه على المنابر وهم اليوم في المزابل، وأحسن الشاعر العملاق الأستاذ محمد المحجوب، وهو سوري سنّي المذهب، حيث يقول:
أين القصورُ أبا يزيد ولهوُها |
***
إلى أن يقول:
قم وارمق النجفَ الشّـَريف بنظرةٍ |
***
المحاضرة التاسعة: سُؤالُ الْمَوْءُودَةُ
قال تعالى في كتابه الكريم: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)[192].
كان المجتمع الجاهلي
مجتمعاً غريبَ الأطوار، وبعيداً عن الثقافة الدينية كلّ البعد، ويكفيك أن تضع يدك
على الآيات الذامّة لهم، مثل قوله تعالى: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)[193]،
وقوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[194]،
وقوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ
الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)[195]،
وقوله تعالى:
(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا
فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)[196]،
بل هم على شرِّ دينٍ وفي شرِّ دار، كما عبّر الإمام أمير المؤمنين×، حيث قال: «وأنتم معشرَ العربِ على شرِّ دينٍ وفي شر
دار، متنخون بين حجارة خشن وحيات صم، تشربون الكدر وتأكلون الجشب، وتسفكون دماءكم
وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة»[197].
والأمر لم يقتصر على الدين والأخلاق فحسب، بل حتى على المستوى المدني المتمثِّل بالنظافة والطهارة والذوق السليم، يقول الأصمعي: «دنوت من بعض الأخبية في البادية فسُقيت لبناً في إناء، فلمّا شربتُه قلتُ: هل كان هذا إلّا إناءً نظيفاً؟! فقيل: نعم نأكل منه في النّهار، ونبول فيه باللَّيالي، فإذا أصبحنا سقينا فيه الكلب فلحسه ونقّاه. فقلت: لعنك الله ولعن هذه النظافة»[198].
وكانت ظاهرة وأد البنات واحدة من تلك المظاهر المنتشرة في العصـر الجاهلي، فتعال لنتعرّف على هذه الظاهرة وأسبابها.
المقصود بالوأد الثقل، قال الفخر الرازي: «وأد يئد مقلوب من آد يئود أوداً، ثقل، قال تعالى: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)، أي يثقله: لأنّه إثقال بالتراب كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد بقاء حياتها ألبسها جبّة من صوف أو شعر لترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا بلغت قامتها ستة أشبار فيقول لأُمّها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أقاربها. وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها إلى البئر فيقول لها: اُنظري فيها. ثمّ يدفعها من خلفها، ويهيل عليها التراب حتى يستوي البئر بالأرض، وقيل كان الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتاً رمتها في الحفرة، وإذا ولدت ابناً أمسكته»[199].
أمّا السبب في هذه الجريمة البشعة فيعود لعدة أُمور:
الأمر الأول: كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به[200]، وقد أشار الباري} إلى هذه العقيدة بقوله تعالى: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) [201].
الأمر الثاني: أنّ السبب في ذلك هو أنّ رسول الله’ دعا عليهم، فقال: «اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف»، فأجدبوا سبع سنين حتّى أكلوا الوبر بالدم، كانوا يسمّونه العلهز فوأدوا البنات لإملاقهم وفقرهم[202]. ويؤيّد ذلك قوله تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)[203].
ثمّ إنّ قتل الأولاد فيه خسارة لنفس الوالدين، قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [204]
الأمر الثالث: قال قوم: بل كان وأدهم للبنات أنفة، وذلك أنّ تميماً منعت النعمان بن المنذر الإمارة سنة من السنين، فوجّه إليهم أخاه الريّان وجلّ مَن معه من بكر بن وايل، فاستاق النعم وسبا الذراري، فوفدت بنو تميم إلى النعمان فاستعطفوه فرقّ لهم وأعاد عليهم السبي، وقال: كلّ امرأة اختارت أباها رُدِّت إليه، وإن اختارت صاحبها تُركت عليه. فكلهنّ اخترن أباهنّ إلّا ابنة قيس بن عاصم فإنّها اختارت مَن سباها. فنذر قيس بن عاصم التميميّ أنّه لا تولد له بنت إلّا وأدها. ففعل ذلك، ثمّ اقتدى به كثير من بنى تميم[205].
الأمر الرابع: احتقار المجتمع الجاهلي للمرأة، ووجود الفقر الشديد في تلك الحقبة الزمنية، والمرأة كانت مستهلكة غير منتجة، إضافة لعدم اشتراكها في الغارات التي تقوم بها القبيلة لتوفير لقمة العيش. وممّا يؤسف له أنّ جاهلية القرون الأخيرة قد كررت تلك الممارسات البشعة وبصور أُخرى، حتى وصل ببعض الدول التي تدّعي التمدّن والتحضّر لأن تقنّن وتقر حرية إسقاط الجنين! نعم، فالحال واحدة.. فإذا كان أهل الجاهلية الأُولى يقتلون البنت، فمتمدِّني هذا العصر يقتلون الأطفال وهم في بطون أُمّهاتهم، بنتاً أو ابناً![206]. والحال إنّ إسقاط الجنين محرّم شرعاً وعقلاً؛ لكونه صورة قتل صريحة وواضحة، وله أحكام في الفقه الجنائي.
وقد بالغ الله تعالى في التشديد على وأد البنات الذي كان سائداً قبل الإسلام لعدّهن عاراً على آبائهن وبيوتهن، فقال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ).
وقد أقرّ الإسلام مكانة المرأة الاجتماعية، فقد ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شؤون الحياة بإرادتها وعملها، فإنّها تساوي الرجل من حيث تعلّق إرادتها بما يحتاج إليه المجتمع الإنساني في كلّ لوازم بقائه؛ إذ قال تعالى: (أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)[207] فللمرأة أن تستقلّ بالإرادة ولها أن تستقلّ بالعمل، وتملك نتاج عملها، كما كان ذلك للرجل من غير فرق، فقال تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)[208]، وقال تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[209].
نعم قرّر الإسلام اختلافها عن الرجل في نقطتين:
الأُولى: إنّها بمنزلة الحرث في تكوّن النوع الإنساني ونمائه، فعليها يعتمد النوع في بقائه، فتختص بأحكام بمثل ما يختص به الحرث، إذن هي تمتاز عن الرجل في هذه النقطة.
الثانية: إنّ وجود المرأة يبتني على الرقّة والرأفة واللطافة، كما قال الإمام أمير المؤمنين×: «فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»[210]، فتحوّل إليها الأعمال والوظائف الاجتماعية التي تنسجم مع هذه الصفات[211].
وهذه الآية تؤكِّد لنا ما روته الأحاديث عن قسوة العرب على المرأة، ومدى احتقارهم لها، وقد ساءهم نزول الوحي حينما جاء ينصف المرأة، ويجعل لها نصيباً من المال كغيرها من الورثة، فعاتب بعض العرب الرسول في ذلك محتجاً عليه بأنّها لا تركب الفرس ولا تقابل العدو، وكان يحقّ لابن الزوج أن يتزوج بزوجة أبيه إذا لم تكن أُمّاً له، فحرّم عليهم الإسلام هذا الزواج، ونهت عنه الآية الكريمة من سورة النساء، قال سبحانه: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا)[212]. وكلّ ذلك عناية من الإسلام بالمرأة[213].
ثمّ أنّه قد اختلفت الأقوال في الْمَوْءُودَةِ ما هي؟ على عدّة أقوال؛ والسبب في هذا الاختلاف هو الاختلاف في الروايات، وهي طوائف، ولكن سنعرض منها بعض الروايات:
الرواية الأُولى: ما روي عن ابن عبّاس: «كانت المرأة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة وقعدت على رأسها فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة وإن ولدت غلاماً حبسته»[214].
لو أمعنا النظر في أُسلوب كلام الآية، لرأينا أن السؤال سيوجه يوم القيامة إلى الموءودة نفسها دون الوائد المقيم على الذنب، الذي قُتلت من أجله، وكأنّ القاتل لا قيمة له حتى يسأل عن قباحة جريمته، بالإضافة إلى الاكتفاء بشهادة الموءودة لإثبات جريمة الوائد عليه، فالموءودة تعامل يوم القيامة باعتبارها إنسان محترم له حقوقه، والرائد مهمل مهان[215].
وقد يسأل سائل عن قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، فيقول: كيف يصح أن يُسأل مَن لاذنب له ولا عقل، فأي فائدة في سؤالها عن ذلك؟ وما وجه الحكمة فيه؟ وما الموءودة؟ ومن أي شيء اشتقاق هذه اللفظة؟!
الجواب: أمّا معنى (سُئلت) ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد أنّ قاتلها طولب بالحجة في قتلها، وسُئل عن قتله لها، وبأي ذنب كان؟ على سبيل التوبيخ والتعنيف، وإقامة الحجة. فالقَتَلَة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة لا المقتولة، وإنّما المقتولة مسؤول عنها، ويجرى هذا مجرى قولهم: سألت حقّي، أي طالبت به، ومثله قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، أي: مطالباً به مسؤولاً عنه.
والوجه الآخر: أن يكون السؤال توجّه إليها على الحقيقة على سبيل التوبيخ له والتقريع له، والتنبيه له على أنّه لا حجّة له في قتلها، ويجرى هذا مجرى قوله تعالى لعيسى×: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)[216] على طريق التوبيخ لقومه وإقامة الحجّة عليهم[217].
ويمكن أن يكون الله سبحانه أكملها في تلك الحال، وأقدرها على النطق حتى قالت ذلك القول، ويعضده ما روي عن النبي’ أنّه قال: «يجئ المقتول ظلماً يوم القيامة، وأوداجه تشخب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، متعلِّقاً بقاتله، يقول: يا ربّ، سل هذا فيمَ قتلني»[218].
الرواية الثانية: ما روي عن أبي عبد الله× في قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، قال: «يقول: أسألكم عن المودّة التي نزلت عليكم فضلها مودّة القربى، بأي ذنب قتلتموهم؟!»[219].
الرواية الثالثة: ما روي عن أبي عبد الله× في قول الله: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، قال: «نزلت في الحسين بن علي‘»[220].
الرواية الرابعة: ما في تفسير علي بن إبراهيم، عن أبي جعفر× في قوله تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، قال: «مَن قُتل في مودّتنا»[221].
ومن طريف القول ما كتبه المأمون لبعض مَن سأله من بني هاشم، وفيه يذكر فضل أهل البيت^ عموماً وأمير المؤمنين× خصوصاً، جاء فيه: «... ثمّ نحن، وهم يد واحدة، كما زعمتم، حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا فأخفناهم وضيّقنا عليهم وقتلناهم أكثر من قتل بني أُميّة إياهم.
ويحكم! إنّ بني أُميّة إنّما قتلوا منهم مَن سلّ سيفاً، وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جملاً، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قُتلت، ولتسألن نفوس أُلقيت في دجلة والفرات، ونفوس دُفنت ببغداد والكوفة أحياءً، وهيهات إنّه مَن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره»[222].
الرواية الخامسة: ما رواه المفضّل، عن الإمام أبي عبد الله الصادق×، قال: «يا مولاي أسال؟ قال: اسأل. قال: يا مولاي (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ). قال: يا مفضل تقول العامة: إنّها في كلّ جنين من أولاد الناس يقتل مظلوماً. قال المفضل: نعم، يا مولاي هكذا يقول أكثرهم. قال: ويلهم من أين لهم؟! هذه الآية هي لنا خاصّة في الكتاب، وهي محسن×؛ لأنّه منّا، وقال الله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، وإنّما هي من أسماء المودّة، فمن أين إلى كلّ جنين من أولاد الناس، وهل في المودّة والقربى غيرنا يا مفضل؟ قال: صدقت يا مولاي، ثمّ ماذا؟ قال: فتضرب سيدة نساء العالمين فاطمة يدها إلى ناصيتها، وتقول: اللّهم أنجز وعدك وموعدك فيمَن ظلمني وضربني وجرَّعني ثكلَ أولادي. ثم تلبيها ملائكة السماء السبع، وحملة العرش، وسكان الهواء، ومَن في الدنيا، وبين أطباق الثرى، صائحين صارخين بصيحتها وصراخها إلى الله، فلا يبقى أحد ممّن قاتلنا ولا أحبّ قتالنا، وظلمنا ورضي بغضبنا وبهضمنا، ومنعنا حقّنا الذي جعله الله لنا إلّا قُتل في ذلك اليوم كلّ واحد ألف قتلة، ويذوق في كلّ قتْلة من العذاب ما ذاقه من ألم القتل سائر مَن قُتِل من أهل الدنيا من دون مَن قُتِل في سبيل الله، فإنّه لا يذوق الموت، وهو كما قال الله : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)»[223].
و«رغماً على آناف أهل الجاهلية وسوء آرائهم أكرم الله تعالى حبيبَه محمداً’ بحبيبته فاطمة؛ ليفهم الناس أنّ هذا ليس بنقيصةٍ، وإلّا لما جعله الله لحبيبه، وقد تنزه عن كلّ نقص وعيب، فأعطاه فاطمة الزهراء، وقد ولد له القاسم والطاهر وإبراهيم وكنى’ بأسمائهم: أبا القاسم، وأبا الطاهر، وأبا إبراهيم، ولكن أخذهم من حبيبه وأبقى له فاطمة، وجعل نسله منها، ولذا قال’: ذرّية كلّ نبي من صلبه، وذرّيتي من ابنتي فاطمة، وقال له: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)[224]، يعنى: الخير الكثير من فاطمة، وهو كثرة الذراري، من أجل ذلك سُمّيت بالمباركة.
وقال عبد الله بن سليمان بن فرات: قرأت في الإنجيل في وصف النبي’ نكاح النساء ذو النسل القليل، إنّما يكون نسله من ابنة له مباركة ـ يعني هي التي أعطى الله البركة في نسلها ـ بحيث إنّ الكفرة والفجرة كلّما يجتهدون في أن يبيدوا نسلها عن جديد الأرض يأبى الله ذلك، ولقد اجتهدت وسعت فراعنة الأُمّة في ذلك وأتلفت ذراري رسول الله’ تحت كلّ حجر ومدر ومغارة، وبنوا عليهم الأسطوانات وقتلوهم وشرّدوهم، بل ومن الفراعنة أراد أن يحرقهم بالنار وهو أبو جعفر المنصور. وجّه إلى الحسن بن يزيد والى المدينة: أن أحرق الدار على جعفر بن محمد الصادق. ففعل الوالي، فأخذت النار في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله يتخطّى النار ويمشي فيها، ويقول: أبا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الله، وهذا ليس بأول قارورة كُسرت في الإسلام، ولقد أضرموا النار على جدّته الزهراء، وأرادوا أن يحرقوها وعلياً والحسنين بالنار، نار التي أضرموها على باب الزهراء÷ هي التي أحرقت دار إمامنا الصادق×، وأحرقت خيم الحسين×»[225].
ومَن في هذه البيوت وخلف الأبواب وتحت الخيام؟! فيها وتحتها الأطهار والأنوار وسادة الخلق أجمعين، فلعنة الله تعالى على مَن أسّس حرق الأبواب والبيوت والخيام، ورحم الله البرقي حيث يقول:
وليس في البيتِ إلّا كلُّ طاهرةٍ |
***
المحاضرة العاشرة: النساء الكُمّل
روي عن أبي موسى، قال: قال رسول الله’: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد’»[227].
الكمال صفةٌ يتمنّاها كلُّ إنسان، وهي تتمثلُ بعدّة علامات في الشخص، فقد يكون بصفة العلم، فيُقال: هذا الفرد كاملٌ من جهة العلم، وقد يكون تامٌّ من جهة الأخلاق، فيُقال: هذه المرأة كاملة الأخلاق، وقد يكون غير ذلك، وقد يُعظّم الإنسان من كلّ الجهات، فيكون الإنسان الكامل، الذي أشارت إليه الرواية الشـريفة المروية من الفريقين، فيكون الإنسان حينئذٍ من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، وهم كثير كمّلٌ كلّهم وعلى جميع المستويات، من العلم والحلم والشجاعة والعبادة والزهادة، وكلّ شيء، وقد روى الشيخ الصدوق& عن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «كمال الرجل بستِّ خصال بأصغريه، وأكبريه، وهيئتيه. فأمّا أصغراه: فقلبه ولسانه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن تكلّم تكلّم ببيان. وأمّا أكبراه: فعقله وهمّته. وأمّا هيئتاه: فماله وجماله»[228]، ولكن لـمّا لم يكن عندنا من النساء أنبياء ولا أوصياء صار كمال النساء محصوراً بقلّة، أشار إليها الحديث الشريف.
وهنا وقفة قصيرة مع البخاري وغيره ممّن روى هذا الحديث، حيث إنّهم ذكروا الحديث بطريق ملتوٍ آخر، وبنفس السند، حيث قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإنّ فضلَ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[229].
وهو كما تلاحظ التفاف على الحديث واضح، وخيانة سافرة للأمانة التي أُلقيت على عاتق أهل الحديث، فأنت تلاحظ بشكل واضح أنّ هذا الانفراد مخالفٌ لما رواه مشهور الفريقين، فيكون شاذاً، كشذوذ حديث ابن كثير في تفسيره ـ وإن كان بسند آخر ـ «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا ثلاث...»، وقد حذف فاطمة‘ من النساء الكمّل[230].
مضافاً إلى أنّ نسق الحديث ولحن الكلام قد اختلف تماماً، فأنت ترى الهبوط في الألفاظ من الكمال إلى الثريد، وهذا لا يخفى على أدنى الناس، بل الأعراب وأهل البادية يدركون ذلك، فضلاً عن أهل العربية والبلاغة من المفسِّرين، كما روى الرازي في تفسيره، قال: «قال الأصمعي: كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي، فقرأت هذه الآية، فقلت: (والله غفورٌ رحيم) سهواً، فقال الأعرابي: كلام مَن هذا؟ فقلت: كلام الله. قال: أعد، فأعدت: (والله غفورٌ رحيم)، ثمّ تنبهت، فقلت: (والله عزيزٌ حكيم). فقال: الآن أصبت. فقلت: كيف عرفت؟ قال: يا هذا، عزيزٌ حكيم، فأمر بالقطع، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع»[231].
وفي الحديث الذي ذكره البخاري ومسلم وغيره نرى نفس التعجّب والاستنكار الذي أحسَّ به الأعرابي مع الأصمعي؛ إذ كيف يجعل الفضل لعائشة، فلم يجد إلّا طريق الثريد، وكأنّما الثريد أمرٌ مُسلّمٌ في أنّه أحسن الطعام! والحال أنّه طعام محل اختلاف في تذوقه، فكثيرٌ من الناس ـ قديماً وحديثاً ـ لا يحبّه، فهو ليس كالشمس والقمر اللذان هما جمالٌ مُطلقٌ، أو كالخضرة والماء والوجه الحسن، وغيرها من الأشياء التي لا يختلف اثنان في حسنها وجمالها.
فالبخاري وغيره ممّن لفّقوا هذا التلاعب في الحديث أرادوا أن يثبتوا فضلاً لعائشة، لكنّهم لم يفلحوا في ذلك أبداً.
مضافاً إلى أنّ الحديث ـ وأهلُ الحديث يعرفون ذلك ـ لو دار الأمر فيه بين الزيادة والنقيصة وكلاهما مروي يكون المدار والبراءة على الزائد منه لا على الناقص الشاذ، الذي هو محل خلاف، فيؤخذ بالقدر المتيقن المتّفق عليه.
ولنمرّ بكمال هذه النسوة بشكل سريع ثمّ نركِّز حديثنا على كمال صاحبة الذكرى ـ أُمّ المؤمنين وجدّة الأئمّة المعصومين^ السيدة خديجة‘ ـ وأمّا كمال السيِّدة الطاهرة الشهيدة بضعة رسول الله’ فممّا لايحويه الفكر، ولا يسعه الصدر، والحديث عنها‘ وعن كمالها يحتاج إلى الكثير الكثير:
آسية بنت مزاحم زوجة فرعون، ضرب الله بها المثل للمرأة الصالحة؛ حيث قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[232].
ونلاحظ أنّ القرآن الكريم يريد من المرأة الإنسانة أن تكون مستقلّة عن كلّ أحد في عقائدها، ولم يقبل منها أيّ نوع من أنواع التبعيّة للغير في أمر التديّن والطهارة الروحية والعقيدة، وهذا ما نراه في قضية آسية بنت مزاحم زوجة فرعون، فآسية بنت مزاحم كانت على دين زوجها فرعون، ولكنّها عندما شاهدت البيِّنات في معجزة نبيّ الله موسى× أمام السحرة آمنت به، ومع اطّلاع فرعون على الأمر نهاها مراراً، لكنّها أبت إلّا التمسّك بالدين الإلهي، وعارضت الملك والسلطة رغم التهديد بالقتل، بل ووقوع القتل عليها، فلمّا تبيّن إيمانها لفرعون وثبتت عليه، أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس، وأمر بصخرةٍ عظيمةٍ تُلقى عليها، فلمّا أتوا بالصخرة قالت: ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة. فأبصرت بيتها في الجنّة من درّةٍ بيضاء، وانتزع الله روحَها فأُلقيت الصخرة عليها وليس في جسدها روح، فلم تجد ألماً من عذاب فرعون. وعن الحسن وابن كيسان: «رفع الله امرأة فرعون إلى الجنّة فهي فيها تأكل وتشرب»[233].
فآسية بنت مزاحم قد حافظت على طهارتها الروحيّة، وتحدّت ضغوط الزوج والسلطة والإغراءات التي كان يتباهى بها فرعون، بل استصغرت تباهي فرعون حيث كان يقول: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[234]، ولكن آسية جابهت كلّ هذا بإصرارها على قبول الحقّ والبرهان وكانت تقول ـ كما حكى لنا القرآن ذلك ـ: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ)[235].
فهذا المثال للمرأة المتديِّنة يدلّ على أنّ المرأة التي هي شريكة الرجل في الإنسانية يمكنها أن تصل إلى هذه المرتبة العالية من الطهارة الروحية والتديّن الفعلي، فتقاوم أشدّ الضغوط عليها في البيت الزوجي[236].
وأمّا كمال أُمّ النبيّ عيسى× السيّدة مريم‘، فكان بشدّة عفّتها، وكثرة عبادتها، فقد جعلها الله تبارك وتعالى المثل الأعلى للنساء الصالحات القانتات، حيث قال جلّت قدرته: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [237].
في مجمع البيان: «أي منعت فرجها من دنس المعصية، وعفت عن الحرام. وقيل: معناه منعت فرجها من الأزواج لم تبتغِ زوجاً ولا غيره. (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)، أي: فنفخ جبرائيل بأمرنا في جيبها من روحنا. عن قتادة.
وقال الفراء: كلّ شق فهو فرج، وأحصنت فرجها منعت جيب درعها من جبرائيل. وقيل: نفخ جبرائيل في فرجها، وخلق الله منه المسيح»[238].
