العتبة الحسينيةمؤسسة وارث الأنبياء
مخطوطة العتبة الحسينيةمخطوطة وارث الأنبياء
معين الخطباء - في حلته الجديدة - الجزء الرابع

معين الخطباء - في حلته الجديدة - الجزء الرابع

  • المؤلف: الشيخ كاظم البهادلي

  • الطبعة: الثانية

  • الناشر : مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

  • سنة الطبع: 1439هـ ـ 2018م

  • عدد الأجزاء: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أكرمنا بسيّد أنبيائهِ وأشرفِ أصفيائهِ، مُحمّدٍ والنُجباءِ من عترتهِ وأوصيائهِ، حججِ اللهِ في أرضهِ وسمائهِ، صلوات الله عليه وعليهم ما استنارت بحبهم قلوبُ أحبائهِ، وانشرحتْ بولائهم صدور أوليائه.

وبعد، هذا هو الجزء الرابع من كتابي (مُعين الخطباء.. في حلّته الجديدة).

المحاضرة الأُولى: حكمةُ الخَلقِ

قال اللهُ : ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [1].

إنّ الغاية من خلق السماوات والأرض، والعرش والكُرسي، وجميع المخلوقات هي المعرفة والعبادة، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[2]، والآيات في هذا المجال بالإضافة إلی الروايات عديدة، وهي خير دليل على عدم العبثية في الخلق، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ[3]، وقال: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [4].

وقال الإمام أميرُ المؤمنينَ×: «وعلموا أنَّ الدُنيا ليست لهم بدارٍ، فاستبدلوا؛ فإنَّ اللهَ سُبحانه لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سُدًى»[5].

 «العَبَث بالتحريك: اللعب، يُقالُ: عبث يعبث ـ من باب (علم) عبثاً بالتحريك ـ: لعب وعمل ما لا فائدة فيه، كمَن ينزف الماء من البحر إلى البحر عابث»[6].

فهل من المُمكن أن نُصدّق، بأنّ هدف الله تبارك وتعالى من خلقه هذا الخلق، بما فيه الإنسان الذي هو أكمل المخلوقات على الإطلاق، هل نُصدّق بأنّه خُلقَ لأجل أن يقضي عدداً من السنين وحسب، ويمرّ بكلّ مراحل الحياة ومضايقاتها وأتعابها ومشاقها وابتلائتها المرّة، وليأكل مقداراً من الطعام ويشرب مقداراً من الشراب، ويلبس وينام ثمَّ يموت، وينتهي كلّ شيء؟!

أليس هذا هو العبث بعينه، والذي هو خلاف حكمة الحكيم الصانع؟!

أفهل نُصدّق بأنّ هذه المجرّات والكواكب المدهشة للبشر كلّها مخلوقة لأجل غايات الإنسان الدنيئة هذه؟!

الجواب: كلا وألف كلا، إنَّ خلقه هذا الخلق بجميع شراشره إنّما هو مقدّمة لعالمٍ أوسع من عالمنا هذا، وهذا العالم هو الذي يمتاز بالدوام الخالد، وهو الذي يُعطي لحياتنا هذه معناها اللائق بها؛ كي لا تكون هي الغاية القصوى من الخلق، ويخلّص هذه الدنيا من إشكال التفاهة وعدم الهدفية[7].

والملفت للنظر أنَّ فطرة البشر وعقولهم تستنكر العبثية، لذا نبّهت الآية الشريفة إلى ذلك بهذا الإستفهام الإستنكاري والبيان البديع، ومن هنا قال بعض العلماء: «... فإنّه يدلّ على أنَّ العبث قبيح، وقبحه مستقرّ في العقول، ولذا أنكر عليهم إنكار منبه ليرجعوا إلى عقولهم، ومثله قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، ونحوه قوله تعالى: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ، وهذا أيضاً يدل على أن قبح ذلك مرتكز في العقول»[8].

فالخلاصة: أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الخلق عبثاً؛ وإلّا لما تميّز المطيع عن العاصي، والصدّيق من الزنديق، والصالح من الطالح.

قال بعض أعلام الطائفة: «فلو كان الإنسان مخلوقاً للحياة الحيوانية فقط لكان إعطاؤه العقل الذي لا يقتنع إلّا بإدراك أسرار الوجود لغواً، وخلقه على الفطرة التي لا تطمئن دون أية مرتبة من الكمال حتى يصل إلى مبدأ الكمال الذي ليس له حد عبثاً. فالحكمة الإلهية توجب أن لا تُختَم حياة الإنسان بالحياة الماديّة والحيوانية، بل تتواصل لتحقيق الهدف الذي خُلقت قوى عقله وروحه من أجله»[9].

ولو رجعنا للآية محل البحث، وجدنا أنَّ أُسلوبها أُسلوب الإستفهام الاستنكاري، وليس سؤالاً فحسب، بل هو توبيخٌ عظيمٌ للإنسان الذي يؤتى به يوم القيامة، وهو يحمل أوزاراً على ظهره، فيقول له الباري : أحسبت أنَّ الأمر انتهى في الحياة الدنيا، ولا رجوعَ إلی عالم آخر تحاسب فيه عن كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، وكلّ عمل عملته لم يكن من ورائه إلّا ضرر البشرية، بل الخلق جميعه، وإن تدّعي الجهل فستُحاسب حتى عن جهلك.

قال بعض الأكابر: «رذالة الجاهل، وعدم اعتباره، وسفالة حاله، ممّا دلّ عليه كثير من الآيات الكريمة، والروايات الصحيحة، وسرّ ذلك: أنّ المقصود من خلق الإنسان ليس ذاته من حيث هو، بل العلم بالأسرار الإلهية، والأحكام الربّانية، وتنوير القلب بالإشراقات اللاهوتية، والمكاشفات الملكوتية، ثمَّ سلوك طريق العمل بنور الهداية، والاجتناب عن سبيل الضلالة والغواية، والجاهل بمعزل عن هذا المرام، وبعيد عن هذا المقام، وفي كلام الحكماء المتقدّمين والمتأخّرين أيضاً دلالة على أنَّ الشَّرف والتقدّم للعالم.

 قال افلاطون: المستحقّون للتقديم هم العارفون بالنواميس الإلهية، وأصحاب القوى العظيمة الفائقة.

 وقال أرسطاطاليس: المستحقّون للتقديم هم الذين عناية الله بهم أكثر.

وقال المحقّق الطوسي: كلّ اثنين بينهما اشتراك في علمٍ واحدٍ، وأحدهما أكمل فيه من الآخر فهو رئيس له، ومُقدَّمٌ عليه، وينبغي للآخر الإطاعة والانقياد له؛ ليتوجّه إلى كمالٍ لائقٍ به، وهكذا يتدرجون إلى أن ينتهوا إلى شخصٍ هو المُطاع المطلق، ومقتدى الأُمم كلّهم بالإستحقاق والملك على الإطلاق، ولا نعني بالملك في هذا المقام مَن له خيل وحشم، وتصرّف في البلاد، واستيلاء على العباد، بل نعني أنّه المستحقّ للملك في الحقيقة، وإن لم يلتفت إليه أحد بحسب الظاهر، وإذا تقدّم عليه غيره كان غاصباً جائراً، ويوجب ذلك فشو الجور في العالم وفساد نظامه»[10].

ثمَّ قالت الآية: ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، والمقصود من الرجوع إليه : هو الوقوف بين يديه حيث لا مالك ولا حاكم سواه عزّ اسمه.

والمعنى الإجمالي للآية: «أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث. نعم، فإنَّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها، ويكون لها مفهومٌ ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عندما تعتبر: (الدنيا مزرعة للآخرة)، و(الدنيا قنطرة)ومكان تعلّم، وجامعة للاستعداد للعالم الآخر، ومتجر لذلك العالم، تماماً كما يقول أمير المؤمنين علي× في كلماته العميقة المعنى: إنَّ الدنيا دار صدق لمَن صدّقها، ودار عاقبة لمَن فهم عنها، ودار غنى لمَن تزوّد منها، ودار موعظة لمَن اتّعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله.

خلاصة القول: إنَّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الاعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون»[11].

المعنى الأول لفهم الدنيا

 ليس المراد من عدم اعتبار الدنيا هي الهدف من الخلق، أن تترك أبداً، بل المقصود هو الإشارة إلى كيفيّة استثمار هذه الحياة؛ لتكون ممرّاً إلى ذلك المقرّ، فإنّ الحياة الدنيا والنشأة فيها لم تكن مذمومة، ولا ينبغي معاداتها، وإنّما المذموم هو الاعتماد الكلّي على الدنيا، مع طول الأمل ونسيان الموت، فيؤخِر الأعمال الصالحة لذلك، وبه يكون قد سوّف التوبة، وعمل كلَّ قبيح، أو جمع الأموال الطائلة، وبنى القصور الرفيعة، ووفّر سائر الأُمور الكمالية، معتمداً على هذا العمر الفاني بتسويلات الشيطان، فتحصل الغفلة عمّا ينفع في الآخرة، ويفني عمره في تحصيل الاعتبارات الفانية، ويكره الموت حينئذٍ؛ لتعلقه بالأموال والأولاد، وسائر ما يملكه، ويريد البقاء في الدنيا للتمتع بهذه الأسباب، كما روي هذا المعنى عن أبي عبد الله× قال: «جاء رجلٌ إلى أبي ذر فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمّرتم الدنيا وأخربتم الآخرة فتكرهون أن تُنقَلوا من عُمران إلى خراب، فقال له: فكيف ترى قدومنا على الله؟ فقال: أمّا المُحسن منكم، فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء منكم، فكالآبق يرد على مولاه، قال: فكيف ترى حالنا عند الله؟ قال: اعرضوا أعمالكم على الكتاب، إنَّ الله يقول: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ، قال: فقال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريبٌ من المُحسنين، قال: أبو عبد الله×: وكتب رجل إلى أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ يا أبا ذر أطرفني بشيءٍ من العلم، فكتب إليه: العلم كثير، ولكن إن قدرت أن لا تسيء إلى مَن تحبه، فافعل. قال: فقال له الرجل: وهل رأيتَ أحداً يُسيء إلى مَن يحبه؟ فقال له: نعم، نفسك أحب الأنفس إليك، فإذا أنت عصيتَ اللهَ فقد أسأتَ إليها»[12]، أو أنّه يأبى التضحية في سبيل الله حُبّاً في الحياة، ومن ذلك فقد يترك المرء الطاعات والعبادات؛ خوفاً من ضعف قواه وأعضائه وجوارحه، فالحياة لإجل هذه الأُمور هي الدنيا المذمومة الموجبه للشقاء، وليس أصل هذه النشأة، بل إنَّ هذه النشأة إذا اسُتفيدَ منها بالطريقة المطلوبة والتي رسمتها لنا السماء أمكن بها تحصيل السعادة الأبدية، مُضافاً إلی أنَّ جميع المعارف والعبادات، والعلوم والكمالات والخيرات تحصل في هذه الحياة، وإدارة الحياة بتحصيل هذه الأُمور وطلبها من الله حسن؛ فلذا يقول الإمام سيّدُ الساجدين×: «... وعمّرني ما كان عُمري بذلةٍ في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان، فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتُك إليّ، أو يستحكم غضبُك عليَّ»[13]، بل ورد النهي عن ذم الدنيا، فقد روي أنّ أمير المؤمنين× سمع رجُلاً يذم الدنيا، فقال له: «أيّها الذام للدنيا، المغترّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها، أتغترّ بالدنيا ثمَّ تذمّها؟!»[14].

يعني أنّ الإنسان هو نفسه يمكن أن يستثمر الدنيا لأجل الآخرة، ويمكن أن لا يفعل ذلك: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [15]، فلا يسيء الاستفادة منها، ثمَّ بعد ذلك يلقي اللوم عليها، ويقول: الدنيا مذمومة.

فإنَّ الدنيا دار صدق لمَن صدّقها، ودار عافية لمَن فهم معناها، ودار غنى لمَن تزوّد منها، ودار موعظة لمَن اتّعظ بها، كما تقدّم هذا المضمون وورد كذلك في بعض الروايات الشريفة الأُخرى[16].

المعنى الثاني لفهم الدنيا

 البعض من الناس فهم الدنيا بمعنى ثانٍ، وحصرها بالدينار والدرهم، والأثاث والأموال، وليس كلّها من الدنيا، بل إنَّ الدنيا منها ما سبّب الغفلة عن الله تعالى، وارتكاب المحارم لتحصيلها، والحبّ الشديد لها بحيث لا ينفقها في سبيل الله، ولا يخرج حقوق الله تعالى منها.

والدنيا لـمَن أراد بها تحصيل الآخرة من أحسن الأشياء، كما مدح الله تعالى جمعاً كثيراً في القرآن بإنفاق أموالهم في سبيل الله، وشراء الجنة بها، فهي سبب لتحصيل السعادة الأخروية، ولم تكن مذمومة، بل إنَّ المذموم حُبها وترك الآخرة لأجلها، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[17].

 وروي عن الرسول الأكرم’ أنّه قال: «نِعمَ العونُ على تقوى الله الغنى»[18]، وورد أيضاً عن حفيده الإمام الصادق× أنّه قال: «نِعمَ العون الدنيا على الآخرة»[19].

 ولقد أجاد مَن قال:

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
[20].

المعنى الثالث لفهم الدنيا

هناك مجموعة من الناس تفهم الدنيا على أنّها تمتّع باللذّات، ومعاشرة الناس، وتوفير الأُمور الثمينة، والملابس الفاخرة وحسب. وهذا بالواقع يرجعنا إلی الآية المباركة؛ إذ الدنياحينئذٍ تكون عبثية؛ لأنّها دار يمكث فيها الإنسان مدّة معيّنة ولا يكون متروكاً دون ضوابط وقوانين تحكمه، وهي الدين، فيكون الدين هو الذي يجب اتّباعه من فعل الواجبات، مثل: الصلاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك المحرّمات، مثل: القتل والزنا والسرقة والكذب، فيكون الإنسان في هذه الدنيا عاملاً بلا حساب، أي، مكلّفاً بالفعل الواجب وتاركاً للعمل المحرّم.

فالإنسان المؤمن مَن آمن بالله والرسول وما أُنزل عليه، فلكي يكون عمله كاملاً في الدنيا يجب الإطاعة، والإيمان بكلّ ما أُنزل على الرسول، وإذا تخلّف عن ذلك عصى وأفسد في الأرض، وحينئذٍ يكون مستحقاً للعقاب، هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى يجب على الإنسان أن يعمل في الدنيا؛ فإنَّ الدنيا ساعة، عليه أن يجعلها طاعة، وأن يتفكّر بها، وبما هو صائر إليه، فعن الحسن الصيقل، قال: سألت أبا عبد الله الصادق× عمّا يروي الناس: أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلةٍ. قلتُ: كيف يتفكّر؟ قال×: «يمرُّ بالخربة أو بالدار، فيقول: أين ساكنوك أين بانوكِ، ما بالكِ لا تتكلّمين»[21].

 ويتفكّر أيضاً بما هو صائر إليه من حفرة صغيرة، إما أن تكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، وسوف يسأل عن كلّ ما قدّمه. ورُويَ عن الإمام أمير المؤمنين× ـ وهو يمرّ على مقبرة ـ أنّه قال: «السَّلامُ عليكُم يا أهلَ القبورِ أنتم لنا سلف، ونحن لكم خلف، وإنّا إن شاء اللهُ بكم لاحقون، أمّا المساكن فسُكنت، وأمّا الأزواج فنُكحت، وأمّا الأموال فقُسّمت، هذا خبر ما عندنا، فليت شعري ما خبر ما عندكم. ثمَّ قال: أما إنّهم إن نطقوا لقالوا: وجدنا التقوى خير زاد»[22].

وأمّا الآخرة فهي دار مقرّ، ولا يوجد فيها تكاليف، وإنّما هي دار جزاء تكون للذين آمنوا وعملوا الصالحات، للذين أنسُوا بالله، للذين لم يستكبروا في الأرض، ولم يفسدوا. فإذا عرفنا أنَّ خلقنا نحن بني البشر لم يكن عبثاً، بل لأجل الاختبار والابتلاء، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [23]، فتعالَ معي لنعرف ما هو الواجب علينا، وما هو المحرّم، حتّى نأتي بالواجب وندع المحرّم، فنكون قد حصلنا على رضا الله تبارك وتعالى، الذي منتهاه الخلود في الجنة، التي أعدّها الله} للمتقين.

وإذا جاء بما أمر الله تبارك وتعالى به، وانتهى عمّا نهاه عنه فسوف يحبّ لقاء الله؛ لأنّ لقاء الله معناه الانتهاء من هذه الدنيا وشهواتها واختبارتها، والانتقال إلی دار ليس فيها إلّا ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وتطيب برؤيته القلوب، وتخشع له الجوانح والجوارح؛ لذا روي عن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «لمّا أراد الله تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم×، أهبط إليه ملك الموت، فقال: السلام عليك يا إبراهيم. قال: وعليك السلام يا ملك الموت، أداعٍ أم ناعٍ؟ قال: بل داعٍ يا إبراهيم، فأجب. قال إبراهيم×: فهل رأيت خليلاً يُميت خليلَه؟ قال: فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله جلّ جلالُه، فقال: إلهي قد سمعت ما قال خليلُك إبراهيم. فقال الله جلَّ جلالُه: يا ملكَ الموت، اذهب إليه وقل له: هل رأيت حبيباً يكره لقاءَ حبيبه؟ إنَّ الحبيبَ يُحبُّ لقاءَ حبيبه»[24].

وهكذا هو الحال في سيد الشهداء× أبي عبد الله الحسين×، فقد عبّر عن هذا المعنى تعبيراً عملياً، فهو الذي ترك كلَّ شيٍ من أجل خالق الأشياء.

تركتُ الخلقَ طُراً في هواكا
ولو قطّعتني بالحُبِ إرباً
وأيتمتُ العيالَ لكي أراكا
لما مال الفؤادُ إلی سواكا
[25].

***

المحاضرة الثانية: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر


من وصيّةِ النبيِّ الأكرم’ لأبي ذر أنّه قال: «يا أبا ذر، الدُنيا سجنُ المؤمنِ، وجَنّةُ الكافرِ، ومَا أصبحَ فيها مؤمنٌ إلّا حزيناً»[26].

«قد بيّن اللهُ تعالى لعباده طُرقَ الفوز، ودلّهم على ما يرضيه من الأعمال التي تعود عليهم أنفسهم بالصلاح، بما أنزله من الشرائع الإلهية على لسان أنبيائه الكرام (عليهم الصلاة والسلام) الذين أقام بهم الحجّة على العباد، فصدعوا بأمره، وزجروا عن معصيته، فأنزل الله على كلِّ رسول ذي شريعة كتاباً بلسان قومه؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وليسمعوا كلامَ ربِّهم، ويعرفوا أحكامه.

 والرسول هو الزعيم بتفصيل ما أُجمل في الكتاب، وتبيان ما أبهم منه، فكان من ذلك الكتاب، وكان من ذلك السنّة النبوية، اللذان هما أوّل الأدلّة عند علماء أُصول الفقه، ثمّ علّم الأنبياءُ أوصياءَهم وأُمناءَهم وخواصّ أصحابهم ما إليه يرجعون، وبه يهتدون، من معاني كتاب ربِّهم، وسنّة نبيِّهم؛ ليكونوا بعده مناراً به يُهتدى، ونبراساً بنوره يُستضاء، إذا ادْلهمَّ ليلُ الجهالة، وأدجنَ ظلامُ الأهواء؛ لئلا تذهبَ بالأُمّة مذاهبُ الأهواء، فتصرف موارد الشريعة عن مجراها، ويتأولون أحكام الله على ما يريدون لا على ما يريد الله، ميلاً مع الشهوات، وجرياً مع الأهواء المضلّة ويتكلّمون بالرأي في القرآن بلا سند إليه يستندون، ولا استمساك بكلام الراسخين في العلم إليه»[27].

ومن هؤلاء العظام الذين حملوا هذا النبراس، الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري&، الذي نقل لنا هذه الرواية عن رسول الله’.

حقيقة الدنيا

لم يخلق الله تبارك وتعالى الدنيا لراحة المؤمنين، بل تصل إليهم الأحزان والبلايا بحسب مراتبهم وإيمانهم، ويكفي لتحقيق هذا الأمر النظر في أحوال الأنبياء والأوصياء ورسول الله وأهل بيته^، وقد ورد عنه’ أنّه قال: «ما أُوذي نبيٌّ مثلما أُوذيتُ»[28].

وقد ثبت بحسب التجربة، إنّ ما من شيءٍ أكثر إصلاحاً للنفس من البلايا والمصائب الموجبتين للزهد في الدنيا، والتوجّه نحوَ الله تعالى، كما قال’: «إنّ عظيمَ البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحبَّ اللهُ عبداً ابتلاه بعظيم البلاء، فمَن رضيَ فله عِند الله الرضا، ومَن سخط البلاء فله عند الله السخط»[29].