3ـ كمال السيِّدة خديجة بنت خويلد
وأمّا كمال السيِّدة خديجة‘، فنستطيع الوقوف عليه من طريق ما وصلنا من ثناء الله تعالى وثناء رسوله الأكرم’ عليها، وسنذكر ذلك ضمن هذه النقاط المدعومة بالنصوص:
1ـ التحية والسلام عليها من العليّ الأعلى، فعن زرارة، وحمران بن أعين، ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر×، قال: «حدّث أبو سعيد الخدري إنّ رسول الله’ قال: إنّ جبرئيلَ قال لي ليلة أُسري بي وحين رجعت فقلت: يا جبرئيل، هل لك من حاجة؟ فقال: حاجتي أن تقرأ على خديجة من الله ومنّي السلام... وأنّها قالت حين لقيها نبي الله (عليه وآله السلام)، فقال لها الذي قال جبرئيل، قالت: إنّ الله هو السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعلى جبرئيل السلام»[239].
2ـ وكونها‘ من أهل الأعراف؛ لما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق× أنّه سُئل عن قول الله: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ) [240]، قال: «سورٌ بين الجنّة والنار قائمٌ عليه محمّدٌ’ وعليٌّ والحسنُ والحسينُ وفاطمةُ وخديجةُ^، فينادون أينَ مُحبّونا أينَ شيعتُنا؟ فيقبلونَ إليهم فيعرفونهم بأسمائهم وأسماء أباءهم، وذلك قوله الله تعالى: (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) فيأخذون بأيديهم فيجوزون بهم الصراط ويدخلونهم الجنّة»[241].
3ـ وكونها‘ من أصحاب آية الاصطفاء، فعن أبي مسلم الخولاني، قال: «دخل النبيُّ’ على فاطمةَ الزهراء÷ وعائشة وهما يفتخران وقد احمرّت وجوههما! فسألهما عن خبرهما؟ فأخبرتاه، فقال النبيُّ’: يا عائشة، أو ما علمتِ أنّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عمرانَ وعليّاً والحسنَ والحسينَ وحمزةَ وجعفرَ وفاطمةَ وخديجةَ على العالمين»[242].
4ـ خلق الله لها‘ بيتاً في الجنّة، فقد روى ابن المغازلي بسنده، عن خالد، عن ابن أبي أوْفَى، قال: «بَشّرَ رسول الله’ خديجة ببَيْت من قَصَب، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ»[243].
5ـ وكونها‘ من جملة النساء اللواتي هنّ أفضل نساء أهل الجنّة؛ لما روي عن ابن عباس، قال: خطَّ رسولُ الله’ أربعَ خطط في الأرض وقال: «أتدرون ما هذا؟» قلنا الله ورسوله أعلم فقال رسول الله’: «أفضل نساء [أهل] الجنّة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون»[244].
6ـ وروى البلاذري عن عائشة، قالت: «دخلت امرأة سوداء على رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، فأقبل عليها واستبشر بها. فقلت: يا رسول الله، أقبلت على هذه السوداء هذا الإقبال؟ فقال: إنّها كانت تدخل على خديجة كثيراً، وإنّ حُسنَ العهدِ من الإيمانِ»[245].
فرسول الله’ يحسن إلى واحدة من النساء؛ والسبب أنّها كانت تدخل على السيِّدة خديجة‘ كثيراً، فأيّ مقام لها هي‘ عند رسول الله’؟!
7ـ كثرة ثناء النبيّ الأكرم’ عليها‘، فقد روت عائشة أيضاً أنّه: «كان رسول الله’ إذا ذكر خديجة لم يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها، فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضّكَ الله من كبيرة السنّ. قالت: فرأيت رسولَ الله’ غضبَ غضباً شديداً فسقط [ما] في يدي وقلت في نفسي: اللّهمّ أن أُذهب غضب رسولك محمّد’ لم أعد لذكرها بسوء ما بقيت، فلمّا رأى رسول الله’ ما لقيت قال: كيف قلتِ؟ والله لقد آمنتْ بي إذ كفر الناس، وأدنتني إذ رفضني الناس، وصدّقتني إذ كذّبني الناس، ورُزقت منها الولد حيث حُرمتموه. قالت: فغدا وراح’ في كلمتي هذه شهراً»[246].
هكذا كانت السيدة خديجة‘ آمنت به’ عندما كفر به الناس، وأدنت الرسول الأكرم’ عندما رفضه الناس، ورُزق منا سيِّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، فمن الطبيعي جدّاً أنّ امرأة كهذه فراقها يهدّ رسول الله’، ويسمّي العام الذي تفارقه فيه بعام الحزن[247]، لكن ليت شعري أيّ عام يسمّى العام الذي قُتل فيه سيِّد الشهداء× وأهل بيته وأصحابه، وسُبيت فيه نساؤهم؟!
يقول الحاج هاشم الكعبي&:
لله أيّةُ محنةٍ |
***
المحاضرة الحادية عشرة: السيِّدة الزهراء‘ على لسانها
قالت السيدة الزهراء‘: «أيُّها الناس، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّد، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً»[249].
قد يستعمل المخاطب في ندائه ومطلع كلّ حديثٍ مهم النداء بالطريقة القرآنية، كقوله تعالى: (النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)[250]، والتي وردت في القرآن الكريم في مواضع عديدة.
وقد يستعمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)[251]. وكقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ...)[252].
وكذلك في الأحاديث القدّسية، كما روي عن رسول الله’ أنّه قال: «قال الله: أنفق يا ابن آدم، أنفق عليك»[253].
وهناك نكتة على نحو العموم في مثل هذه النداءات حاصلها: أنّ مثل هذه النداءات لها أهميّة في تنبيه المستمع والتأكيد عليه؛ ومن هنا ذهب البعض من العلماء إلى أنّ مثل هكذا نداءات يمكن وصفها بحكم الاستحباب؛ لكونها مقدّمة مهمّة في بيان المراد على النحو الأكمل، مضافاً إلى أدلّة الأُسوة[254].
ابتدأت السيِّدة الزهراء‘ خطبتَها الشّـريفة في المسجد النبويّ في حشدٍ من المهاجرين والأنصار، وأمام الحاكم الجديد الذي يريد أن يتسنَّم الزَّعامة بعد الرسول الأكرم’، وقد ذكرت‘ أُموراً في أُصول العقيدة وفلسفة بعض التكاليف الإلهية، ثمّ شرعت في الدخول في صلب الموضوع الذي خرجت السيِّدة الزهراء من أجله، ألا وهو بيان مظلوميتها، ومظلوميّة بعلها وأهل بيتها^، واستلاب الحقوق المادية والمعنوية، وأهمّها موضوع الخلافة للنبيّ الأكرم’، ولكن أيضاً بدأت‘ ببيان مَن هو الخطيب حتى يُسمع خطابه أو لا يُسمع، وما هي منزلته ومرتبته ومنزلته عند الله تعالى وعند رسوله’؟
وإنّما يعمد الخطيب إلى بيان هويته ومنزلته في مقامين:
المقام الأوّل: عندما يكون المخاطّبون والحاضرون والسامعون جاهلين بهويّة الخطيب ومقامه، كما لو خطب الخطيب في غير بلده، أو في غير قومه، كما صنع الإمام زين العابدين× في الشَّام عندما ارتقى الأعواد، حيث قال: «أيّها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا أعرِّفه بنفسـي، أنا ابن مكةَ ومنى، أنا ابن المروة والصفا، أنا ابن محمّد المصطفى’»[255].
المقام الثاني: أن ينزِّل الخطيبُ الحاضرين والسامعين منزلة الجاهلين بالمتكلِّم؛ لكونهم من البلادة والغباوة وعدم الفطنة بدرجةٍ أنّهم ضيّعوا منزلة الخطيب الذي عاش بين أيديهم، وسمعوا التوصية به من زعمائهم وقادتهم، فصاروا كما يقول قائلهم ـ في قضية شهادة الرسول الأكرم’ وقراءة قوله تعالى: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)[256] ـ فو الله لكأنّ النّاس ما سمعوا هذه الآية حتّى تلاها أبو بكر، وقال عمر: لـمّا سمعته يتلوها هويت إلى الأرض، وعلمت أنّ رسول الله’ قد مات[257].
والظاهر أنّ السيّدة الزهراء‘ في المقام الثاني؛ إذ القوم يعرفونها، وقد سمعوا مقالات الرسول الأكرم’ في حقّها، ولذا عندما أنّت أنّة في أوّل دخولها إلى المسجد أجهش القوم لها بالبكاء، وما ذاك إلّا لأنّهم تذكّروا رسول الله’ ووصاياه بها‘، فهي‘ أنزلت القوم منزلة الجاهل والمضيِّع لحقِّ الخطيب[258].
مضافاً إلى أنّها بهذه الطريقة قد قطعت العلل والتبريرات لكلّ الحاضرين ومَن سيأتي بعدهم من المشككين وأصحاب الأقلام المسيَّسة والمأجورة في أنّه: مَن قال إنّ هذا الكلام صدر من السيّدة الزهراء‘؛ لعّله من امرأة أُخرى، أو فاطمة من الفواطم غير فاطمة بنت الرسول الأكرم’؛ لذا قالت‘: «اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّد’»، فصاحبة هذا الكلام هي السيّدة الزهراء‘ بلا تردد[259].
إنّني بضعةٌ منه’ أحمل سجاياه، فهو لا يعرف الكذب، وأنا لا أعرفه، وهو لا يهتمّ للدنيا وأنا مثله، وهو لا يترك الحقّ وأنا كذلك.
وإن كان البعض يفتخر أنّه صاحبٌ له’ أو زوّج له فأنا منه، أي إنّي أقرب الناس عليه، فأكون أولى بتعليمه لي، فلا يعقل أن يعلِّمكم شيئاً ولا يعلِّمني، أو يختصّكم بشـيء ولا يشملني، فأنتم الآن خصوم رسول الله’ في فعلكم هذا لأنّني منه’.
اعلموا أنّي فاطمة التي يقول أبوها’ في حقّها: «فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما يؤذيها، ويريبيني ما يريبها»[260]، و«فاطمة روحي التي بين جنبيّ»[261]، و«ويرضى الله لرضى فاطمة، ويغضب لغضبها»[262].
وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها، وقبّل يديها وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها قامت إليه، فرحّبت به، وقبّلت يديه، وكان’ يُكثر تقبيلها، وكلّما اشتاق إلى رائحة الجنّة يشمّ رائحتها، وكان يقول: «فاطمة بضعةٌ منّي، مَن سرّها سرّني، ومَن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعزّ الناس إليّ»[263].
فهي حبيبة الرسول الأكرم’ ويكفي ذلك فضلاً؛ لأنّ مَن أحبّه الرسول أحبّه الله تبارك وتعالى، ومَن أحبّه الله تبارك وتعالى أدخله الجنّة، وذلك هو الفوز العظيم[264].
اعلموا أنّي فاطمة التي كان النبيّ’ يقف على باب بيتها ستّة أشهر[265]، فأنا لست مجرّد اسم عابر، إنّما أنا سيدة نساء العالمين، وهذا لايكون إلّا لـمَن له مقام عظيم.
اعلموا أنّي بنت الرسالة إيماناً وهجرةً وجهاداً وإنفاقاً وتحمّلاً للأذى، ومعلوم عندكم جهادي من أيام طفولتي، فأنا الصغيرة التي كانت تأتي إلى أبيها’ وهو في الكعبة قد وضع المشـركون على ظهره سلا الجزور، فطرحتُه عنه وأقبلتُ عليهم فشتمتُهم[266]، وهي نفسها الكبيرة التي يخرجها الله لمباهلة النصارى[267].
اعلموا أنّي حبيبة محمّد’ التي كان يقوم لها إذا أقبلت، ويقبِّلها، وهي نفسها التي يكنِّيها بـ (أُمّ أبيها)، التي كانت الهموم تنجلي عن قلبه الشـريف إذا رآها فهي نور عينه’، وهي ثمرة فؤاده، وروحه التي بين جنبيه[268].
«أقول عوداً وبدواً»، أولاً وآخراً، أي: إنّ كلامي الأخير هو عين كلامي الأوّل وذاته، لا أن أقول شيئاً ثمّ أتكلّم بما يناقضه ويعارضه، كما هو شأن الكثير من السياسيين وأرباب السلطات ومن أشبههم[269].
«ولا أقول ما أقول غلطاً»، غلط في منطقه غلطاً، أي: أخطأ وجه الصواب و(غلّطتُه) أنا، بمعنى: قلت له: (غلطت)، أو نسبته إلى الغلط[270].
وقال الجوهري: «غلط في الأمر يغلط غلطاً، وأغلطه غيره. والعرب تقول: غلط في منطقه، وغلت في الحساب، وبعضهم يجعلهما لغتين بمعنى»[271].
«ولا أفعل ما أفعل شططاً»، الشطط: مجاوزة القدر في كلّ شيء، يقال: أعطيته ثمناً لا وَكْسَاً ولا شططاً، وأشط الرجل إشطاطاً، أي: جار في قضيته[272]، كقوله تعالى على لسان الجن: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا)[273]، وقال تعالى على لسان الخصمينِ اللذينِ دخلا على نبيّ الله داود×: (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ)[274].
فهي‘ لا تقول غلطاً، ولا تفعل شططاً، فكلامها‘ لم يصدر إلّا عن بصيرةٍ وحكمةٍ، وهو مطابقٌ للواقع، وقولها لم يبتعد عن الحقّ.
والمراد من الفعل في المقام هو مجيؤها للمسجد ومناصرتها للإمام أمير المؤمنين×، وكلّ ما قامت به‘. ثمّ إنّ الفعل يشمل الكلام كما أنّ القول يشمل الفعل أيضاً[275].
ولـمّا لم ينتبهوا لمقامها فستخرج يوم القيامة وينادي المنادي: أيُّها الناس غضّوا أبصارَكم حتى تجوز فاطمة، هي فاطمة التي تكبّرتم عليها في الدنيا، ستمرّ الآن وأنتم صاغرون مطأطئون رؤوسكم، فاطمة التي ظلمها بعضكم في الدنيا ستأتي الآن لتأخذ بحقِّها، فاطمة التي استصغرتموها في الدنيا سينكشف لكم اليوم بعض مقامها.
من هنا نعرف لِـمَ كان يأخذ رسول الله’ بيدها ويقول لهم’: «مَن عرف هذه فقد عرفها، ومَن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمّد، وهي بضعة منّي، وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمَن آذاها فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله»[276].
هذه هي فاطمة عرّفها رسول الله’ للأُمّة الإسلامية، وعرّفت هي بنفسها، وألقت الحجّة على الجميع، وجعلها رسول الله’ أمانة في أعناق هذه الأُمّة، لكن الأُمّة لم تعرف قدرها ولم تحفظ أمانة نبيِّها’. ولو كانت بضاعة مزجاة كان الأُولى الحفاظ عليها؛ لأنّها وديعة من الله تعالى ومن رسوله’، فكيف وهي روح النبي’!
فكانت‘ كالآنية المكسورة، بل الآنية التي تُكسر يعود الناس إلى أهلها بعوضها تلك هي النفوس السامية:
أنتَ
لو تكسِـرُ جهلاً آنيةً |
***
المحاضرة الثانية عشرة: اصطفاء الزهراء‘ أمرٌ من السماء / القسم الأول
روى الشيخ الصدوق& بسنده، عن الإمام الصادق×، عن أبيه، عن جدّه، عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب^، عن النبيّ’ أنّه قال في وصيته له: «يا علي، إنّ الله أشرفَ على الدنيا فاختارني منها على رجالِ العالمينَ، ثمّ اطّلع الثانيةَ فاختارك على رجالِ العالمينَ بعدي، ثمّ اطّلع الثالثةَ فاختار الأئمّةَ من ولدكَ على رجالِ العالمينَ بعدكَ، ثمّ اطّلع الرابعةَ فاختار فاطمةَ على نساءِ العالمينَ»[278].
ممّا لا شكّ فيه أنّ الله تبارك وتعالى عادلٌ حكيمٌ، لا يفعل إلّا ما هو مقتضى الحكمة والعدل، لا يسوّي بين الصالح والطالح، والمؤمن والكافر، فمَن شكر نعم الله تعالى، وأدّى حقوق الله وواجباته، وآمن بالله ربّاً واحداً لا شريك له، شكر الله له صنعه وأثابه ثواباً عظيماً، والله شاكر يجازي مَن شكر، عليم بخلقه، لا يخفى عليه شيءٌ، ومَن كفر بنعمه تبارك وتعالى، ولم يؤدِّ حقوقه ولم يشكر صنيعه، لا يستحق منه تبارك وتعالى الزيادة ولا الإحسان، وإن كان من الممكن ذلك بفضله تبارك وتعالى، وعلى هذا الأساس قدّم الله تبارك وتعالى أفراداً على آخرين وبه تمايز البشـر؛ ولذا ورد في الدعاء الشـريف: «... بعد أن شرطتَ عليهم الزهدَ في درجاتِ هذه الدنيا الدنية، وزخرفها وزبرجها، فشـرطوا لك ذلك، وعلمتَ منهم الوفاء به، فقبلتهم وقرّبتهم وقدّرت لهم الذكرَ العلي والثناء الجلي، وأهبطت عليهم ملائكتك، وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك، وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلى رضوانك»[279]، فالله تبارك وتعالى يعطي ويصطفي على قدر قرب الإنسان منه، وابتعاده عن الدنيا وزخارفها وزبرجها، ومن هنا نرى أنّ الله تبارك وتعالى اصطفى أنبياءه ورسله وأولياءه على هذا الأساس، ولو أردنا أن نقتصـر في حديثنا في نظرية الاصطفاء ـ هذه النظرية القرآنية ـ على الاصطفاء الإلهي لخصوص محمّد وآل محمّد لكفى دلالةً في المقام، مع أنّ آية الاصطفاء ذكرت نماذج لهذا الاصطفاء، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[280].
ما هو الاصطفاء؟
الاصطفاء هو انتخاب صفوة الشـيء، وإنّما يصدق الانتخاب فيما إذا كان هناك جماعة يُختار المصطفى من بينهم[281].
وهو اختيارٌ من الله تعالى أن يكون شيء أو شخص صافياً، وذلك بالتوفيق والتأييد، وتهيئة الوسائل والهداية، إذا كان المورد مستعدّاً وفي صراط الحقّ.
فوجود الاستعداد الذاتيّ والتوفيق المخصوص من الله ـ ثانياً ـ خارج عن اختيار العبد، ولكنّ السلوك والعمل في محدودية الذات والفطرة اختياريّ، ولا نريد من الاختيار إلّا هذا المعنى[282].
أقسام الاصطفاء
ثمّ إنّ الاصطفاء عل قسمين:
القسم الأول: هو أن ينصبَّ على انتشال الفرد من مناشئ المعصية التي يمكن أن يكون سببها أحد الأُمور التالية:
1ـ الوراثة: بأن تكون معاصي هذا الشخص مسبَّبة بعامل الوراثة، فهو قد ورث من والديه وغيرهم صفات ذميمة أوقعته في براثن المعصية، ولم يعمل على القضاء عليها، مع تمكّنه من ذلك.
2 ـ البيئة: بأن يكون الفرد قد ولد في بيئةٍ منحرفةٍ ملوثة بالذنوب والمعاصي؛ ممّا أدّى إلى تلوثه بالمعاصي، فأصبح منهم.
3ـ النفس والشيطان: بأن كانت نفس هذا الشخص ضعيفة، لم يعمل على مجاهدتها، فتغلّب عليه الشيطان فألقاه في المعاصي، كما أشار إلى ذلك الإمام أمير المؤمنين× في دعاء الصباح، حيث قال: «وإن خذلني نصـرُك عند محاربةِ النفسِ والشيطان، فقد وكلني خذلانُك إلى حيث النصب والحرمان»[283].
فالاصطفاء الأول هو الإنقاذ والانتشال من مناشئ المعصية الثلاث، وهو أمرٌ ليس من السهل اليسير أن يوفّق له الإنسان؛ فإنّنا نرى شخصين شقيقين من أبٍ وأُمٍّ واحدة، وفي بيئة واحدة، لكن أحدهما صار في غاية الورع والثاني في غاية الفساد، وما ذاك إلّا للمؤهّلات التي عمل عليها الأخ الأول دون الثاني، فصار هذا مصطفى دون ذاك.
القسم الثاني: أن ينصبّ الاصطفاء على رفع الإنسان إلى مقامٍ لا يدنو إليه أحدٌ إلّا مَن هو على شاكلته، وهذا المقام هو مقام العصمة والطهارة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)[284].
وممّا لا ريب فيه أنّ هذا القسم متفرّعٌ على القسم الأوّل، وبه يكون المصطفى أفضل الخلق أجمعين، في الدنيا والآخرة.
ففي تفسير القمّي&: «اصطفاها مرّتين، أمّا الأُولى، اصطفاها أي: اختارها. وأمّا الثانية، فإنّها حملت من غير فحل، فاصطفاها بذلك على نساء العالمين»[285].
ولو رجعنا إلى الرواية التي صدّرنا بها الحديث نجد أنّ الرسول الأكرم’ يشير إلى معنى الاصطفاء له’ ولأمير المؤمنين وولده^ على رجال العالمين، ثمّ الاختيار الإلهي والاصطفاء الربّاني لفاطمة‘ على نساء العالمين، ومن هنا صار من اللازم الوقوف عند معرِّفات الاصطفاء الإلهي للسيدة الزهراء‘ في شتّى مناحي حياتها الشريفة:
الخصوصية الأُولى: حمل أُمّها بها‘
المصداق الأوّل من مصاديق اهتمام الشارع المقدّس بالسيِّدة الزهراء‘، أنّه تبارك وتعالى جعل الحمل بها ليس حملاً عاديّاً، بل وليس له نسخة في العالم كلِّه؛ حيث إنّ حملها كان باهتمام الله سبحانه وتعالى، فقد روي أنّه: «بينا النبيّ’ جالس بالأبطح ومعه عمار بن ياسر، والمنذر بن الضحضاح، وأبو بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، إذ هبط عليه جبرئيل× في صورته العظمى، قد نشـر أجنحته حتى أخذت من المشـرق إلى المغرب، فناداه: يا محمّد، العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحاً، فشقَّ ذلك على النبيّ’، وكان لها محبِّاً وبها وامقاً، قال: فأقام النبيّ’ أربعين يوماً، يصوم النهار، ويقوم الليل، حتى إذا كان في آخر أيامه تلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر، وقال: قل لها: يا خديجة، لا تظنّي أنّ انقطاعي عنك ولا قلي، ولكن ربّي أمرني بذلك لتنفذ أمره، فلا تظنّي يا خديجة إلّا خيراً، فإنّ الله ليباهي بك كرام ملائكته كلّ يوم مراراً، فإذا جنّك الليل فأجيفي الباب، وخذي مضجعك من فراشك، فإنّي في منزل فاطمة بنت أسد، فجعلت خديجة تحزن في كلّ يوم مراراً لفقد رسول الله’، فلمّا كان في كمال الأربعين هبط جبرئيل×، فقال: يا محمّد العلي الأعلى يقرئك السلام، وهو يأمرك أن تتأهب لتحيته وتحفته. قال النبيّ’: يا جبرئيل، وما تحفة ربّ العالمين؟ وما تحيته؟ قال: لا علم لي، قال: فبينا النبيّ’ كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطّى بمنديل سندس، أو قال: استبرق، فوضعه بين يدي النبيّ’، وأقبل جبرئيل× وقال: يا محمّد يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام. فقال علي بن أبي طالب×: كان النبيّ’ إذ أراد أن يفطر أمرني أن افتح الباب لـمَن يرد إلى الإفطار، فلمّا كان في تلك الليلة أقعدني النبيّ’ على باب المنزل، وقال: يا بن أبي طالب إنّه طعام محرّم إلّا عليَّ. قال علي×: فجلست على الباب وخلا النبيّ’ بالطعام، وكشف الطبق، فإذا عذق من رطب، وعنقود من عنب، فأكل النبيّ’ منه شبعاً، وشرب من الماء رياً، ومد يده للغسل، فأفاض الماء عليه جبرئيل، وغسل يده ميكائيل، وتمندله إسرافيل، وارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء، ثمّ قام النبيّ’ ليصلِّي فأقبل عليه جبرئيل، وقال: الصلاة محرّمة عليك في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإنّ الله آلى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرّية طيبة. فوثب رسول الله’ إلى منزل خديجة، قالت خديجة÷: وكنت قد ألفت الوحدة، فكان إذا جنتني الليل غطيت رأسي، وأسجفت ستري، وغلقت بابي، وصلِّيت وردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي، فلمّا كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة إذ جاء النبيّ’ فقرع الباب، فناديت: مَن هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلّا محمّد’؟ قالت خديجة: فنادى النبيّ’ بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة، فإنّي محمّد. قالت خديجة: فقمت فرحة مستبشـرة بالنبيّ’، وفتحت الباب، ودخل النبيّ المنزل، وكان’ إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهّر للصلاة، ثمّ يقوم فيصلِّي ركعتين يوجز فيهما، ثمّ يأوي إلى فراشه، فلمّا كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء، ولم يتأهب بالصلاة غير أنّه أخذ بعضدي، وأقعدني على فراشه، وداعبني ومازحني، وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عني النبيّ’ حتى حسست بثقل فاطمة في بطني»[286].