وسأل عبد الله بن بُكير أبا عبد الله الصادق×: «أيُبتلى المؤمنُ بالجذام والبرص وأشباه هذا؟ قال: فقال: وهل كُتِبَ البلاءُ إلّا على المؤمنِ»[30].

وقال أبو عبد الله× في حديثٍ آخر: «إنّ في كتاب علي× إنّ أشدّ الناس بلاءً النبيّون، ثمّ الوصيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل، وإنّما يُبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمَن صحّ دينه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه»[31].

وعن محمد بن قيس، قال: سمعت أبا جعفر× يقول: «ملكان هبطا من السماء فالتقيا في الهواء، فقال أحدهما لصاحبه: فيما هبطت؟ قال: بعثني الله إلى بحر آيل أحشر سمكة إلى جبار من الجبابرة اشتهى عليه سمكة في ذلك البحر، فأمرني أن أحشر إلى الصياد سمكة البحر حتى يأخذها له؛ ليبلغ الله الكافر غاية مناه في كفره. قال الآخر لصاحبه: ففيما بُعثت أنت؟ قال: بعثني الله في أعجب من الذي بعثك فيه، بعثني إلى عبده المؤمن الصائم القائم المعروف دعائه وصومه في السماء؛ لأكفي قدره التي طبخها لافطاره؛ ليبلغ الله في المؤمن من الغاية في اختبار إيمانه»[32].

وروي عن محمد بن عجلان أنّه قال: «كنت عند أبي عبد الله× فشكا إليه رجل الحاجة، فقال له: اصبر فإنّ الله سيجعل لك فرجاً.

قال: ثمَّ سكت ساعة، ثمَّ أقبل على الرجل فقال: أخبرني عن سجن الكوفة كيف هو؟ فقال: أصلحك الله ضيّق، مُنتن وأهله بأسوأ حالٍ. قال: فإنّما أنت في السجن، فتريد أن تكون فيه في سعة، أما علمت أنَّ الدُنيا سجن المؤمن»[33].

ومع قطع النظر عن هذه البلايا والمحن، لو كان المؤمن في الرفاه والنعمة، فإنّ الدنيا سجنه؛ لأنّه بالنسبة إلی نعم الآخرة، والمنازل التي أعدّها الله له في الآخرة، لو أُعطي جميع الدنيا لكانت سجناً بالنسبة له، وإنّ الكافر لو ابتُلي في الدنيا بأنواع البلايا، لكانت الدنيا جنّة بالنسبة إلی عذاب الآخرة.

روي أنّ الإمام الحسن بن علي÷ يسير، وهو على بغلة فارهة: «فعرض له في طريقه من محاويج اليهود، همٌّ في هدمٍ قد أنهكته العلّة، وارتكبته الذلّة، وأهلكته القلّة، وجلدُه يسترُ عظامَه، وضعفُه يُقيّدُ أقدامَه، وضرُّه قد ملك زمامَه، وسوءُ حالِه قد حبت إليه حمامه، وشمس الظهيرة تشوى شواه، وأخمصه تصافح ثرى ممشاه، وعذاب عرعر به[34] قد عراه، وطول طواه قد أضعف بطنه وطواه، وهو حامل جر مملو على مطاه، وحاله تضعف عليه القلوب القاسية عند مرآه، فاستوقف الحسن× وقال: يا بن رسول الله أنصفني. فقال×: في أي شيء؟ قال: جدُّكَ يقول: الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، وأنت مؤمن وأنا كافر، فما أرى الدنيا إلّا جنة لك، تتنعم فيها وتستلذ بها، وما أراها إلّا سجناً لي قد أهلكني ضرّها، وأتلفني فقرها. فلما سمع الحسن× كلامه أشرق عليه نور التأييد، فاستخرج الجواب الحق بفهمه من خزانة علمه، وأوضح لليهودي خطأ ظنه، وخطل زعمه، وقال: يا شيخ، لو نظرت إلى ما أعدَّ الله تعالى للمؤمنين، الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، من نعيم الجنان والخيرات الحسان في الدنيا والآخرة، ممّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت؛ لعلمت أنّي قبل انتقالي إليه من هذه الدنيا في سجن ضنك، ولو نظرت إلى ما أعدَّ اللهُ لك ولكلّ كافر في الدنيا والآخرة من سعير نار الجحيم، ونكال العذاب المقيم لرأيت أنّك قبل مصيرك إليه، الآن في جنّة واسعة ونعمة جامعة»[35].

إذن ما عليه الأوصياء والأولياء مهما بلغ لا يساوي شيئاً إذا ما قيس إلى الآخرة؛ ولذا تجد أحوال الأنبياء والرسل وأوصيائهم مملوءة بالعناء والابتلاء في هذه الحياة الدنيا، لكن ما أعدّه الله لهم من النعيم لا يمكن تصوره أبداً، بخلاف الكفار الذين يتنعّمون في هذه الحياة الدنيا، والتي لو كانت تعدل شيئاً عند الله تعالى لما سقى منها الكافر شربة ماء، كما جاء في الآثار عن الأئمة الأطهار^[36].

فترى المؤمن فيها حزيناً باكياً، والكافر فيها مسروراً جذلاً، والظالم متقدِّم على المظلوم، والأنبياء يُقتَلون ويُذبحون في سبيلِ شهواتِ الظالمينَ ولذاتِهم.

روي «أنّ عيسى بن مريم× بعث يحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يُعلّمونَ الناسَ وينهاهم[37]عن نكاح ابنة الأخت، قال: وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوّجها، فلمّا بلغ أُمّها أن يحيى نهى عن مثل هذا النكاح أدخلت بنتها على الملك بزينة، فلمّا رآها سألها عن حاجتها، قالت حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير هذا. فقالت: لا أسألك غير هذا. فلمّا أبت عليه دعا بطشت، ودعا يحيى× فذبحه، فبدرت قطره من دمه فوقعت على الأرض، فلم تزل تعلو حتى بعث الله بخت نصر عليهم، فجاءته عجوز من بني إسرائيل فدلته على ذلك الدم، فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن، فقتل عليها سبعين ألفاً في سنةٍ واحدةٍ، ثمّ سكن»[38].

وفي الأثر: «أنّ زكريا× سأل ربّه أن يُعلّمَه أسماءَ الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلّمه إيّاها، فكان زكريا إذا ذكر محمداً وعليّاً وفاطمةَ والحسنَ سري عنه همُّه، وانجلى كربُه، وإذا ذكر الحسينَ خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة[39]، فقال ذات يوم: يا إلهي، ما بالي إذا ذكرت أربعاً منهم تسلّيتُ بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرتُ الحُسينَ تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه اللهُ تعالى عن قصّته، وقال: ﴿كهيعص(فالكاف) اسم كربلاء، و(الهاء) هلاك العترة، و(الياء) يزيد، وهو ظالم الحسين×. و(العين) عطشه، و(الصاد) صبره. فلمّا سمع ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام، ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكانت ندبته: إلهي أتفجع خير خلقك بولده، إلهي، أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه، إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة، إلهي أتحلّ كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟! ثمَّ كان يقول: اللهم ارزقني ولداً تقرّ به عيني على الكبر، وأجعله وارثاً وصياً، واجعل محله مني محل الحسين، فإذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه، ثمَّ افجعني به كما تفجع محمداً حبيبك بولده! فرزقه الله يحيى وفجعه به، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين×كذلك»[40].

لكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله...

أيأتي مثل رزء الطف رزؤٌ                       عظيمٌ قد بكته الأنبياء

***

المحاضرة الثالثة:  زاد السفر إلى الله تعالى

قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [41].

ذكرنا في المحاضرتين السابقتين: أنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق هذه الدنيا عبثاً، تنزّه عن ذلك، وعلا علواً كبيراً، بل إنّما خلقها لتكون محل إبتلاء وإختبار لعباده، وأنّ المؤمن لم يُخلق فيها ليخلد، بل هي دار حزن وهمٍّ دائمان له، وأنّه مسافر إلی دار الآخرة، مسافر إلی الله تبارك وتعالى، وكادح للوصول إليه جلّ وعلا، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [42].

والملاقاة بنفسها ليست فضيلة للإنسان؛ إذ يمكن أن يلاقي الإنسانُ ربَّه وهو غضبان عليه، حتّى يصل الحال بأنّ الباري} لا ينظر إليه ولا يكلمه، كما جاء في بعض الآثار عن رسول الله’ وأهل بيته الأطهار^، فعن أبي ذر& قال: قال رسول الله’: «ثلاثةٌ لا يُكلّمُهُم اللهُ يومَ القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيّهم، ولهم عذابٌ أليم. فقرأها رسول الله’، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا، قال: المسبل إزاره، والمنفق سلعتَه بالحلف الكاذبة، والمنّان عطاءَه»[43].

ويمكن أن يلاقي الإنسان ربَّه ، ويأمر به إلی الجنّة. وبما أنّ غاية كلّ إنسان عاقل هو الثاني، فلا بدّ أن يعمل له بكلّ ما أُوتي من قوّة ورباطة جأشٍ، وهذا لا يتحقق إلّا من خلال اتّباع القرآن الكريم والعترة الطاهرة^، الذين هما حبل الصعود والوصول إليه سبحانه وتعالى.

فقد روى الفريقان بأسانيد متعدّدة، أنّ النبيَّ الأكرم’ قال: «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»[44].

وبما أنّ النبيَّ الأكرم’ لا ينطق عن الهوى، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[45]؛ إذن لا بدّ من اتّباعه والاقتداء به’ حتّى نصل إلی مرضاة الله}، وبالتالي إلی النعيم الخالد، إلی جنّة عرضها كعرض السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على ذهن بشر.

كما روي ذلك فيمن بكى من خشية الله: «...ألا ومَن ذرفت عيناه من خشية الله، كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصر في الجنّة، مكلّل بالدرّ والجوهر، فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»[46].

وحينئذٍ فلا بدّ لنا من الرجوع إلی القرآن الكريم والعترة الطاهرة، حتّى نكون قد حقّقنا رضاه تبارك وتعالى، ونحن نرى هذه الآية، التي افتتحنا بها الكلام، تأمر بالتزوّد، والشيء الذي تأمرنا بالتزود منه محذوف، دلّ عليه وسط الآية، حيث قالت: ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى

قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: «إنّ المراد: وتزوّدوا من التقوى، والدليل عليه قوله بعد ذلك: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. وتحقيق الكلام فيه أنَّ الإنسان له سفران:

سفر في الدنيا، وسفر من الدنيا، فالسفر في الدنيا، لا بدّ له من زاد، وهو الطعام والشراب، والمركب والمال. والسفر من الدنيا، لا بدّ فيه أيضاً من زاد، وهو معرفة الله ومحبته، والإعراض عمّا سواه، وهذا الزاد خير من الزاد الأول؛ لوجوه:

الأول: إنّ زاد الدنيا يخلّصك من عذاب موهوم، وزاد الآخرة يخلّصك من عذاب متيقّن.

وثانيها: إنّ زاد الدنيا يخلّصك من عذاب منقطع، وزاد الآخرة يخلّصك من عذاب دائم.

وثالثها: إنّ زاد الدنيا يوصلك إلى لذّة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذّات باقية خالصة عن شوائب المضرّة، آمنة من الانقطاع والزوال.

ورابعها: إنّ زاد الدنيا وهي كلّ ساعة في الإدبار والانقضاء، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة، وهي كلّ ساعة في الإقبال والقرب والوصول.

وخامسها: إنّ زاد الدنيا يوصلُك إلى منصّة الشهوة والنفس، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس؛ فثبت بمجموع ما ذكرنا أنّ خير الزاد التقوى.

إذا عرفت هذا، فلنرجع إلى تفسير الآية، فكأنّه تعالى قال: لما ثبت أنَّ خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقوايَ يا أولي الألباب، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأُمور، وجب عليكم بحكم عقلكم ولبّكم، أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد؛ لما فيه كثرة المنافع، وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى:

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُقى
ندمتَ على أن لا تكونَ كمثلهِ
ولاقيتَ بعدَ الموتِ من قد تزوّدا

وأنَّك لم ترصدكما كانَ أرصدا»[47].

فلا بدّ للإنسان حينئذٍ من التزوّد من المتاع الأُخروي، الذي يوصله للسعادة الأبدية، وإلى الحياة الحقيقية.. ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [48].

وهذا لا يعني أنّ الإنسان يترك زاد الدنيا بالمرّة؛ فإنَّ هذا أيضاً غير مقبول، كما مرّ عليك في المحاضرة السابقة، بل يمكن له أن يوظِّفَ زادَ الدنيا لزاد الآخرة.

ولذا روي عن العالم× أنه قال: «اعمل لدنياك كأنّك تعيشُ أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً»[49].

وكلمّا كان العمل ممزوجاً بتقوى الله، كان أكثر بركةً وقبولاً من عمل بغير تقوى الله}.

فعن المفضّل بن عمر، قال: «كنت عند أبي عبد الله× فذكرنا الأعمال فقلت أنا: ما أضعف عملي. فقال: مه، استغفر الله. ثمَّ قال لي: إنَّ قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى. قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم، مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه»[50].

آثار التقوى

يعتقد بعض الناس أنّ أثر التقوى إنّما يظهر في الحياة الآخرة فحسب، ولا يشمل الحياة الدنيا، فمَن أطاع الله سبحانه وتعالى، وانتهى عن معاصيه فسوف يُثاب في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، ومَن لم يتقِ الله، وتجاوز حدوده في هذه النشأة؛ فإنّه سيعاقب في النشأة الآخرة بنار أحاط بهم سرادقها، ولكن الصحيح أنّ الأمر ليس كذلك، بل للتقوى آثار دنيوية بالإضافة إلی الآثار الأُخروية، ومن هذه الآثار:

أولاً: الحياة الطيبة، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [51]، فالحياة الطيبة للمؤمن ليست في الدار الآخرة فحسب، بل هي كذلك في الحياة الدنيا؛ لأنّ الآية الشريفة لم تحدّد الحياة الطيبة، ومقتضى الإطلاق وعدم التحديد الشمول للحياتين معاً.

ثانياً: الفرقان بين الحقّ والباطل، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [52]، فيصبح المؤمن المتّقي قادراً على التفريق بين الحقّ والباطل، والإيمان والكفر، والهدى والضلال، والطاعة والمعصية، وكلّ ما يرضي الله أو يُسخطه.

ثالثاً: المخرج من العُسر والشدّة. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ...﴾[53].

وبخلاف ذلك نجد أنّ الإنسان غير المتّقي تتوجّه نحوه تبعات سلبية؛ لفجوره في الدنيا، وينتظر عذاباً أعدّه جبّارُ السماوات والأرض لـمَن عصاه. ومن تلك الآثار السلبية:

أولاً: المعيشة الضنكى، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [54]، والضنك: هو الضيق من كلّ شيء[55].

ثانياً: الحشر أعمى، إذ قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[56]، والأعمى هنا، أعمى القلب، فلا يفهم ما يُقال له من حقائق، ولا يفقه، ولا يبصر ما أمامه، فهو مصروف عن الذكر، محروم عن الطُمأنينة والسكون، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [57]، وكم أتعب أمثال هؤلاء رسولَ الله’؟! وكم عانى منهم المسلمون جميعاً؛ ولذا تراهم لا يسمعون ولا يعون كلامَ رسول الله’، بل لا يريدون أن يفقهوا حتى أوضح الأحاديث له’ حتى مثل قوله: «الحسنُ والحُسينُ سيّدا شباب أهلِ الجنّة»[58]، فيقرأون الحديث ويحفظونه، ثمّ يترضون على قاتلي الحسن والحسين÷، فأيّ جهلٍ أكبر من هذا؟!

أقول: ليتك حاضرٌ يا رسولَ الله، لتنظر ماذا جرى على ولديك؟!

جرى عليهما ما أخبرت به أُمّتَك يا رسولَ الله، حيث قلت: «... إلى الله أشكو عدوهم من أُمّتي، المنكرينَ لفضلهم، القاطعينَ فيهم صلتي، والله ليقتلن ابني، لا أنالهم الله شفاعتي»[59].

بعضٌ بطيبةَ مدفونٌ وبعضُهُمُ
وأرضُ طوسٍ وسامرا وقد ضَمِنتْ
بكربلاءَ وبعضٌ بالغرييّنِ
بغدادُ بدرينِ حلا وسطَ قبرينِ
[60].

***

المحاضرة الرابعة: الصلاة حصن المؤمن

قال رسول الله’: «لا يزالُ الشَّيطانُ هَائباً ذَعِراً من المؤمنِ مَا حَافظ على الصلواتِ الخمسِ، فإذا ضيعهُنَّ تجرأ عليه فألقاهُ في العظائم»[61].

 «الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبها تطفأ النيران، وقربان كلّ تقي، ومعراج كلّ مؤمن نقي، وتغسل الذنوب كما يغسل النهر الجاري درن الجسد، وتكرارها كلّ يوم خمساً كتكراره، وأوصى الله بها المسيح ما دام حياً، وغيره من الرسل، بل هي أصل الإسلام، وخير العمل، وخير موضوع، والميزان والمعيار لسائر أعمال الأنام، فمَن وفى بها استوفى أجر الجميع، وقُبلت منه كلّها، فهي حينئذٍ للأعمال، بل للدين كالعمود للفسطاط؛ ولذا كانت أوّل ما يُحاسب به العبد ويُنظر فيه من عمله، فإذا قُبلت منه نُظر في سائر عمله وقُبل منه، وإذا رُدّت لم ينظر في باقي عمله ورُدّ عليه، فلا غرو لو سُمّيَ تاركُها من الكافرين، بل هو كذلك لو كان الداعي له الإستخفاف بالدين، وهي التي لم يعرف الصادق× شيئاً ممّا يتقرّب به ويحبّه الله تعالى بعد المعرفة أفضل منها، بل قال×: هذه الصلوات الخمس المفروضات مَن أقامهن وحافظ على مواقيتهن، لقي الله يوم القيامة وله عنده عهد يدخل به الجنّة، ومَن لم يصلهن لمواقيتهن ولم يحافظ عليهن فذلك لله، إن شاء غفر له وإن شاء عذّبه.

 وصلاة فريضة خير من عشرين حجّة، كلّ حجّة خير من بيت مملو ذهباً يتصدّق منه حتى يفنى، بل صلاة فريضة أفضل من ألف حجّة كلّ حجّة أفضل من الدنيا وما فيها، وأن طاعة الله خدمته في الأرض، وليس شيء من خدمته يعدل الصلاة، فمن ثمّة نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي في المحراب، وإذا قام المصلي إلى الصلاة نزلت عليه الرحمة من أعنان السماء إلى أعنان الأرض، وحفّت به الملائكة، وناداه ملك: لو يعلم هذا المصلي ما في الصلاة ما انفتل إلى غير ذلك ممّا ورد فيها ممّا لا يحصى عدده»[62].

 وقد جعل الباري الصلاة لتكميل نفوس بني البشر، وهو العلاّم الخبير، وهكذا سائر الواجبات والمحرّمات، وهي الهداية الى الصراط المستقيم كما نطق به القرآن الكريم، حيث يقول: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [63].

وجاء في الحديث المروي عن النبي الأكرم’ أنّه قال: «أيّها الناسُ، والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النار ويُباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه»[64]، فكلّ ما جاء به القرآن الكريم، والرسول العظيم’، هو لإصلاح النفوس وتكميلها، وكلّ ما نهى عنه القرآن الكريم، والرسول العظيم إنّما هو لتهذيب النفوس وتطهيرها، كقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ[65].

آثار إقامة الصلاة

 الصلاة هي أجمع العبادات؛ إذ قد جمعت ما لا يجمعه غيرها من العبادات، من عبادة اللسان، والجنان بالقرآن، والذكر والاستكانة، والشكر والدعاء، وظهور أثر العبودية للمعبود بالركوع والسجود، وجعل أعلى موضع وأشرفه على أدنى موضع وأخفضه، وهي كفارة[66]، فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «الصلوات الخمس كفّارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر وهي التي قال الله: ﴿ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ »[67].

 وعن الرسول الأكرم’ أنّه قال: «إنّما مثل هذه الصلوات الخمس مثل نهر جارٍ بين يدي باب أحدكم يغتسل منه في اليوم خمس اغتسالات، فكما ينقى بدنه من الدرن بتواتر الغسل، فكذا ينقى من الذنوب مع مُداومته الصلاة، فلا يبقى من ذنوبه شيء»[68].

وعن الإمام الصادق× أنّه قال: «للمصلي ثلاث خصال: إذا قام في صلاته: يتناثر عليه البرّ من أعنان السماء إلى مفرق رأسه، وتحفّ به الملائكة من قدميه إلى أعنان السماء، وملك ينادي: أيّها المصلي! لو تعلم مَن تناجي ما انفتلت»[69]، ويكفي ما نطق به القرآن الكريم، حيث قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[70]، ولو لم تكن للمصلين إلّا هذه الصفة ـ صفة الفلاح ـ لكان فيه الفوز في الدنيا والآخرة.