فهل كان قبل السيدة الزهراء‘ من الرجال أو النساء مَن صار الحمل به كالحمل بها، والتأهّب له كالتأهّب لها‘.
الخصوصية الثانية: أثناء الحمل
ولم تنتهِ القصّة بذلك، فلقد كان لها شأنٌ آخر مع أُمّها خديجة‘ أثناء الحمل، فقد روي أنّها كانت تحدِّث أُمّها‘، فعن المفضّل بن عمر، قال: «قلت لأبي عبد الله الصادق×: كيف كان ولادة فاطمة÷؟ فقال: نعم، إنّ خديجة÷ لـمّا تزوج بها رسول الله’ هجرتها نسوة مكّة، فكنّ لا يدخلن عليها، ولا يسلِّمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة÷ لذلك، وكان جزعها وغمّها حذراً عليه’. فلمّا حملت بفاطمة كانت÷ تحدِّثها من بطنها وتصبِّرها، وكانت تكتم ذلك من رسول الله’، فدخل رسول الله’ يوماً فسمع خديجة تحدِّث فاطمة÷، فقال لها: يا خديجة، مَن تحدّثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدِّثني ويؤنسني. قال: يا خديجة، هذا جبرئيل يخبرني أنّها أنثى، وأنّها النسلة الطاهرة الميمونة، وإنّ الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمّة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه...»[287].
ومن هذه الرواية أخذ الشيخ الحرّ العاملي& هذا المعنى:
كانت تحدّثُ أُمَّها وأُمُّها |
***
فهل سمع أحدٌ أنّ حملاً يؤنس أُمّه في بطنها غير السيّدة الزهراء‘؟!
وكلُّ هذه الفضائل بمسمع ومرأى من القوم، لكنّهم جعلوه وراء ظهورهم، وفعلوا ما فعلوا بأهل هذا البيت العظيم!
***
المحاضرة الثالثة عشرة:اصطفاء الزهراء‘ أمرٌ من السماء/ القسم الثاني
الخصوصية الثالثة: عند ولادتها‘
وأمّا حين ولادتها‘ فكان لها ولأُمّها السيِّدة خديجة شأنٌ آخر أيضاً، فقد وري عن الإمام الصادق× أنّه لـمّا حضـرت ولادة السيِّدة خديجة بفاطمة‘، وجهت إلى نساء قريش وبني هاشم ليَلِينَ منها ما تلي النساء من النساء. فأرسلن إليها بأنّك عصيتنا ولم تقبلي قولنا، وتزوجتِ محمداً، يتيم أبي طالب، فقيراً لا مال له، فلسنا نجيئك، ولا نلي من أمرك شيئاً، فاغتمّت خديجة لذلك. فبينا هي في ذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال كأنّهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن، فقالت لها إحداهن: لا تحزني يا خديجة فإنّا رسل ربِّك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنّة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه صفوراء بنت شعيب، بعثنا الله إليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء.
فجلست واحدة عن يمينها، والأُخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت خديجة فاطمة‘ طاهرة مطهرة، فلمّا سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكّة، ولم يبقَ في شرق الأرض ولا غربها موضع إلّا أشرق فيه ذلك النور.
فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها، ودخلت عشـر من الحور العين، كلّ واحدة منهن معها طست من الجنّة وإبريق، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسّلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوتين، أشدّ بياضاً من اللبن وأطيب رائحة من المسك والعنبر، فلفّتها بواحدة، وقنّعتها بأُخرى.
ثمّ استنطقتها فنطقت فاطمة‘ بشهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّ أبي رسول الله سيِّد الأنبياء، وأنّ بعلي سيِّد الأوصياء، وأنّ ولدي سيد الأسباط. ثمّ سلّمت عليهن، وسمّت كلّ واحدة منهن باسمها، وضحكن إليها.
وتباشرت الحور العين، وبشـر أهل الجنّة بعضهم بعضاً بولادة فاطمة‘، وحدث في السماء نور زاهر، لم تره الملائكة قبل ذلك اليوم، فلذلك سُمّيت الزهراء‘.
وقالت النسوة: خذيها، يا خديجة، طاهرة مطهّرة، زكية ميمونة، بورك فيها وفي نسلها. فتناولتها خديجة فرحة مستبشـرة، فألقمتها ثديها، فشـربت فدرّ عليها، وكانت‘ تنمو في كلّ يوم كما ينمو الصبي في شهر، وفي شهر كما ينمو الصبي في السنة[289].
الخصوصية الرابعة: زواجها بالأمر الإلهي
الحالة الطبيعية في زواج الناس بعضهم من بعض هي الحالة التي عليها نحن اليوم، وخلاصتها أنّ الرجل تعجبه المرأة بحسب ما يجعله هو من ضابطة الإعجاب، فالبعض عنده الضابطة المال، والآخر الجمال، وثالث الحسب والنسب، ورابع العفّة والشـرف والدين، وخامس أن يكون عندها العقل والفهم، والبعض يريد كلّ الصفات الطيبة من جمال معقول، وحسب كريم، ودين يردعها عن الحرام، إلى غير ذلك، فيتقدّم لخطبتها من أهلها، وقد يتمّ التوافق على ذلك، وقد لا يتمّ، وقد يخطب الرجل عشـرين مرّة أو أكثر، وقد يتقدّم للمرأة الواحدة عشـرون أو أكثر ولم يتمّ الزواج والعلقة، هذا هو المعروف والمعمول به منذ القدم إلى يومنا هذا، إلّا في السيّدة الزهراء‘؛ فإنّ الأمر لم يكن كذلك، بل أمر زواجها وزوجها كلّه أمر إلهي، ليس لأحدٍ البتّ فيه حتى أبيها المصطفى’! فقد روي أنّ مجموعةً ممّن يحيطون برسول الله’ تقدّموا لخطبتها‘، لكنّ رسول الله’ لم يوافق على ذلك، فقد روى ابن شهر آشوب& عن بريدة: «أنّ أبا بكر وعمر خطبا إلى النبي’ فاطمة، فقال: إنّها صغيرة. وروى ابن بطة في الإبانة: أنّه خطبها عبد الرحمن فلم يجبه. وفي رواية غيره أنّه قال: بكذا من المهر، فغضب’ ومدّ يده إلى حصـى فرفعها فسبحت في يده وجعلها في ذيله فصارت دراً ومرجاناً يعرض به جواب المهر، ولما خطب علي× قال: سمعتك يا رسول الله تقول: كلّ سبب ونسب منقطع إلّا سببي ونسبي، فقال النبي: أما السبب فقد سبّب الله، وأما النسب فقد قرّب الله، وهشَّ وبشَّ في وجهه، وقال: ألك شيء أزوجك منها؟ فقال: لا يخفى عليك حالي، أنّ لي فرساً وبغلاً وسيفاً ودرعاً، فقال: بع الدرع»[290].
وروى شيخ الطائفة الطوسي& بسنده، عن الضحاك بن مزاحم، قال: «سمعت علي بن أبي طالب× يقول: أتاني أبو بكر وعمر، فقالا: لو أتيت رسول الله’ فذكرت له فاطمة، قال: فأتيته، فلمّا رآني رسول الله’ ضحك، ثمّ قال: ما جاء بك يا أبا الحسن؟ وما حاجتك؟ قال: فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام ونصـرتي له وجهادي، فقال: يا علي، صدقت، فأنت أفضل ممّا تذكر.
فقلت: يا رسول الله، فاطمة تزوجنيها؟ فقال: يا علي، إنّه قد ذكرها قبلك رجال، فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك، فدخل عليها فقامت إليه، فأخذت رداءه ونزعت نعليه، وأتته بالوضوء، فوضأته بيدها وغسلت رجليه، ثمّ قعدت، فقال لها: يا فاطمة. فقالت: لبيك، حاجتك، يا رسول الله؟
قال: إن علي بن أبي طالب مَن قد عرفتِ قرابته وفضله وإسلامه، وإنّي قد سألت ربّي أن يزوجك خير خلقه وأحبّهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين؟ فسكتت ولم تول وجهها ولم يرَ فيه رسول الله’ كراهة، فقام وهو يقول: الله أكبر، سكوتها إقرارها، فأتاه جبرئيل× فقال: يا محمد، زوجها علي بن أبي طالب، فإنّ الله قد رضيها له ورضيه لها.
قال علي: فزوجني رسول الله’، ثمّ أتاني فأخذ بيدي فقال: قم بسم الله وقل: على بركة الله، وما شاء الله، لا قوّة إلّا بالله، توكّلت على الله. ثمّ جاءني حين أقعدني عندها÷، ثمّ قال: اللّهم إنّهما أحبّي خلقك إليّ فأحبّهما، وبارك في ذرّيتهما، واجعل عليهما منك حافظاً، وإنّي أعيذهما وذرّيتهما بك من الشيطان الرجيم»[291].
وأمّا خطبتها في السماء، فقد روى ابن شهر آشوب& عن علقمة، قال: «لـمّا تزوج عليٌّ فاطمةَ تناثر ثمار الجنّة على الملائكة»[292].
وكذلك روى عن «عبد الرزاق بإسناده إلى أُمّ أيمن في خبر طويل عن النبي: وعقد جبرئيل وميكائيل في السماء نكاح علي وفاطمة، فكان جبرئيل المتكلم عن علي وميكائيل الرادّ عني.
وفي حديث خباب بن الأرت: إنّ الله تعالى أوحى إلى جبرئيل: زوِّج النور من النور، وكان الولي الله، والخطيب جبرئيل، والمنادي ميكائيل، والداعي إسرافيل، والناثر عزرائيل، والشهود ملائكة السماوات والأرضين، ثمّ أوحى إلى شجرة طوبى أن انثري ما عليك. فنثرت الدرّ الأبيض والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضـر واللؤلؤ الرطب، فبادرن الحور العين يلتقطن ويهدين بعضهن إلى بعض»[293].
وقال’: «لولا أنّ الله تعالى خلق فاطمة لعليٍّ ما كان لها على وجه الأرض كفو، آدم فمَن دونه»[294].
فزواجها بأمرٍ من الله تعالى هبط به الأمين جبرئيل× على رسول الله’، ولم يذكر لنا التأريخ أنّ زواجاً وقع على وجه البسيطة بهذا النحو على الإطلاق.
ولذا يقول السيد الهاشمي&:
تزوّجت في السماء بالمرتضـى شرفاً |
الخصوصية الخامسة: زفافها‘
وعلى هذا النهج، فقد خرمت السيّدة الزهراء‘ قواعد الزفاف المعروفة بين الناس، فلم يذكر التاريخ ما ذكره للسيّدة الزهراء‘ من كيفيّة الزفاف وحضور المحتفلين بزفافها‘، فقد روي عن عبد الله بن عباس، أنّه قال: «لـمّا زُفّت فاطمة إلى علي× كان رسول الله’ قدّامها، وجبرائيل عن يمينها، وميكائيل عن شمالها، وسبعون ألف ملك من خلفها يسبِّحون الله ويقدّسونه حتى طلع الفجر»[296].
وأمّا نثار عرسها، فقد روى الشيخ الصدوق& بسنده عن الإمام أبي عبد الله الصادق× عن أبيه، عن آبائه^، قال: قال أمير المؤمنين×: «دخلت أُمّ أيمن على النبي’ وفي ملحفتها شيء، فقال لها رسول الله’: ما معك، يا أُمّ أيمن؟ فقالت: إنّ فلانة أملكوها، فنثروا عليها، فأخذت من نثارها. ثمّ بكت أُمّ أيمن وقالت: يا رسول الله، فاطمة زوّجتها ولم تنثر عليها شيئاً. فقال رسول الله’: يا أُمّ أيمن، لم تكذبين؟ فإن الله تبارك وتعالى لـمّا زُوّجت فاطمة علياً، أمر أشجار الجنّة أن تنثر عليهم من حُلِيها وحُلَلِها وياقوتها ودرِّها وزمردها واستبرقها، فأخذوا منها ما لا يعلمون، ولقد نحل الله طوبى في مهر فاطمة، فجعلها في منزل علي»[297].
فهل رأت عيناك أو سمعت أذناك أنّ امرأة زُفّت بهذه الكيفيّة على مرّ العصور؟!
وروي عن أسماء بنت عميس، أنّها قالت: «كنت فيمَن زفت فاطمة إلى علي×، فلمّا دخلت بيتها أقبل رسول’ حتى دخل عليها، فدعا بماء، فذكر اسم الله عليه، ثمّ شرب منه، ومجّ من الماء فيما بين درع فاطمة وبدنها، ثمّ مجّ منه أيضاً فيما بين سربال علي وبدنه. ثمّ قال: اللّهم احفظ أهل البيت، وبارك فيهم وبارك عليهم، واجعلهم مباركين أين ما كانوا. ثمّ جزى الله أسماء وصويحباتها خيراً»[298].
هكذا يعامل رسول الله’ فاطمة‘، بل وصويحباتها، لكنّ القوم تجاسروا عليها وجرّعوها غصصاً، ولنعم ما قال السيد الجزوعي:
جرّعاها من بعد والداها الغيظ |
***
المحاضرة الرابعة عشرة: اصطفاء الزهراء‘ أمرٌ من السماء / القسم الثالث
الخصوصية السادسة: بيت فاطمة‘
ثمّ انتقلت السيّدة الزهراء‘ إلى بيت زوجها، ولهذا البيت حديثه الخاص، فقد كان بيتاً لا كالبيوت شأناً ومقاماً وقداسة، فهو من أرفع البيوت وأقدسها، فقد روي أنّه سُئل النبيّ الأكرم’ لـمّا قرأ قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [300]: أي بيوت هذه؟ فقال’: «بيوت الأنبياء». فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها؟ يعني بيت علي وفاطمة، قال: «نعم من أفاضلها»[301].
كان بيت الإمام أمير المؤمنين والسيدة الزهراء‘ بيتاً مميّزاً من كلِّ النواحي والجهات؛ بيتٌ لا يسمع فيه إلّا التسبيح والتهليل، بيتٌ ملؤه الدفيء والحنان، بيتٌ همّه رضا الله تعالى، فكلّ مَن هو تحت سقف هذا البيت كان مميّزاً، بما فيهم الخادمة فضّة، وأسماء بنت عميس؛ ولذا روي عن عبد الله بن عجلان السكوني أنّه قال: سمعت أبا جعفر× يقول: «بيت علي وفاطمة [من] حجرة رسول الله’، وسقف بيتهم عرش ربّ العالمين، وفي قعر بيوتهم فرجة مكشوطة إلى العرش معراج الوحي، والملائكة تنزل عليهم بالوحي صباحاً ومساءً، و[في] كلّ ساعة وطرفة عين، والملائكة لا ينقطع فوجهم، فوج ينزل وفوج يصعد...»[302].
بيتٌ لا توقعات فيه، وليس فيه للتكلّف نصيبٌ، بيتٌ يعرف الحقوق والواجبات، وقد عرفنا مَن هو زوج فاطمة‘، هو أبو الحسن والحسين÷. أمّا الحديث عن فاطمة‘ وما يدور في بيتها من خصوصيات، فنذكره ضمن النقاط التالية:
1ـ عبادة فاطمة÷
وكانت عبادتها‘ مضـرب المثل، وكانت‘ تزهر، فقد روى الشيخ الصدوق& بسنده، عن محمد بن عمارة، عن أبيه قال: «سألت أبا عبد الله× عن فاطمة: لِـمَ سُمّيت الزهراء؟ فقال: لأنّها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما تزهر نور الكواكب لأهل الأرض»[303].
2ـ ملاءة فاطمة÷
وأمّا ملاءتها‘، فهي بحدِّ ذاتها من العجائب والغرائب، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قد استقرض من يهودي شيئاً، فاسترهنه فدفع إليه ملاءة فاطمة‘، وكانت من الصوف، فأدخلها اليهودي داره، فوضعها في بيت، فلمّا كان الليل دخلت زوجته البيت الذي فيه الملاءة لشغل، فرأت نوراً ساطعاً في البيت، فانصـرفت إلى زوجها فأخبرته بما رأت في ذلك البيت، فتعجّب زوجها، وقد نسـي أنّ في بيته ملاءةَ فاطمة‘، فنهض مسـرعاً، فدخل البيت فإذا ضياء الملاءة، منتشرة وشعاعها كأنّها تشتعل من بدر منير، يلمع من قريب، فتعجّب من ذلك، فأمعن النظر في موضع الملاءة، فعلم أنّ النور من ملاءة فاطمة‘، فخرج اليهودي إلى قرابته، وزوجته إلى قرابتها، واستحضـرهم الدار، فاجتمع ثمانون من اليهود، فرأوا ذلك فأسلموا[304].
3ـ رحى فاطمة÷
فقد روي عن أبي ذرّ& أنّه قال: «بعثني رسول الله’ أدعو عليّاً×، فأتيت بيته فناديته، فلم يجبني، والرحى تطحن وليس معها أحد، فناديته، فخرج معي وأصغى إليه رسول الله، فقال له رسول الله’ شيئاً لم أفهمه، فقلت: عجباً من رحى في بيت علي تدور ما عندها أحد. فقال: إنّ ابنتي فاطمة ملأ الله قلبَها وجوارحها إيماناً ويقيناً، وإنّ الله علم ضعفها فأعانها على دهرها، وكفاها، أما علمت أنّ لله ملائكة موكّلين بمعونة آل محمد’»[305].
4ـ خادمة فاطمة÷
وقد بلغ اهتمام السماء بالسيدة الطاهرة فاطمة الزهراء‘ إلى الدرجة التي نالت خادمتها منها نصيباً، فقد روى ابن حمزة& عن علي بن معمر، عن الإمام الصادق×، أنّه قال: «قالت أُمّ أيمن: خرجت إلى مكّة فأصابني عطش شديد في الجحفة، حتى خفت على نفسـي، ثمّ رفعت رأسي إلى السماء وقلت: يا ربِّ، أتعطشني وأنا خادمة ابنة نبيِّك، فنزل إليّ دلو من السماء».
وفي رواية أُخرى: «دلو من ماء الجنّة، فشـربت، وحقّ سيدتي ما جعت ولا عطشت سبع سنين».
وفي رواية أُخرى: «عطشت فيما بين مكّة والمدينة عطشاً شديداً، فأنزل الله تعالى عليها دلواً من السماء، فشـربت منها، فما عطشت بعدها أبداً، وإن كان أهل المدينة لتستعين بها عليها في اليوم الشديد الحر وما يصيبها عطش»[306].
5ـ طبخ فاطمة÷
روي عن أنس أنّه قال: «سألني الحجاج بن يوسف عن حديث عائشة، وحديث القِدْر التي رأت فاطمة بنت رسول الله’ وهي تحركها بيدها، قلت: نعم، أصلح الله الأمير، دخلت عائشة على فاطمة÷ وهي تعمل للحسن والحسين‘ حريرة بدقيق ولبن وشحم في قدر، والقدر على النار يغلي، وفاطمة (صلوات الله عليها) تحرِّك ما في القدر بإصبعها، والقدر على النار يبقبق، فخرجت عائشة فزعة مذعورة، حتى دخلت على أبيها، فقالت: يا أبه، إنّي رأيت من فاطمة الزهراء أمراً عجيباً! رأيتها وهي تعمل في القدر، والقدر على النار يغلي، وهي تحرِّك ما في القدر بيدها! فقال لها: يا بنية، اكتمي، فإنّ هذا أمر عظيم.
فبلغ رسول الله’، فصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ الناس يستعظمون ويستكثرون ما رأوا من القدر والنار، والذي بعثني بالرسالة واصطفاني بالنبوّة، لقد حرّم الله تعالى النار على لحم فاطمة ودمها وشعرها وعصبها، وفطم من النار ذرّيتها وشيعتها، إنّ من نسل فاطمة مَن تطيعه النار والشمس والقمر والنجوم والجبال، وتضـرب الجنّ بين يديه بالسيف، وتوافي إليه الأنبياء بعهودها، وتسلِّم إليه الأرض كنوزها، وتنزل عليه من السماء بركات ما فيها، الويل لـمَن شكّ في فضل فاطمة، لعن الله مَن يبغض بعلها ولم يرضَ بإمامة ولدها، إنّ لفاطمة يوم القيامة موقفاً، ولشيعتها موقفاً، وإنّ فاطمة تُدعى فتُلبّي، وتُشَفّع فتشفع على رغم كلّ راغم»[307].
الخصوصية السابعة: موت فاطمة‘
قد يستغرب البعض عندما يقرأ أو يسمع أنّ من خصوصيات السيدة الزهراء‘ موتها، أليس الموت قاعدة ربّانيّة وسنّة إلهية، لم تُخرم حتى من أعزّ الخلق وأحبّهم إلى الله تعالى وهو النبيّ الأكرم’ عندما خاطبه الله تبارك وتعالى وخاطب البشرية جمعاء بقوله عزّ من قائل: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)[308]، وهذا ليس من مختصات السيدة الزهراء‘، بل هو من السنن الإلهية، لكن الموت له أسبابه وهي مهما تعدّدت لا يتعدّد بها الموت؛ لأنّه نتيجة طبيعيةٌ لها، فهل كان لموت السيدة الزهراء‘ من سببٍ؟ كأن قُتلت في معركةٍ، أو مرضت بمرض الحمّى مثلاً، أو شيء آخر؛ لأنّ الذي يدعونا للتساؤل هو موتها في ريعان شبابها، والتساؤل في مثل هذه الحالة أمرٌ طبيعي، فكلّ مَن تخبره بوفاة إنسان دون العشـرين من عمره يسألك: كيف حدثت وفاته؟ ما هو السبب فيها؟ على خلاف ذلك لو كان كبيرَ السن، فمن الطبيعي جدّاً وفاته بهذا العمر، وقد يسأل أحدنا مجاملةً ويتأسّف كذلك، لكن وفاته أمرٌ طبيعيٌّ في ذهن السائل والمجيب؛ لذا سأل عباس محمود العقاد قائلاً: «ولم يكن بالزهراء من سقم كامن يُعرف من وصفه؛ فإنّ العرب لوصّافون، وإن كان حولها من آل بيتها لمن أقدر العرب على وصف الصحة والسقم، فما وقفنا من كلامهم وهم يصفونها في أحوال شكواها، على شيء يشبه أغراض الأمراض التي تذهب بالناس في مقتبل الشباب»[309].