والحديث الذي افتتحنا به الكلام، أكبر دليل على أهمّية الصلاة؛ إذ يقول النبي الأكرم’: «لا يزال الشيطان هائباً ذعراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس»، يعني الشيطان لا يقرب المصلّين الحقيقيين الذين يحافظون على صلاتهم بكلّ شروطها وأجزائها، وبهذا يكون الإنسان المصلّي قريباً من العصمة في باقي ما أوجب عليه الباري}، وحينئذٍ لا يتردد في صيام شهر رمضان؛ لأنّ الشيطان لا يدنو منه حتّى يمنعه عن الصيام، وهكذا سائر الأعمال الواجبة والمحرّمة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [71].

وأما إذا ضيّع الإنسان المسلم صلاته؛ فمعنى هذا أنّه قد ضيّع هويّته، وبقي عارياً، ويقبل بأي لباس يُخاط له، حتّى ولو كان هذا اللباس على خلاف ذوقه ورغبته.

ومن هنا ركّز القرآن الكريم والرسول العظيم’ وعترته الطاهرون^ على الاهتمام بالصلاة، والتحذير من تركها.

عقاب تاركي الصلاة

 ذكرنا الثواب الذي يهبه الله تبارك وتعالى للمصلين، وأهمّية الصلاة بالنسبة إلی باقي العبادات، وكيف أنّ النبي الأكرم’ يصف الشيطان بالخوف والذّعر، ما دام المؤمن محافظاً على صلاته.

والآن ننتقل إلی المقطع الآخر من الحديث الشريف للنبي الأكرم’ الذي افتتحنا به الكلام، وهو: «فإذا ضيّعهُنَّ تجرأ عليه فألقاه في العظائم» والظاهر أنّ المقصود من تضييع الصلاة، هو المعنى الواسع، الشامل لعدم أداء الصلاة، وعدم الاهتمام بها وبشرائطها وبأجزائها، فيكون الحديث على غرار حديث الاستخفاف المروي عن صادق العترة الطاهرة^ الذي جاء فيه «إنّ شفاعتنا لا تنالُ مُستخّفاً بالصَلاة»[72]، الشامل للشخص التارك للصلاة، و الساهي واللاهي أثناء الصلاة، والمؤخِّر لها عن وقتها، ومَن لا يعلم مواضع الخلل فيها أو شروطها وأجزائها، وغير ذلك ممّا هو مطلوب فيها، فإذا ضيّع الإنسان الصلوات الخمس، طمع فيه الشيطان وتجرأ عليه، فألقاه في العظائم، فترك ما افترض الله عليه، وأتى بما نهاه الباري عنه، وحينئذٍ يكون قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.

عقوبة المتهاون بصلاته

وللتهاون بالصلاة عدّة عقوبات، تجمعها هذه الرواية الشريفة المروية عن سيّدة النساء، فاطمة الزهراء‘، أنّها سألت أباها رسول الله محمداً’ قالت: «يا أبتاه، ما لمـَن تهاون بصلاته من الرجال، والنساء؟ قال: يا فاطمة، مَن تهاون بصلاته من الرجال والنساء، ابتلاه الله بخمسة عشر خصلة، ست منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره.

فأمّا اللواتي تصيبه في دار الدنيا: فالأُولى: يرفع الله البركة من عمره، ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله سيماء الصالحين من وجهه، وكلّ عمل يعمله لا يؤجر عليه، ولا يرتفع دعاؤه إلى السماء، والسادسة ليس له حظ في دعاء الصالحين.

وأمّا اللواتي تصيبه عند موته: فأولاهن: أنّه يموت ذليلاً، والثانية: يموت جائعاً، والثالثة: يموت عطشاناً، فلو سقي من أنهار الدنيا لم يروَ عطشه.

وأمّا اللواتي تصيبه في قبره: فأولاهن: يوكّل الله به ملكاً يزعجه في قبره، والثانية: يضيّق عليه قبره، والثالثة: تكون الظلمة في قبره.

وأمّا اللواتي تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره: فأولاهن: أن يوكّل الله به ملكاً يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون إليه، والثانية: يحاسبه حساباً شديداً، والثالثة: لا ينظر الله إليه، ولا يزكيّه، وله عذابٌ أليمٌ»[73].

فهذه هي عقوبة التهاون بالصلاة التي دافع عنها رسول الله’، ودافع عنها أهل بيته^، ومن أبرز تلك المواطن التي دافع فيها أهل البيت^ عن الصلاة ما كان يوم عاشوراء، لمّا أقبل أحد أصحاب الإمام الحسين× وقال: «يا أبا عبد الله، نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أُقتل دونك إن شاء الله، وأحبّ أن ألقى ربي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتُها. قال: فرفع الحسين رأسه، ثمّ قال: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم، هذا أول وقتها. ثمّ قال: سلوهم أن يكفّوا عنّا حتى نُصلّى، فقال لهم الحصين بن تميم: إنّها لا تُقبل، فقال له حبيب بن مظاهر: لا تُقبل، زعمت الصلاة من آل رسول الله’ لا تُقبل وتُقبل منك يا حمار»[74].

سيّدي يا أبا عبد الله، أنت صلّيت الظهر، لكن القوم بعدها صلّوا عليك بسيوفهم ورماحهم، وبكلّ ماعندهم من خبث وحقد دفين، وترات لأبيك أظهروه ذاك اليوم...

ورحم الله السيد رضا الهندي، حيث يقول:

صلّت على جسم الحسين سيوفُهم
ومضـى لهيفاً لم يجد غيرَ القنا
ظمآن ذاب فؤادُه من غُلةٍ
لهفي لجسمك في الصعيد مجرَّداً
تَرِبَ الجبينُ وعينُ كلِّ موحّدٍ
لهفي لرأسك فوقَ مسلوبِ القنا
يتلو الكتاب على السنان وإنّما
وليبكِ دينُ محمّدٍ من أُمّة
هذا ابنُ هند وهو شرُّ أُميّة
ويصون نسوتَه ويبدي زينباً
لهفي عليها حين تأسرها العدى
سلبت مقانعها وما أبقت لها
 فغدا لساجدة الظُبى محرابا
ظلاً ولا غيرَ النجيع شرابا
لو مسّت الصخرَ الأصمَّ لذابا
عريان تكسوه الدماءُ ثيابا
ودّت لجسمك لو تكون ترابا
يكسوه من أنواره جلبابا
رفعوا به فوق السنان كتابا
عزلوا الرؤوسَ وأمّروا الأذنابا
من آلِ أحمد يستذلُّ رقابا
من خدرها وسكينة وربابا
ذلاَّ وتركبها النياق صعابا
حاشا المهابة والجلال حجابا
[75].

***

المحاضرة الخامسة:ذكْر الله

قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [76].

إنّ للسان محاسن كثيرة، وإن كانت مساوؤه ليست بالقليلة.

ومن محاسن اللسان: الصدق، وقراءة القرآن الكريم، والأذكار، والأدعية، والصلوات، وغير ذلك ممّا هو كثير.

ونحن نتناول هنا موضوع الذِكْر الذي أمرتنا به الآية المباركة.

والذِكْر معنى يقابل النسيان، وقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بسائر الجوارح، إذا أطاع الله تبارك وتعالى بها.

الذِكْر باللسان

 أمّا الذِكر باللسان، فهو أن يحمد الإنسان ربَّه، ويُسبِّحه ويمجدّه، ويقرأ كتابه، فقد ورد في القرآن العزيز أنَّ القلوب تطمئن بذكر الله تبارك وتعالى، حيث قال عزّ من قائل: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[77]، وذِكره جلّ وعلا لايقتصر على كيفيّةٍ خاصّةٍ، فقد يكون بالتكبير أو التهليل، أو الحمد أو الحوقلة[78]، أو الصلاة على محمّد وآل محمّد، أو قراءة القرآن الكريم، وفي كلّ هذه الأذكار، لا بدَّ من التوجّه والإخلاص، لكن المهم أن يكون المؤمن لسانه رطبٌ من ذِكر الله تبارك وتعالى الذي هو أفضل الأعمال، فقد سُئل النبي الأكرم’: أيّ الأعمال أفضل عند الله؟ قال: «قراءة القرآن، وأن تموت ولسانك رطبٌ من ذكر الله تعالی»[79].

ومن خصائص الذكر لله تبارك وتعالى، أنَّه ليس له حدٌّ ولا زمان، بخلاف بقيّة الفرائض، وهذا المعنى قد صرَّح به إمامُنا الصادق×، حيث قال: «ما من شئٍ إلّا وله حدٌّ ينتهي إليه إلّا الذكر، فليس له حدٌّ ينتهي إليه، فرض الله الفرائض، فمن أدّاهنَّ فهو حدَّهنَّ، وشهر رمضان فمَن صامه فهو حدّه، والحجّ فمَن حجّ فهو حدّه، إلّا الذكر؛ فإنّ الله لم يرضَ منه بالقليل، ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه، ثمّ تلا هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا فقال: لم يجعل الله له حدّاً ينتهي إليه، قال: وكان أبي× كثير الذكر، لقد كنتُ أمشي معه، وإنّه ليذكر الله، وآكل معه الطعام، وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم [و] ما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه، يقول: لا إله إلّا الله. وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس، ويأمر بالقراءة مَن كان يقرأ منّا، ومَن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر.

 والبيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويُذكر الله فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء، كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض، والبيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن، ولا يُذكر الله فيه تقلّ بركتُه، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين، وقد قال رسول الله’: ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم أرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلوهم ويقتلوكم؟ فقالوا: بلى، فقال: ذكر الله كثيراً، ثمّ قال: جاء رجل إلى النبي’ فقال: مَن خير أهل المسجد؟ فقال: أكثرهم لله ذكراً. وقال رسول الله’: مَن أُعطي لساناً ذاكراً فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة. وقال: في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُقال: لا تستكثر ما عملت من خير لله»[80].

والملفت للنظر في أهمّية الذِكر، أنّ القرآن يؤكّده حتى عند الإنتهاء من سائر ما افترضه على العباد وحدّه لهم؛ لأجل أن يشتغلوا في طاعته، ويبتعدوا عن معصيته التي تلازم ـ في الأعم الأغلب ـ الفراغ، وهذا صريح قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [81].

وعن النبيِّ الأكرم’ أنَّه قال: «مَن عَلَّم ولداً له القرآنَ قلّده الله الأولون والآخرون يوم القيامة»[82].

وقد حذّر النبيُّ الأكرم’ من ترك القرآن في البيت بلا قراءة، فقد قال’: «الغرباء في الدنيا أربعة: قرآن في جوف ظالم، ومسجد في نادي قوم لا يُصلى فيه، ومصحف في بيت لا يُقرأ فيه، ورجل صالح مع قوم سوء»[83].

ومن المناسب أن أذكر هنا، هذه المعجزة التي وقعت في عصرنا الحاضر، كان أحد المشايخ يعاني من ضعفٍ شديدٍ في النظر، وكانت النظّارة التي يضعها على عينيه ذات عدسات سميكة، راجع الشيخُ طبيبَ العيونِ فشخّصَ له درجةَ نظره، وحذّره من أنَّ عينه تتّجه نحوَ المزيد من الضعف، فلا بدّ من الإنتباه لهذا الأمر قبل فوات الأوان.

وبعد سنة قضاها هذا الشيخ في تدوين وترتيب كتاب تفسير القرآن الكريم، راجع الطبيب مرّةً أُخرى، فلمّا فحص الطبيب عينَه وجدها متحسِّنة عمّا كانت عليه العام الماضي، فاندهش الطبيب، وسأله: ماذا صنعت خلال العام الماضي؟ هل راجعت طبيباً آخر، أو استعملت أدويةً مُعيّنةً؟

قال الشيخ: نعم، راجعتُ القرآنَ الكريم، فقد صرت أقرأ في آيات وكلمات هذا الكتاب العظيم. وعندنا في الأحاديث الشريفة أنّ النظر إلی كتاب الله الحكيم يوجب جلاء البصر، وقوّة النظر وشفاء العين.

 فأخذ الطبيب بيد الشيخ وجاء به إلی غرفة الانتظار، وشرح للحاضرين هذه القصّة، وقال: إنّها معجزة القرآن الكريم[84].

ومن أقسام الذكر أيضاً المهمّة (الصلاة على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ).

قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [85].

وفي الروايات الشريفة أنّها تذهب النفاق، فعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله× قال: «قال رسول الله’: الصلاة عليَّ وعلى أهل بيتي تذهب بالنفاق. وأنّها أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة»[86].

وقال’: «مَن صلّى عليَّ مرّةً لم يبقَ له من ذنوبهِ ذرّة»[87].

وعنه’: «وأجفى الناسُ رجلٌ ذُكرتُ بين يديه فلم يُصلّي عليَّ»[88].

وعنه’ أنّه قال: «حيثما كُنتم فصلّوا عليّ فإنّ صلاتكم تبلغني»[89].

وعنه’ أيضاً: «مَن صلّى عليَّ في كتابٍ لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب»[90].

والخلاصة: إنّ الصلاة على النبيِّ وأهل بيته الطاهرين المعصومين من أعلى مراتب الذكر، ولأنقل لك هذا الشاهد والمؤيِّد ـ بالإضافة إلی ما سمعته من الروايات الشريفة ـ يقول أحد المؤمنين الموثوقين: كنتُ متعوّداً على ذكر (اللّهم صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ)، وهذا الذكر دائماً على لساني، وفي يوم من الأيام كنتُ في إحدى الحسينيات استمع إلی الخطيب يقول: بأنّه ينادي يوم القيامة منادٍ، يقول: أين قرّاء سورة الإخلاص؟ فيؤمر بهم إلی الجنّة من خلال باب خاصّ بهم، فقررت أن أقرأ سورة الإخلاص بدلاً من ذكر الصلاة على محمّد وآل محمّد (صلوات الله عليهم أجمعين)، وبدأت بسورة الإخلاص، وفي الليل كنت نائماً، وفي عالم الرؤيا شاهدت نفسي في يوم القيامة، وشاهدت طابوراً طويلاً جداً من الناس واقفين بانتظار دورهم للدخول إلی الجنّة، فسألت: ما هذا الطابور؟ فقيل لي: بأنّ هذا طابور قرّاء سورة الإخلاص، فوقفت معهم باعتبار إنّني صرت من قرّاء سور الإخلاص.

فجاءني ملك، وقال: لستَ أنتَ من قرّاء سورة الإخلاص، وإنّما أنتَ من قرّاء الصلوات على محمّد وآل محمّد، وأنّ مكانك ليس هنا، بل اذهب إلی ذلك الطابور. فنظرت فوجدتُ طابوراً قصيراً، فيه قليل من الناس، وهم يدخلون إلی الجنّة بسرعة، فذهبت إليهم ووقفت في طابور الصلوات على محمّد وآل محمّد، فقمت من النوم، وعرفت فضل ومنزلة الصلوات على محمّد وآل محمّد[91].

ومن أقسام الذِكر أيضاً التسبيح، وبالخصوص تسبيح الصدّيقة فاطمة الزهراء‘.

أهمّية تسبيح الزهراء

هناك روايات عديدة أشارت الى أهمية هذا التسبيح، وأنّه لولا أهمّيته وعظمة منزلته لما وهبه رسول الله’ لفاطمة، ففي الرواية الشريفة عن أبي جعفر× قال: «ما عُبدَ اللهُ بشيءٍ من التحميد أفضل من تسبيح فاطمة÷، ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله’ فاطمة÷»[92].

وفي روايةٍ أُخرى: «تسبيح فاطمة الزهراء÷ من الذكر الكثير الذي قال الله: ﴿ اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا»[93].

وفي روايةٍ ثالثةٍ عن الإمام الصادق× أنّه قال: «تسبيح فاطمة الزهراء÷ في كلّ يوم في دبر كلّ صلاة، أحبّ إليَّ من صلاة ألف ركعة في كلّ يوم»[94].

وكيفيّته: أن يكبّر الله أربعاً وثلاثين مرّةً، ويحمده ثلاثاً وثلاثينَ مرّةً، ويسبّحه كذلك.

وفي الرواية أنّ ابن فرقد يروي عن أخيه: «أنّ شهاب بن عبد ربّه سألَنا أن نسأل أبا عبد الله×، وقال: قل له: إنّ امراةً تفزعني في المنام بالليل. فقال×: قل له: اجعل مسبحاً (أي تسبيحاً)، وكبّر الله أربعاً وثلاثين، وسبحّ الله ثلاثاً وثلاثين، واحمده ثلاثاً وثلاثين»[95].

وما ذكرتْه هذه الرواية، هو كيفيّة أُخرى لهذا التسبيح الشريف؛ إذ قدّمت التسبيح على التحميد، وإن كان الأَولى الأول، كما أفتى به جملة من الأعلام[96]، ولعلّه المشهور بينهم.

وفي بعض الروايات أن تسبيح الزهراء‘ مئة في اللسان، وألف في الميزان[97].

ومن جملة الأذكار الاستغفار، وهو لا يقل مرتبة وشأناً عن الأذكار السابقة، بل هو مفتاحُ كلِّ خير، ويكفي في فضله قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [98].

فقد رتّبت الآية عدّة نتائج على الاستغفار:

 أولها: المغفرة.

وثانيها: تنزيل الأمطار الكثيرة.

وثالثها: الرزق الواسع من الأموال والبنين.

 ورابعها: ـ وهو منى كلّ متمني ـ الجنّات والأنهار، وهو النعيم الدائم.

وروي عن الإمام أمير المؤمنين×، أنّه قال: «تعطّروا بالاستغفار؛ لا تفضحكم روائح الذنوب»[99].

وقال×: «الاستغفار يزيد في الرزق»[100]، وهو يؤيّد الآية المتقدِّمة.

وروي بسندٍ معتبر، عن الإمام الصادق× أنّه قال: «إنّ رسول الله’ كان لا يقوم من مجلسٍ، وإن خفّ، حتّى يستغفر الله خمساً وعشرين مرّةً»[101].

وروي بسندٍ معتبر أيضاً عنه× أنّه قال: «مَن عمل سيئةً أجلّ فيها سبع ساعات من النهار، فإن قال: (استغفر الله الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم) ثلاث مرات لم تكتب عليه»[102].

وعنه× أنّه قال: «مَن قال: (استغفر الله) مائة مرّة في كلّ يوم، غفر الله له سبعمائة ذنب، ولا خير في عبدٍ يذنب في يوم سبعمائة ذنب»[103].

وروي عن أبي عبد الله× أنّه قال: «ما من مؤمنٍ يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرةً، فيقول وهو نادم: استغفر الله الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، وأسأله أن يُصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن يتوب عليَّ. إلّا غفرها الله له، ولا خير فيمَن يقارف في يومٍ أكثر من أربعين كبيرة»[104].

وعنه× أنّه قال: «إنّ رسول الله’ كان يتوب إلی الله كلّ يوم سبعين مرّة من غير ذنب»[105].

وهناك أذكار عديدة، يمكن للإنسان أن يواظب عليها، أمثال التهليل والتسبيحة الكبرى، وهي: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر)، وفضلها كبير، وثوابها جزيل، فعن أبي جعفر×، قال: «مَن قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر. خلق الله منها أربعة أطيار تسبّحه وتقدّسه وتهلله إلى يوم القيامة». وفي رواية محمد بن مروان، عن أبي جعفر×، قال: «قال رسول الله’: إذا قال العبد: سبحان الله. فقد أنف لله، وحقّ على الله أن ينصره»[106].

وغيرها من الأذكار الكثيرة التي يمكن للإنسان المؤمن أن يواظب عليها، هذا كلّه بالنسبة إلی ذِكر الله تبارك وتعالى باللسان.

وأمّا ذكره بالقلب: فهو أن يكون الله سبحانه وتعالى حاضراً عنده، في كلّ أفعاله وأقواله وسكناته، وأن يتفكّر في مخلوقاته العجيبة، وصنائعه العظيمة، وأسرارها الدقيقة، والتفكّر في الدلائل الدالّة على ذاته وصفاته، والتفكّر في أحكامه ـ عزّ اسمه ـ وتكاليفه، وأوامره ونواهيه، والوعد والوعيد، والجنّة والنار، والموت والحياة، وكلّ ما يدلّل عليه تبارك وتعالى.

وأما الذكر بالجوارح: فهو الإتيان بجميع ما أمر به}، والانتهاء عن جميع ما حرّمه (تقدّست أسماؤه).

ثمرات الذكر

 هناك عدّة ثمرات مترتّبة على الذكر بأنواعه الثلاث ـ ذكر اللسان والقلب والجوارح ـ ويمكن تلخيصها بما يلي:

1 ـ حياة القلوب ومفتاح الصلاح: ففي الرواية الشريفة المروية عن النبي الأكرم’: «بذِكر الله تحيى القلوب»[107]، وعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «مداومة الذِكر قوت الأرواح، ومفتاح الصلاح»[108]، وغيرها من الروايات الشريفة التي ندبت إلى ذِكر الله تعالى سرّاً وعلانيةً [109].

2 ـ مطردة الشيطان: فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «ذِكر الله مطردة الشيطان»[110].

3 ـ حبّ الله للذاكر والبراءة له من النار والنفاق: فعن أبي عبد الله× أنّه قال: «قال رسول الله’: مَن أكثر ذِكر الله أحبّه الله، ومَن ذَكر الله كثيراً كتب له برائتان: براءة من النار، وبرائة من النفاق»[111].

4 ـ انشراح الصدر: فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «الذِكر يشرح الصدر»[112].

أماكن ينبغي إكثار الذِكر فيها

هناك عدّة أماكن وحالات أمرنا النبي’، والأئمّة الأطهار^ بإكثار الذِكر فيها، إمّا لكثرة غفلة الناس فيها، أو لكثرة الشياطين، أو غير ذلك، ومنها:

1 ـ عند الغضب: فعن النبي الأكرم’ أنّه قال: «أوحى الله إلی نبي من أنبيائه: ابن آدم، اذكرني عند غضبك، أذكرك عند غضبي»[113].

2 ـ عند دخول الأسواق: فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «أكثروا ذِكر الله إذا دخلتم الأسواق، [و][114]عند اشتغال الناس؛ فإنّه كفارة للذنوب، وزيادة في الحسنات، ولا تكتبوا في الغافلين»[115].

3 ـ الخلوات وعند اللذات: فعن الإمام الباقر× أنّه قال: «في التوراة مكتوب... يا موسى... اذكرني في خلواتك، وعند سرور لذاتك، أذكرك عند غفلاتك»[116].

4 ـ في الحرب: فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «إذا لقيتم عدوّكم في الحرب فاقلّوا الكلام، وأكثروا ذكر الله»[117].

5 ـ عند المصيبة وعند ما حرّم الله: فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «الذكر ذكران: ذِكر عند المصيبة حسن جميل، وأفضل من ذلك ذِكر الله عند ما حرّم الله؛ فيكون ذلك حاجزاً»[118].

وذكر الله تبارك وتعالى عند المصيبة، لعلّك لا تجد أحداً جسَّده بأجلى مظاهره، كما جسَّده أهل البيت^ على نحو العموم، والإمام أبو عبد الله الحسين× على نحو الخصوص، وذلك عندما نزل به مانزل، فدعا بدعائه العظيم، وهو آخر دعاء دعا به×، يوم تكاثر عليه الأعداء وحاصروه، حيث يقول: «اللّهم، متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيٌّ عن الخلائقِ، عريضُ الكبرياء، قادرٌ على ما تشاء، قريبُ الرَّحمة، صادقُ الوعدِ، سابغُ النعمةِ، حَسنُ البلاء...»[119].

وهكذا كان أبو عبد الله، يلهج بذِكر الله تعالى إلى آخر أنفاسه الشريفة. الله أكبر! ومع هذا كلّه يقتله القوم وهم يكبّرون الله!!

جاؤوا برأسك يا بنّ بنتِ محمّدٍ
قتلوك عطشاناً ولم يترقَّبوا
ويكبّرون بأن قُتلت وإنّما
مترمّلاً بدمائهِ ترميلا
في قتلك التنزيل والتأويلا
قتلوا بك التكبيرَ والتهليلا
[120].

***

المحاضرة السادسة: حُسْن الخُلق

روي عن الإمام الصادق× أنّه قال: «ما يقدمُ المؤمنُ على الله بعملٍ بعدَ الفرائضِ، أحبُّ إلی الله تعالی من أن يسعَ الناس بخلقه»[121].

حُسن الخُلق

 حالة نفسية، تبعث على حسن معاشرة الناس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة، كما عرّفه الإمام الصادق×، حينما سُئل عن حدّه، فقال: «تلين جناحك، وتطيب كلامك، وتلقى أخاك ببشر حسن»[122].

والمقصود بتليين الجناح: الـ «كناية عن عدم تأذّي مَن يجاوره ويجالسه ويحاوره من خشونته، بأن يكون سلس الانقياد لهم، ويكفُّ أذاه عنهم، أو كناية عن شفقته عليهم، كما أنَّ الطائر يبسط جناحه على أولاده؛ ليحفظهم ويكنفهم كقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ »[123].

وحسن الخلق من الأماني والآمال، التي يطمح إليها كلّ عاقل، ويسعى لكسبها وتحقيقها كلّ مؤمن مجاهد.

ومن الملفت للنظر، أنّ جميع المواهب والإمكانيات، والقيم والفضائل، لا تكون مدعاةً للإعجاب والإكبار، وسمّو المنزلة ورفعة الشأن إلّا إذا اقترنت بحُسن الخلق، وازدانت بجماله الزاهر، ونوره الوضّاء.

ومن هنا اهتمّت الشريعة الحنيفية بحُسن الخلق؛ لأنّه نظام عقد الفضائل وملاكها؛ ولذا مجّده أهلُ البيت^، وأكّدوا على التمسّك به بمختلف الأساليب التوجيهية المشوّقة[124]، كما تصوِّره النصوص التالية:

النصوص الدالة على أهمية حُسن الخلق

هناك جملة من النصوص دلّت على أهمية حُسن الخلق، منها ما ورد عن النبي الأكرم’، ومنها ما ورد عن أهل بيته الطاهرين^.

فعنه’ أنّه قال: «أكثر ما يُدخل الناس الجنّة: تقوى الله وحُسن الخلق»[125]، وقال’ أيضاً: «أكملُ المؤمنينَ إيماناً، أحسنهم خلقاً»[126].

وعنه’أنّه قال: «ما يوضعُ في ميزانِ امرئٍ يومَ القيامةِ أفضل من حُسن الخُلُق»[127].

وقال الإمام الصادق×: «إنّ الخُلق الحسن يميثُ الخطيئة، كما تميث الشمس الجليد»[128].

وقال×: «البرّ وحُسن الخُلق يُعمّران الديار، ويزيدان في الأعمار»[129].

وكفى بحُسن الخلق شرفاً وفضلاً، إنَّ الله لم يبعث رسلَه وأنبياءه إلی الناس إلّا بعد أن حلاَّهم بهذه السجيّة الكريمة، وزانهم بها، ففيه رمز فضائلهم، وعنوان شخصياتهم.

ولقد كان سيد المرسلين’ المَثل الأعلى في حُسن الخلق وغيره من كرائم الفضائل والخِلال، واستطاع بأخلاقه الرفيعة أن يملك القلوب والعقول، واستحقّ بذلك ثناء الله تعالى عليه، بقوله عزَّ من قائل: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[130].

وهو العامل بما قال، حيث قال’: «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم»[131].

وعبّر عن ذلك القرآن الكريم، حيث قال: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[132]، ولكنَّ النبيَّ الأكرم’ لم يكن غليظ القلب؛ ولذا لم ينفضّوا من حوله، بل اجتمعت إليه العرب من كلّ حدب وصوب، وفيهم مَن جنّد الجيوش ضده، وحزّب الأحزاب، و أخشن الكلام وأفحشه فيه، ومنهم مَن هجاه، وهو مع كلّ ذلك، ليّن العريكة، سخيّ اليد، منشرح الصدر، وفيّ الذمّة، كريم العشرة.

وإليك وصف الإمام أمير المؤمنين× له’، فقد قال×: «كان أجودَ الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدقَ الناس لهجةً، وأوفاهم ذمةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، مَن رآه بديهةً هابه، ومَن خالطه معرفةً أحبّه، لم أرَ قبلَه ولا بعدَه مثلَه’»[133].

والشواهد على حُسن خلق النبي’ وأهل بيته الطيبين الطاهرين^ كثيرة، نتبرّك بذكر بعضها.

من أخلاق النبي’ وأهل بيته ^

قد طفحت الكتب والتواريخ والسير، من المؤالف والمخالف، ومن المسلمين وغيرهم بالأخلاق العظيمة للنبي الأكرم’ وأهل بيته الطيبين الطاهرين^.

ويكفيك أن تضع يدك على بعضها؛ لتلمس الحقيقة بيدك.

 منها: مارواه أنس قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابي بردائه جبذةً شديدةً، حتى أثّرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثمّ قال: يا محمد، احمل لي على بعيريَّ هذين من مال الله الذي عندك، فإنّك لا تحمل لي من مالك، ولا من مال أبيك، فسكت النبيُّ صلى الله عليه [وآله] وسلم، ثمّ قال: المال مال الله، وأنا عبده. ثمّ قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟! قال: لا. قال: لِمَ؟ قال: لأنّك لا تكافئ بالسيئة السيئة. فضحك النبيُّ صلى الله عليه [وآله] وسلم، ثمّ أمر أن يُحمل له على بعير شعير، وعلى الآخر تمر»[134].

وعن أمير المؤمنين× أنّه قال: «إنّ يهودياً كان له على رسول الله’ دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك. فقال: فإنّي لا أفارقك يا محمد، حتى تقضيني. فقال: إذن أجلس معك. فجلس معه حتى صلّى في ذلك الموضع الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله يتهددونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟! فقالوا: يا رسول الله، يهودي يحبسُك! فقال: لم يبعثني ربي بأن أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النهار، قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله، ما فعلت بك الذي فعلت، إلّا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإنّي قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا سخّاب، ولا متزيّن بالفحش، ولا قول الخنا، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله. وكان اليهودي كثيرَ المال»[135].

وهكذا كان الأئمّة المعصومون من أهل البيت^ في مكارم أخلاقهم، وسمو آدابهم، وقد حمل الرواة إلينا صوراً رائعة، ودروساً خالدة من سيرتهم العطرة، وأخلاقهم الفذّة.

ومن ذلك ما رواه الرواة عن الإمام الحسن العسكري×، من أنّه قال: «أعرف الناس بحقوق إخوانه، وأشدّهم قضاءً لها أعظمهم عند الله شأناً، ومَن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصدَّيقين، ومن شيعة عليِّ بن أبي طالب× حقّاً، ولقد ورد على أمير المؤمنين× أخوان له مؤمنان، أب وابن، فقام إليهما، وأكرمهما، وأجلسهما في صدر مجلسه، وجلس بين أيديهما، ثمّ أمر بطعام فأحضر، فأكلا منه، ثمّ جاء قنبر بطست، وإبريق خشب، ومنديل لييس[136]، وجاء ليصب على يد الرجل ماءاً، فوثب أمير المؤمنين× فأخذ الإبريق ليصبّ على يد الرجل، فتمرّغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين، الله يراني وأنت تصبّ على يدي؟! قال: اقعد واغسل يدك، فإنّ الله يراك وأخوك الذي لا يتميز منك، ولا يتفضّل عليك يخدمك، يريد بذلك في خدمه في الجنّة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها. فقعد الرجل، فقال له علي×: أقسمت عليك بعظيم حقّي الذي عرفته وبجّلته، وتواضعك لله بأن ندبني لما شرفك به من خدمتي لك، لما غسلت مطمئناً، كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبراً، ففعل الرجل. فلمّا فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية، وقال: يا بني، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكن الله يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان، لكن قد صبّ الأب على الأب، فليصبّ الابن على الابن، فصبّ محمد بن الحنفية على الابن. ثمّ قال الحسن العسكري×: فمّن اتّبع علياً× على ذلك فهو الشيعي حقّاً»[137].

وروي أيضاً في أخلاقهم^: «وقف على عليِّ بن الحسين‘ رجلٌ من أهل بيته، فأسمعه وشتمه، فلم يكلّمه، فلمّا انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردّي عليه. قال: فقالوا له: نفعل، ولقد كنّا نحبّ أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [138]، فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً، قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: قولوا له: هذا عليُّ بنُ الحسين. قال: فخرج إلينا متوثّباً للشرّ، وهو لا يشك أنّه إنّما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه، فقال له عليُّ بنُ الحسين‘: يا أخي، إنّك كنتَ قد وقفتَ عليَّ آنفاً فقلتَ وقلت، فإن كنتَ قلتَ ما فيَّ، فأستغفر الله منه، وإن كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ، فغفر الله لك. قال: فقبّل الرجلُ ما بين عينيه، وقال: بل قلتُ فيك ما ليس فيك، وأنا أحقّ به. قال الراوي للحديث: والرجل هو الحسن بن الحسن»[139].

وإذا أراد الإنسان أن يعرف مدى أهمّية حُسن الخلق عند الله تبارك وتعالى، فلينظر للحديث التالي المروي عن الإمام عليِّ بنِ الحسين× أنّه قال: «ثلاثة نفر آلوا (أقسموا) باللات والعزّى؛ ليقتلوا محمداً’، فذهب أمير المؤمنين وحده إليهم، وقتل واحداً منهم، وجاء بآخَرينِ، فقال النبيُّ: قدِّم إليَّ أحدَ الرجلين، فقدَّمه فقال: قل: لا إله إلّا الله، واشهد أنّي رسول الله. فقال: لنقلِ جبل أبي قبيس أحبّ إليّ من أن أقول هذه الكلمة. قال: يا علي، أخّره واضرب عنقه. ثمّ قال: قدِّم الآخر، فقال: قل: لا إله إلّا الله، واشهد أنّي رسول الله. قال: ألحقني بصاحبي. قال: يا علي، أخّره واضرب عنقه. فأخّره وقام أمير المؤمنين ليضرب عنقه. فنزل جبرئيل على النبيّ’ فقال: يا محمد، إنّ ربّك يقرئك السلام، ويقول: لا تقتله؛ فإنّه حسن الخلق، سخيٌّ في قومه. فقال النبي’: يا علي، أمسك، فإنّ هذا رسول ربي يخبرني أنّه حسن الخلق، سخيٌّ في قومه. فقال المشرك تحت السيف: هذا رسول ربك يخبرك؟ قال: نعم. قال: والله، ما ملكت درهماً مع أخٍ لي قط، ولا قطّبتُ وجهي في الحرب، فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله. فقال رسول الله: هذا ممَّن جرّه حسن خلقه وسخائه إلى جنات النعيم»[140].

وهكذا كانت أخلاق سيد الشهداء× حتى مع ألدّ أعدائه في يوم عاشوراء، فقد كانت سيرتُه الشَريفة الطّيبة تشهد برحمته التي طبقت الآفاق، وشملت الناس جميعاً، «ينظر إلى القوم الذين احتوشوه استعداداً لقتله ويبكي! سألته أُخته زينب لماذا البكاء؟ قال: أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي، هل رأيتم إنساناً يبكي على عدوه الذي يظلمه؟!.. لم يكن هذا إلّا من الأنبياء»[141]

فاُنظر إلی رحمته×، ولكن في نفس الوقت اُنظر إلی قساوة أعدائه.. الله أكبر!!

***

المحاضرة السابعة: الظلم

روي عن رسول الله’ أنّه قال: «إيّاكم والظُلم؛ فإنَّ الظلمَ عندَ الله هو الظلماتُ يومَ القيامةِ»[142].

 «الظلم لغةً: وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلم عظيم؛ لجعله موضع التوحيد عند المشركين. وعُرفاً هو: بخس الحقّ والاعتداء على الغير، قولاً أو عملاً، كالسباب والاغتياب، ومصادرة المال وغيرها.

والظلم من السجايا الراسخة في أغلب النفوس، وقد عانت منه البشرية في تاريخها المديد ألوان المآسي والأهوال»[143].

الآيات والروايات التي تذمّ الظلم وتحذّر منه

 لا توجد شريعة سماوية لم تذمّ الظلم وتحذّر منه، بل كلّ الشرائع السماوية السابقة ناضلت ضدّ الظلم وحذّرت منه، وذمّته أشدّ الذمّ، ثمَّ جاءت الشريعة الخاتمة، فحذّرت من الظلم، ونهت عنه، وآيات القرآن الكريم طافحة بذلك.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[144].

و قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[145].

و قال تعالى: ﴿إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[146]، وغيرها من الآيات المباركة.

والروايات كذلك قد نهت عن الظلم، وحذّرت منه، ومنها هذا الحديث الشريف عن النبيّ’ فقد وصفه فيه بأنّه الظلمات عند الله يوم القيامة.

وقال الإمام أمير المؤمنين×: «والله، لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة، أسلبها جُلب شعيرة ما فعلتُ، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليٍّ ونعيم يفنى، ولذّة لا تبقى»[147]، والأحاديث في المقام كثيرة.

ثمّ إنّ مَن يظلم يسلّط الله عليه مَن يظلمه، كما ورد ذلك عن الإمام الصادق×، حيث قال: «مَن ظلم سلّطَ الله عليه مَن يظلمه، أو على عقب عقبه»[148].

أنواع الظلم

إنّ الظلم يتنوّع بحسب الجهة التي يقع عليها، أو قل: الجهة المظلومة، ومن هذه الأنواع ما نشير إليه على نحو الاختصار:

1 ـ ظلم الإنسان نفسه: وذلك بإهمال توجيهها إلى طاعة الله}، وتقويمها بالخلق الكريم، والسلوك الرضي، ممّا يزجّها في متاهات الغواية والضلال، فتبوء آنذاك بالخيبة والهوان.

2 ـ ظلم الإنسان عائلته: وذلك بإهمال تربيتهم تربية إسلامية صادقة، وإغفال توجيههم وجهةَ الخير والصلاح، وسياستهم بالقسوة والعنف، والتقتير عليهم بضرورات الحياة، ولوازم العيش الكريم، ممَّا يوجب تسيبهم وبلبلة حياتهم، مادياً ومعنوياً وأدبياً.

3 ـ ظلم الإنسان ذوي قرباه: وذلك بجفائهم وخذلانهم في الشدائد والأزمات، وحرمانهم من مشاعر العطف والبرّ، ممّا يبعث على تناكرهم وتقاطعهم.

4 ـ ظلم الإنسان للمجتمع: وذلك بالاستعلاء على أفراده، وبخس حقوقهم، والاستخفاف بكراماتهم، وعدم الاهتمام بشؤونهم ومصالحهم. ونحو ذلك من دواعي تحلّل أواصر المجتمع وضعف طاقاته.

وأبشع المظالم الاجتماعية، ظلم الضعفاء، الذين لا يستطيعون صدَّ العدوان عنهم، ولا يملكون إلّا الشكاة والضراعة إلى العدل الرحيم في ظلاماتهم.

فعن الإمام الباقر× أنّه قال: «لمّا حضر عليّ بن الحسين× الوفاةُ، ضمّني إلى صدره، ثمّ قال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به. قال: يا بني، إياك وظلم مَن لا يجد عليك ناصراً إلّا الله تعالى»[149].

5 ـ ظلم الحكّام والمتسلّطين: وذلك باستبدادهم، وخنقهم حرية الشعوب، وامتهان كرامتها، وابتزاز أموالها، وتسخيرها لمصالحهم الخاصّة، من أجل ذلك كان ظلم الحكّام أسوأ أنواع الظلم، وأشدّها نكراً وأبلغها ضرراً في كيان الأُمّة ومقدراتها.