فالرجل يعترف أنّه ليس فيها من الأمراض التي تذهب بالناس في مقتبل الشباب، فما الذي أماتها‘؟ يجيبنا عن ذلك شيخ الطائفة الطوسي&: «والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة: أنّ عُمرَ ضرب على بطنها حتى أسقطت، فسمّي السقط محسناً، والرواية بذلك مشهورة عندهم... وليس لأحدٍ أن ينكر الرواية بذلك؛ لأنّنا بيّنا الرواية الواردة من جهة العامّة من طريق البلاذري وغيره، ورواية الشيعة مستفيضةٌ به لا يختلفون في ذلك»[310]، فكان الاصطفاء لها‘ موتها بهذه الكيفيّة التي لم نسمع بها ولم نقرأها في بطون الكتب بأنّ امرأة ماتت بهذه الكيفيّة!
الخصوصية الثامنة: تغسيل فاطمة‘
وفي البحار أنّها‘ قالت لأمير المؤمنين×: «يا أبا الحسن، رقدت الساعة فرأيت حبيبي رسول الله’ في قصـر من الدرّ الأبيض، فلمّا رآني قال: هلُمِّي إليّ يا بنية، فإنّي إليك مشتاق. فقلت: والله، إنّي لأشدّ شوقاً منك إلى لقائك. فقال: أنت الليلة عندي. وهو الصادق لما وعد، والموفي لما عاهد. فإذا أنت قرأتَ يس فاعلم أنّي قد قضيت نحبي، فغسّلني ولا تكشف عني؛ فإنّي طاهرة مطهّرة، وليصلِّ عليَّ معك من أهلي الأدنى فالأدنى، ومَن رُزق أجري، وادفني ليلاً في قبري، بهذا أخبرني حبيبي رسول الله’». فقال عليٌّ: «والله لقد أخذتُ في أمرها، وغسّلتها في قميصها ولم أكشفه عنها، فوالله لقد كانت ميمونةً طاهرةً مطهّرةً، ثمّ حنّطتها من فضلة حنوط رسول الله’، وكفّنتها وأدرجتها في أكفانها، فلمّا هممت أن أعقد الرداء ناديت يا أُمّ كلثوم، يا زينب، يا سكينة، يا فضة، يا حسن، يا حسين، هلمّوا تزودوا من أُمّكم فهذا الفراق، واللقاء في الجنّة.
فأقبل الحسن والحسين‘ وهما يناديان وا حسـرتا لا تنطفئ أبداً من فقد جدِّنا محمّد المصطفى وأُمّنا فاطمة الزهراء، يا أُمّ الحسن يا أُمّ الحسين إذا لقيت جدّنا محمد المصطفى فاقرئيه منّا السلام وقولي له: إنّا قد بقينا بعد يتيمين في دار الدنيا».
فقال أمير المؤمنين علي×: «إنّي أشهد الله أنّها قد حنّت وأنّت ومدّت يديها وضمّتهما إلى صدرها مليّاً، وإذا بهاتف من السماء ينادي: يا أبا الحسن، ارفعهما عنها؛ فلقد أبكيا ـ والله ـ ملائكة السماوات، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب، قال: فرفعتهما عن صدرها وجعلت أعقد الرداء»[311].
الخصوصية التاسعة: تشييع فاطمة‘
تشييع الجنازة والصلاة على الميت من فروض الكفايات، وعيادة المرضى من السنن المؤكّدة المفضّلة[312].
وقد وردت الأخبار الكثيرة في الحثِّ على تشييع الجنائز بالمشـي خلفها، أو عن يمينها، أو عن شمالها[313]، وفي الكافي الشـريف عن أبي بصير، قال: «سمعت أبا جعفر× يقول: مَن مشى مع جنازةٍ حتى يصلِّي عليها، ثمّ رجع كان له قيراط [من الأجر] فإذا مشى معها حتى تُدفن كان له قيراطان، والقيراط مثل جبل أحد»[314].
وبعد هذه الأخبار وفتاوى الأعلام باستحباب التشييع فإنّ من مظلوميات السيِّدة الزهراء‘ أنّها لم تُشيّع أصلاً أو لم تُشيّع كما ينبغي لها‘؛ لأنّ الإمام أمير المؤمنين× دفنها سرّاً في الليل، كما سنبيِّن لاحقاً.
الخصوصية العاشرة: دفنُ فاطمة‘
قد يسأل البعض عن وجه الاصطفاء في دفن السيّدة الزهراء‘، أليست الزهراء‘ دُفنت كما دُفن سائر الناس، ممّن سبقها ولحقها؟!
الجواب: كلا وألف كلا، فالزهراء بضعة الرسول الأكرم’، العالمة بأحكام الكتاب والسنّة، آدابها وسننها وواجباتها ومحظوراتها، تأمر بأن تُدفن ليلاً وسرّاً[315]، أليس تشييع الجنازة من المستحبّات المؤكّدة كما بيّنا آنفاً؟! ألم يكن الدفن في الليل من المناهي الشديدة المبغوضة في شرع أبيها رسول الله’، على ما نصّت عليه بعض كتب القوم[316]؟! فعلامَ تطلب السيّدة الزهراء‘ هذا الطلب وبإلحاحٍ شديد، ولماذا تطلب من الإمام أمير المؤمنين× أن يغيِّب قبرَها؟! أليس الرجل يُحفظ في ولده؟! كما جاء على لسانها‘ في خطبتها الغرّاء[317]؟! ومن مصاديق حفظها أن نقف على قبرها ونزورها ونتعاهده، كما نتعاهد قبر أبيها وأُمّها وأبنائها.
إذاً في المسألة سرٌّ عميقٌ كشفت عن بعض زواياه السيّدة المظلومة‘ عندما قالت: «... وأن لا يشهد أحدٌ من أعداء الله جنازتي ولا دفني ولا الصلاة عليَّ»[318]، فدُفنت‘ ليلاً لا نهاراً، وسرّاً لا جهاراً، قال الشيخ كاظم الأزري&:
كيف تنفى
ابنة النبي عناداً وثوتْ لا
يَرى لها الناسُ مثوىً |
***
المحاضرة الخامسة عشرة: دُررٌ من سيرةِ الإمام الحسن المُجتبى×
روى الشيخ الصدوق& بسنده، عن المفضل بن عمر، قال: قال الصادق×: «حدّثني أبي، عن أبيه‘: أنّ الحسنّ بنَ عليّ بن أبي طالب× كان أعبدَ الناس في زمانه، وأزهدَهم وأفضلَهم...»[320].
هذا المقطع من الرواية الشريفة اشتمل على جوانب ثلاثة في شخصية الإمام الحسن المجتبى×، نعرضها على التوالي إن شاء الله تعالى، ولكن قبل ذلك نمهِّد لها تمهيداً، ينفع في هذا المقام وغيره، فنقول: الكلام الصادر من المعصوم× لا يحتمل فيه الكذب ولا المبالغة ولا المجاملة، فهو كلامُ حقٍّ على نحو القطع والجزم، وكلّ احتمال من هذا القبيل يمكن أن يتأتّى في كلام الراوي، لكن إذا وصلت الرواية إلى المعصوم× بحسب المبنى الرجالي المعتمد فلا شكّ في أنّ هذا الكلام كلام حقّ، بعيدٌ من الغمز واللمز، فأقواله وأفعاله وسكناته وتقريراته×، كلّها تُحمل على الصدق والجد والحقّ إلّا إذا دلّ دليلٌ على خلاف ذلك، وأنّ الإمام× يريد في هذه الجملة أو تلك معنىً آخر، قاله لتقيةٍ مثلاً.
وهذه الرواية الشريفة التي رواها صدوق الطائفة وشيخُها، الشيخ ابن بابويه القمّي& عن الإمام الصادق×، عن أبيه الإمام الباقر×، عن أبيه الإمام زين العابدين× في حقِّ الإمام الحسن المجتبى×، ودلالتها على نحو الإجمال واضحة جدّاً وهي تشير إلى فضل الإمام الحسن المجتبى×، وأنّه أكمل الخلق في زمانه، وهذا أمرٌ بديهي؛ لأنّه حجّة الله على الخلق وليس من المعقول أصلاً أن يكون هناك مَن هو أكمل من الحجّة في كلّ المزايا والصفات، وإلّا انقلب الإمام مأموماً، وهو خلاف الفرض، فلنتعرّف لهذه المزايا والجوانب في حياته الشريفة×:
الجانب الأول: عبادته×
لقد تميّز هذا البيت الطاهر بيت محمّد وآله^ بكثرة العبادة وعظمتها، فهم مضرب الأمثال في الجوانب عامّة وفي العبادة خاصة، حتى أنّك لا تجد أحداً ممّن ترجم لهم^ إلّا ومرّ بالجانب العبادي ووقف عند هذا الجانب، وإمامنا الحسن المجتبى× من هذه الدوحة الهاشميّة، ومن هذا البيت الذي أذهب الله تعالى عنه الرجس وطهّرهم تطهيراً، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[321].
والعبادة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: بدنية، ومالية، ومركبة منهما، فالبدنية كالصلاة والصيام وتلاوة القرآن وأنواع الأذكار، والمالية كالصدقات والصلات والمبرات، والمركب منهما كالحج والجهاد والاعتمار، وقد كان الحسن× ضارباً في كلّ واحد من هذه الأنواع بالقدح الفائز والقدح الحائز[322].
القسم الأول: العبادة البدنية، مثل الصلاة والصوم وقراءة القرآن الكريم، وقد ضرب الإمام الحسن المجتبى× فيها أروع الأمثلة؛ فإنّ الطهور مفتاح الصلاة، كما في بعض النصوص[323]، وكان× إذا توضأ ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، فقيل له في ذلك، فقال: «حقَّ على كلّ مَن وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفرَّ لونُه وترتعد مفاصلُه». وكان× إذا بلغ باب المسجد رفع رأسه وهو يقول: «إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسيء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم»[324].
وروى الشيخ الصدوق& بسنده، عن الإمام زين العابدين× أنّه كان الإمام الحسن المجتبى× إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه ، وكان إذا ذكر الجنّة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل الله تعالى الجنّة، وتعوّذ به من النار، وكان× لا يقرأ من كتاب الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا قال: «لبّيك اللّهم لبّيك، ولم يُرَ في شيء من أحواله إلّا ذاكراً لله سبحانه»[325].
القسم الثاني: العبادة المالية، مثل الزكاة والصدقات الواجبة والمستحبّة، فله× في الصدقة صلات لا تُنكر، الصدقة التي هي أربعة أحرف: فالصاد يصدّ صاحبها من مكاره الدنيا والآخرة، والدال يكون دليله إلى الجنّة، والقاف يقرب صاحبها إلى الله تعالى، والهاء يهدي صاحبها للأعمال الصالحة، فيستوجب بها الرضوان الأكبر[326].
وقد ضرب الإمام× أروع الأمثلة في ذلك؛ ففي كتاب الغارات «خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر^ حُجّاجاً ففاتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا، فمرّوا بعجوز في خباء لها فقالوا: هل من شراب؟ فقالت: نعم. فأناخوا بها وليس لها إلّا شويهة في كسر الخيمة، فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك، وقالوا لها: هل من طعام؟ قالت: لا إلّا هذه الشاة فليذبحنها أحدكم حتى أُهيئ لكم شيئاً تأكلون. فقام إليها أحدهم فذبحها وكشطها، ثمّ هيأت لهم طعاماً، فأكلوا ثمّ أقاموا حتى أبردوا، فلمّا ارتحلوا قالوا لها: نحن نفرٌ من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا، فإنّا صانعون إليك خيراً. ثمّ ارتحلوا، وأقبل زوجها وأخبرته عن القوم والشاة فغضب الرجل، فقال: ويحك! تذبحين شاتي لأقوام لا تعرفينهم ثمّ تقولين: نفرٌ من قريش! ثمّ بعد مدّة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة فدخلاها وجعلا ينقلان البعر ويبيعانه ويعيشان منه، فمرّت العجوز في بعض سكك المدينة فإذا الحسن× على باب داره جالس فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث غلامه فردّها وقال لها: يا أَمة الله، تعرفينني؟ فقالت: لا. قال: أنا ضيفك يوم كذا وكذا. فقالت العجوز: بأبي أنت وأُمّي. فأمر الحسن× فاشترى لها من شاء الصدقة ألف شاة، وأمر لها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى أخيه الحسين×، فقال: بكم وصلك أخي الحسن؟ فقالت: بألف شاة وألف دينار، فأمر لها بمثل ذلك، ثمّ بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال: بكم وصلك الحسن والحسين‘؟ فقالت: بألفي دينار وألفي شاة فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار، وقال: لو بدأتِ بي لأتعبتهما. فرجعت العجوز إلى زوجها بذلك»[327].
القسم الثالث: العبادة المركبة، مثل الحجّ والجهاد، ففي الحج قد روى الذهبي عن ابن عباس أنّه قال: «ما ندمت على شيءٍ فاتني في شبابي إلّا أنّي لم أحجّ ماشياً، ولقد حجَّ الحسن بن علي خمساً وعشرين حجّة ماشياً، وإنّ النجائب لتُقاد معه. ولقد قاسم اللهَ ماله ثلاث مرات، حتى إنّه يعطي الخف ويمسك النعل»[328].
وفي الجهاد، فيكفيك ما قاله الإمام أمير المؤمنين× في بعض أيام صفِّين وقد رأى الإمام الحسن× يتشرّع إلى الحرب: «املكوا عنّي هذا الغلام لا يهدّني، فإنّني أنفس بهذين (يعني الحسن والحسين‘) على الموت؛ لئلّا ينقطع بهما نسل رسول الله’»[329].
حتى قال الشاعر في هذا المعنى مخاطباً الإمام أمير المؤمنين×:
يا أيّها النبأُ العظيمُ إليكَ في |
الجانب الثاني: زهده×
ولنِعْمَ ما قيل في تفسير الزهد أنّه: «ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء»[331]؛ فإنّه× كان يجود بكلّ ما لديه لله تبارك وتعالى، فيصل به الفقراء والمساكين والمحتاجين، يجبر به خواطرَهم، ويكسو به عريانَهم، ويطعم به جائعَهم، ويكفيك أنّه× كريم أهل البيت الذين هم أكرم الناس، فعن علي بن جذعان، قال: «خرج الحسن بن علي من ماله مرّتين، وقاسم اللهَ ماله ثلاث مرّات حتى إن كان ليعطي نعلاً ويمسك نعلاً، ويعطى خُفّاً ويمسك خُفّاً»[332].
وروى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: «أنّ الحسن بن علي بن أبي طالب سمع إلى جنبه رجلاً يسأل أن يرزقه الله عشرة آلاف درهم فانصرف فبعث بها إليه»[333].
وروى أيضاً أنّه×: «كان مارّاً في بعض حيطان المدينة، فرأى أسود بيده رغيف يأكل لقمة ويطعم الكلب، إلى أن شاطره الرغيف! فقال له الحسن: ما حملك على أن شاطرته فلم تغابنه فيه بشيء؟ فقال: استحيت عيناي من عينه أن أغابنه! فقال له: غلامُ مَن أنتَ؟ قال: غلام أبان بن عثمان. فقال: والحائط؟ فقال: لأبان بن عثمان. فقال له الحسن: أقسمت عليك لا برحت حتى أعود إليك، فمرَّ فاشترى الغلام والحائط وجاء إلى الغلام، فقال: يا غلام، قد اشتريتك. فقام قائماً، فقال: السمع والطاعة الله ولرسوله ولك يا مولاي، قال: فقد اشتريت الحائط وأنت حرٌ لوجه الله، والحائط هبةٌ مني إليك. قال: فقال الغلام: يا مولاي، قد وهبت الحائط للذي وهبتني له»[334].
الجانب الثالث: فضله×
وأعظم جانب في فضل الناس وكمالهم هو العلم، الذي يرفع الله به بعضنا على البعض الآخر مع الإيمان بالله تعالى، وكان× أعلم الناس في زمانه، وفي زمان أبيه هو الذي يتبع أباه× في علمه، فقد روى الشيخ الطبرسي& في الاحتجاج، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر÷، قال: «بينا أمير المؤمنين في الرحبة والناس عليه متراكمون، فمن بين مستفتي، ومن بين مستعدي، إذ قام إليه رجل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، مَن أنت؟ قال: أنا رجل من رعيتك وأهل بلادك.
فقال له: ما أنت برعيتي وأهل بلادي، ولو سلّمت عليَّ يوماً واحداً ما خفيت علي.
فقال: الأمان يا أمير المؤمنين.
فقال: هل أحدثت منذ دخلت مصري هذا؟
قال: لا.
قال: فلعلك من رجال الحرب؟
قال: نعم.
قال: إذا وضعت الحرب أوزارها فلا بأس.
قال: أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفلاً لك، أسألك عن شيء بعث به ابن الأصفر إليه. وقال له: إن كنت أحقّ بهذا الأمر والخليفة بعد محمّد فأجبني عمّا أسألك، فإنّك إن فعلت ذلك اتّبعتك، وبعثت إليك بالجائزة، فلم يكن عنده جواب، وقد أقلقه فبعثني إليك لأسألك عنها.
فقال أمير المؤمنين×: قاتل الله ابن آكلة الأكباد، وما أضلّه وأعماه ومَن معه، حكم الله بيني وبين هذه الأُمّة، قطعوا رحمي، وأضاعوا أيامي، ودفعوا حقِّي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي، يا قنبر عليَّ بالحسن والحسين ومحمد، فاُحضِروا.
فقال: يا شامي، هذان ابنا رسول الله، وهذا ابني، فاسأل أيّهم أحببت.
فقال: اسأل ذا الوفرة ـ يعني الحسن× ـ فقال له الحسن×: سلني عمّا بدا لك.
فقال الشامي: كم بين الحقّ والباطل؟ وكم بين السماء والأرض؟ وكم بين المشرق والمغرب؟ وما قوس قزح؟ وما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين وما العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين؟ وما المؤنث؟ وما عشرة أشياء بعضها أشدّ من بعض؟
فقال الحسن×: بين الحقّ والباطل أربع أصابع، فما رأيته بعينك فهو الحقّ، وقد تسمع بأذنيك باطلاً كثيراً.
فقال الشامي: صدقت.
قال: وبين السماء والأرض دعوة المظلوم، ومدّ البصر، فمَن قال لك غير هذا فكَذِّبه.
قال: صدقت يا بن رسول الله.
قال: وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس، تنظر إليها حين تطلع من مشرقها، وتنظر إليها حين تغيب في مغربها.
قال: صدقت. فما قوس قزح؟
قال: ويحك! لا تقل قوس قزح؛ فإنّ قزح اسم الشيطان، وهو قوس الله، وهذه علامة الخصب، وأمان لأهل الأرض من الغرق.
وأمّا العين التي تأوي إليها أرواح المشركين فهي عين يُقال لها: (برهوت)، وأمّا العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين فهي عين يُقال لها: (سلمى)، وأمّا المؤنث فهو الذي لا يدرى أذكر أم أنثى فإنّه: ينتظر به فإن كان ذكراً احتلم، وإن كان أنثى حاضت، وبدا ثديها، وإلّا قيل له: (بل على الحايط) فإنّ أصاب بوله الحايط فهو ذكر، وإنّ انتكص بوله كما ينتكص بول البعير فهي امرأة.
وأمّا عشرة أشياء بعضها أشدّ من بعض فأشدّ شيء خلقه الله الحجر، وأشدّ من الحجر الحديد يقطع به الحجر، وأشدّ من الحديد النار تذيب الحديد، وأشدّ من النار الماء يطفئ النار، وأشد من الماء السحاب يحمل الماء، وأشدّ من السحاب الريح تحمل السحاب، وأشدّ من الريح الملك الذي يرسلها، وأشدّ من الملك ملك الموت الذي يميت الملك، وأشدّ من ملك الموت الموت الذي يميت ملك الموت، وأشدّ من الموت أمر الله الذي يميت الموت.
فقال الشامي: أشهد أنّك ابن رسول الله حقّاً، وأنّ علياً أولى بالأمر من معاوية، ثمّ كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية، فبعثها إلى ابن الأصفر.
فكتب إليه ابن الأصفر: يا معاوية، لِمَ تكلمني بغير كلامك، وتجيبني بغير جوابك، أقسم بالمسيح ما هذا جوابك، وما هو إلّا من معدن النبوّة، وموضع الرسالة، وأمّا أنت فلو سألتني درهماً ما أعطيتك»[335].
لقد عرف غيرُ المسلمين مقام أهل البيت^، لكن مَن يدّعي أنّه من أُمّة رسول الله’ قصّر في حقّهم، بل وقاتلهم وتتبعهم تحت كلّ حجرٍ ومدرٍ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا آلَ محمّدٍ أيّ منقلبٍ ينقلبون، والعاقبة للمتّقين.
***
المحاضرة السادسة عشرة: الضابطة في الإمامة وكيفيّة الدلالة على الإمام×
روى الشيخ الصدوق& بسنده إلى الحسن بن الجهم، أنّه قال: «سأل بعضهم الإمام الرضا× فقال له: يا بن رسول... فدلالة الإمام فيما هي؟ قال: في العلم واستجابة الدعوة»[336].
ليس من المعيب أن يسأل الإنسان لرفع جهله، لكن المعيب جدّاً هو أن يبقى على جهله، إلى أن يوصله إلى شفى حفرةٍ من النار، خصوصاً في القضايا الحسّاسة، التي لها الارتباط الوثيق بالدين، بل هي من أُسس الدين المهمّة التي لا ينبغي التغافل عنها، مثل مسألة الإمامة، ومن هنا نجد أنّه زلّت أقدام الكثير فيها، وانحرفت طوائف عنها؛ بسبب ما وضعوه لها من ضوابط من عند أنفسهم لم تمتّ إلى الدين بصلةٍ، ومن هذه الضوابط:
وهي الضابطة التي وضعها إبليس لتفضيل خلقه على أبي البشر آدم×، فلاحظ كيف يضع مقياساً لنفسه عندما أمره الباري بالسجود لآدم× بأنّه أفضل من آدم؛ لأنّه مخلوقٌ من النار ونبيّ الله آدم× مخلوق من الطين، والنار كعنصر أفضل من الطين، والعناصر الأربعة على رأي الفلسفة القديمة هي: (التراب، والنار، والماء، والهواء)، وقالوا: إنّ العناصر الأربعة أجسام بسيطة وهي أجزاء أوّليّة لبدن الإنسان، فمنها اثنان خفيفان، وهما النار والهواء، واثنان ثقيلان وهما الأرض والماء[337]، وأنّ نبيّ الله آدم× خلقه ليس من التراب فقط، بل من التراب وغيره من العناصر، بحيث يكون التراب جزء من أجزاء بدنه، لكن من جهة الأغلبيّة أشار إليه، وكذلك الحيوان، بل وكلّ موجود حتى إبليس ـ أيضاً ـ لم يكن مخلوقاً من نار صرف، حيث قال: (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ)[338]، بل من العناصر الأربعة، لكن نسب نفسه إلى النّار للأغلبيّة؛ لأنّ جزء النار في الجنّ ـ ومنهم الشيطان ـ أغلب من بقيّة الأجزاء الأخرى، فحينئذٍ يكون المراد بالتّراب الأرض وما عليها من المركّبات في خلق آدم، وبالنّسبة إلى الماء الحقيقي يكون العلوم الظاهرة الحاصلة من الحسّ بمعاونة الفكر[339]، وهكذا بقيت نظرية التفضيل حتى حدى الأمر بالشاعر بشّار بن برد أن يفضِّل النار على الأرض، ويصوّب رأي إبليس في امتناعه من السجود لآدم، حتى قال:
إبليس خيرٌ من أبيكم آدم |
الضابطة الثانية: الغنى والثروة
والبعض من الناس يعتبر الضابطة في التفضيل للمنصب الإلهي بالغنى والثروة، كما في قضية مشركي قريش مع النبي الخاتم’، حيث اعتبروا النبيّ فقيراً ويتيماً لا مال له فعلام أنزل عليه القرآن دونهم، وهم الأثرياء الأقوياء أصحاب النفوذ والسلطان المزيّف، حتى حكى لنا القرآن ذلك، حيث يقول الباري: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[341].
والبعض من الناس يعتبر الضابطة في التفضيل للمنصب الإلهي كبر السن، كما في قضية أبي بكر عندما تصدّى لخلافة الرسول الأكرم’ حيث كان من ضمن احتجاجاته أنّه أكبر الناس المرشحين للخلافة سنّاً، ولذا لـمّا سمع أبوه أبو قحافة، قال: إن كان الأمر في ذلك بالسن فأنا أحقّ من أبي بكر، لقد ظلموا عليّاً حقّه، وقد بايع له النبيّ’ وأمرنا ببيعته، ثمّ كتب إليه: «من أبي قحافة إلى ابنه أبي بكر. أما بعد، فقد أتاني كتابك فوجدته كتابَ أحمقٍ ينقض بعضه بعضاً، مرّةً تقول: خليفة رسول الله’، ومرّة تقول: خليفة الله، ومرّة تقول: تراضى بي الناس، وهو أمر ملتبس، فلا تدخلن في أمر يصعب عليك الخروج منه غداً، ويكون عقباك منه إلى النار والندامة، وملامة النفس اللوامة لدى الحساب بيوم القيامة، فإنّ للأُمور مداخلَ ومخارجَ، وأنت تعرف مَن هو أَولى بها منك، فراقب الله كأنّك تراه، ولا تدعن صاحبها، فإنّ ترْكَها اليوم أخف عليك وأسلم لك»[342]، وبقيت هذه الضابطة عند كثير من الناس وكأنّهم لم يقرأوا القرآن وهو بين أيديهم، بأنّ كبر السن لا قيمة له في مثل هذه الأُمور.
وأمّا الضابطة الإلهية التي تفسد جميع الضوابط الوضعية الناشئة من الهوى وحبِّ التسلّط والاغترار، فهي ما ذكره الإمام× (العلم واستجابة الدعوة)؛ وذلك لأنّ منشأ الاضطراب والخفّة في الإنسان هو الجهل والعجز، وبما أنّ الإمام معلِّم لكتاب الله ـ وهو لا يفارقه بنصِّ حديث الثقلين ـ والكتاب تبيان لكلِّ شيء بمقتضى قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)[343]، فلا يمكن أن يكون الإمام غير محيط بعلم من العلوم التي في الكتاب الإلهي!
وتُستفاد هذه النكتة من الحديث المعتبر عن ابن بكير، عن أبي عبد الله×، قال: «كنت عنده فذكروا سليمان وما أُعطي من العلم، وما أُوتي من الملك، فقال لي: وما أُعطي سليمان بن داود، إنّما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)[344]، وكان والله عند علي× علم الكتاب. فقلت: صدقت والله، جُعلت فداك»[345]والإمام ـ بارتباطه بأمر الله ـ صاحب الدعوة المستجابة، وبهذا العلم والقدرة تلبّس بتاج الوقار؛ فإنّ الحجّة من الله هو الإنسان الكامل، وكمال الإنسان بالعلم ونفوذ الإرادة.
والرياسة الإلهية في الدنيا لا تجتمع مع العجز والجهالة، فلا بدّ أن يكون خليفة الله في خلقه وحجّته على عباده ـ لاستكمال العقول وتربية النفوس ـ أعلم الناس، ومستمدّاً من العليم الذي لا نفاد لكلماته، وباستغراقه في طاعة الله واتّباع إرادته لإرادة الله تكون إرادته نافذة، وقدرته قاهرة بإذن الله. فدلالة الإمام هي العلم واستجابة الدعوة، وهذان الأمران يُثبتان مقام الإنسان الكامل في العقل والإرادة الذي هو مربّي نوع الإنسان، وعندما ادّعى× الإمامة وقال في الملأ العام إنّ دلالتها العلم واستجابة الدعوة، وقد كانت السلطة الحاكمة وحواشيها مترصدين لإبطال دعواه ومع ذلك سكتوا عن مطالبته بإقامة الدليل على مدّعاه، فإنّ سكوتهم أقوى شاهد على عجزهم عن معارضته واعترافهم بأنّه العالم الذي عنده جواب كلّ مسألة، وأنّه الوجيه عند الله الذي لا تُرد له كلّ طلبة[346].
وهذا ما حدث في زمن الإمام الجواد× فبعد ظهور الحقّ، وفشل المؤامرات في اعتراضهم بالعقم وعدم التشابه جاءوا بطريق آخر للتشكيك، وهو صغر عمر الإمام الجواد×، حيث إنّه (سلام الله عليه) كان أوّل إمام يبلغ الإمامةَ في طفولته[347]، فمن الطبيعي أن يكون أوّل سؤال يخطر بالبال عند دراسة حياته هو أنّه كيف يمكن لحَدثٍ أن يتحمّل مسؤوليّة ومهمة إمامة وقيادة المسلمين الحسّاسة والكبيرة؟
وتبيّن من خلال دراسة حياة الإمام الجواد× أنّ هذا التشكيك وصل به الأمر إلى أن يُطرَح كسؤال رسمي على الإمام الرضا×، وهنا نشير إلى بعض تلك الأسئلة:
منها: ما ذكره بعض أصحاب الإمام الرضا× قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن الرضا بخراسان، فقال له قائل: يا سيدي، إن كان كون فإلى مَن؟ قال: «إلى أبي جعفر ابني» فكأنّ القائل استصغر سِنّ أبي جعفر، فقال أبو الحسن×: «إنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً نبيّاً، صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السِنّ الذي فيه أبو جعفر»[348].
ومنها: بنفس المضمون مع إشارة الإمام الرضا× إلى قوله تعالى في يوسف×: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)[349]، وفي يحيى×: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[350][351].
وعلى الرغم من كلّ ما قيل حول إمكانية الوصول إلى المناصب الإلهية الكبيرة في حَدَاثة السِنّ، كانت مشكلة حَدَاثة سِنّ الإمام الجواد× لا تزال غير محلولة ليس لكثير من عوامّ الشيعة، بل أصبحت مثاراً للجدل لدى بعض المقرّبين من الإمام أبي الحسن الرضا×، حتى كتب الطبري الإمامي من علماء القرن الرابع الهجري: «ولـمّا بلغ سِنّه [الإمام الجواد×] ستّ سنوات وبضعة شهور، قتل المأمون أباه، فحار الشيعة، ووقع الخلاف بين الناس، واستصغروا سِنّ أبي جعفر، واحتارت الشيعة في البلاد»[352].
كان الإمام أبو الحسن الهادي× جالساً بالمدينة مع صاحب له يُقال له أبا زكريا، إذ بكى بكاءً شديداً، فسأله الرجل ما بكاؤك؟ فلم يجبه، فتركه ودخل البيت باكياً، وهو يقول: «إنّ أبي توفي الساعة. فارتفعت الأصوات بالبكاء والنياح، ثمّ خرج أبو الحسن ودموعه تجري على خديه، وهو يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. فسُئل عن ذلك، فقال: إنّ أبي توفي الساعة في بغداد، فقلنا: بما علمت؟ قال: دخلني من إجلال الله تعالى ما لم أكن أعرفه»[353].
وروي أنّه× أقبل بطيّ الأرض إلى بغداد، وغسَّل أباه وحنّطه وكفّنه في مقابر قريش، في ظهر جدّه موسى بن جعفر÷، ولسان حاله: وا أبتاه! وأعظم مصيبتاه! والناس معه يصرخون: وا إماماه! وا سيّداه!
مـات الـجواد اليوم مسموم |
لـجل الجواد الراح مظلوم[354].
***
المحاضرة السابعة عشرة: معركة بدر الكبرى
قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ)[355].
في السنة الثانية، في السابع عشر من شهر رمضان المبارك، وعلى رأس ستّة عشر شهراً من هجرة النبيّ الأكرم’ من مكّة إلى المدينة[356]، كانت حرب بدر الكبرى بين المسلمين ومشركي مكّة؛ ووُصِفت بالكبرى احترازاً عن وقعة بدر الصغرى، التي خلاصتها: أنّ النبي الأكرم’ سمع أنّ كرز بن جابر الفهريّ خرج من مكّة مع رجالٍ من قريش، وأغاروا على ضواحي المدينة ونهبوا إبلاً كانت لرسول الله’، وبعض المواشي والدواب لآخرين، وساقوها إلى مكّة، فخرج رسول الله’ في طلبه حتّى بلغ وادياً يُقال له سَفَوان من ناحية بدر، وكان حامل اللواء أمير المؤمنين×، فمكث’ هُناك قرب بئر ثلاثة أيام، وبحث عن المشركين فلم يجدهم، فرجع إلى المدينة[357].
وأمّا وقعة بدر الكبرى فملخصّها: أنّه خرج مشركو قريش ـ كعتبة وشيبة والوليد بن عُتبة وأبي جهل وأبي البُختري ونوف بن خويلد وجمع كثير من صناديد مكّة ورجال الحرب فيها، حيث بلغ عددهم تسعمائة وخمسين نفراً ـ لقتال النبيّ’، فخرجوا من مكّة حاملين أدوات الطرب، ومصطحبين النساء الـمُغنّيات، للّهو واللعب، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير، وكان على كلّ واحدٍ من أكابر قريش إطعام الجيش في كلّ يوم بأن ينحر لهم عشراً من الإبل.
وقيل: إنّ قافلة لأبي سفيان فيها ما قيمته خمسون ألف دينار، ندب رسول الله’ المسلمين للخروج إليها، فانتدب الناس، فخفّ بعضهم، وثقل آخرون، ولعلّهم تخوفوا من كرة قريش عليهم، حينما لا بدّ لها من محاولة الانتقام لهذا الإجراء الذي يستهدف مصالحها الحيوية، وما بقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرج مالاً لتجهيز الجيش، وقالوا: مَن لم يخرج نهدم داره، فلم يتخلّف رجل إلّا أخرج مكانه رجلاً، وبعث أبو لهب العاصي بن هشام مكانه على أربعة آلاف درهم، كانت له عليه من مال المقامرة[358].
وعلى كلّ حال خرج رسول الله’ مع ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه من المدينة إلى أن وصلوا إلى أرض بدر. فلمّا وصل النبي’ إلى هناك أشار إلى الأرض قائلاً: «هنا مصرع فلان، وهناك مصرع فلان»، فعدّد’ مصرع كلّ القتلى من صناديد قُريش، فكان كما قال’. ولـمّا وصل المشركون، صعدوا على تلٍّ ونظروا إلى جيش المسلمين مستخفّين بهم، والمسلمون أيضاً نظروا إلى العدو بعين الاحتقار والاستخفاف، كما قال تعالى:(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)[359].
وبعد رؤيتهم جيشَ النبيّ’ نزلوا خلف ذلك التلّ بعيداً عن الماء، وبعثوا عُمر بن وهب مع جماعة للتفحّص، وليرى هل للمسلمين كمين أو لا؟ فجال بفرسه حتّى طاف عسكر رسول الله’ يميناً وشمالاً، ثُمّ رجع وقال: ما لهم كمينٌ ولا مدد، ولكن نواضح[360] يثرب قد حملت الموت الناقع، أما ترونهم خرساً لا يتكلّمون، يتلمّظون تلمظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم، وما أراهم يُولّون حتّى يُقتلوا، ولا يُقتلون حتّى يَقتلوا بعددهم، فارتأوا رأيكم.
فلمّا سمع هذا حكيم بن حزام حرّض عتبة على ترك الحرب والمصالحة. فقال له عتبة: اذهب إلى ابن الحنظلية ـ يعني أبا جهل ـ وقل له أن يترك الحرب ويصالح أبناء عمّه. فجاء حكيم إلى أبي جهل وأبلغه رسالة عُتبة، فقال أبو جهل: جَبُن وانتفخ سحرهُ، ويخاف على ابنه أبي حذيفة الذي في جيش المسلمين، فجاء حكيم إلى عتبة وأخبره بمقولة أبي جهل، فلمّا تلاقا قال عُتبة لأبي جهلٍ: يا مصفّراً أُستُه، مثلي يجبن؟ ستعلم قريش أيّنا ألأم وأجبن.
ولمـّا كانت ليلة بدر قال النبيّ’: «مَن يستقي لنا من الماء؟» فأحجم الناس فقام علي× فاحتضن فرسه، ثمّ أتى بئراً بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها، فأوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل، تأهبوا لنصرة محمد وحزبه، فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر مَن يسمعه، فلمّا حاذوا البئر سلّموا عليه من عند آخرهم إكراماً وتبجيلاً.
محمد بن ثابت بإسناده، عن ابن مسعود، والفلكي المفسِّر بإسناده، عن محمد بن الحنفية، قال: بعث رسول الله علياً في غزوة بدر أن يأتيه بالماء حين سكت أصحابه عن إيراده، فلمّا أتى القليب وملأ القربة الماء فأخرجها جاءت ريح فهرقته، ثمّ عاد إلى القليب وملأ القربة فأخرجها، فجاءت ريح فأهرقته، وهكذا في الثالثة، فلمّا كانت الرابعة ملأها فأتى بها النبي فأخبر بخبره، فقال رسول الله: «أمّا الريح الأولى فجبرئيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك، وأمّا الثانية ميكائيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك، والريح الثالثة إسرافيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك»، وفي رواية «ما أتوك إلّا ليحفظوك»، وقد رواه عبد الرحمن بن صالح بإسناده عن الليث، وكان يقول: «كان لعلي في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة وثلاث مناقب»، ثمّ يروي هذا الخبر، قال الحميري:
ذاك الذي ســلّم في ليلــةٍ |
أمّا رسول الله’ فإنّه وإن عَلِمَ شقاء قريش وعدم تسليمهم، لكن لأجل قوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)، بعث إليهم رسولاً، وقال: «يا معشر قريش إنّي أكره أن أبدأكم، فخلّوني والعرب وارجعوا. فقال عتبة: ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا، يا معشر قريش، إنّ مُحَمّداً له إلٌّ[362]وذمّة فاسمعوا نصحه، فغاظ أبا جهلٍ قولُه وقال له: ما هذه الغوغاء؟! أمِن خوف بني عبد المطّلب تحتال الرجوع؟ فغضب عُتبة ونزل من ناقته، وطلب من أبي جهل البراز ليعلم من الجبان، فتوسّط كُبراء قريش بينهم، لكنّ عتبة لردع تهمة الجبن عنه لَبِس درعه وشدّ عمامته، وكان لا يلبس الخوذة لكبر رأسه، وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وجالوا في الميدان، وكانت نيران الحرب قد اندلعت، فطلبوا المبارز فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم، فقالوا: ارجعوا إنّما نريد الأكفّاء من قريش؛ فأمر’ عليّاً وحمزة بن عبد المطّلب وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بالمبارزة فجاؤوا إلى الميدان ولهم زئير كزئير الأسد، قال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطّلب أسدُ الله وأسدُ رسوله. فقال عتبة: كفوء كريم، وأنا أسدُ الحلفاء وأنا أسدُ المطيبين...[363]. فبرز عليّ× للوليد وحمزة لشيبة وعبيدة لعتبة، فحمل× على الوليد، فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من أُبطه حتّى قيل: إنه أخذ الوليد يده المقطوعة وضرب بها رأس عليّ×، ثُمَّ ذهب إلى أبيه هارباً، فشدّ عليه الإمام× فضرب فخذه فسقط ميّتاً.
وتقدّم حمزة وشيبة فتكادما[364] الموت طويلاً حتّى تكسّرت سيوفهما ودروعهما، وأخذا يتصارعان، فقال المسلمون: يا عليّ أما ترى الكلب قد بهر[365] عمّك؟ فحمل× وقال: يا عمّ طأطئ رأسك. وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره، فضربه عليّ× فطرح نصفه.
أمّا عبيدة فإنّه ضرب رأس عتبة فشقّه، وضرب عتبة رِجل عبيدة فقطعها، فجاء الإمام أمير المؤمنين× إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه وقتله؛ ولذا قال لمعاوية: وعندي السيف الذي أعضضتُه بجدِّك وخالك وأخيك في مقامٍ واحدٍ.فحمل حمزةُ وعليٌّ عبيدةَ إلى النبيّ’، فبكى كثيراً حتّى سالت دموعه على وجه عبيدة، وقد سال مخ ساقه منها، فاستُشهد عند رجوعهم إلى المدينة في أرض روحاء أو صفراء، ودفن هناك، وكان أسنّ من رسول الله’ بعشر سنين... ووقع الرعب في قلوب المشـركين وفي قلب أبي جهل بعد قتل هؤلاء الثلاثة. وقُتل سبعون رجُلاً من أبطال قريش في تلك المعركة، منهم: عُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وحنظلة بن أبي سفيان، وطعيمة بن عدي، والعاص بن سعيد، ونوفل بن خويلد، وأبو جهل.
ولمّا رأى رسول الله’ رأسَ أبي جهل مقطوعاً سجد لله شُكراً. ثُمّ انهزم جيش المشركين فلحقهم المسلمون وأسروا منهم سبعين نفراً... كان النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط في جملة الأَسرى، فأمر رسول الله’ بقتلهم، وقد كانوا من أعداء النبي’، وعقبة هو الذي تفل على وجه النبي’ بمشورة أُمية بن خلف الذي قُتل أيضاً»[366].
واتّفق أهل السِير والتفسير أنّه تعالى أمدّ نبيّه’ والمسلمينَ بالملائكة يوم بدر، وأنّهم قاتلوا الكفّار[367].
وعن ابن عبّاس: «أنّه لم يقاتل الملائكة سوى يوم بدر، وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً، لا يقاتلون ولا يضربون»[368].
وقيل: إنّ الملائكة لم تقاتل في بدر ولا في غيره، وإنّما كانوا يُكثرون السواد، ويثبّتون المسلمين بإشعارهم بأنّ النصر لهم، ويلقون الرعب في قلوب المشركين، وإلّا فلو قاتل واحد من الملائكة جميع البشر لم يثبتوا، ولاستأصلهم بأجمعهم ببعض قوّته[369]، فإنّ جبرئيل رفع مدائن قوم لوط[370].
روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره: «أنّ قريشاً لـمّا أقبلت يوم بدر، رفع رسول الله’ يده إلى السماء، فقال: يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تُعبد، وإن شئت لا تُعبد لا تُعبد. ثمّ أصابه الغشي فسرى عنه وهو يسلت العرق عن وجهه، وهو يقول: هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين، فنظروا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لائح قد وقعت على عسكر رسول الله’، وقائلٌ يقول: أقدم حيزوم، أقدم حيزوم. وسمعوا قعقعة السلاح من الجوّ»[371].
قال الواقدي: «وحدّثني عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، عن جدّه عبيد ابن أبي عبيد، عن أبي رهم الغفاري، عن ابن عمٍّ له قال: بينما أنا وابن عمٍّ لي على ماء بدر فلمّا رأينا قلّة مَن مع محمد وكثرة قريش قلنا: إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه، فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحاب محمد ونحن نقول: هؤلاء ربع قريش! فبينما نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابةٌ فغشيتنا فرفعنا أبصارنا إليها فسمعنا أصوات الرجال والسلاح وسمعنا رجلاً يقول لفرسه: أقدم حيزوم! وسمعناهم يقولون: رويداً تتام أخراكم! فنزلوا على ميمنة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ثمّ جاءت أُخرى مثل تلك وكانت مع النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، فنظرنا إلى النبي (صلّى الله عليه وسلّم) وأصحابه فإذا هم الضعف على قريش فمات ابن عمّي، وأمّا أنا فتماسكت وأخبرت النبي (صلّى الله عليه وسلّم). وأسلم وحسن إسلامه»[372].
وروى عبيد بن عمير قال: «لمّا رجعت قريش من أُحد، جعلوا يتحدّثون في أنديتهم بما ظفروا، ويقولون: لم نرَ الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنّا نراهم يوم بدر»[373].
وروي عن سهيل بن عمرو قال: «لقد رأيت يوم بدر رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض معلَّمين يقتلون ويأسرون»[374].
قال الواقدي: «وكان أبو أسيد الساعدي يحدِّث بعد أن ذهب بصره، ويقول: لو كنت معكم الآن ببدر وكان معي بصري، لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشكّ فيه ولا أمتري»[375].
وقال ابن الأنباري: «كانت الملائكة لا تعلم كيف تقتل الآدميّين، فعلَّمهم الله بقوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) أي: على الرؤوس، (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) قال ابن عطيّة: هو كلّ مفصل»[376].
ولذا يقول السهيلي: جاء في التفسير: «أنّه ما وقعت ضربة إلّا في رأس أو مفصل، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم بآثار سود في الأعناق والبنان»[377].
ثمّ أمر رسول الله’ بعمّه العباس فشُدّ وحُبس مع مَن حُبس من قريش، فلما جنّ الليل ونام الناس بقي النبيّ’ ساهراً وما نامت عيناه، وكان يتقلّب من التعب والمشقة وقد نامت العيون؟ فقال’ «كيف أنام واستقر وأنا اسمع أنين عمّي العباس في الحبل ونشيجه». فقاموا وركضوا إلى العباس وأخبروه بكرب رسول الله وغمّه فيه وبشّروه بخلاصه، وحلّوا منه ما عليه من الحبال، فلمّا سكت نام رسول الله’.
أقول: يعزّ على رسول الله لو نظرت عيناه إلى ولده السجاد وقد صفدوه في الحديد ووضعوا الجامعة في عنقه وقيّدوا رجليه من تحت بطن الناقة، ليت شعري فما حاله لو يسمع أنينه ويرى بكاءه[378].