ولذا شدّد الأئمّة^ على حرمة إعانة الظالمين؛ لأنّ الظالم إنّما يتقوّى بأعوانه، ولولاهم لما دبّ له دابّ، ولا رجل له راجل، فقد روي عن إمامنا الصادق× أنّه قال: «العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثتهم»[150]. ولا كفّارة لعمل السلطان إلّا قضاء حوائج الإخوان، كما ورد عن الإمام الصادق× أنّه قال: «كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان»[151]

وخامة الظلم

 إنّ استنكار بني البشر للظلم واستبشاعه فطري، تأباه النفوس الحرّة الكريمة، ولكن هذا فيما لو استمرّت الفطرة بسلامتها، ولم تلوّثها الأجواء، وإلّا سوف يصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً، ومال الله دُولةً بين الأغنياء، ويُقدَّم الرجل الدنيء على المؤمن الصادق[152]. ويزداد ظلم الظالمين ظلماً فوق ظلم، حتّى يكون الظلم يوم القيامة، كما عبّر عنه الحديث الذي افتتحنا به الكلام، ويصير فرعون الأمس عشرات من الفراعنة، ولم يهابوا حينئذٍ ما أعدّه الله تبارك وتعالى؛ إذ قال : ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ[153]، ومن هنا جاء في الأثر أنّه «لـمّا سجد السحرة ومَن آمن به من الناس، قال هامان لفرعون: إنَّ الناس قد آمنوا بموسى، فاُنظر مَن دخل في دينه، فاحبسه. فحبس كلّ مَن آمن به من بني إسرائيل، فجاء إليه موسى، فقال له: خلّ عن بني إسرائيل. فلم يفعل، فأنزل الله عليهم في تلك السنة الطوفان، فخرّب دورهم ومساكنهم، حتى خرجوا إلى البَرِّية، وضربوا الخيام، فقال فرعون لموسى: ادع ربَّك حتى يكفَّ عنّا الطوفان، حتى أخلي عن بني إسرائيل وأصحابك، فدعا موسى ربّه، فكفَّ عنهم الطوفان، وهمَّ فرعون أن يخلّي عن بني إسرائيل، فقال له هامان: إن خلّيت عن بني إسرائيل غلبك موسى، وأزال ملكك. فقبل منه، ولم يخلّ عن بني إسرائيل، فأنزل الله عليهم في السنة الثانية الجراد، فجردت كلَّ شيء كان لهم من النبت والشجر، حتى كانت تجرد شعرهم ولحيتهم، فجزع من ذلك جزعاً شديداً، وقال يا موسى: اُدع ربَّك أن يكفَّ عنّا الجراد، حتى أخلّي عن بني إسرائيل وأصحابك، فدعا موسى ربّه، فكفّ عنهم الجراد، فلم يدعه هامان أن يخلّي عن بني إسرائيل، فأنزل الله عليهم في السنة الثالثة القمّل، فذهبت زروعهم وأصابتهم المجاعة، فقال فرعون لموسى: إن دفعت عنا القمّل كففت عن بني إسرائيل، فدعا موسى ربّه حتى ذهب القمّل، وقال: أوّل ما خلق الله القمّل في ذلك الزمان، فلم يخلّ عن بني إسرائيل، فأرسل الله عليهم بعد ذلك الضفادع، فكانت تكون في طعامهم وشرابهم، ويقال: إنّها كانت تخرج من أدبارهم وآذانهم وآنافهم. فجزعوا من ذلك جزعاً شديداً، فجاؤوا إلى موسى، فقالوا: ادع الله أن يذهب عنّا الضفادع، فإنّا نؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا موسى ربّه، فرفع الله عنهم ذلك، فلمّا أبوا أن يخلّوا عن بني إسرائيل، حوّل الله ماء النيل دماً، فكان القبطي يراه دماً والإسرائيلي يراه ماءاً، فإذا شربه الإسرائيلي كان ماءاً، وإذا شربه القبطي كان دماً، فكان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فمك وصبه في فمي! فإذا صبّه في فم القبطي تحّول دماً، فجزعوا جزعاً شديداً، فقالوا لموسى: لأن رفع الله عنا الدم لنرسلنَّ معك بني إسرائيل. فلمّا رفع الله عنهم الدم، غدروا، ولم يخلّوا عن بني إسرائيل، فأرسل الله عليهم الرجز، وهو الثلج، ولم يروه قبل ذلك، فماتوا فيه، وجزعوا جزعاً شديداً، وأصابهم ما لم يعهدوا قبله، فقالوا:

﴿ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فدعا ربّه فكشف عنهم الثلج، فخلّى عن بني إسرائيل، فلمّا خلّى عنهم اجتمعوا إلى موسى×، وخرج موسى من مصر، واجتمع إليه مَن كان هرب من فرعون، وبلغ فرعون ذلك، فقال له هامان: قد نهيتك أن تُخلّي عن بني إسرائيل؛ فقد اجتمعوا إليه، فجزع فرعون، وبعث في المداين حاشرين، وخرج في طلب موسى»[154].

نتيجة الظلم ونهاية الظالمين

 لو تتبّعنا أحوال وسير الظالمين على مرّ العصور، لوجدناهم مساكين بمعنى الكلمة، ولو التفت الظالم لنفسه، لعلم أنّه أعدى مخلوق لها؛ إذ نتائج الظلم معلومة، ونهاية الظالمين واضحة جلية، ولكن نؤكّد ذلك ببيان بعض الآثار والنتائج المترتّبة على الظلم:

 الأُولى: ذهاب الحسنات وزيادة السيئات

 فقد ورد عن النبي الأكرم’، أنّه قال: «إنّه ليأتي العبد يوم القيامة وقد سرّته حسناته، فيجئ الرجل فيقول: يا ربّ، ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الذي سأله، فما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة، فإذا جاء مَن يسأله نظر إلى سيئاته، فجعلت مع سيئات الرجل، فلا يزال يستوفى منه حتى يدخل النار»[155].

 الثانية: زوال نعمة الظالم

 فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين×، أنّه قال: «وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد»[156].

 الثالثة: تعجيل العقوبة

 فقد سُئل أمير المؤمنين×: «أيّ ذنبٍ أعجل عقوبة لصاحبه؟ فقال: مَن ظلم مَن لا ناصر له إلّا الله، وجاور النعمة بالتقصير، واستطال بالبغي على الفقير»[157]، ولذا نرى كيف عجّل الله العقوبة بمَن ظلم مَن كان ينادي: «هل من ذابّ يذب عن حرم رسول الله’؟ هل من موحّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيثٍ يرجو الله بإغاثتنا؟ هل من معينٍ يرجو ما عند الله في إعانتنا؟! فارتفعت أصوات النساء بالعويل»[158]، وكيف عجّل الله العقوبة بمَن قال له: «والله، لا تذوقه [الماء] حتى ترد الحامية، فتشرب من حميمها! فقال: بل أرد على جدّي رسول الله، وأسكن معه في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وأشرب من ماء غير آسن، وأشكو إليه ما ارتكبتم مني، وفعلتم بي. فغضبوا بأجمعهم حتى كأنَّ الرحمة سلبت من قلوبهم»[159].

***

المحاضرة الثامنة: الخوف من الله تعالى

قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [160].

تستعرض هاتان الآيتان جزاء الخائف من مقام الله تبارك وتعالى، والاستنكار على مَن كذّب هذا الجزاء وأنكر هذه النعمة، وقبل الولوج في صلب الموضوع، لا بدّ من بعض الإيضاحات:

ما هو الخوف؟

الخوف هو تألّم النفس خشيةً من حدوث شيء ووقوعه.

وأمّا الخوف من الله تبارك وتعالى فهو تألم النفس خشيةً من عقابه، وحياءً من عتابه.

والخوف من الله تبارك وتعالى من خصائص الأولياء، وسمات المتّقين، والباعث المحفّز على الاستقامة والصلاح، والوازع القوّي من الشرور والآثام.

لذلك أولته الشريعةُ عنايةً فائقةً، وأثنت على ذويه ثناءً عاطراً مشرفاً[161]؛ إذ قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ[162].

 وعن إسحاق بن عمّار قال: قال أبو عبد الله×: «يا إسحاق، خف اللهَ كأنّك تراه، وإن كنتَ لا تراه فإنّه يراك، فإن كنتَ ترى أنّه لا يراكَ فقد كفرتَ، وإن كنتَ تعلم أنّه يراكَ، ثمَّ برزت له بالمعصية، فقد جعلتَه من أهونِ الناظرينَ عليك»[163].

وقال× أيضاً: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو»[164].

ويروى أنّه: «دخل حكيمٌ على المهتدي العبّاسي، فقال الأخير له: عظني، فقال الحكيم: أليس هذا المجلس قد جلس فيه أبوك وعمّك قبلك؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمالٌ ترجو لهم النجاة بها؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمالٌ تخاف عليهم الهلكة منها؟ قال: نعم. قال: فاُنظر ما رجوت لهم فيه فآته، وما خفت عليهم منه فاجتنبه»[165].

محاسن الخوف

 إنّ للخوف محاسناً عديدة، وكيف لا يكون كذلك، وهو من الصفات الحميدة والخلال الحسنة المجيدة، وقد مدحه الكتاب والسنّة والعقلاء والحكماء.

إذ لا يحصل الإنسان على السعادة الدنيوية والأُخروية إلّا بالخوف من الله تبارك وتعالى؛ ولذا أعدّ الباري} في هذه الآية وغيرها الثواب الجزيل للخائفين منه جلَّ وعلا.

ولذا نرى أنّ الإمام أمير المؤمنين× يبشّر الخائفين من الله تبارك وتعالى، والكابحين لشهواتهم، والغالبة عقولهم عليها، بأنَّهم خير من الملائكة؛ إذ قال×: «إنّ الله ركّبَ في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوةً بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما، فمَن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومَن غلب شهوتُه عقلَه فهو شرٌ من البهائم»[166].

 فصار الإنسان المسيطر على شهوته والمتحكّم بها سعيداً، ويعيش حياةً طيبةً، وما ذاك إلّا لخوفه من الله، وخضوعه له}، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [167].

وما نراه اليوم من مآسي وآلام تحيط بالشعوب والأفراد، ما هو إلّا تبعات ترك الحكّام والسّلاطين، بل الناس أنفسهم، لخشية الله والخوف منه، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [168].

ما هو المقصود من المقام؟

 ولو تأمّلنا في الآية، نجد أنّها قالت: ﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، فما هو المقام الذي رتّبت الآية عليه ذلك الجزاء الكبير وهو (الجنتان).

لقد فسّر الإمام الصادق× المقام عند تفسيره لهذه الآية، حيث قال×: «ومَن عَلِمَ أنّ الله يراه، ويسمع ما يقول، ويعلم ما يعلمه من خيرٍ أو شرٍّ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربِّه ونهى النفس عن الهوى»[169].

فالخوف من مقام الله، هو الخوف الذي يحجب الإنسان عن معاصي الله، ويحذّره من مواقف يوم القيامة، والحضور أمام الله سبحانه وتعالى للحساب.

ولذا قالت الآية المباركة من سورة فاطر: ﴿ِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [170]، فالذي يخشى اللهَ تبارك وتعالى ويخافه هو مَن يعلم بمقامه ومنزلته، ووعده ووعيده وعدله، فالخوف والخشية يتناسبان تناسباً طردياً مع العلم؛ فكلّما ازداد علم الإنسان، فالمفترض أن يزداد خوفُه وخشيتُه من الباري}.

ومن هنا رُويَ عن الإمام الباقر×، أنّه قال: «خرجت امرأةُ بغي على شباب من بني إسرائيل، فأفتنتهم، فقال بعضُهم: لو كان العابد فلاناً لو رآها أفتنته، وسمعت مقالتهم، فقالت: والله، لا أنصرف إلى منزلي حتى أفتنه، فمضت نحوه في الليل، فدقّت عليه، فقالت: آوى عندك، فأبى عليها، فقالت: إنَّ بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي، فإن أدخلتني وإلّا لحقوني وفضحوني، فلمّا سمع مقالتها فتح لها، فلمّا دخلت عليه، رمت بثيابها، فلمّا رأى جمالها وهيأتها، وقعت في نفسه، فضرب يده عليها، ثمَّ رجعت إليه نفسه، وقد كان يوقد تحت قدر له، فاقبل حتى وضع يده على النار، فقالت: أي شيء تصنع؟ فقال: أحرقها؛ لأنّها عملت العمل فخرجت حتى أتت جماعة بني إسرائيل، فقالت: الحقوا فلاناً، فقد وضع يده على النار. فأقبلوا فلحقوه وقد احترقت يده»[171].

فاُنظر إلی هذا العابد، لولا أنّه يعلم مقام الله سبحانه وتعالى لما نجى من هذه الموبقة العظيمة، والجريمة الفظيعة، والكبيرة الموبقة وهي الزنا، أعاذنا الله من كلّ قبيح وحرام.

ما هما الجنتان؟

 وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: ما الجنتان اللتان وعد الرحمٰن بهما لمن خاف مقامه}؟

اختلفت آراء علماء المسلمين من المفسِّرين في هاتين الجنّتين، فقيل: «أحدهما للإنس، والأُخرى للجانّ، أو جنّة عدن وجنّة النعيم، أو بستانان من بساتين الجنّة، أو إحداهما منزله، والأُخرى منزل أزواجه وخدمه، كعادة رؤساء الدنيا»[172].

 وقيل: «جنّة لفعل الطاعة، وأُخرى لترك المعصية. وقيل: جنّة للعقيدة التي يعتقدها، وأُخرى للعمل الذي يعمله. وقيل: جنّة بالعمل، وجنّة بالتفضيل. وقيل: جنّة روحانية، وجنّة جسمانية. وقيل: جنّة لخوفه من ربِّه، وجنّة لتركه شهوته. وقال الفرّاء: إنّما هي جنّة واحدة، والتثنية لأجل موافقة رؤوس الآي. قال النحّاس: وهذا القول من أعظم الغلط على كتاب الله؛ فإنَّ الله يقول (جنّتان) ويصفهما بقوله فيهما»[173].

 قال العلاّمة الطباطبائي في تفسيره الميزان: «وهذه الأقوال ـ كما ترى ـ لا دليل على شيء منها. ثمَّ قال: وقيل: جنّة يُثاب بها وجنّة يُتفضّل بها عليه، ويمكن أن يُستشعر ذلك من قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ»[174].

كيف نستشعر الخوف من الله تبارك وتعالى؟

 الخوف ـ كما قلنا ـ هو تألّم النفس خشية من عذاب الله وعقابه، وهذا التألّم في كثير من الأحيان يضعف عن المستوى المطلوب، وحينئذٍ لا بدّ من استشعاره مرةً أُخرى حتّى يصل إلی الحدّ الذي يكون فيه خوفاً من مقام الله تبارك وتعالى، ولأجل ذلك لا بدّ من اتّباع النصائح التالية:

1 ـ تركيز العقيدة، وتقوية الإيمان بالله تعالى، ومفاهيم المعاد والثواب والعقاب، والجنّة والنار؛ إذ الخوف من ثمرات الإيمان وانعكاساته على النفس، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [175].

2 ـ دراسة حالات الخائفين، وضراعتهم وتبتّلهم إلى اللّه}، خوفاً من سطوته، وخشية من عقابه.

ولذا ترى الإمام عليَّ بن الحسين×، وهو زين العابدين، وسيد الساجدين، كيف يناجي ربَّه يقول في بعض أدعيته: «وما لي لا أبكي؟! ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، فما لي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي، أبكي لحلول رمسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عُرياناً ذليلاً، حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرّةً عن يميني، ومرّةً عن شمالي إذ الخلائق في شن غير شأني: ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ *  ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ »[176].

2 ـ استماع المواعظ البليغة والحِكَم الناجعة، الموجبة للخوف والرهبة[177]. وأعظم مواعظ يجب استماعها هي مواعظ أهل البيت×؛ لأنّها مواعظ خرجت من قلوب صادقة، وأفواه طيبة، وهي مواعظ بليغة، بالغة الأهمّية، تذيب الصخر الأصم.

ومن تلك المواعظ مواعظ سيّد الشهداء× يوم عاشوراء التي كانت من السمو والرفعة أن نصح أعدائه من قتله ووعظهم، ففي يوم عاشوراء وبعد أن صفَّ ابنُ سعد أصحابَه للحرب دعا الإمام الحسين× براحلته فركبها، ونادى بصوت يسمعه جُلّهم: «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحقّ لكم عليَّ، وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غُمّة، ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب، وهو يتولّى الصّالحين». ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلى على النبيّ’ وعلى ملائكة الله وأنبيائه، فلم يسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه، ثمّ قال: «أمّا بعد: فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمّه وأوّل المؤمنين المصدّق لرسول الله بما جاء به من عند ربّه، أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّي؟ أوَ ليس جعفر الطيار في الجنّة بجناحين عمّي؟ أوَ لم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، والله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أنَّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإنَّ فيكم مَن لو سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابرَ بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن بن مالك، يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله’ لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!». فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري (ما تقول)، فقال له حبيب بن مظاهر: والله، إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.

ثمَّ قال لهم الحسين×: «فإن كنتم في شكٍّ من هذا، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيكم؟! فوالله، ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم، وَيْحَكُم، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟!».فأخذوا لا يكلّمونه، فنادى: «يا شبث بن ربعي، يا حجّار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليَّ أن قد أينعت الثمار وأخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجندة؟!».فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول، ولكن انزل على حكم بني عمّك، فإنّهم لن يروك إلّا ما تحبّ. فقال له الحسين: «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد». ثمّ نادى: «يا عباد الله، إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لايؤمن بيوم الحساب»[178].

لم أنسه إذ قام فيهم خاطباً
يدعو ألست أنا ابن بنت نبيكم
هل جئت في دين النبي ببدعة
أم لم يوصّ بنا النبيّ وأودع
إن لم تدينوا بالمعاد فراجعوا
فغدوا حيارى لا يرون لوعظه
فإذا هم لا يملكون خطابا
وملاذكم إن صرف دهر نابا
أم كنت في أحكامه مرتابا
الثقلين فيكم عترة وكتابا
أحسابكم إن كنتُمُ أعرابا
إلّا الأسنّة والسهام جوابا
[179].

***

المحاضرة التاسعة: الفحش والسبّ والقذف

عن سليمان بن مهران، قال: دخلت على الصّادق جعفر بن مُحمّدٍ÷، وعنده نفر من الشّيعة، فسمعته وهو يقول: «معاشرَ الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»[180].

وقبل البدء في تسليط الضوء على فقرات هذه الرواية الشريفة، ينبغي أن يُعلم أنَّ كلام الإمام× ليس مقتصراً على الشيعة، بل هو لجميع الأُمّة وإن كان المخاطب به الخاصّ؛ لأنَّ الإمام يقوم مقام النبيّ’ في هداية الأُمّة وإرشادها، كما هو واضحٌ.

يخاطب الإمام الصادق× في هذا الحديث الشيعة، بل جميع الأُمّة، ويأمرهم بأن يكونوا له، ولجميع الأئمّة^ زيناً، وأن لا يكونوا شيناً كذلك.

ثمّ قال الإمام×: «قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول، وقبيح القول».

من أخطر وأوضح مصاديق الفضول، وقبيح القول هو الكلام الفاحش، والسباب، والقذف الذي ابتُليت به هذه الأُمّة، ونحن ـ إن شاء الله تعالی ـ سنذكر هذه القبائح الثلاثة على نحو الاختصار.

1 ـ الفحش: هو التعبير عمّا يقبح التصريح به[181]، كألفاظ الوقاع، وآلاته ممّا يتلفّظ به السفهاء، ويتحاشاه النُبلاء، ويعبّرون عنها بالكناية والرمز، كاللمس والمسّ، كناية عن الجماع.

وهكذا يُكنّي الأدباء عن ألفاظ ومفاهيم يتفادون التصريح بها؛ لياقة وأدباً، كالكناية عن الزوجة بالعائلة، وأُمّ الأولاد، وعن التبوّل والتغوّط بقضاء الحاجة، والرمز إلى البرص والقرع بالعارض مثلاً؛ إذ التصريح بتلك الألفاظ والمفاهيم مُستهَجَن عند العقلاء والعارفين.

2 ـ وأمّا السبّ: فهو الشتم[182]، نحو (يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا خائن)، وأمثاله من مصاديق الإهانة والتحقير.

3 ـ وأمّا القذف: نحو يا ابن الزانية، أو يا زوج الزانية، أو يا أخ الزانية. وغيرها من الألفاظ المماثلة ممّا اعتاد عليه البعض من غير المتديّنين، بل البعض منهم يمازح رفيقه بها، ولا يقولها إلّا مدحاً له.

وهذه الخصال الثلاث من أبشع مساوئ اللسان، وغوائله الخطيرة التي استنكرها الشرع والعقل، وحذّرت منها الآثار والنصوص.

الفُحش والسبّ والقذف في نظر الشارع المقدّس

 لقد حذّرت الشريعة المقدّسة عن الكلام الفاحش والسباب والقذف أشدّ التحذير، والآيات والروايات الواردة في المقام عديدة.

أمّا الفُحش: فقد قال رسول اللّه’ في ذمّه: «إنّ الله حرّم الجنّة على كلِّ فحّاش بذيء، قليل الحياء، لا يبالي ما قال، ولا ما قيل له، فإنّك إن فتّشته لم تجده إلّا لغية أو شِرك شيطان. فقيل: يا رسول الله، وفي الناس شِرك شيطان؟ فقال رسول الله’: أما تقرأ قول الله: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ »[183].

فالمراد بمشاركة الشيطان للناس في الأموال، دفعهم على كسبها بالوسائل المحرّمة، وإنفاقها في مجالات الغواية والآثام.

وأمّا مشاركته في الأولاد: فبمشاركته الآباء في حال الوقاع، إذا لم يسمّوا الله تعالى عنده، فعن عبد الرحمن بن كثير، قال: كنت عند أبي عبد الله× جالساً فذكر شِرك الشيطان، فعظَّمه حتى أفزعني، قلت: جُعلتُ فداك فما المخرج من ذلك؟ قال: «إذا أردت الجماع فقل: بسم الله الرحمن الرحيم، الذي لا إله إلا هو، بديع السماوات والأرض، اللّهم إن قضيت منّي في هذه الليلة خليفة فلا تجعل للشيطان فيه شِركاً، ولا نصيباً، ولا حظّاً، واجعله مؤمناً مخلصاً مصفىً من الشيطان ورجزه، جلَّ ثناؤك»[184].