وأعظم ما يشجي الغيورَ حرائرٌ |
***
المحاضرة الثامنة عشرة: الوقاية من النار
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[380].
يختصر الله تبارك وتعالى على بني البشر الطريق إلى سعادتهم والخلاص من الشقاء الدنيوي والأُخروي، وذلك عن طريق أمرهم بما يسعدهم، والانتهاء عمّا يسبب لهم التعاسة والشقاء الدنيوي والعذاب الأُخروي، ففي هذه الآية الشريفة يأمر الله تبارك وتعالى عباده أن يقوا أنفسهم وأهليهم من النار العجيبة، التي وصفها رسول الإنسانية والرحمة الرسول الأكرم’، كما روى عن الإمام أمير المؤمنين× ذلك، حيث قال’: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قَطَرَتْ عَلَى جِبَالِ الْأَرْضِ لَسَاخَتْ إِلَى أَسْفَلِ سَبْعِ أَرَضِينَ وَلَمَا أَطَاقَتْهُ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ شَرَابُهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مِقْمَاعاً مِقْمَعَةً وَاحِداً مِمَّا ذَكَرَهُ الله فِي كِتَابِهِ وُضِعَ عَلَى جِبَالِ الْأَرْضِ لَسَاخَتْ إِلَى أَسْفَلِ سَبْعِ أَرَضِينَ وَلَمَا أَطَاقَتْهُ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ»[381].
وبعض الناس ـ للأسف الشديد ـ يعترض على هذا التصوير ويقول: إنّ الله جميل ورحيم... فلماذا تتحدّثون عن الله من جانب العذاب والتخويف؟!
وجوابنا: هذا كلام غير مسؤول، فقد تحدّث الله تعالى عن هذا العذاب وهو أمر واقع ونحن نتحدّث عن النار وعن الجنّة معاً، فلا معنى لهذا الكلام.
تتحقق الوقاية بحفظ النفس من الذنوب، وعدم الاستسلام للشهوات والأهواء، والشريعة من كمالها وروعتها أنّها أمرت بالأمر وأعانت على تطبيقه من خلال توصيات وتنبيهات ونصائح، إذا انتبه لها الإنسان وراعاها حقق الاستجابة للأمر بالابتعاد عن النار، فقد وضعت الشريعة وسائل عديدة لتقييد ومحاصرة المخالفات والمعاصي من الإفشاء والانتشار.. وهي قضية في غاية الأهمّية ونحاول أن نقف مع بعض هذه الأساليب:
الأُسلوب الأوّل: التعرّف على واقع المعصية ونتيجتها
إنّ المعصية جرمٌ عظيمٌ لا ينبغي للإنسان أن يقع فيه، ولذلك وجب أن تُحاط المعاصي بهالة من التهيّب والحذر في نفس الفرد، والمجال الاجتماعي العام على حدٍّ سواء. ولعلّ أحد الأساليب التي وضعتها الشريعة لإيجاد هذه الهالة هو محاصرة المعصية، فالمعصية جرم عظيم يجترئ من خلالها العبد على ربِّه وخالقه، فعَنْ أبي جعفر×أنّه قال: «مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى الله فِي الْمَعْصِيَةِ وَارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ نَصَبَ دِيناً غَيْرَ دِينِ الله فَهُوَ مُشْرِكٌ»[382].
سواء كانت هذه المعصية صغيرة أم كبيرة؛ لأنّنا في الواقع غير مطّلعين على حقيقة المعاصي، بل هناك إخفاء متعمّد من قِبَل الشارع، كما روي عن الإمام أَمِيرِ المؤمِنِينَ×أنّه قال: «إِنَّ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى أَخْفَى أَرْبَعَةً فِي أَرْبَعَةٍ أَخْفَى رِضَاهُ فِي طَاعَتِهِ فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ شَيْئاً مِنْ طَاعَتِهِ فَرُبَّمَا وَافَقَ رِضَاهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ، وَأَخْفَى سَخَطَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ شَيْئاً مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَرُبَّمَا وَافَقَ سَخَطَهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ، وَأَخْفَى إِجَابَتَهُ فِي دَعْوَتِهِ فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ شَيْئاً مِنْ دُعَائِهِ فَرُبَّمَا وَافَقَ إِجَابَتَهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ، وَأَخْفَى وَلِيَّهُ فِي عِبَادِهِ فَلَا تَسْتَصْغِرَنَّ عَبْداً مِنْ عَبِيدِ الله فَرُبَّمَا يَكُونُ وَلِيَّهُ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ»[383].
والبعض من الناس يقول: إنّي لم أذنب سوى الذنب الفلاني ـ مثلاً النظرة بشهوة ـ وإذا كانت عقوبتي على هذه المعصية فالأمر هينٌ، والحال عندنا تحذير شديد في هذا الجانب، فعن أبي هاشم الجعفريّ قال: «سمعتُ أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ: مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا تُغْفَرُ قَوْلُ الرَّجُلِ لَيْتَنِي لَا أُؤَاخَذُ إِلَّا بِهَذَا. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الدَّقِيقُ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَفَقَّدَ مِنْ أَمْرِهِ وَمِنْ نَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ. فَأَقْبَلَ عَلَيَّ أَبُو مُحَمَّدٍ×: فَقَالَ: يَا أَبَا هَاشِمٍ، صَدَقْتَ فَالْزَمْ مَا حَدَّثَتْ بِهِ نَفْسُكَ؛ فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ فِي النَّاسِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، وَمِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الْمِسْحِ الْأَسْوَدِ»[384].
والحال أنّ الذنوب التي يعدّها الإنسان من الصغائر هي الطرق الموصلة للذنوب الكبائر، كما روي عن إمامنا الرِّضَا× أنّه قال: «الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ طُرُقٌ إِلَى الْكَبَائِرِ، وَمَنْ لَمْ يَخَفِ الله فِي الْقَلِيلِ لَمْ يَخَفْهُ فِي الْكَثِيرِ، وَلَوْ لَمْ يُخَوِّفِ اللهُ النَّاسَ بِجَنَّةٍ وَنَارٍ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ وَلَا يَعْصَوْهُ لِتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا بَدَأَهُمْ بِهِ مِنْ إِنْعَامِهِ الَّذِي مَا اسْتَحَقُّوهُ»[385].
والأُسلوب الثاني المهم في الوقاية من الذنوب والمعاصي هو عن طريق تهذيب النفس بالابتعاد عن مسببات الذنوب والمعاصي من قبيل:
أـ المكان الموبوء، أو رفيق السوء الفاسد، أو التثقيف المنحل، مثلاً كيفيّة التعامل مع المواقع وكيفيّة التعامل مع الإنترنت بشكل عامٍ، والصديق الذي يعض الإنسان يديه يوم القيامة حسرةً على مصاحبته، كما بيّن الله تبارك وتعالى ذلك، حيث قال: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)[386].
وروي أيضاً في هذا المجال عن الإمام أمير المؤمنين×: «مُجالَسةِ الأخيارِ تَلحَقُ الأَشرارِ بالأخيارِ، وَمُجالِسةِ الأَبرارِ لِلفُجَّارِ تَلحَقُ الأبرارِ بِالفُجَّارِ»[387].
بل هناك روايات أشارت إلى أنّ الإنسان يبقى وحيداً خيرٌ له من الصديق السوء، فعن النبيّ الأكرم’ أنّه قال لأبي ذرّ&: «الوحدة خير من جليس السوء»[388].
ب ـ التقرّب من الخيرعن طريق اختيار المجلس والرفيق الصالح والثقافة الصالحة والقدوة الصالحة، فعن الإمام أميرالمؤمنين×أنّه قال: «عَمارَةُ القُلُوبِ في مُعاشَرَةِ ذَوِي العُقُولِ»[389].
وجاء في حديث آخر عنه× أنّه قال: «مُجالسة ذَوِي الفَضائِلِ حَياةُ القُلُوبِ»[390].
نقل أحد خطباء المنبر الحسيني ما يلي: قال: كنت وجماعة من خطباء المنبر الحسيني في سيارة قد استأجرناها لتنقلنا من مكان إلى آخر، وفي الطريق تلاطف أحدنا مع سائق السيارة بملاطفات انجرّ الكلام بينهما إلى ما لا يليق، قال ذلك الخطيب: فتداركت الموقف وأخذت اعتذر من السائق، لأصرف ذهنه عمّا جرى، واغسل ذاكرته عن الكلام غير اللائق، الذي كلّمه به صديقنا الخطيب، والذي ربما جرح خاطره، وكدّر عواطفه، فلما قدّمت له اعتذاري وانتهيت من كلامي، التفت إليّ السائق وقال بكلّ احترام وإجلال وتواضع وخشوع: يا سماحة الشيخ إنه لم يبدر إليّ منكم ما يستدعي الاعتذار والتنصّل، كيف وإنّ لكم حقّ الحياة عليّ؟ إذ بسببكم هداني الله تعالى إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وعليّ أن أؤدّي حقّكم، وأقدم جزيل الشكر الذي يجب علي بالنسبة إليكم.
قال الخطيب وهو يواصل قصته: فسألت السائق حينئذٍ عن قضيّته، وكيف هداه الله تعالى بسببنا؟
فأجاب قائلاً: لقد كنت في أول شبابي، وعلى أثر المحيط الفاسد الذي كنت أعيش فيه، والأصدقاء السوء الذين كانوا يصحبونني، منحرفاً أشدّ الانحراف، وبعيداً غاية البعد عن التقوى والفضيلة.
وذات مرّة وقد أنّبتني نفسي اللوّامة، ووخزني ضميري ووجداني على ما أمارسه من انحراف، واقترفه من ذنوب، إذ وقع طريقي على مجلس من مجالس الإمام الحسين×، فحملت نفسي وأنا ألومها على انحرافها، وأعتب عليها لانزلاقها واعوجاجها، على أن اشترك في هذا المجلس الحسيني، فدخلت فإذا أنا بالخطيب على المنبر وهو يعظ الناس ويرشدهم، ويفسِّر لهم بعض الآيات الكريمة، ويقرأ عليهم نزراً من الأحاديث الشريفة، فأخذتني مواعظه، وأثّرت في قلبي نصائحه، وصقلت نفسي الآيات والروايات التي كان يرتِّلها على مسامعنا، ثمّ عرّج من نصائحه ومواعظه إلى قراءة المصيبة على قمر بني هاشم أبي الفضل العباس×، وحكى لنا عن كيفيّة جهاده في سبيل الله، ومواساته لأخيه الإمام الحسين× إلى أن وصل إلى حكاية ما قاله أبو الفضل العباس× ـ يوم عاشوراء عندما قطع الأعداء يمينه ـ من رجزه في وجه الأعداء وهتافه بهم:
والله إن قطعتموا يميني |
فبكيت بكاءً شديداً، وقلت في نفسي متمتماً: كيف تسمح لنفسك وأنت تدّعي حبّ أبي الفضل العباس× أن تهتك حرمة الدين بمواصلة انحرافك، واستمرار جرائمك وجناياتك، وأبو الفضل العباس× قد ضحّى بنفسه، وقدّم يديه لحماية الدين وحفظ حرمة الإسلام؟ فهزّني ذلك من الأعماق، وأيقظني من رقدتي وغفلتي، وجعلني أندم على ما سلف منّي، وأعزم على إصلاح نفسي.
وبالفعل فقد وفقت للتوبة، واهتديت إلى طريق الأوبة، وأخذت جادة الصواب، وسرت في طريق التقوى والفضيلة، كلّ ذلك ببركة ذلك الخطيب الحسيني، ثمّ تحسّنت حالتي، وتخلّصت من شقوتي وكآبتي، والحمد لله ربّ العالمين، لذا بقيت وأنا أرى نفسي مديناً لرجال الدين، وأرى لخطباء المنبر الحسيني حقّ الحياة عليّ، كما أرى على نفسي أن أجلّهم واحترمهم، وأن أكون لهم من الشاكرين دوماً وأبداً.
ج ـ المراقبة لأنفسنا والانتباه لها، كما ننتبه ونهتم بثيابنا ونقودنا وسمعتنا.
الأُسلوب الثالث: عدم الجهر بالمعاصي
العباد ليسو معصومين من ارتكاب الأخطاء، لكنّهم مطالبون في المقابل بالتزام الستر والحد من إفشاء مخالفاتهم ومعاصيهم على الملأ، فإذا حصلت المعصية فينبغي أن تحاصر ضمن نطاقها الأضيق والمحدود جدّاً، وذلك بالحرص على أن لا ينتشر خبرها؛ لأنّ من تداعيات الإفشاء بالمخالفات والمعاصي:
أـ سقوط هيبة القانون الإلهي: ولذلك نجد النبيّ أيوب× يوفي بقسمه (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[392].
غضب وحلف عليها أن يضربها مائة، فأخبرته أنّه كان سببه كيت وكيت، فاغتمّ أيوب من ذلك فأوحى إليه: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)، فأخذ مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة، فخرج من يمينه[393].
الشمراخ والشمروخ: العثكال، وهو ما يكون فيه الرطب، وكل غصن من أغصانه شمراخ[394].
ب ـ سقوط هيبة المعصية في النفس: ذلك إنّ إفشاء المعصية يقود إلى تطبع النفس بها، فلا يتردد المرء بعد ذلك عن اقترافها ثانية، ولعلّ الأسوأ من ذلك هو الانقياد نحو التبجّح بفعل المعاصي، حتى أنّك تجد بعض الناس يفاخرون بمعاصيهم، كما لو أنّهم حقّقوا عملاً بطولياً يستحقّ عليه الثناء! وهذا جرم أكبر من المعصية ذاتها.
إنّ مُشاهدة القبائح وتكرارها، يُقلّل من قبحها في نظر المشاهد، وبالتدريج تصبح أمراً عاديّاً، ونحن نعلم أنّ إحدى العوامل المؤثّرة في ترك الذنوب والقبائح، هوالإحساس بقبحها في الواقع النّفسي للإنسان، فالله تعالى يريد أن تبقى المعصية محاطة بهالة من الحذر والتهيُّب في الوسط الاجتماعي العام، فلا تكون مبتذلة وكأنّها أمر طبيعي يمكن أن يَطال أي أحد.
من هنا نستطيع أن نفهم كيف جاءتنا النصوص والتعاليم الدينية مشدّدة على ضرورة أن يتكتّم المرء على معاصيه التي يقع فيها، وأن لا يجهر بها، فالإجهار بالمعصية ذنب آخر يُضاف إلى جانب المعصية.
فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب× أنّه قال: «مجاهرة الله بالمعاصي تعجِّل النقم»[395].
وعنه× أنّه قال: «إياك والمجاهرة بالفجور فإنّه من أشدّ المآثم»[396].
وعنه×: «التبجّح بالمعاصي أقبح من ركوبها»[397].
وعنه×: «لا وزر أعظم من التبجّح بالفجور»[398].
وقد روي في هذا السياق عن الإمام الرضا×عن جدّه المصطفى’ أنّه قال: «المذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له»[399].
وأيضاً من الأخطاء: يجد بعض الناس أنفسهم تحت ضغط هائل من تأنيب الضمير بعد ارتكاب المعصية، فيندفعون لإفشاء أسرارهم بغية التنفيس، إلّا أنّ ذلك غير صحيح، فأوامر الشارع في هذا الشأن صريحة، نحو القطع بعدم الحديث عن المعاصي والأخطاء الشخصية أمام أي أحد كان، وتحت أي ظرفٍ من الظروف الاختيارية، بل لا مبرر عقلي ولا عقلائي للجهر والإفشاء بها وقد سترها الله تبارك وتعالى.
فقد روي عن النبيّ الأكرم’ أنّه قال: «وإنّ من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً ثمّ يصبح قد ستره ربّه، فيقول: يا فلان قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه فيبيت يستره ربّه ويصبح يكشف ستر الله عنه»[400].
وأبعد من ذلك، ذهبت الشريعة إلى النأي عن إفشاء المعاصي حتى لغرض التطهّر عبر إقامة الحدود. فقد يتساءل البعض عن حقوق الله التي انتهكها خصوصاً تلك التي وردت فيها الحدود والتعزيرات، فهل ينبغي على مثل هؤلاء أن يتقدّموا للحاكم الشرعي ليقيم عليهم الحد؟ يأتي الجواب القطعي هنا؛ لا يطلب الشارع من الإنسان فعل ذلك، بل الوارد هو النهي عن الإقدام على مثل هذا السلوك، فقد روي عن الإمام أمِير الْمُؤْمِنِين× أنّه أتاه رجلٌ بالكوفة فقال له: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي! قَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ مُزَيْنَةَ. قَالَ: أَتَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئاً؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَاقْرَأْ. فَقَرَأَ فَأَجَادَ. فَقَالَ: أَبِكَ جِنَّةٌ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَاذْهَبْ حَتَّى نَسْأَلَ عَنْكَ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي! فَقَالَ: أَلَكَ زَوْجَةٌ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمُقِيمَةٌ مَعَكَ فِي الْبَلَدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَمَرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ× فَذَهَبَ، وَقَالَ: حَتَّى نَسْأَلَ عَنْكَ. فَبَعَثَ إِلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَ عَنْ خَبَرِهِ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَحِيحُ الْعَقْلِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ حَتَّى نَسْأَلَ عَنْكَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ الرَّابِعَةَ، فَلَمَّا أَقَرَّ، قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِقَنْبَرٍ: احْتَفِظْ بِهِ. ثُمَّ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَقْبَحَ بِالرَّجُلِ مِنْكُمْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ فَيَفْضَحَ نَفْسَهُ عَلَى رُءُوسِ الْمَلَإِ أَفَلَا تَابَ فِي بَيْتِهِ، فَوَ اللَّهِ لَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله أَفْضَلُ مِنْ إِقَامَتِي عَلَيْهِ الْحَدَّ...»[401].
هكذا يريد الله من الإنسان أن يستر على نفسه، فلا تكون المعصية مبتذلة على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، ولذلك لم يرد في الشريعة ما يجري في الكنيسة المسيحية مثلاً، بأن يأتي المذنب للكاهن ويعترف بين يديه بذنوبه حتى يطلب له المغفرة، فليس مطلوباً من المسلم أن يأتي للمرجع أو عالم الدين ويقرّ له بذنوبه. إنّ استفتاء العالم وطلب النصيحة والمشورة أمرٌ مطلوب، لكن حتى لو اضطر السائل إلى ذلك فليكن على طريقة القول؛ ماذا لو أنّ شخصاً ارتكب كذا، لا أن يقول أنا قمت بكذا واقترفت كذا.
كما لا ينبغي أن يفشي المرء مخالفاته حتى أمام الخلص من أصدقائه وزوجته وخطيبته والمقرّبين له على وجه الخصوص؛ لأنّ ذلك سيخفف من وقع المعصية في نفوسهم، علاوة على ما سيترك في نفوسهم من أشياء غير مرغوبة تجاهه، الإنسان العاقل عليه أن يستتر بالحسنات خوفاً من العُجب والرياء، فماذا نقول عمّن يتجاهر بالسيئات؟!
والإنسان إذا حاصر المعصية بهذه الأساليب الثلاثة يصل إلى المستوى الرفيع حتى ولو كان وضيع الحسب والنسب، فقد روي عن سفيان الثوري، قال: «لقيت الصادق بن الصادق جعفر بن محمد‘ فقلت له: يا ابن رسول الله، أوصني. فقال لي: يا سفيان، مَن أراد عزّاً بلا عشيرة، وغنىً بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فليُنقل من ذلِّ معصية الله إلى عزّ طاعته»[402].
وبين يديك المثال الصادق من هذا العبد جَون بن حَوِيّ، كان عبداً مملوكاً اشتراه الإمام أمير المؤمنين×، ثمّ وَهَبه لأبي ذرّ الغِفاريّ، وبعد وفاة هذا الصحابيّ الجليل رجع جَون إلى الإمام الحسن المجتبى×.
قال السماوي: «كان جون منضمّاً إلى أهل البيت بعد أبي ذرّ، فكان مع الحسن×، ثمّ مع الحسين×، وصحبه في سفره من المدينة إلى مكّة ثمّ إلى العراق»[403].
التحق جون مولى أبي ذرّ بالركب الحسينيّ، وسمع من الإمام الحسين× إذْنَين بالانصراف:
الأوّل: عامّ للأصحاب: «انطلِقُوا جميعاً في حِلّ، ليس عليكم منّي ذِمام، هذا الليل قد غَشِيَكم فاتَّخِذوه جَمَلاً»، فأبَوا جميعاً.. مُقْبِلين على الشهادة.
الثانيّ: خاصّ لبعض الأصحاب كان منهم جَون، حيث قال له الإمام الحسين×: «أنت في إذْنٍ منّي، فإنّما تَبِعْتَنا طلباً للعافية، فلا تَبْتَلِ بطريقنا». فماذا أجاب جون إمامه؟ قال له: «يا ابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحَسُ قِصاعَكم وفي الشدّة أخذُلُكم؟! واللهِ، إنّ ريحي لَنتِن، وإنّ حَسَبي لَلئيم، ولوني لأسوَد، فتَنَفّسْ علَيّ بالجنّة فتطيبَ ريحي، ويَشرُفَ حَسَبي، ويَبيض وجهي، لا واللهِ لا أُفارقُكم حتّى يختلطَ هذا الدمُ الأسود مع دمائكم».
برز جون يستأذن الإمامَ الحسين×، فأذِن له، فحمَلَ جون وهو يرتجز ويقول:
كيف تَرى الفُجّارُ ضَربَ الأسْودِ |
***
فقَتَل جونٌ خمسةً وعشرين رجلاً من الأعداء، حتّى تعطّفوا عليه فقتلوه&، فجاءه الإمام الحسين×ووقف عليه قائلاً: «اللهمّ بَيِّضْ وجهَه، وطَيِّبْ ريحَه، واحشُرْه مع محمّدٍ’، وعَرِّفْ بينه وبين آل محمّد’». وقد نقلوا أنّ كلّ مَن كان يمرّ بالمعركة، كان يشمّ مِن جون رائحةً أزكى من المسك، بل روي عن الإمام الباقر×، عن أبيه زين العابدين×، أنّه قال: «إنّ الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى، فوجدوا جون بعد عشرة أيّام تفوح منه رائحة المسك»[404].
بهاليل والعليا اعتلوها |
***
وكأنّي بها تجيب القوم:
يهل تنشد عليَّ وحك الله تره مو خارجية |
***
المحاضرة التاسعة عشرة: سكرات الموت
قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[405].
يعيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا مدّةً ثمّ يرحل عنها، شاء أَم أبى، فكلّ إنسانٍ يموت، بل كلّنا محكومٌ بالإعدام الربّاني؛ لقوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)[406]، ويا ليت أنّنا نعلم ساعة التنفيذ أو يوم التنفيذ، بل ولو سنة التنفيذ، فكلّه خفاءٌ وغيبٌ لا يعلمه إلّا الله تعالى.
وهذا الرحيل أوّل مقدماته السكرات التي تعرض على الإنسان، وهي المعبّر عنها بـ (سكرة الموت)، التي أشارت لها الآية الكريمة، فلنتعرّف عليها.