 وممّا يؤكّد نهي الشارع عن الفُحش أيضاً، ما روي عن أبي عبد الله الصادق×، أنّه قال: «مَن خافَ الناسُ لسانَه فهو في النار»[185].

وأمّا السبّ: فقد قال الإمام الباقر× عنه: «قالَ رسولُ الله’: سَبَابُ المؤمن فُسُوق، وقِتالَه كُفر، وأكل لحمه معصية، وحُرمةُ ماله كحرمة دمه»[186].

وأمّا القذف: فقد قال الإمام الباقر× عنه: «ما من إنسانٍ يطعن في عين مؤمن، إلّا مات بشرّ ميتة»[187].

وعن عمرو بن نعمان الجعفي قال: «كان لأبي عبد الله× صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في الحذّائين، ومعه غلام له سندي يمشي خلفهما، إذا التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرّات فلم يره، فلمّا نظر في الرابعة، قال: يا ابن الفاعلة، أين كنت؟ قال: فرفع أبو عبد الله× يده فصكَّ بها جبهةَ نفسهِ، ثمَّ قال: سبحان الله! تقذف أُمّه، قد كنتُ أرى أنَّ لك ورعاً، فإذا ليس لك ورع. فقال: جعلت فداك، إنَّ أُمّه سندية مشركة، فقال: أما علمت أنّ لكلّ أُمّة نكاحاً، تنحَّ عنّي. قال: فما رأيتُه يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما. وفي رواية أُخرى: إنَّ لكل أمة نكاحاً تحتجزون به من الزنا»[188].

وقد عزى بعض العلماء[189] السبب في الفُحش والسبّ والقذف إلی أسباب: منها، العِداء والحسد، أو الغضب وسوء الخلق، وكثيراً ما تنشأ من فساد التربية، وسوء الأدب والصحبة، فنحن نرى في العالم الخارجي أنّ الشخص الذي يعيش في وسط لا يبالي بقول الفُحش ولا السبّ والبذاء والقذف، نراه يتلفّظ تلك الألفاظ بسهولة، وتصبح عنده أحلى من العسل، سواء سمعها قيلت فيه، أو قالها هو لآخر.

مساوئ آثار هذه الخِصال

 إنّ لقول الفحش والسبّ والقذف مساوئاً وآثاراً سيئة كثيرة، وأضراراً خطيرة، وآثاماً فادحة.

فمن مساوئها: أنّها تجرّد الإنسان من خصائص الإنسانية المهذّبة، وأخلاقها الكريمة، وتَسِمَهُ بالسفالة والوحشية.

ومنها: أنّها داعية للعداء والبغضاء، وإفساد العلاقات الاجتماعية، وإيجابها المقت والمجافاة بين أفراد المجتمع.

ومنها: أنّها تعرّض ذويها لسخط الله تعالى وعقابه الأليم، كما ذكرته النصوص الآنفة الذكر.

لذلك جاء التحريض على رعاية اللسان، وصونه عن قوارص البذاء[190].

***

المحاضرة العاشرة: الكلم الطيّب

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [191].

من أهم الأسباب التي تولّد المشاكل بين الأفراد، بل المجتمعات بصورةٍ عامّةٍ، هي مشكلة سوء الإستفادة من عضلة اللسان، هذه العضلة التي وهبها الله} لتكون نعمة للبشر، لا أن تكون نقمة عليهم، ومن هنا قال الشاعر:

احفظ لسانك أيُّها الإنسانُ
لا يلدغنَّك إنّه ثُعبانُ
[192].

وهذا هو الواقع؛ فإنَّ اللسان أشدّ من الثعبان، فإنّه سَبُعٌ ضاري، كما قال الإمام أمير المؤمنين×: «اللسان سبُع، إن خلي عنه عقر»[193].

فمن أجل ذلك كان صون اللسان مهمّة كلّ إنسان عاقل، يدين بدين الله تبارك وتعالى، وتعويده على الكلم الطّيب دون الخبيث منه؛ فإنّ الكلمة الطيبة هي الباقية، والخبيثة مجتثة من فوق الأرض مالها من قرار.

قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ *  تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *  وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ *  يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [194].

فطيب الكلام، وحسن الحديث والمقال من صفات النبلاء والكرام، بخلاف الكلام الخبيث.

تأكيد القرآن والسنة على صون اللسان

لقد أكّدت الآيات والروايات على صون اللسان عن كلّ ما لا يرضي اللهَ تبارك وتعالى، وهكذا السنّة الشريفة.

أمّا الآيات الدالّة على ذلك فهي كثيرة، نذكر منها ما يلي:

قال تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [195]، وقال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[196].

ومن الآيات الآية التي افتتحنا بها المحاضرة، وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالی، وأيضاً الآية المتقدِّمة، وهي قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا...﴾.

وأمّا الروايات الدالّة على ذلك كثيرة جداً نذكر منها ما يلي:

1ـ جاء رجل إلى النبيِّ’ فقال: «يا رسول الله، أوصني. قال: احفظ لسانك. قال: يا رسول الله، أوصني. قال: احفظ لسانك. قال: يا رسول الله، أوصني. قال: احفظ لسانك، ويحك! وهل يكبّ الناسَ على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم»[197].

2ـ وقال الإمام زين العابدين عليُّ بن الحسين×: «القول الحسن يثري المال، وينمي الرزق، وينسئ في الأجل، ويحبّب إلى الأهل، ويُدخِل الجنّة»[198].

فاُنظر إلی أهمية صون اللسان عن غير الكلام الحسن، وأهمية الكلام الحسن، الذي فيه آثار عديدة، منها: أنّه يثري المال، وينمي الرزق، ويؤخّر الأجل، ويحبّب إلی الأهل، وأهمّها: الدخول إلی الجنّة، الذي هو أُمنية كلّ مؤمن.

وعن الإمام الكاظم× قال: «قال رسول الله’: رحم اللهُ عبداً قال خيراً فَغَنِمَ، أو سكت عن سوء فَسَلِم»[199].

ومرّ الإمام أمير المؤمنين× برجلٍ يتكلّم بفضول الكلام، فوقف عليه، وقال: «يا هذا، إنّك تملي على حافظيك كتاباً إلى ربّك، فتكلّم بما يعنيك، ودع ما لا يعنيك»[200].

التأمّل في الآيتين

بعد هذه المقدّمات في الموضوع، فلنرجع إلی الآيتين المباركتين، حيث قال الباري: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ...﴾.

فقد أمرنا الله تبارك وتعالى بتقواه، وأن يكون قولنا قولاً سديداً، ورتّب على ذلك أثرين، وهما: (إصلاح الأعمال، وغفران الذنوب)، وهما مقدّمتان للفوز بالنعيم الخالد، وهو الجنّة.

ما هو القول السديد؟

إنّ الآية الكريمة أمرت المؤمنين بالتقوى والقول السديد، أمّا التقوى فقد تقدّم الكلام عنها سابقاً بشيءٍ من التفصيل، وإجماله أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، كما عبّرت عنه الرواية الشريفة[201].

وأمّا القول السديد، فقد جاء في روايات أهل البيت^ أنّه القول العدل، فقد روي عن الإمام الصادق× أنّه قال لعبّاد بن كثير البصري الصوفي: «ويحك يا عبّاد، غرّك أن عفَّ بطنُك وفرجُك؟ إنّ الله يقول في كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ، اعلم إنّه لا يتقبَّل اللهُ منك شيئاً حتى تقول قولاً عدلاً»[202].

فالقول السديد مأخوذ من مادة (سدّ) أي: المحكم المنيع، الذي لا يعتريه الخلل، والموافق للحقّ والواقع، يعني: القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل[203].

ثمَّ بينّت الآية التالية نتيجة التقوى والقول السديد، حيث قالت: ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، فإنّ التقوى ـ في الواقع ـ هي الدعامة العظيمة لإصلاح الإنسان أعماله وأقواله، ومنها إصلاح اللسان؛ فإنّ الإنسان المتّقي لا يقول إلّا القول السديد، ولا يتلفّظ إلّا به.

ولذا ورد عن النبيِّ الأكرم’ أنّه قال: «لا يستقيم إيمان عبدٍ حتّى يستقيم قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتّى يستقيمَ لسانُه»[204].

فهذا معناه أنّ أكثر المشاكل منشأوها اللسان، الذي يحصد الأخضر واليابس، ويقطع المسافات التي لا تقطعها غيره من الجوارح.

فالإذن مثلاً: لا تسمع إلّا ضمن حدٍّ محدود، وهكذا العين لا تبصر إلّا بقدرٍ مخصوص، ومثلها سائر الجوارح، ما عدا اللسان فإنّه يتجاوز البيان، فإنّه لا تحدّه الحدود، فهو قادر على إيقاع الفتنة في أقصى البلاد، وقادر على النميمة والغيبة في نهاية العالم، خصوصاً في زماننا هذا، الذي يسمى بزمان القرية الواحدة، بل البيت الواحد، وإلى هذا أشارت كلمة الإمام السجاد× التي يقوله فيها: «إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه فيقول: كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: الله الله فينا، ويناشدونه، ويقولون: إنّما نثاب بك، ونعاقب بك»[205].

 فانظر إلی خوف كلّ الأعضاء والجوارح من اللسان! وكيف يتوسّلون إليه، ويطلبون منه أن يتركهم وشأنهم.

وهناك روايات كثيرة في هذا الباب، تحكي جميعاً عن الأهمّية الفائقة للسان، ودوره في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس.

ثمرات القول السديد

ذكرنا إنّ اللسان من الجوارح المهمّة والخطيرة في الإنسان، ولا بدّ من معرفة مواطن خطورتها، ومواطن أهميتها.

وهذا اللسان لو سخّر وروّض في مرضاة الله تبارك وتعالى، لأثمر أي ثمرات، ثمرات لا مثيل لها، من إصلاح المجتمع، وتهذيب النفوس، وبالتالي الإرتقاء بهم إلی الجنّة، وذلك هو الفوز العظيم، ومن هنا نرى أنَّ الأئمّة× كيف هدوا أُمّةً من الناس عن طريق القول السديد، والكلام الطيب الرشيد، فقد روي أنّ الإمام الكاظم×: «اجتاز على داره ـ أي: بشر ـ ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل، فرمت بها في الدرب: فقال لها: يا جارية، صاحب هذه الدار حُرٌ أم عبدٌ؟ فقالت: بل حُرٌ. فقال: صدقتِ، لو كان عبداً خاف من مولاه! فلمّا دخلت، قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأك علينا؟ فقالت: حدّثني رجلٌ بكذا وكذا، فخرج حافياً حتى لقي مولانا الكاظم×، فتاب على يده»[206].

وقد وفّق هذا الرجل للتوبة، وأصبح من العبّاد والزّهاد إلی آخر عمره، وتوفي في بغداد، قال الشيخ القمي: «... وللصوفية اعتقادٌ تامٌّ به، وقيل له: الحافي؛ لانّه كان حافياً دائماً، والظاهر إنّ سبب ذلك أنّه هرول خلف الإمام موسى بن جعفر× حافياً، ونال السعادة العظمى»[207].

فاُنظر إلی تأثير هذا القول السديد، والكلام الطيب، ومن هنا روي أنّ «الكلمة الطيبة صدقة»[208]، وأي صدقةٍ التي يدخل الإنسان بها الجنّة!

 ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم الإنسان بأن لا ينظر إلى قائل الكلمة الطيبة والهداية النافعة ممّن خرجت، ففي المروي عن الإمام الباقر× أنّه وعظ شيعته ومواليه، قائلاً لهم:
«... ألا تأخذون الذهب من الحجر، ألا تقتبسون الضياء من النور الأزهر، ألا تأخذون اللؤلؤ من البحر. خذوا الكلمة الطيبة ممَّن قالها، وإن لم يعمل بها، فإنّ الله يقول: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ »[209].

ثمّ قالت الآية الثانية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا .

ما هو الفوز العظيم؟

إنّ طاعة الله طاعة الرسول، وطاعة الرسول’ طاعة أهل بيته الطيبين الطاهرين، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ[210]، والتي فسّرها جملة من المفسّرين في أهل البيت^، وأنّهم أولي الأمر[211].

والمهم في المقام بيان الفوز العظيم المترتّب على طاعة الله وطاعة الرسول’، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ السبب في كون الفوز عظيماً من وجهين:

الأول: أنّه من عذاب عظيم، والنجاة من العذاب تعظم بعظم العذاب.

الثاني: أنّه وصل إلی ثوابٍ كثير، وهو الثواب الدائم الأبدي[212]؛ ولذا كان عظيماً، ولكن ليس بدون عمل، بل لأنَّ صاحب العمل أطاع الله وأطاع الرسول’؛ ولذا عندما نذكر سيّد الشهداء× نقول: «يا ليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً»، ويا ليت القوم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في ذريته التي قال عنها رسول الله ’: «أنا سلم لمَن سالمهم، وحرب لمَن حاربهم»[213]؛ حتّى يفوزوا بالفوز العظيم، لكن القوم ما انصفوا رسول الله’، بل لو كان’ أمرهم أن يقتلوا أهل بيته^ لما زادوا، كما قال إمامُنا زين العابدين×: «أيّها الناس، أيّ قلب لا ينصدع لقتله، أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه، أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام؟! أيها الناس، أصبحنا مطرودين، مشرّدين، مذودين، شاسعين، كأنّا أولاد ترك أو كابل، من غير جرمٍ اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إن هذا إلّا اختلاق، والله، لو أنَّ النبيِّ تقدّم إليهم في قتالنا، كما تقدّم إليهم في الوصاة بنا لما زادوا على ما فعلوه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون»[214].

***                            

المحاضرة الحادية عشرة: حقوق الوالدين والأرحام

عن داود بن كثير الرَّقي، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق×، يقول: «مَن أحبَّ أن يخفِّفَ اللهُ عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه بارّاً، فإذا كان كذلك هوّن الله عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقرٌ أبداً»[215].

نتناول في هذه المحاضرة موضوعين مهمّين، ألا وهما: صلة الرحم وبرّ الوالدين، وقد ذكر هذا الحديث المبارك هذين الموضوعين، وذكر أيضاً ما يترتّب عليهما من أثر، والأثر المترتّب عليهما هو: تخفيف الله سكرات الموت وتهوينها، وعدم الإصابة بالفقر أبداً.

ولنرجع إلی أصل الموضوعين، ونتناول كلَّ واحدٍ منهما على حدة، وبشيء من التفصيل.

1ـ صلة الأرحام والقرابة

 الأقرباء هم الأُسرة التي ينتمي إليها الإنسان، والدوحة التي تفرّع منها، وهم ألصق الناس نسباً به، وأشدّهم عطفاً عليه، وأسرعهم إلی نجدته ومواساته.

وأفضل الأقرباء والأرحام وأجدرهم بالإعجاب والثناء هم: المتحابّون، المتعاطفون، المتآزرون على تحقيق أهدافهم ومصالحهم.

وكلّما استشعر الأرحام وتبادلوا أحاسيس التضامن والتعاطف، كانوا أعزّ قدراً، وأمنع جانباً، وأشد قوةً على مجابهة الأعداء، والشدائد والأزمات.

والمقصود من الأرحام هم المتَّحدون في النسب، وإن تباعدت أواصر القربى بينهم، والمراد من صلتهم التودّد إليهم، والعطف عليهم، وإسداء العون المادي لهم، ودفع المكاره والشرور عنهم، ومواساتهم في الأفراح والأحزان[216].

الروايات الحاثّة على صلة الأرحام

 هناك عدّة روايات حثّت على صلة الأرحام والقرابة، وإليك طرفاً منها:

عن أبي جعفر الباقر× قال: «قال رسول الله’: اُوصي الشاهدَ من أُمّتي والغائبَ منهم، ومَن في أصلابِ الرجالِ وأرحامِ النساءِ إلى يوم القيامة: أن يصل الرحم، وإن كان منه على مسيرة سنة؛ فإنّ ذلك من الدين»[217].

وعلّق بعض الأكابرعلى قوله×: «وإن كان منه على مسيرة سنة» بقوله: «فينبغي الإرتحال لزيارتهم، أو إرسال الكتاب والهدايا إليهم»[218].

وقال أبو عبد الله×: «ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلّا صلة الرحم، حتى أنّ الرجل يكون أجله ثلاث سنين، فيكون وصولاً للرحم، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة، فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون قاطعاً للرحم فينقصه الله تعالى ثلاثين سنة، ويجعل أجله إلى ثلاث سنين»[219].

وهذا الحديث واضح الدلالة على أنّ صلة الرحم وحدها سببٌ لزيادة العمر، ولعلَّ المراد أنّها أكمل أفراد ما يوجب زيادة العمر، مثل الصدقة وحسن الجوار وغيرهما، ويمكن إدراج غيرها فيها بوجهٍ.

وقال الإمام الصّادق× أيضاً: «صل رحمَك ولو بشربةٍ من ماء، وأفضل ما يوصل به الرحم كفّ الأذى عنها...»[220]. وعنه× أنّه قال: «إنّ رجُلاً أتى النبيَّ’ فقال: يا رسول اللّه، أهل بيتي أبوا إلّا توثّباً عليَّ، وقطيعةً لي وشتيمةً فأرفضهم؟ قال’: إذاً يرفضكم الله جميعاً. قال: فكيف أصنع؟ قال’: تصل مَن قطعك، وتعطي مَن حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك، فإنّك إذا فعلت ذلك كان لك من الله عليهم ظهيرٌ»[221].

وكلّما كان الأرحام والأقرباء متماسكون أكثر، كانوا أقدر على مجابهة المشاكل والصعاب، ولا يستطيع الأعداء والحُسّاد زعزعتهم.

ومن هنا حُكي أنّ رجلاً يُدعى (أكثم بن صيفي)، دعى أبناءه عند موته، فاستدعى إضمامةً[222] من السهام، فتقدّم إلی كلّ واحد منهم أن اكسرها فلم يقدر أحد على كسرها.

ثمَّ بدّدها فتقدّم إليهم أن يكسروها فاستسهلوا كسرها، فقال: كونوا مجتمعين؛ ليعجز من ناواكم عن كسركم، كعجزكم عن كسرها مجتمعةً، فإنّكم إن تفرقتم سهل كسركم[223].

آثار قطيعة الرحم

 قطيعة الرحم، هي فعل ما يسخط الرحم ويؤذيه، قولاً وفعلاً، كسبّه واغتيابه وهجره، وقطع الصلات المادية عنه، وحرمانه من مشاعر العطف والحنان.

وتعتبر الشريعة الإسلامية قطيعة الرحم جرماً كبيراً، وإثماً ماحقاً، توعّد عليها الكتاب والسنّة، قال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [224].

وقال رسول الله’: «أربعة أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنتَ إليه فكافأك بالإحسان إساءةً، ورجل لا تبغى عليه، وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته على أمر فوفيت له وغدر بك، ورجل وصل قرابته فقطعوه»[225].

ومن هنا روي عن بعض أصحاب الإمام الصادق× أنّه قال: «قلت له: إنّ إخوتي وبني عمّي قد ضيّقوا عليّ الدار، وألجأوني منها إلى بيت، ولو تكلّمت أخذت ما في أيديهم، قال: فقال لي: اصبر فإنَّ الله سيجعل لك فرجاً. قال: فانصرفت، ووقع الوبا في سنة إحدى وثلاثين [ومائة]، فماتوا والله كلّهم، فما بقي منهم أحد، قال: فخرجت فلمّا دخلت عليه، قال: ما حال أهل بيتك؟ قال: قلت له: قد ماتوا والله كلّهم، فما بقي منهم أحد، فقال: هو بما صنعوا بك، وبعقوقهم إيّاك، وقطع رحمهم بتروا، أتحب أنّهم بقوا، وأنّهم ضيّقوا عليك؟ قال: قلت: إي والله»[226].

وفي خبر شعيب العقرقوفي في دخول يعقوب المغزلي على موسى بن جعفر×، وقوله× له: «يا يعقوب، قدمت أمس، ووقع بينك وبين أخيك شرٌ في موضع كذا وكذا، حتى شتم بعضكم بعضاً، وليس هذا من ديني ولا دين آبائي، ولا نأمر بهذا أحداً، فاتقِ الله وحده، فإنّكما ستعاقبان بموت، أمّا أخوك فيموت في سفره قبل أن يصل إلى أهله، و ستندم أنت على ما كان؛ ذلك أنّكما تقاطعتما فبتر الله أعماركما. قال الرجل: جعلت فداك، فأنا متى أجلي؟ قال: كان حضر أجلك، فوصلت عمّتك بما وصلتها في منزلك كذا وكذا، فأنسأ الله به أجلك عشرين سنة. قال: فلقيت الرجل قابل بمكة، فأخبرني أن أخاه توفي في ذلك الوجه، ودفنه قبل أن يصل إلى أهله»[227].

ودلالة الحديث واضحة أيضاً على أنّ المراد بالنساء في الأجل زيادة العمر، لا ما ذهب إليه بعض العامة من بقاء الذكر الجميل بعد موته، ولا ما ذهب إليه بعضهم أيضاً من البركة في العمر بمعنى توفيقه للطاعة والعبادة، وما ذهبوا إليه وإن كان صحيحاً يوجبه الصلة، لكنه غير مراد من النساء في الأجل[228].

إذن، فقطعية الرحم من الذنوب التي تعجّل العقوبة، وتعجّل بالفناء، وتمحق الديار، والخسران في الدنيا والآخرة، هذا كله في الموضوع الأول، وقد تكلّمنا فيه على نحو الاختصار، وهناك شواهد كثيرة في الموضوع، ولكن تركناها لطولها.

2 ـ حقوق الوالدين

 من الحقوق الإلهية المهمّة على الإنسان حق الوالدين؛ فقد قرنهما الباري} بعد التوحيد في أكثر من آية، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على عِظَمِ هذا الحق وجلالته.

قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...﴾[229].

وقال: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [230].

فقد بيّنت هاتان الآيتان منزلة برَّ الوالدين، وعدم عقوقهما بعد التوحيد، وعدم الشرك بالله، وأمّا الروايات في المقام فهي كثيرة جداً، فعن الإمام الباقر× أنّه قال: «ثلاث لم يجعل الله لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البرِّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبرِّ والفاجر، وبرِّ الوالدين برّينِ كانا أو فاجرينِ»[231].

وعن الإمام الصادق× أنّه قال: «إنّ رجلاً أتى النبيَّ’ فقال: يا رسول الله، أوصني فقال: لا تشرك بالله شيئاً، وإن حُرقت بالنار وعُذبت إلّا وقلبك مطمئن بالإيمان، ووالديك فأطعهما وبرّهما، حيينِ كانا أو ميتين، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل؛ فإنّ ذلك من الإيمان»[232].

 وعن عمّار بن حيّان قال: خبّرت أبا عبد الله× ببرّ إسماعيل ابني بي، فقال: «لقد كنت أحبّه، وقد ازددتُ له حُبّاً، إنّ رسول الله’ أتته أُختٌ له من الرضاعة، فلمّا نظر إليها ُسرَّ بها، وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثمّ أقبل يُحدِّثها ويضحك في وجهها، ثمّ قامت وذهبت، وجاء أخوها، فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له: يا رسول الله، صنعت بأُخته ما لم تصنع به، وهو رجل؟! فقال: لأنّها كانت أبرّ بوالديها منه»[233].

أهمّية الأُمّ عند الشارع

 عرفنا أهمّية البرّ بالوالدين من خلال الآيات والروايات الشريفة، ومع هذا فقد أولى الشارع المقدّس الأُمّ بأهمّية زائدة على الأب، وأعطاها الحظَّ الأوفر من البرّ والرعاية؛ لكونها قد قدّمت الحظَّ الأوفر من الجهد والعناية، فقد تحمّلت الأُمّ متاعب الحمل ومشاقّه التي يعبّر عنها القرآن الكريم بالوهن تارةً وبالكُره أُخرى.

قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [234].

و قال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [235].

وأمّا الروايات فهي عديدة:

 منها: ما روي عن أبي عبد الله الصادق× أنّه قال: «جاء رجل إلى النبيِّ’ فقال: يا رسول الله، مَن أبرّ؟ قال: أَمّك. قال: ثمّ مَن؟ قال: أُمّك. قال: ثمّ مَن؟ قال: أمك. قال: ثمّ مَن؟ قال: أباك»[236].

وعن إبراهيم بن مهزم قال: «خرجت من عند أبي عبد الله× ليلة ممسياً فأتيت منزلي بالمدينة، وكانت أُمّي معي، فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظتُ لها، فلمّا إن كان من الغد صلّيتُ الغداةَ، وأتيتُ أبا عبد الله×، فلمّا دخلت عليه، فقال لي مبتدئاً: يا أبا مهزم، ما لك وللوالدة، أغلظت في كلامها البارحة! أما علمت أنَّ بطنها منزل قد سكنته، وأنَّ حجرها مهداً قد غمزته، وثديها وعاءً قد شربته؟! قال: قلت بلى. قال: فلا تغلظ لها»[237].

برّ الوالدين عند عجزهما وكبرهما

 برّ الوالدين وإن كان له شأنه الخاصّ، ووقعه الجميل في نفس الوالدين، إلّا أنّه تزداد أهمّيتُه وحسنُه وجمالُه عند عجزهما وكبرهما؛ حيث تزداد الحاجة فيهما إلی الرعاية، مثل حالات المرض والشيخوخة.

قال تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [238].

روي أنّ رجلاً جاء إلى الرسول الأكرم’ فقال: «إنّ أبَويّ بلغا من الكبر أنّي أوليهما ما وليا مني في الصغر، فهل قضيتهما؟ قال: لا، فإنّهما كانا يفعلان لك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل وأنت تريد موتهما»[239].

وعن إبراهيم بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّ أبي قد كَبُرَ جدّاً وضعف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة. فقال: «إن استطعت أن تلي ذلك منه، فافعل، ولقّمه بيدك، فإنّه جنّة لك غداً»[240].

برّ الوالدين بعد موتهما

 قد لا يُوفّق الإنسان لبرّ والديه في حال حياتهما، وعندما يتوفيان يبقى متأذياً طوال حياته، ولائماً لنفسه، وملقياً ذلك على سوء حظّه، أو غير ذلك، وقد لا يكون ذلك ناشئاً عن تقصيره، بل يمكن أن تكون هناك ظروف ساخطة عليه أبعدته عنهما، أو ماتا حال صغره مثلاً، أو غير ذلك.

وكيف كانت الظروف والمناسبات، فقد فتح الله تبارك وتعالى باباً واسعاً، تسهيلاً لعباده لأن يبرّوا آباءهم وأُمّهاتهم حتّى ولو كانوا أمواتاً.

وأكّدت الروايات على برِّهما بعد وفاتهما؛ لشدّة إحتياجهما لذلك، لانقطاع عملهما بالموت، كما ورد في الخبر: «وإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل»[241].

فقد روي عن إمامنا الصادق× أنّه قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته، فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنَّها، فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له»[242].

ومن مصاديق الدعوة لهما، أن يعمل بعض الأعمال الخيرة، ويهديها لهما، وأن يقضي ـ بحسب الاستطاعة ـ عنهما دَينهما، أو ما فاتهما من صلاةٍ أو صيام أو غير ذلك، قال الإمام الباقر×: «إنّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان فلا يقضى عنهما الدَين، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عاقّاً، وأنّه ليكون في حياتهما غير بارٍ لهما، فإذا ماتا قضى عنهما الدَين، واستغفر لهما، فيكتبه الله تبارك وتعالى بارّاً»[243].

وقال الإمام الصادق×: «سيّد الأبرار يوم القيامة، رجل برّ والديه بعد موتهما»[244].

الآثار السيئة لعقوق الوالدين

 إنّ لعقوق الوالدين آثاراً وخيمة، ومساوئ خطيرة تنتظر العاقّ بوالديه، ونحن نذكر بعضها على نحو الاختصار.

1 ـ إنّ العاقّ يعقّه ابنه جزاءً على عقوقه لأبيه وأُمّه، ومن هنا روي عن الرسول الأكرم’ أنّه قال: «بروا آبائَكم يبرّكم أبنائُكم»[245].

وقد ذكر التاريخ قصصاً متنوّعة لمَن عقَّ أبويه ومكافأة أبنائه له، ومن ذلك ما حكاه الأصمعي قال: «حدّثني رجلٌ من الأعراب، قال: خرجت من الحي أطلب أعقَّ الناس وأبرَّ الناس. فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخٍ في عُنقه حبل، يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجر والحر الشديد، وخلفه شاب في يده رشاء مِن قدٍّ ملوي[246]، يضربه به، قد شقَّ ظهره بذلك الحبل. فقلت له: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف، أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: إنّه مع هذا أبي. قلت: فلا جزاك الله خيراً. قال: اسكُت، فهكذا كان يصنع هو بأبيه، وكذا كان يصنع أبوه بجدّه. فقلتُ: هذا أعقُّ الناس. ثم جلتُ أيضاً حتى انتهيت إلى شاب في عنقه زبيل، فيه شيخ كأنه فرخ، فيضعه بين يديه في كل ساعة، فيزقّه كما يزقّ الفرخ. فقلت له: ما هذا؟ فقال: أبي، وقد خرف، فأنا أكفله. قلت: فهذا أبرّ العرب. فرجعت وقد رأيتُ أعقَّهم وأبرَّهم»[247].

 2ـ إنّ العاقّ يشاهد أهوالاً مريعة عند الوفاة، ويعاني شدائد النزع وسكرات الموت، فعن أبي عبد الله الصادق×: «إنّ رسول الله’ حضر شاباً عند وفاته، فقال له: قل: لا إله إلا الله. قال: فاعتقل لسانه مراراً، فقال لامرأةٍ عند رأسه: هل لهذا أُمّ؟ قالت: نعم، أنا أُمّه. قال: أفساخطةٌ أنتِ عليه؟ قالت: نعم، ما كلّمتُه منذ ستّ حجج. قال لها: أرضي عنه. قالت: رضي الله عنه يا رسول الله برضاك عنه. فقال له رسول الله’: قل: لا إله إلا الله. قال: فقالها. فقال النبيُّ’: ما ترى؟ فقال: أرى رجلاً أسودَ، قبيح المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة فأخذ بكظمي. فقال النبيُّ’ قل: يا مَن يقبل اليسير، ويعفو عن الكثير، اقبل منّي اليسير، واعف عنّي الكثير، إنّك أنت الغفور الرحيم. فقالها الشاب، فقال له النبيُّ: انظر ما ترى؟ قال: أرى رجلاً أبيضَ اللون، حسن الوجه، طيب الريح، حسن الثياب، قد وليني، وأرى الأسودَ وقد ولّى عني. قال: أعد، فأعاد. قال: ما ترى؟ قال: لست أرى الأسودَ، وأرى الأبيضَ قد وليني، ثمَّ طفا[248] على تلك الحال»[249].

3 ـ ومن آثار العقوق، أنّها من الذنوب الكبائر، بل من أكبر الكبائر التي توعّد اللهُ عليها بالنار، كما صرّحت بذلك الأخبار[250].وفي خبر طويل عن الإمام الصادق× يبيّن فيه أبرز مصاديق الذنوب الكبائر يقول فيه: «أكبر الكبائر سبعة ـ فينا نزلت، وبنا استُحلّت ـ: أولها الشرك بالله... فأمّا الشرك بالله تعالى فقد قال الله فينا ما قال، وأنزل فينا ما أنزل، وبيّن ذلك رسول الله’، فكذَّبوا الله ورسوله، وردّوا عليهما. وأمّا قتل النفس التي حرّم الله فقد قُتل الحسين× ظلماً في أهل بيته، وأمّا عقوق الوالدين، فقد عقّوا رسول الله’ وأمير المؤمنين× في ذريتهما...»[251].

أُعَزّيكَ يا خيرَ الورى في الّذي جرَى
على ابنِكَ يَومَ الطَّفِّ والرُزْءُ أعظَمُ
بماذا تُعزّى والمصائبُ جمّةٌ
لأدنى رزاياها الشّداد تُهدّمُ
 فأطفالُ طُهرٍ في حُجورِ طَواهرٍ
وليسَ لها ذنبٌ هُنالكَ يُعلمُ
سِوى أنّها من قبلِ حَلِّ تمائمٍ
لها السّيفُ والخطّي سِوارٌ ومعصَمُ
أم الذبحُ للذِبح العظيمِ على الظّما
لتغسيله من نحرهِ قد جَرى الدّمُ
أم الهتكُ للخدرِ الّذي لاحترامهِ
ملائكةُ الجبّارِ بالذلِّ تخدمُ
أصابتْ سهامُ الطّفِ حبّةَ قلبِها
فأحشاؤُها مِنهنَّ ثوبٌ مقسّمُ
[252].

 ***

المحاضرة الثانية عشرة: الصداقة والأصدقاء

عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه، عن جدّه^، قال: قال أمير المؤمنين×: «... عليكَ بإخوانِ الصدقِ، فأكثر من اكتسابهم؛ فإنَّهم عدّةٌ عند الرخاء، وجُنّةٌ عند البلاء»[253].

من المفاهيم الإسلامية العظيمة مفهوم الصداقة، والمقصود من الصداقة علاقة المحبّة والمودّة بين بني البشر؛ لأنّ طبع الإنسان وفطرته ميّالة إلی الاجتماع، لا العزلة والإنفراد عن بني جنسه، كما يتصوّر البعضُ من الناس، وإن كان الإنسان يحبّ ذاته أوّلاً وبالذات.

قال العلاّمة الطباطبائي&: «... لكلّ ظاهرة من ظواهر العالم، بما فيها الحيوان، وللإنسان خاصّة، حبّ الذات، فيحبّ ذاته، ويرى أبناء نوعه عينه ونظيره، وعن هذا الطريق يحسّ بالأُنس بهم داخلياً، فيطلب التقارب معهم والإتجاه نحوهم، ويمنح الإجتماع حركته وفعاليته... نستنتج من البيان المتقدِّم مايلي:... الإنسان مدنيّ بالطبع»[254].

ومن أجل ذلك كان الإنسان شديدَ المحبّةِ لاتّخاذ أصدقاء وخلاّن يؤازرونه.

حثّ الشريعة الإسلامية على اتخاذ الصديق

لقد حثّت الشريعة الإسلامية العظيمة على اتّحاذ الأصدقاء، وقد أشارت جملة من النصوص لهذا المعنى، نذكر بعضاً منها، فعن النبيِّ الأكرم’ أنّه قال: «ما استفاد امرؤٌ مسلمٌ فائدةً بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله»[255].

وعن الإمام أبي الحسن الرضا× أنّه قال: «مَن استفاد أخاً في الله، استفاد بيتاً في الجنّة»[256].

وعن النبيِّ الأكرم’ أنّه قال: «مَن استفاد أخاً في الله، زوّجه الله حُوراً»[257].

كيف تختار الصديق؟

إنَّ للصديق الأثر البالغ على صديقه، ومن هنا قيل سابقاً ولاحقاً، شعراً ونثراً:

عاشر أخاً ثقةً تحظى بصحبته
فالريح أخذةٌ مما تمرُّ به
فالطبعُ مكتسبٌ من كلِّ مصحوبِ
نتناً من النتن أو طيباً من الطيبِ
[258].

فالإنسان سريع التأثّر بالصديق والأستاذ والرفيق، وكلّ مَن يتجاوب معه ويرافقه، ولعل أشدّهم تأثيراً فيه الصديق؛ لأنّ الصداقات غالباً ما تكون عن سابقةٍ وقناعةٍ بالفرد ليتّخذه صديقاً، بخلاف الأُستاذ، فقد يكون الفرد غير مختار ـ أحياناً ـ في اتّخاذه، وهكذا الحال في الرفيق، فقد يكون من قبيل الأُستاذ، والصديق قد يكون صالحاً، وقد يكون فاسداً.

فالصديق الصالح مَن يوصلنا إلی بوابّة الخير، ومَن يعيننا على ما فيه مراضيه تبارك وتعالى، ويهدينا إلی كلّ ما فيه رشاد وصلاح.

وأمّا الصديق الفاسد، فهو على العكس تماماً، فهو أشبه شيءٍ بالوباء، فهو لا يقرّبنا إلّا إلی الشرور والآفات والضلال، فمن هنا اتّضح لزوم وضرورة اتّخاذ الصديق الصالح.

وكم من الأشخاص كانوا مثاليين في تعاملهم مع آبائهم وأُمّهاتهم، لكنّهم ضلّوا وأضلّوا بسبب صديق السوء الذي اتّخذوه، والقرين الطالح الذين وادّوه؟!

قال أردشير بن بابك: «وقد يجد ذو المعرفة في نفسه عند معاشرة السفلة الوضعاء شهراً فسادَ عقله دهراً»[259].

فإذا أردنا أن نختار صديقاً من الأصدقاء لا بدّ وأن نتحقّق من وجود عدّة صفات فيه، سنذكرها عبر الروايتين التاليتين:

 الصفات المطلوبة في الصديق

 عرفنا أنّ الصديق الذي ينبغي اتّخاذه هو الصديق الصالح، ويجب علينا نبذ الصديق الفاسد، ويا ليت الشباب يلتفتون إلى ذلك فيأتون آبائهم أو مَن يكبرهم سنّاً، أو مَن اتّخذوه قدوةً لهم، فيسألونه عن هذا أو ذاك، وعن صحّة اتّخاذه صديقاً وعدمها، أو عن الصفات الحميدة التي ينبغي أن تكون في الصديق، كما سأل ذلك الرجل الإمامَ أمير المؤمنين×، فعن أبي جعفر× قال: «قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين× فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الإخوان. فقال: الإخوان صنفان: إخوان الثقة وإخوان المكاشرة، فأمّا إخوان الثقة: فهم الكفّ والجناح والأهل والمال، فإذا كنت من أخيك على حدّ الثقة فابذل له مالك وبدنك، وصافِ مَن صافاه، وعادِ من عاداه، واكتم سرّه وعيبه، وأظهر منه الحسن، واعلم أيُّها السائل: أنّهم أقلّ من الكبريت الأحمر، وأمّا إخوان المكاشرة فإّنك تصيب لذتك منهم، فلا تقطعنَّ ذلك منهم، ولا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان»[260].

والمقصود من هذا الحديث ـ كما عن العلاّمة المجلسي&ـ: «(الإخوان صنفان) المراد بالإخوان: إمّا مطلق المؤمنين، فإنّ المؤمنين إخوة، أو المؤمنين الذين يصاحبهم ويعاشرهم، ويظهرون له المودّة والإخوّة، أو الأعم من المؤمنين وغيرهم إذا كانوا كذلك. والمراد بـ(إخوان الثقة): أهل الصلاح والصدق والأمانة الذين يثق بهم، ويعتمد عليهم في الدين، وعدم النفاق، وموافقة ظاهرهم لباطنهم، و(بإخوان المكاشرة) الذين ليسوا بتلك المثابة، ولكن يعاشرهم لرفع الوحشة، أو للمصلحة والتقية، فيجالسهم ويضاحكهم، ولا يعتمد عليهم، ولكن ينتفع بمحض تلك المصاحبة منهم؛ لإزالة الوحشة ودفع الضرر»[261].

وعن الإمام الصادق× أنّه قال: «لا تكون الصداقة إلّا بحدودها، فمَن كانت فيه هذه الحدود، أو شيء منها، فانسبه إلى الصداقة، ومَن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيءٍ من الصداقة، فأوّلها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثاني: أن يرى زينك زينه وشينك شينه، والثالثة: أن لا تغيّره عليك ولاية ولا مال، والرابعة: أن لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته، والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال، أن لا يسلّمكَ عند النكبات»[262].

 مثال واقعي لإخوان الثقة والصفاء

 «ممّا يحكى أنّ الشاه عباس ركب يوماً إلى بعض متنزهاته، وكان البهائي والداماد في موكبه؛ إذ كان لا يفارقهما غالباً، وكان الداماد عظيم الجثة، والبهائي نحيفها، فأراد الشاه أن يختبر صفاء الخواطر بينهما، فقال للداماد ـ وهو راكب فرسه في مؤخرة الجمع، وقد ظهرت عليه آثار الإعياء والتعب، والبهائي في مقدمة الجمع ـ: يا سيدنا ألا تنظر إلى هذا الشيخ كيف تقدّم بفرسه ولم يمشِ على وقار كما تمشي أنت؟!

 فقال الداماد: أيها الملك، إنَّ جواد الشيخ قد استخفه الطرب بمَن ركبه، فهو لا يستطيع التأني، ألا تعلم مَن الذي ركبه. ثمّ قال للبهائي: يا شيخنا ألا تنظر إلى هذا السيد، كيف أتعب مركبه بجثمانه الثقيل؟! والعالم ينبغي أن يكون مرتاضاً مثلك، خفيف المؤنة.

 فقال البهائي: أيها الملك، إنَّ جواد الشيخ أعيا بما حمل من علمه الذي لا يستطيع حمله الجبال، فعند ذلك نزل الشاه عن جواده، وسجد لله شكراً على أن يكون علماء دولته بهذا الصفاء.

 فأكرم به من ملك كامل وسلطان عادل، وأكرم بهما من عالمين مخلصين. وحكايات ما وقع بينهما من المصافاة والمصادقة كثيرة، وهكذا يسعد الزمان وأهله بأمثال هؤلاء العلماء، وهؤلاء الملوك»[263].