المراد بسكرة الموت ما يعرض للإنسان حال النزع، إذ يشتغل بنفسه وينقطع عن الناس، كالسكران الذي لا يدري ما يقول، ولا ما يُقال له، وهي حالة من حالات الذهول، وكيف لا تكون كذلك؟! مع أنّ الموت مرحلة انتقالية مهمة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميعَ علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال هذه السنين الطويلة، وأن يخطو في عالم جديد عليه مليءٌ بالأسرار، خاصةً أنّ الإنسان في لحظات الموت يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد، فهو يلاحظ عدم استقرار هذا العالم بعينيه، ويرى الحوادث التي بعد الموت، وهنا تتملكه حالة الرعب والاستيحاش من قرنه إلى قدمه، فتراه كالسكران وليس الأمر كذلك.
وهذه العقبة صعبة جدّاً، وأنّ شدائدها وصعوباتها تحيط بالمحتضـر من جميع الجهات، فمن جهة تواجهه شدّة المرض، وشدّة الوجع، واعتقال اللسان، وذهاب القوّة من الجسم، فيصبح هذا الإنسان المغرور اللجوج الوثّاب يتحوّل إلى عين الضعف والهوان والمسكنة في تلك اللحظات حتى لايقوى أن يشير بإصبعه، ومن جهة أُخرى يواجه بكاء الأهل والعيال، ووداعهم له، ويواجه الغَمَّ ليُتمِ وغربةِ أطفاله[407].
وهذه من الأُمور المؤلمة، فهي أُمور أبكت إمامنا الحسن المجتبى×، لـمّا دنت منه الوفاة، فقيل له في ذلك؟ فقال: «أبكي لهول المطلع وفراق الأحبّة»[408].
ومن جهةٍ ثالثة يواجه غمَّ مفارقته لماله ومنزله وأملاكه ومدّخراته وأشيائه النفيسة التي صرف عمره العزيز من أجل تحصيل المزيد منها، بل إنّ أكثر ما عنده عائد للآخرين، وقد تملّكه منهم بالظلم والغصب.. وكم تعلّقت من الحقوق الشـرعية بأمواله ولم يؤدِّها.. وهو الآن في تلك الحالة ينتبه إلى ما أتلفته وخرّبته أعماله بعدما انقضى الأمر وانسدّ طريق إصلاحه[409]. فكان كما قال أمير المؤمنين×: «اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ»[410].
ومن جهة أُخرى فهو يواجه هول قدومه على نشأة أُخرى هي غير هذه النشأة. ثمّ إنّ عينيه تريان أشياءَ لم ترها قبل ذلك: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[411]، فيرى رسول الله’ وأهل بيته الأطهار^ وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حاضرين عنده ليحكموا فيه، وأنّه يترقّب أيّ حكم يحكمون به، وأي شيء سوف يوصون به؟ ومن جهة أُخرى قد اجتمع إبليس وأعوانه ليوقعوه في الشكّ، وهم يحاولون جاهدين أن يسلبوا إيمانه ليخرج من الدنيا بلا إيمان، ومن جهة أُخرى يعاني من هول حضور ملك الموت، وبأي صورة وهيئة سوف يجيئه به، وبأي نحو سوف يقبض روحه، إلى غير ذلك[412]، ويجمعها لنا إمام المتّقين× بقوله: «وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ اَلدُّنْيَا»[413].
لكن الحمد لله جعل الله لنا طرقاً وأساليب تخفف عنّا هذه السكرات، فمَن أخذ بها هانت عليه هذه السكرات أو انعدمت نهائياً:
الأوّل: الاستقامة والثبات على خطِّ الولاية لمحمّدٍ وآل محمّد^
الأمر الأوّل لتسهيل هذه السكرات هو الاستقامة والثبات على خط الولاية لمحمّدٍ وآل محمّد^، وقد صرّح القرآن الكريم بنجاة المستقيمين، حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[414].
وقد رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا× عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، فَقَالَ: هِيَ وَالله مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ، يَعْنِي عِنْدَ الْمَوْتِ»[415].
وعن النبيّ الأكرم’ أنّه قال: «ألا ومَن أحبَّ عليّاً هوّن الله تعالى عليه سكرات الموت، وجعل قبره روضةً من رياض الجنّة»[416].
وحكي عن أحد العلماء العظماء من فقهائنا الماضين، يقول أنّه رأى المقدّس الأردبيلي ـ أحد أعاظم علماء الشيعة على مرّ العصور ويُلقّب بالمقدّس عند الشيعة لشدّة طهارته وكثرة عبادته ـ رآه في المنام في أحسن الثياب في حرم الإمام أمير المؤمنين× (شرّفنا الله وإيّاكم بزيارته في الدنيا وبشفاعتهِ في الآخرة) فاستوقفهُ وسألهُ: أخبرنا ما الذي أوصلك إلى هذا المقام؟ ـ فـإنّ حُــلّتهُ تدلُّ على مَحَلَّـتِه ـ ما هو العمل الذي لازمته في حياتك حتى وصلت إلى هذه المرتبة؟ فقال المقدّس الأردبيلي: أنا أخبرك ما الذي أوصلني الى هذا المقام! لـمّا قُبضت روحي وكُشف الغطاء عن بصري، رأينا أن سوق الأعمال كاسد، ولم ينفعني إلّا حبّ صاحب هذه القبّة وولايته. فمَن رُزق حُبّ أمير المؤمنين× ووَلايته فهنيئاً له، ولكن ينبغي أن يعرف قدر ما رُزق به؛ لأنّ النعمة إذا لم يُعرف قدرها تذهب، ومن معرفة قدر هذه النعمة أنّ يجتهد المرء في الحفاظ عليها.
الثاني: صلة الرحم وبرِّ الوالدين
فعن الإمام الصادق× أنّه قال: «مَن أحبَّ أن يخفف الله عنه سكرات الموت فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه بارّاً، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياتــــه فقرٌ أبداً»[417].
وعنه× أنّه قال: «إنّ رسول الله’ حضر شابّاً عند وفاته، فقال له: قل: لا إله إلّا الله.. فاعتقل لسانه مراراً، فقال لامرأةٍ عند رأسه: هل لهذا أُمّ؟ قالت: نعم، أنا أُمّه، قال: أفساخطةٌ أنت عليه؟ قالت: نعم، ما كلّمته منذ ست حجج. قال لها: ارضي عنه. قالت: رضي الله عنه برضاك يا رسول الله. فقال له رسول الله: قل: لا إله إلّا الله. فقالها، فقال النبيّ’: ما ترى؟ فقال: أرى رجلاً أسود، قبيح المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة فأخذ بكظمي (أي مخرج النفس). فقال له النبيّ’: قل: يا مَن يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، اقبل منّي اليسير واعفُ عنّي الكثير، إنّك أنت الغفور الرحيم. فقالها الشاب، فقال له النبيّ’: انظر ما ترى؟ قال: أرى رجلاً أبيض اللون، حسن الوجه، طيّب الريح، حسن الثياب قد وليني، وأرى الأسود قد تولّى عنّي، قال: أعد فأعاد، قال: ما ترى؟ قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني. ثمّ طفا (أي مات) على تلك الحال»[418].
تأمّل في هذا الحديث جيداً، واُنظر كم هو أثر العقوق فمع أنّ هذا الشاب كان من الصحابة وأنّ نبيّ الرحمة’ قد عاده زائراً وجلس عند وسادته، ولقّنه بنفسه الشريفة كلمة الشهادة، ومع كلّ ذلك فلم يتمكّن على النطق بتلك الكلمة إلّا بعدما رضيت عنه أُمّه، وحينئذٍ انطلق لسانه، فقال كلمة الشهادة.
قَالَ نبيُّ الله مُوسَى×: «إِلَهِي فَمَا جَزَاءُ مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ؟ قَالَ: يَا مُوسَى أُنْسِي لَهُ أَجَلَهُ، وَأُهَوِّنُ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَيُنَادِيهِ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ هَلُمَّ إِلَيْنَا فَادْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِهَا شِئْتَ»[419].
الثالث: مَن كسى أخاه المؤمن كسوة
فعن أبي عَبْدِ الله× قال: «مَنْ كَسَا أَخَاهُ كِسْوَةَ شِتَاءٍ أَوْ صَيْفٍ كَانَ حَقّاً عَلَى الله أَنْ يَكْسُوَهُ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ، وَأَنْ يُهَوِّنَ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَأَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ، وَأَنْ يَلْقَى الْمَلَائِكَةَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ بِالْبُشْرَى، وَهُوَ قَوْلُ الله تعالى فِي كِتَابِهِ: (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[420][421].
فقد روي عن الرسول الأكرم’ أنّه قال: «مَن أطعم أخاه حلاوةً أذهب الله عنه مرارةَ الموت»[422].
الخامس: قراءة سورة الزلزلة ويس والصافات
فعن الإمام الصادق× أنّه قال: «لا تملّوا من قراءة (إذا زُلزلت الأرض زلزالها) فإنّه مَن كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه الله تعالى بزلزلة أبداً، ولم يمت بها، ولا بصاعقة، ولا بآفة من آفات الدنيا، حتى إذا مات نزل عليه مَلَكٌ كريم من عند ربّه فيقعد عند رأسه، فيقول: يا ملك الموت أرفق بوَلي الله؛ فإنّه كان كثيراً ما يذكرني»[423].
وفي قراءة الصافات تعجيلاً لراحته، وقراءة سورة يس من المستحبّات المشهورة والمعروفة، وفي الرواية أنّ أبا الحسن الكاظم× قال لابنه القاسم: «قم يا بني، فاقرأ عند رأس أخيك (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا)حتى تستَتِمَّها. فقرأ فلمّا بلغ (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا)، قضى الفتى فلمّا سُجّي وخرجوا أقبل عليه يعقوب بن جعفر، فقال له: كنَّا نعهد الميت إذا نزل به الموت يقرأ عنده (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ)، فصـرت تأمرنا بالصافّات، فقال: يا بني، لم تُقرأ عند مكروبٍ من موتٍ قط إلّا عجَّل اللهُ راحته»[424].
قال النّبِيّ’: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ احْتِسَاباً إِلَّا أَوْجَبَ الله لَهُ سَبْعَ خِصَالٍ أَوَّلُهَا يَذُوبُ الْحَرَامَ فِي جَسَدِهِ، وَالثَّانِيَةُ يَقْرُبُ مِنْ رَحْمَةِ الله، وَالثَّالِثَةُ يَكُونُ قَدْ كَفَّرَ خَطِيئَةَ أَبِيهِ آدَمَ، وَالرَّابِعَةُ يُهَوِّنُ الله عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَالْخَامِسَةُ أَمَانٌ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالسَّادِسَةُ يُعْطِيهِ الله بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ، وَالسَّابِعَةُ يُطْعِمُهُ الله مِنْ ثَمَرَاتِ الْجَنَّةِ»[425].
السابع: تعليم الجاهلين حجّتهم وعقائدهم
فعن رَسُولُ اللَّهِ’ أنّه قال: «مَنْ أَعَانَ ضَعِيفاً فِي بَدَنِهِ عَلَى أَمْرِهِ أَعَانَهُ الله عَلَى أَمْرِهِ، وَنَصَبَ لَهُ فِي الْقِيَامَةِ مَلَائِكَةً يُعِينُونَهُ عَلَى قَطْعِ تِلْكَ الْأَهْوَالِ، وَعُبُورِ تِلْكَ الْخَنَادِقِ مِنَ النَّارِ، حَتَّى لَا يُصِيبَهُ مِنْ دُخَانِهَا، وَعَلَى سُمُومِهَا، وَعَلَى عُبُورِ الصِّرَاطِ إِلَى الْجَنَّةِ سَالِماً آمِناً، وَمَنْ أَعَانَ ضَعِيفاً فِي فَهْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ فَلَقَّنَهُ حُجَّتَهُ عَلَى خَصْمِ الدِّينِ طُلَّابِ الْبَاطِلِ أَعَانَهُ الله عِنْدَ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالْإِقْرَارِ بِمَا يَتَّصِلُ بِهِمَا، وَالِاعْتِقَادِ لَهُ حَتَّى يَكُونَ خُرُوجُهُ مِنَ الدُّنْيَا وَرُجُوعُهُ إِلَى الله عَلَى أَفْضَلِ أَعْمَالِهِ وَأَجَلِّ أَحْوَالِهِ، فَيحْيَا عِنْدَ ذَلِكَ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَيُبَشَّرُ بِأَنَّ رَبَّهُ عَنْهُ رَاضٍ، وَعَلَيْهِ غَيْرُ غَضْبَانَ»[426].
فقد روي عن سالم، أنّه قال: «دخلت على الصادق جعفر بن محمّد (سلام الله عليهما) في رجب، وقد بقيت منه أيّام، فلمّا نظر إليّ قال لي: يا سالم، هل صمت في هذا الشهر شيئاً؟ قلت: لا والله يابن رسول الله، فقال لي: لقد فاتك من الثواب ما لا يعلم مبلغه إلّا الله ، إنّ هذا شهر قد فضّله الله وعظّم حرمته، وأوجب للصائم فيه كرامته. قال: قلت: يا بن رسول الله، فإن صمت ممّا بقي شيئاً هل أنال فوزاً ببعض ثواب الصائمين فيه؟ فقال: يا سالم مَن صام يوماً من آخر الشهر كان ذلك أماناً له من شدّة سكرات الموت، وأماناً له من هول المطلع وعذاب القبر، ومَن صام يومين من آخر هذا الشهر كان له بذلك جواز على الصراط، ومَن صام ثلاثة أيّام من آخر الشهر أمن يوم الفزع الأكبر من أهواله وشدائده، وأُعطي براءة من النار»[427].
التاسع: الجزع على أهل البيت^ عموماً والحسين× خصوصاً
فعن مِسْمَعٍ كِرْدِينٍ قال: «قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله: يَا مِسْمَعُ، أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَمَا تَأْتِي قَبْرَ الْحُسَيْنِ؟ قُلْتُ: لا، أَنَا رَجُلٌ مَشْهُورٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَعِنْدَنَا مَنْ يَتْبَعُ هَوَى هَذَا الْخَلِيفَةِ وَأَعْدَاؤُنَا كَثِيرَةٌ مِنْ أَهْلِ القَبَائِلِ مِنَ النُّصَّابِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَسْتُ آمَنُهُمْ أَنْ يَرْفَعُوا عَلَيَّ حَالِي عِنْدَ وُلْدِ سُلَيْمَانَ فَيُمَثِّلُونَ عَلَيَّ! قَالَ لِي: أَفَمَا تَذْكُرُ مَا صُنِعَ بِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى! قَالَ: فَتَجْزَعُ؟ قُلْتُ: إِي وَاللهِ، وَأَسْتَعْبِرُ لِذَلِكَ حَتَّى يَرَى أَهْلِي أَثَرَ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَأَمْتَنِعُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَسْتَبِينَ ذَلِكَ فِي وَجْهِي. قَالَ: رَحِمَ الله دَمْعَتَكَ، أَمَا إِنَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ فِي أَهْلِ الْجَزَعِ لَنَا، وَالَّذِينَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، وَيَخَافُونَ لِخَوْفِنَا، وَيَأْمَنُونَ إِذَا أَمِنَّا أَمَا إِنَّكَ سَتَرَى عِنْدَ مَوْتِكَ وَحُضُورِ آبَائِي لَكَ وَوَصِيَّتِهِمْ مَلَكَ الْمَوْتِ بِكَ وَمَا يَلْقَوْنَكَ بِهِ مِنَ الْبِشَارَةِ مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنَكَ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَمَلَكُ الْمَوْتِ أَرَقُّ عَلَيْكَ وَأَشَدُّ رَحْمَةً لَكَ مِنَ الْأُمِّ الشَّفِيقَةِ عَلَى وَلَدِهَا. قَالَ: ثُمَّ اسْتَعْبَرَ وَاسْتَعْبَرْتُ مَعَهُ»[428].
الجزع على الإمام الحسين× لايعرف قيمته إلاّ المعصومون^
فقد روى الشيخ الصدوق& في الخصال، وفي عيون أخبار الرضا، عن ابن عبدوس، عن ابن قتيبة، عن الفضل قال: «سمعت الرضا× يقول: لمّا أمر الله ، إبراهيم× أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبشَ الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده عليه بيده، فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب. فأوحى الله ، إليه: يا إبراهيم، مَن أحبّ خلقي إليك؟ فقال: يا ربّ، ما خلقتَ خلقاً هو أحب إليَّ من حبيبك محمد، فأوحى الله إليه: أفهو أحبّ إليك أَم نفسك؟ قال: بل هو أحب إليَّ من نفسي، قال: فولده أحب إليك أَم ولدك؟ قال: بل ولده، قال: بذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال: يا إبراهيم، فإنَّ طائفةً تزعم أنّها من أُمّة محمد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يذبح الكبش، ويستوجبون بذلك سخطي. فجزع إبراهيم لذلك وتوجّع قلبه وأقبل يبكي، فأوحى الله : يا إبراهيم، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل ـ لو ذبحته بيدك ـ بجزعك على الحسين وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، وذلك قول الله : (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)»[429].
وكلّ مؤمن يجزع ويبكي لمصاب أبي عبد الله×، مع أنّه لم يرَ ما جرى عليه، فكيف بمَن رآه، ولكن تبقى هنالك ميزة لأحد المؤمنين لم يشاركه فيها أحدٌ، سأنقل لك كلامه على شكل أبيات هي لسان حاله، ذلك هو الإمام زين العابدين×:
أنا الي صار بيه ما جرى بناس الجسد والراس صارلك مجانين |
***
المحاضرة العشرون: كيف نثقل ميزانَنا
قال تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)[430].
الميزان عندنا نحن البشر في كثيرٍ من الأحيان هو العاطفة والميل للأشخاص، حتى ولو كان على حساب الدين، وهذا بلا شك ميزانٌ خاطئٌ، بل هو في الحقيقة ليس بميزانٍ أصلاً، والبعض من الناس يجعل ميزانه أهلَه وذويه من أقربائه، لذا نجد أنّ القرآن الكريم ينبّه على ذلك، حيث يقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)[431].
وقال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[432]، ويؤيّدُه الأخبارُ الكثيرةُ المرويّة عن النبي الأكرم’ وأهلِ بيتهِ^، فعن إمامنا الصادق× أنّه قال: «وقع بين سلمان الفارسي& وبين رجلٍ خصومة، فقال الرجل لسلمان: مَن أنت؟ وما أنت؟ فقال سلمان: أمّا أوّلي وأولك فنطفة قذرة، وأمّا آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ونُصبت الموازين فمَن ثقُلت موازينُه فهو الكريم، ومَن خفّت موازينُه فهو اللئيم»[433].
الموازين: جمع (ميزان)، وهو وسيلة للقياس، إنّ الميزان لا يعني ما نعرفه في هـــذه الدنيا لوزن المواد، إنّ الميزان في هذه الآية يعني وسيلة ملائمة لقياس قيمة أعمال الإنسان، أي: للميزان مفهوم واسع يشمل جميع وسائل القياس، وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنّه ميزان تُقاس به الأعمال والناس، ويمكن أن يكون الأنبياء والأوصياء مقياس لأعمال أُممهم التي يُبعثون إليها لتطبيق الأحكام والقوانين الإلهية، وعلى هذا فإنّ الرسل وأوصياءهم هم الذين يُقاس الناس وأعمالهم بهم، ليتبيَّن إلى أي درجة يشبهونه؟
وبهذا يتميّز الناس ثقيلهم من خفيفهم، وثمينهم من تافههم، وعالمهم من جاهلهم. كما يتّضح لنا سرُّ ذكر الموازين بصيغة الجمع، لأنّ قادة الناس الكبار في السابق ـ وهم موازين القياس ـ قد تعدّدوا في التاريخ، ويمكن أن يكون الأنبياء والأئمّة^، وعباد الله المخلصون قدوة في مجال معين أو أكثر على وفق الظروف التي مرّوا بها، فاشتهروا ببعض الصفات دون أُخرى، فواحدهم ميزان بما اشتهر به من حسنات وخصال حميدة. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ)، وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح، فوزنهم خفيف يوم القيامة، لأنّهم خسروا رأس مال وجودهم، (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)[434][435].
«إنّما جمع الموازين لأنّه يجوز أن يكون لكلّ نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان، ويجوز أن يكون كلّ ميزان صنفاً من أصناف أعماله، ويؤيد هذا ما جاء في الخبر، إنّ الصلاة ميزان، فمَن وفى استوفى... وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان، ولأفعال الجوارح ميزان، ولما يتعلّق بالقول ميزان آخر»[436].
إنّ من البديهي أنّ المراد من الخفّة والثقل في الموازين ليس هو خفّة وثقل نفس الميزان، بل قيمة ووزن الأشياء التي توزن بواسطة تلك الموازين، وتُقاس بتلك المقاييس. ثمّ إنّ في التعبير بجملة (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)، إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هؤلاء قد أُصيبوا بأكبر الخسارات؛ لأنّ الإنسان قد يخسر ماله، أو منصبه، ولكنّه قد يخسر أصل وجوده من دون أن يحصل على شيء في مقابل ذلك، وتلك هي الخسارة الكبرى، والضرر الأعظم.
إنّ في التعبير بـ (كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) في آخر الآية إشارة إلى أنّ مثل هؤلاء لم يظلموا أنفسهم فحسب، بل ظلموا البرامج الإلهية الهادفة؛ لأنّ هذه البرامج كان ينبغي أن تكون سبلاً للهداية ووسائل للنجاة، ولو أنّ أحداً تجاهلها، ولم يكترث بها، فلم يحصل منها هذا الأثر، كان ظالماً لها، وقد جاء في بعض الروايات والأخبار أنّ المراد من الآيات هنا هم أئمّة الهدى^، على أنّ هذا النمط من التفسير لا يعني حصـر مفهوم الآية فيهم، بل هم المصاديق الأتمّ والأظهر للآيات الإلهية. هذا، وفسر بعض المفسِّرين الظلم في الآية بالكفر والإنكار، وهذا المعنى ليس بعيداً عن مفهوم الظلم[437].
ولا شك ولا شبهة في أنّ الذي يثقل ميزانه فمصيره الى الجنّة، ومَن تخفّ موازينه مصيره إلى النار، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ)[438].
قد يعسر على أحدنا أن يحيط علماً بكلّ ما يثقل الميزان، ولكن يمكن القول أنّ أكثر ما يثقل ميزان الإنسان هي أُمور أربعة:
الأوّل: محبّة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×
محبّة أهل البيت^ عموماً وأمير المؤمنين× على نحو الخصوص ممّا يثقل ميزان العبد، وهي بعد فريضة واجبة كما نطقت به الروايات عند الفريقين، فقد روى الخطيب الخوارزمي بسنده عن جابر، قال: «قال رسول الله’: جاءني جبرئيل من عند الله بورقة آس خضراء مكتوب فيها ببياض: إنّي افترضت محبّة علي بن أبي طالب على خلقي عامّة، فبلِّغهم ذلك عنّي»[439].
الثاني: الصلاة على مُحمّدٍ وآلِ مُحمّدٍ
فقد روى الشيخ الكليني& بسند معتبر، عن الإمام محمد الباقر أو الإمام الصادق÷، قال: «ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على مُحمّدٍ وآلِ مُحمّدٍ، وإنّ الرَّجُل لتوضع أعمالُه في الميزان فتميل به فيُخرِجُ’ الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيرجح به»[440].
وعن رسول الله’ أنّه قال: «أنا عندَ الميزانِ يومَ القيامةِ، فمَن ثقُلتْ سيئاتُه على حسناتِه جئتُ بالصَّلاة عليَّ حتى أثقلَ بها حسناتِه»[441].
الثالث: حُسنُ الخُلُق
وهو عبارة عن حالة تبعث على حسن معاشرة الناس ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة، كما عرّفه الإمام الصادق× حينما سُئل عن حدِّه، فقال: «تلين جناحك، وتطيِّب كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسن»[442].
وثواب الاتّصاف بهذه الخصلة عظيم، بل هي من الخصال المهمّة التي تثقل ميزان العبد يوم القيامة، كما روي عنهم^ أنّه: «ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة أفضل من حسن الخلق»[443].
وعن الرسول الأكرم’، أنّه قال: «أوّل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة حسن خلقه»[444].
ويكفي هذه الخصلة فخراً أنّ النبيَّ الأكرم’ جعله الله تبارك وتعالى لنا الميزان للأخلاق؛ حيث يقول: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[445]، والحال أنّ رسول الله’ هو أكمل خلق الله تعالى في جميع الصفات والخصال، لكنّ الله تبارك وتعالى ما أثنى عليه بصفةٍ كما أثنى عليه بحسن الخلق.
وحسن خلق يوسف الصدِّيق واحدٌ من أمثلة الخُلُق الكريم، من المناسب ذكرها هنا، والرواية هي: «إنّ إخوته لمـّا عرفوه أرسلوا إليه: إنّك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية، ونحن نستحيي منك لما فرط منّا فيك. فقال يوسف: إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنّهم ينظرون إليّ بالعين الأولى، ويقولون: سبحان مَن بلغ عبداً بِيع بعشـرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون؛ حيث علم الناس أنّكم إخوتي وأنّي من حفدة إبراهيم»[446].
وروي أيضاً أنّه لـمّا اجتمع يعقوب مع يوسف÷ قال: «يا بني، حدِّثني بخبرك؟ فقال له: يا أبت، لا تسألني عمّا فعل بي إخوتي، واسألني عمّا فعل الله بي»[447].
ونحن سائر البشر نحتاج إلى الموعظة النافعة غدواً وعشياً، ويناسب هنا نقل كلام من راهبٍ عظيم الشأن، وهو ما نُقل عن قاسم الزاهد، قال: «رأيت راهباً على باب بيت المقدس كالولهان لا يرقأ له دمع، فهالني أمره، فقلت: يا أيّها الراهب، أوصني وصية أحفظها عنك! فقال: كن كرجل احتوشته السباع والهوام، فهو خائف مذعور، يخاف أن يسهو فتفترسه، أو يلهو فتنهشه، فليله ليل مخافة إذا أمن فيه المغترون، ونهاره نهار حزن إذا فرح فيه البطّالون. ثمّ ولّى وتركني! فقلت: لو زدتني شيئاً عسى الله أن ينفعني به، فقال: يا هذا، إنّ الظمآن يكفيه من الماء أيسره»[448].
الرابع: سقاية الماء
وممّا يثقل ميزان العبد يوم القيامة سقاية الماء، فعن أبي عبد الله الصادق×، أنّه قال: «مَن سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمَن أعتق رقبةً، ومَن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمَن أحيا نفساً، ومَن أحيا نفساً فكأنّما أحيا الناس جميعاً»[449]، وعنه× عن جدّه أمير المؤمنين×، أنّه قال: «أوّل ما يبدء به في الآخرة صدقة الماء، يعني في الأجر»[450].
وروي عن ابن عباس، أنّه قال: «قال لي النبيّ’: رأيتُ فيما يرى النائم عمّي حمزة بن عبد المطلب وأخي [جعفر] بن أبي طالب وبين أيديهما طبق من نبق، فأكلا ساعةً فتحوّل النبق عنباً، فأكلا ساعةً فتحوّل العنب لهما رطباً، فأكلا ساعةً، فدنوت منهما فقلت لهما: بأبي أنتما، أي الأعمال وجدتما أفضل؟ قالا: فديناك بالآباء والأُمّهات، وجدنا أفضل الأعمال الصلاة عليك، وسقي الماء، وحبّ علي بن أبي طالب×»[451].
وقد ضرب أهلُ البيت^ أروعَ الأمثلة في كلّ ما يُثقل الميزان بأفعالهم وأقوالهم حتى أنّ العدوَّ اعترف بذلك قبل المحبّ والصديق؛ ولذا يعترف الوليد والي المدينة أمام مروان عندما طلب مروان (لعنه الله) منه قتلَ الإمام الحسين× فقال الوليد: «يا مروان، إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحبّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأنّي قتلت حسيناً، سبحان الله! أقتل حسيناً أن قال لا أبايع؟! والله، إنّي لأظنّ أنّ امرءاً يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت؟ يقول هذا وهو غير الحامد له في رأيه»[452].
اُنظر إلى لطف وحنان أبيّ الضيم على هؤلاء الجمع في تلك الصحراء المقفرة التي تعزُّ فيها الجرعة الواحدة من الماء، وهو عالمٌ بحراجة الموقف ونفاد الماء، وأنّ غداً دونه تسيل الدماء وتسقط دونه الرؤوس وتزهق الأرواح، ولكن خُلُق النبوّة والإمامة لم يتركا له إلّا أن يجود بالفضل كما جاد جدّه رسول الله’ حين قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وكما جاد أبوه عليٌّ× يوم منعه معاوية بن أبي سفيان حين استولى على الماء يوم صفِّين، كذلك جاد سيّد الشهداء× وعلى مَن؟! على قومٍ أقدموا لقتاله، سقاهم× بكفّه وأنامله، لكن قطع القومُ كفَّه وأناملَه! الله أكبر أيُّ أعداءٍ كانوا؟!
ولذا يصف شاعر أهل البيت^ السيد محمد الكشميري& موقف سيِّد الشهداء× مع أعدائه ومحبّيه بهذين البيتين:
سقيت عداكَ الماء منكَ تحننــاً |
***
المحاضرة الحادية والعشرون: العلم اللّدنّي والعلم المستفاد
قال تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)[454].
لا يختلف اثنان من العقلاء في هذا الكون كلّه في أهمّية العلم بكلّ أنواعه وأصنافه، سواء كان علم الشريعة أم علم الهندسة أو علوم الحياة الباقية، حتى روي عن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «كفى العلم شرفاً أن يدعيّه مَن لا يحسنه، ويفرح إذا نُسب إليه مَن ليس من أهله، وكفى بالجهل خمولاً أن يتبرأ منه مَن هو فيه، ويغضب إذا نسب إليه»[455].
فكلّ إنسان تصفه بالعلم تجده يفرح ولو كان لم يعرف من العلم شيئاً، وكلّ إنسان يحزن إذا وصفته بأنّه جاهل غير عالم، ولو كان من أجهل الناس، وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على حسن العلم لذاته، وقبح الجهل لذاته.
لذا صار همّ عقلاء الناس أن يطلبوا العلم، كلٌّ بحسب النية التي في داخله، فمنهم مَن طلبه للجاه ومنهم مَن طلبه للمال، ومنهم مَن طلبه للمماراة، ومنهم مَن طلبه لله تبارك وتعالى، أي لأجل أن يرفع به الجهل عن نفسه وعن غيره، أمّا الذين طلبوه لغير الله فقد حذّرتهم الشريعة أيّما تحذير، فعن إمامنا الباقر×، أنّه قال: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِه الْعُلَمَاءَ، أَوْ يُمَارِيَ بِه السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِه وُجُوه النَّاسِ إِلَيْه، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ، إِنَّ الرِّئَاسَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لأَهْلِهَا»[456].
وينقسم هذا العلم من جهة تحصيله إلى قسمين:
القسم الأوّل: العلم اللّدنّي
العلم اللّدنّي: هو العلم الذي ينفتح في سرّ العالِـم من غير سبب مألوف من خارج[457]، ولعلّه لهذا تشير الرواية: «ليس العلم بكثرة التعلّم، إنّما هو نور يقذفه الله في قلب مَن يريد الله أن يهديه»[458]، وهو العلم الذي عند الأئمّة^، كما نقل السيِّد ابن طاووس&عن الغزالي في رسالة العلم اللّدنّي قال: «قال: ما هذا لفظه: وقال أمير المؤمنين×: إنّ رسول الله’ أدخل لسانه في فمي فانفتح في قلبي ألف باب من العلم، وفتح لي كلّ باب ألف باب، وقال أيضاً: لو ثُنيت لي الوسادة وجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الفرقان بفرقانهم. وهذه المرتبة لا تنال بمجرّد التعلّم، بل يتمكّن المرء في هذه المرتبة بقوّة العلم اللّدنّي»[459]، وهو العلم الذي أشارت إليه الآية المباركة: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا)، فالخضر× كان ممّن عُلِّم العلم اللّدنّي، حتى صار كلّ مَن يريد أن يدّعي ذلك يقول أخذته من الخضر×، حتى قد أولع كثيرٌ ممّن ينتمي إلى الصلاح بادّعاء هذا العلم، وأنّه يُلقى في روع الصالح منهم شيء من ذلك، حتى يخبر بأنّ مَن كان من أصحابه هو من أهل الجنّة على سبيل القطع، وأنّ بعضهم يرى الخضر×.
وكان قاضي القضاة أبو الفتح محمد بن عليّ بن مطيع القشيري، المعروف بابن دقيق العيد يخبر عن شيخ له أنّه رأى الخضر وحدّثه، فقيل له: مَن أعلمه أنّه الخضر؟ ومن أين عرف ذلك؟ فسكت[460].
القسم الثاني: العلم المستفاد (المكتسب)
وهو العلم الذي يُحكم بالأسباب الظاهرية، ويُتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة[461]، وهو يحصل عند الأئمّة^ أيضاً، كما روى لنا الصفّار عن المفضل، قال: «قال لي أبو عبد الله× ذات يوم ـ وكان لا يكنّيني قبل ذلك ـ: يا أبا عبد الله، فقلت: لبيّك جُعلت فداك، قال: إنّ لنا في كلّ ليلة جمعة سروراً، قلت: زادك الله، وما ذاك؟ قال: إنّه إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله’ العرش ووافى الأئمّة معه، ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلّا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لنفد ما عندنا»[462]. وهو نفسه العلم الذي يريد نبيّ الله موسى× أن يتعلّمه من الخضر×، كما أشارت إليه الآية المباركة: (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)[463].
وفي الحوار بين الخضر وموسى÷ جملة من الآداب العالية التي استعملها كليم الله موسى× مع الخضر×؛ لكي يحصل على شيءٍ من علمه لأجل الهدى والرشاد، حتى يرى الشهيد الثاني& أنّه لو أردنا استقصاء هذه الآداب لطلب منّا ذلك وضع رسالة، واكتفى بذكر البعض منها، وهو ما يستفاد فقط من الآية التي هي محل البحث، فقال الشهيد السعيد+: «إنّ الخضر× علم أولاً أنّه نبي بني إسرائيل، موسى× صاحب التوراة الذي كلَّمه الله بغير واسطة، وخصّه بالمعجزات، وقد أتى ـ مع هذا المنصب ـ بهذا التواضع العظيم بأعظم أبواب المبالغة، فدلَّ على أنّ هذا هو الأليق؛ لأنّ مَن كانت إحاطته بالعلوم أكثر، كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فيشتدّ طلبه لها، ويكون تعظيمه لأهل العلم أكمل. ثمّ مع هذه المعرفة من الخضر× وهذه الغاية من الأدب والتواضع من موسى× أجابه بجوابٍ رفيع وكلامٍ منيع، مشتمل على العظمة والقوّة، وعدم الأدب مع موسى×، بل وصفه بالعجز وعدم الصبر، بقوله: (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) [464].
الرحلة العجيبة بين موسى والعالِم÷
ثمّ بعد هذا الطالب المملوء بالتواضع من موسى للخضر÷ أجابه الخضـر× بهذا الجواب ـ كما حكى لنا القرآن الكريم ذلك ـ (ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ). وبدأت الرحلة الشاقّة التي ابتدأها العالم (الخضر)× بخرق السفينة، ثمّ قتل الغلام البريء بحسب الظاهر، وإقامة الجدار لـمَن ليس أهلاً للمساعدة والمعونة، وهي أشياء لا يسكت عنها المصلحون، إذا لم يعرفوا عللها؛ لذا جاء قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)، ومن الطبيعي أنّ الأنبياء والأوصياء، بل مطلق المؤمنين لا يقبلون الحيف والظلم، فكيف يتسنّى للنبيّ موسى×، وهو كليم الله أن يغضَّ النظر عن هذه الظلامات الظاهريّة التي ألحقها بأهل السفينة وقتل النفس، وهو المبعوث لرفع الحيف والجور! فهنا بدأت الأسئلة من النبيّ موسى× للخضـر، فأجابه الخضر× بما يرفع عنه التعجّب والاستنكار.
وقد يسأل سائلٌ كيف يمكن أن يكون الخضر هو الحجّة على النبيّ موسى× وهو حجّة الله تبارك وتعالى؟
والجواب: إنّ هذا السؤال طُرِح على الإمام الرضا× في زمانه، كما وروى العلّامة المجلسي& أنّه اختلف يونس وهشام بن إبراهيم في العالم الذي أتاه موسى× أيُّهما كان أعلم؟ وهل يجوز أن يكون على موسى حجّة في وقته وهو حجّة الله على خلقه؟ فقال قاسم الصيقل: فكتبوا إلى أبي الحسن الرضا× يسألونه عن ذلك، فكتب في الجواب: «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إمّا جالساً وإمّا متكئاً، فسلّم عليه موسى، فأنكر السلام؛ إذ كان بأرض ليس بها سلام، فقال: مَن أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران، قال: أنت موسى بن عمران الذي كلّمه الله تكليماً؟ قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلّمني ممّا عُلِّمت رشداً. قال: إنّي وُكِّلتُ بأمر لا تطيقه، ووُكِّلتَ بأمر لا أطيقه. ثمّ حدّثه العالم بما يصيب آل محمد من البلاء حتى اشتدَّ بكاؤهما، ثمّ حدَّثه عن فضل آل محمّد حتى جعل موسى يقول: يا ليتني كنت من آل محمّد...»[465].
فنبيّ الله موسى× يتمنّى أن يكون من آل محمّدٍ، ولكنْ قومٌ يدّعون أنّهم من أُمّته’ ماذا صنعوا بآل محمّد^؟ تعال واستمع إلى ما يقوله الشاعر:
تبّاً
لهم من أُمّــةٍ لـم يحفظوا |
***
المحاضرة الثانية والعشرون: طلب الهداية للصراط
قال تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)[467].
هناك طرق إلهية عديدة رسمها لنا الباري للوصول إلى هدايته، منها الدعاء وفي هاتين الآيتين الشريفتين يلقننا الهداية إلى صراطه المستقيم، أفلا ينبغي لنا أن نتعرّف على هذاالصراط المستقيم الذي نسأل الله أن يهدينا إليه، أوَ ما دعانا الفضول الذي لاينفكّ عنّا أن يدعونا للسؤالعن هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، فصار الصراط المستقيم صراطهم؟ وسؤاله من الله هو عين السؤالفي الكون معهم. أوَ لم نؤمر في التدبّر في قراءة القرآن والسؤال من أهل الذكر عمّا نجهله؟! أوَ لم يقل الله تبارك وتعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[468]؟! أوَ لم يقل: (ﭙ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[469]؟!
الهداية في اللغة قال عنها صاحب لسان العرب: «... وهوادي الخيل: أعناقها؛ لأنّها أوّل شيء من أجسادها، وقد تكون الهوادي أوّل رعيل يطلع منها لأنّها المتقدّمة، ويُقال: قد هَدَت تَهْدي إذا تقدّمت... وقد يكون إنّما سمّى العصا هادياً لأنّه يمسكها فهي تهديه تتقدّمه، وقد يكون من الهداية لأنّها تدلّه على الطريق، وكذلك الدليل يسمّى هادياً لأنّه يتقدّم القوم ويتبعونه، ويكون أن يهديهم للطريق»[470]. وهذا المعنى هو نفس المعنى الاصطلاحي الذي نطلبه وهو أن نسير خلف مَن يتقدّمنا ونحن نتّبعه، وهذا الذي يتقدّمنا قد أنعم الله عليه من قَبل فهداه من قبلنا، وأمرنا الله تبارك وتعالى أن نطلب الهداية لنكون معه.
وأمّا الصراط المستقيم الذي سألنا الله أن يهدينا إليه، ويأخذ بأيدينا صوبه، فهو الطريق المؤدّي الى الجنّة، فنحن لم نسأل الله أيّ صراط، بل سألناه صراطاً خاصاً، وهو الصراط المستقيم، وإلّا فهناك صراط آخر ذكره القرآن الكريم يقع في النقطة المقابلة للصراط الذي سألناه، وهذا الصراط هو صراط الجحيم.
قال تعالى: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ)[471]، أمّا ما نسأله نحن فهو الذي يهدي إليه الرسول الخاتم محمّد’، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[472]، وهو نفسه الذي يأمر الله رسوله’ ببيانه في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[473]، وغيرها من الآيات الشريفة، فإذا تبيّن الصراط المستقيم الذي نطلبه صار لزاماً علينا أن نتعرّف على أصحاب هذا الصراط، الذين أنعم الله عليهم بالهداية إليه، ووفقهم بأن يكونوا مضرب الأمثال وهداة الجبار.
هناك مجموعة من الناس لا شكّ بأنّهم محل عناية الله تبارك وتعالى، هؤلاء حباهم الله بالهداية إلى الطيب من القول، وإلى الصراط المستقيم، قال تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)[474].
قد يقول قائل: إنّه ليس هناك مجموعة بعينها قد هداها الله لذلك، وإنّما كلّ البشر هم سواسية عند الله؛ لأنّ الله تبارك وتعالى صرّح بهذا المعنى الذي أشرنا إليه في قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[475]، إذن يوجد أُناس ممّن أنعم الله عليهم إذا امتثلنا أوامر السماء كنّا معهم وهؤلاء هم ـ حسب هذه الآية الشريفة ـ أربعة طوائف، هم: الأنبياء، والصدِّيقون، والشهداء، والصالحون.
فنحن في الحقيقة نطلب في قولنا: (اهدنا الصراط المستقيم) أن نكون مع هؤلاء، وهم نعم الرفيق وأحسن أنواع الصديق؛ لأنّ بهم النجاة الأبدية والسعادة السرمدية.
هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنّه صراط المشمولين بأنواع النعم، مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة، لا المشمولين بالغضب الإلهي بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادّة الحقّ والهدى:(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، ولأنّنا لسنا على معرفة تامّة بمعالم طريق الهداية، فإنّ الله تعالى يأمرنا في هذه الآية الكريمة أن نطلب منه هدايتنا إلى طريق الأنبياء والصالحين من عباده: (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)[476]، ويحذّرنا كذلك بأنّ أمامنا طريقين منحرفين، وهما طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، وبذلك يتبيّن للإنسان طريق الهداية بوضوح.
ولعلّ ذكر هذه المجاميع الأربع، إشارة إلى المراحل الأربع لبناء المجتمع الإنساني السالم المتطور المؤمن:
المرحلة الأُولى: مرحلة نهوض الأنبياء^ بدعوتهم الإلهية.
المرحلة الثانية: مرحلة نشاط الصدِّيقين، الذين تنسجم أقوالهم مع أفعالهم، لنشر الدعوة.
المرحلة الثالثة: مرحلة الكفاح بوجه العناصر المضادة الخبيثة في المجتمع، وفي هذه المرحلة يقدِّم الشهداء دمهم لإرواء شجرة التوحيد.
المرحلة الرابعة: هي مرحلة ظهور (الصالحين) في مجتمع طاهر ينعم بالقيم والمثل الإنسانية باعتباره نتيجة للمساعي والجهود المبذولة. نحن ـ إذن ـ في سورة الحمد نطلب من الله ـ صباحاً مساءاً ـ أن يجعلنا في خط هذه المجاميع الأربع: خطّ الأنبياء، وخط الصدِّيقين، وخط الشهداء، وخط الصالحين. ومن الواضح أنّ علينا أن ننهض في كلّ مرحلة زمنية بمسؤوليتنا ونؤدّي رسالتنا.
قال السيد الخوئي+: «فيه دلالة على وجود طريق مستقيم سلكه الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، ووجود طرق أُخرى غير مستقيمة سلكها المغضوب عليهم، من المعاندين للحقِّ، والمنكرين له بعد وضوحه، والضالون الذين ضلّوا طريق الهدى بجهلهم، وتقصيرهم في الفحص عنه، وفي اقتناعهم بما ورثوه من آثار آبائهم، فاتّبعوهم تقليداً على غير هدى من الله ولا برهان. والقارئ المتدبِّر لهذه الآية الكريمة يتذكّر ذلك فيحضر في ذهنه لزوم التأسّي بأولياء الله المقرّبين في أعمالهم، وأخلاقهم وعقائدهم، والتجنّب عن مسالك هؤلاء المتمردين الذين غضب الله عليهم بما فعلوا، والذين ضلّوا طريق الحقّ بعد اتّضاحه»[477].
وقال العلّامة الطباطبائي+: «وقد وصف تعالى الصراط بالاستقامة، ثمّ بيّن أنّه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سُئِل الهداية إليه، وهو بمعنى الغاية للعبادة، أي: أنّ العبد يسأل ربّه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط»[478].
مَن هم المغضوب عليهم والضالين؟
اختلف المفسّرون فيمَن هم (المغضوب عليهم) و(الضالين)، فهنا أقوال:
القول الأوّل: ما ذهب إليه الجمهور في أنّ المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، وجاء ذلك مفسّراً عن النبيّ’ في حديث عدي بن حاتم وقصّة إسلامه.
القول الثاني: إنّ (المغضوب عليهم) هم المشركون، و(الضالين) هم المنافقون.
القول الثالث: إنّ (المغضوب عليهم) باتّباع البدع، و(الضالين) عن سنن الهدى[479].
ومن خلال هذا العرض يتّضح أنّ أمام الإنسان ثلاث حالات:
الحالة الأُولى: حالة الاستقامة، ويكون فيها في موضع الرحمة والنعمة الإلهية، وفي طريق التكامل والصعود.
الحالة الثانية: حالة التمرّد على الله تبارك وتعالى، ويكون فيها في موضع الغضب الإلهي، وفي طريق التسافل والتنازل.
الحالة الثالثة: حالة التيه الذي لا يعرف معه الطريق المستقيم، وهل هو في صعود وتكامل، أم في حالة نزول وتسافل، وهذه الحالة هي حالة (الضلال). ومع أنّ لفظ (الضلال) يستخدم في كلّ حالات الخروج من الاعتدال إلّا أنّه في مثل هذه الآية المباركة استُخدم في حالات الخروج الأُخرى غير المتّصفة بالتمرّد والشدّة، بدليل قوله تعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، مستخدماً بذلك أُسلوب الترقّي في النفي، أي مجيء العموم المنفي (وَلَا الضَّالِّينَ