 حقوق الأصدقاء

 بعد ما عرفنا فضل الصديق والصداقة في الشريعة الإسلامية، والحثّ عليها، وكيف نختار صديقنا على ضوء ما نطقت به الروايات الشريفة، تعال معي الآن لنعرف ما هي حقوق الأصدقاء؟

هناك عدّة حقوق متبادلة بين الأصدقاء، لا بدّ من رعايتها؛ حتّى تكون الصداقة صداقة يحبّها اللهُ ورسولُهُ، وإليك بعض هذه الحقوق:

1 ـ الرعاية المادية: من الحقوق بين الأصدقاء هو الرعاية المادية، ويمكن دخوله في الحدّ الرابع من الحدود التي بيّنها إمامنا الصادق× حيث قال: «أن لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته»، أو دخوله في الحدّ الخامس حيث قال×: «أن لا يسلمك عند النكبات»، ومن النكبات الشديدة هي النكبة المادية.

فقد يقع الإنسان في خانقةٍ ماديةٍ شديدةٍ لا يتمكن من علاجها، إلّا عن طريق مؤازرة الأصدقاء، وللأسف تجد البعضَ منهم صديقاً وفيّاً، إلّا عند الرعاية المادية، فلا تجود يده بشيءٍ أبداً، فهو صديق لك ما دامت يدك مملؤةً، فإذا فرغت فهو لا يعرفك منذ الساعة.

ومن هنا قال الإمام الكاظم× ـ في خبر طويل ـ لرجلٍ من خاصّته: «يا عاصم، كيف أنتم في التواصل والتبارّ؟ فقال: على أفضل ما كان عليه أحد. فقال: أيأتي أحدكم منزل أخيه عند الضيقة فلا يجده، فيأمر بإخراج كيسه، فيخرج فيفض ختمه، فيأخذ من ذلك حاجته، فلا ينكر عليه؟ قال: لا. قال: لستم على أفضل ما كان أحد عليه من التواصل»[264].

وفي التاريخ نماذج عالية من المواساة، منها ما حكاه بعضهم عن الواقدي، قال: «كان لي صديقان، أحدهما هاشمي، وكنا كنفسٍ واحدةٍ، فنالتني ضائقةٌ شديدةٌ وحضر العيد، فقالت امرأتي: أمّا نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدّة، وأمّا صبيانُنا هؤلاء فقد قطعوا قلبي رحمةً لهم؛ فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: اصدقني عما فعلته فيما وجهت به إليك، فعرّفته الخبر على وجهه، فقال لي: إنّك وجهت إلي، وما أملك على الأرض إلّا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه كيسي بخاتمي! قال الواقدي: فتواسينا ألف درهم فيما بيننا، ثمّ إنا أخرجنا للمرأة مائة درهم قبل ذلك، ونمي الخبر إلى المأمون، فدعاني وسألني، فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكلّ واحد منّا ألفاً، وللمرأة ألف دينار»[265].

2 ـ المداراة: ومن الحقوق التي ينبغي مراعاتها في الصداقة المداراة، ونعني بها الصفح عن الزلل، وغضّ النظر عن بعض العثرات؛ حرصاً على دوام الصداقة وبقائها، واستبقاءً للمدّة، ويحاول كلٌّ منهما التماس العذر لصاحبه، ويحمله على أحسن المحامل وأرفعها.

فلو أنَّ صديقاً لم يأتِ لصديقه في فرح أو ترح، فعلى الآخر أن يلتمس له العذر، لا أن يصرَّ في النقد والتقريع من غير سؤاله واستفهامه عن علّة غيابه.

وورد عن صادق العترة الطاهرة^، أنّه قال: قال رسول الله’: «أمرني ربّي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض»[266].

لأنّهم يرون صبيان الجيران قد تزيّنوا في عيدهم، وأصلحوا ثيابهم وهم على هذه الحال من الثياب الرثّة، فلو احتلت في شيء تصرفه في كسوتهم؟ قال: فكتبتُ إلى صديق لي، وهو الهاشمي أسأله التوسعة عليَّ بما حضر، فوجّه إليَّ كيساً مختوماً، ذكر أنَّ فيه ألف درهم ! فما استقرَّ قراري حتى كتب إلي الصديق الآخر، يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي الهاشمي، فوجّهت إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد، فأقمت فيه ليلتي مستحيياً من امرأتي، فلمّا دخلت عليها استحسنتْ ما كان مني، ولم تعنّفني عليه، وقال’: «أعقل الناس أشدّهم مداراةً للناس»[267].

3 ـ المواساة: وحقّ المواساة حقّ لا يقل أهميةً عن غيره من حقوق الصداقة، إذا لم يكن أهمّها، وهو أوسع حقٍّ من حقوق الصداقة؛ إذ المواساة قد تكون في المال، وقد تكون في الكلام، وغيرها.

وهذه الحقوق الثلاثة هي بعض الحقوق، وهناك حقّ مهم أشار إليه الإمام أمير المؤمنين×، في الحديث الذي افتتحنا به المجلس، وهو أن يصدق الصديق مع أخيه الآخر حتّى يكون مصداقاً لقوله×: «عليك بإخوان الصدق»؛ لأنّ إخوان الصدق «عدّة عند الرخاء، وجُنّة عند البلاء».

وهكذا كان أصحاب الإمام الحسين× في مداراتهم ومواساتهم وتضحياتهم مع سيد الشهداء×.

قال بعض أصحاب المقاتل: «وجمع الحسين×أصحابه، وحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: وأمّا بعد، فإنّي لا أعلم لي أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا، أنتم في حلٍ ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً.

فقال له إخوتُه وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولِمَ نفعل ذلك؟! لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك. وبدأهم العباس أخوه ثمَّ تابعوه، وقال لبني مسلم بن عقيل: حسبكم من القتل بصاحبكم مسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم، فقالوا: لا والله، لا نفارقك أبداً حتى نقيك بأسيافنا، ونُقتل بين يديك. فأشرقت عليهم بأقوالهم هذه أنوار النبوّة والهداية، وبعثتهم النفوس الأبيّة على مصادمة خيول أهل الغواية، وحرّكتهم حمية النسب، وسنّة أشراف العرب على اقتناص روح المسلوب، ورفض السلب، فكانوا كما وصفهم بعضُ أهل البصائر بأنّهم أُمراء العساكر، وخطباء المنابر، نفوس أبت إلّا تراث أبيهم، فهم بين موتورٍ لذاك وواتر.

لقد ألفت أرواحُهُم حومةَ الوغى
كما أنِسَتْ اقدامُهُم بالمنابرِ

***

ثمَّ قال مسلم بن عوسجة: نحن نخليك! وقد أحاط بك العدو؟! لا أرانا الله ذلك أبداً حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضاربهم بسيفي، ولو لم يكن لي سلاح لقذفتهم بالحجارة ولم أفارقك! وقام سعيد بن عبد الله الحنفي، وزهير بن القين، فأجملا في الجواب، وأحسنا في المآب»[268].

قومٌ إذا نُودوا لدفعِ ملمةٍ
لَبِسوا القلوبَ على الدروع وأقبلوا
والخيلُ بين مدعسٍ ومُكردَسِ
يتهافتونَ على ذهابِ الأنفس
[269].

***

المحاضرة الثالثة عشرة: الجار والجوار

من وصية الإمام أمير المؤمنين× لأهل بيته قال فيها: «...الله الله في جيرانكم؛ فإنّهم وصيّةُ نبيّكم ما زال يُوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيورّثهم»[270].

من الحقوق الإسلامية المهمة حقّ الجار، وهو حقٌّ قريب من حقّ الأرحام والوالدين والأصدقاء والأقرباء.

وقد اعتنى الإسلام بحقّ الجار، وجعله عظيماً، يكاد يكون من أعظم الحقوق الإنسانية، وقد أكّد الباري} حقوق الجيران، وجعلها في رتبةٍ بعد رتبةِ الوالدين والأقربين؛ إذ قال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [271].

والمراد بالجار ذي القربى الجار القريب داراً أو نسباً، والجار الجُنُب هو البعيد داراً أو نسباً[272].

الروايات الحاثّة على حُسن الجوار

هناك عدّة روايات نصّت على الثواب المترتّب على حسن الجوار، وحثّت عليه، وعلى الاهتمام بالجار، ورعاية حقوقه، وإليك طرفاً منها:

فعن نبيِّ الرَّحمة’ أنّه قال: «حسن الجوار يُعمّر الديار، وينسي في الأعمار»[273].

وعنه’، قال: «ما زال جبرئيلُ يوصيني بالجار، حتّى ظننتُ أنّه سيورثه»[274]، ودلالتُه واضحة جداً على أهمّية الجار.

وهذا الحديث هو الذي أشار إليه الإمام× في الوصية التي افتتحنا بها الكلام، وقد فسّرت كلمة (سيورّثه أي: يجعل له حصّةً من الميراث، والظاهر من الميراث أن يرث جاره الآخر، بحيث لو مات أحدُهما ورثه الآخرُ، حاله حال الورثة الأقارب[275].

وقال الإمام الصّادق×: «إنّ يعقوب× لمّا ذهب منه بنيامين، نادى يا ربِّ أما ترحمني؟ أذهبتَ عيني وأذهبتَ ابنيّ؟ فأوحى الله تبارك وتعالى: لو أمتهما لأحييتهما لك حتى أجمع بينك وبينهما، ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها وشويتها وأكلت، وفلان وفلان إلى جانبك صائم لم تنله منها شيئاً؟»[276].

وفي رواية أُخرى، قال: «فكان بعد ذلك يعقوب× ينادي مناديه كلّ غداة من منزله على فرسخ: ألا مَن أراد الغداء، فليأتِ إلى يعقوب، وإذا أمسى نادى: ألا مَن أراد العشاء، فليأتِ إلى يعقوب»[277].

وعن النبيِّ الأكرم’ أنّه قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومَن يارسولَ الله؟ قال: الذي لا يأمنُ من جارهِ بوائقه!»[278].

وقال’: «مَن آذى جاره فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله، ومَن حارب جاره فقد حاربني، ومَن حاربني فقد حارب الله»[279].

حدود الجار

معرفة الجار موكولة إلی العُرف، فأيّ دار يُطلق عليها الجار عرفاً يلزم مراعاة حقوق أهلها، وقد يختلف من زمانٍ إلی زمانٍ آخر.

وأمّا الروايات الواردة في المقام فقد دلّ بعضها على أنّ كلّ أربعين داراً من كلّ الجوانب الأربعة تُعدُّ جاراً.

فعن النبيِّ الأكرم’ أنّه قال: «كلّ أربعين داراً جيران، من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله»[280].

ولعلّه محمول على عرف ذلك الزمان.

 حقوق الجار

 هناك عدّة حقوق للجار، يمكن تلخيصها بذكر كلمة الإمام زين العابدين×، في رسالة الحقوق، والتي جاء فيها فيما يخصّ الجار: «وأمّا حقّ جارك، فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً، ونصرته إذا كان مظلوماً، ولا تتبع له عورة، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه، وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه، ولا تسلمه عند شديدة، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرةً كريمةً، ولا قوّةَ إلّا بالله»[281].

وهذه الحقوق عديدة، مذكورة في روايات كثيرة، في رسالة الحقوق وغيرها، ويمكن تلخيصُها بما يلي:

1 ـ حفظه غائباً: وهذا الحفظ لا يختصّ بحفظ المال أو غيره، بل هو حفظ للمال والعيال، وكلّ شيء يمكن حفظه.

2 ـ إكرامه شاهداً: يعني إذا كان غير مسافر وغائب أن تكرمه، والإكرام هنا عامّ يصدق على كلّ نوع من الإكرام، كالتحية والسلام، وحضور أفراحه وأتراحه، وإجابة دعوته، وغير ذلك من مصاديق الإكرام.

3 ـ نصرته إذا كان مظلوماً: بأن تدافع عنه، وتذكر صفاته الطيبة، وتشهد له بالحقّ إن كان الحقّ معه، وتنصحه، وغير ذلك.

4 ـ عدم تتبّع عوراته: سواء عورته عرضه من أهله، وأهل بيته، ونسائه بالنظر إليهم، وما أكثره في زماننا، حيث أطلّت الدور بعضها على البعض الآخر، وبإمكان الجار الاطلاع على عورات جاره بأسهل ما يكون إلّا من عصمه الله تبارك وتعالى، وحارب الوساوس الشيطانية، أو التفت إلی الأخلاق الإنسانية الموروثة جيلاً بعد جيل، نتيجة التعاليم السماوية السابقة على الدين الإسلامي والنخوة العربية القائلة:

ما ضرَّ جاراً لي أُجاورُه
أعمى إذا ما جارتي خرجت
 ناري ونارُ الجارِ واحدةٌ
 ألّا يكون لبابه سترٌ
حتى يُواري جارتي الخدرُ
وإليه قبلي ينزلُ القدرُ
[282].

أو اتّباع عوراته الأُخرى، كمراقبة أخطائه وعثراته، وإحصائها عليه؛ كي تكون ورقة تهديد أو استضعاف له.

وهذا من الأُمور المنهي عنها شرعاً، خصوصاً إذا كان الجار مؤمناً.

5 ـ الستر عليه فيما لو صدر منه سوءً: وهكذا ستر عيوبه وعيوب مَن يهمّه من أهل بيته، وعدم إفشاء أسراره، خصوصاً ما يحصل بينه وبين عياله، كما لو ارتفعت أصواتهم أو تهاتروا فيما بينهم، أو غير ذلك بما يشينه.

6 ـ وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه: فإذا كان قد جار على أحد واعتدى عليه، بفعل أو كلام كان من واجب جاره النصيحة له، بشرط أن يعلم الناصح بقبول جاره للنصيحة، وأن تكون النصيحة بينهما؛ لأنّ الله يحبّ الساترين، ولأنّ النصيحة أمام الملأ أشبه ما تكون بالتجريح.

7 ـ ولا تسلمه عند شدائده: سواء كانت أزمة مالية، كما لو فقد نقوده أو خسرت تجارته، أو نفسية، كما لو فقد عزيزاً وغيرهما ممّا يصدق عليه شدّة.

8 ـ وتقيل عثرته وتغفر ذنبه: فلو أخطأ معك في يوم من الأيام، وعثر معك عثرةً أو ارتكب خطأ، فلابد من إقالة عثرته وغفران ذنبه.

9 ـ وتعاشره معاشرة كريمة: كالتبسّم في وجهه، والسلام عليه، وتفقّد أحواله، ومساعدته في قضاء حوائجه، وكلّ شيء يحبّب العشرة ويزيد الأُلفة.

10 ـ ولا تدّخر حلمك عنه إذا جهل عليك: يعني إذا هو لم يعرف حقّك، أو استخفّ به، أو أهانك أو غير ذلك، فما عليك إلا أن تبدي له التسامح والحلم.

11 ـ وأن تكون سلماً له، ترد عنه لسان الشتيمة، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة: يعني تحفظ ماء وجهه، وترد غيبته إذا اغتابه أحد، وتدافع عنه بكلّ ما أوتيت من قوّة.

فهذه هي إحدى عشرة نصيحة جمعتْها كلمةُ سيدنِا ومولانا الإمام زينِ العابدين× وغيرها من الروايات، جُمعت فيها حقوق الجار، ويا لها من كلمات نيّرة، لو عمل بها الجار المسلم وغير المسلم لعاش الناس بأمنٍ وأمانٍ، وسعادةٍ واطمئنانٍ، ولاشترى الناس جارهم قبل دارهم، كما حدث ذلك في التاريخ، وسُجِّل في الكتب ليُضرَب مثلاً لحسن الجوار.

فقد حُكي «إنّ رجُلاً كان جاراً لأبي دلف ببغداد، فأدركته حاجة، وركبه دينٌ فادحٌ حتى احتاج إلى بيع داره، فساوموه فيها، فسمّى لهم ألفَ دينارٍ، فقالوا له: إنَّ دارك تساوي خمسمائة دينار. فقال: ابيع داري بخمسمائة، وجوار أبي دلف بخمسمائة، فبلغ أبا دلف الخبر، فأمر بقضاء دينه ووصله، وقال: لا تنتقل من جوارنا»[283].

وهكذا مَن يُجاورالأئمّة^ حيّاً وميتاً، لا بدّ وأن يلتزم بالحقوق المذكورة، وكذلك مع أبنائهم وذرّياتهم^، فإنّهم يلتزمون بحقوق الجار ويحمون جارهم، كما نُقل ذلك عن المرحوم النهاوندي عن المرحوم ميرزا مهدي أنّه قال: حكى لي شخصٌ باسم محمود، وهو خادم في حضرة الإمام الحُسين× وكان عملُه حفظ أحذية الزائرين، فقال: حلّت في إحدى الليالي نوبتي في المحافظة على الحرم مع رفاقي الخفر، وعندما غادر الناس، وأغلقنا الأبواب جيداً نام الخدّام، ومضى نصف من الليل، كنت مستيقضاً حينما دخل شخصان إلی الصحن المطهر، من جهة الباب المعروف بالزينبية، ووقفا على قبر جديد، قد دفن صاحبه حديثاً، فشقّا القبر، وأخرجا المدفون فيه، رأيت الشخص الذي أخرجاه يستغيث بهما، ويتوسّل إليهما، وهما لا يصغيان إليه، ولا يرحمانه، فأرادا أن يخرجا به من الباب المرقوم وقد يئس صاحب القبر منهما، فأدار وجهَهَه صوب الحرم المطهّر، وقال: «أهكذا يُفعل بجاركَ يا أبا عبد الله؟»قال محمود: فسمعت صوتاً من الحرم المطهّر اهتزّت له الجدران والقناديل: «ردّوه ردّوه»، فرأيت الشخصين قد رجعا به فوضعاه في قبره وذهابا، ولـمّا أصبح الصباح ذهبت الى القبر فوجدته قد تغيّر وعليه أثر شقٍ واضحٍ[284].

 هكذا هو جارك يا أبا عبد الله! يا غريب كربلاء! أمّا أعداؤك أوَ لم يعلموا بجوارك لهم؟! أوَ لم يحفظوا جوارك منهم، ومنزلتك عند الله وعند رسوله؟! أوَ لم يسمعوا قول جدّك النبيِّ الأكرم’، حيث قال: «ما آمن بي مَن بات شبعاناً وجاره جائع»[285].

أوَ لم يحفظوا عهد النبي بكم؟! أوَ لم تكن جائعاً وعطشاناً يا أبا عبد الله؟!

تباً لهم من أُمّةٍ لم يحفظوا
قد شتتوهم بين مقهورٍ ومأسورٍ
عهدَ النبيِّ بآلهِ الأمجادِ
ومنحورٍ بسيف عِنادِ
[286].

***

المحاضرة الرابعة عشرة: تزكية النفس ومحاسبتها

من وصية النبيِّ’ لأبي ذرّ& أنّه قال: «يا أبا ذر، لا يكونُ الرجلُ مِنَ المتّقينَ حتّى يُحاسبَ نفسَه أشدّ من مُحاسبةِ الشريكِ لشريكه، فيعلم مِن أينَ مطعمُه، ومِن أين مشربُه، ومِن أينَ ملبسُه؟ أمن حلٍّ ذلك أم من حرام؟»[287].

يتألّف الإنسان من عُنصرين، لا يمكن له العيش دونهما مجتمعين، وهما: عنصر الجسد وعنصر النفس، وهما عنصران بهما تكمل حياة الإنسان، ويطيب عيشه، ولكلّ واحدٍ منهما حاجاته ومتطلباته التي يسعى لتحقيقها.

فحاجات الجسم هي: المآرب المادّية الموجبة لنموّه وصحّته وحيويته، كالغذاء والشراب والكساء، ونحوها من ضرورات الحياة.

وحاجات النفس هي: الأشواق النفسية والروحية التي تعشقها الروح وتهفو إليها، كالمعرفة، والحرية، والعدل، وراحة الضمير والبال، وما إلی ذلك من المُثُل العُليا، والأماني الروحية.

وأمّا حقوقهما فهي كثيرة، تتلخّص بما يأتي:

أمّا حقوق الجسد: فتتلخّص برعاية القوانين الصحّية، واتّباع الآداب الإسلامية الكفيلة بصحّة الجسم وحيويته ونشاطه، كالإعتدال في الطعام والشراب، وتجنّب الكحول والعادات الضارة، كالخمر والحشيش والأفيون، وجميع ما يصدق عليه بأنّه من المخدّرات، والسعي وراء الشهوات الجنسية الآثمة.

وأمّا حقوق النفس: فهي لا تقلُّ أهمّيةً عن حقوق الجسد، إن لم تكن أهم؛ لأنّ الأمراض الجسمية تظهر أعراضها في الغالب على الجسم، بخلاف أمراض الروح، فإنّها في الغالب تبقى مجهولةً لكثير من الناس إذا لم نقل لأكثرهم. ومن هنا كانت أصعب علاجاً من أمراض الجسم، واحتاجت أمراضها إلی أطباء حاذقين، فكانت عناية الحكماء والأولياء، ومن قبلهم الأنبياء والأوصياء^، بتهذيب النفس وعلاج أمراضها ومحاسبتها.

ونحن في هذا المقام نشير إلی بعض التوجيهات في تهذيب النفس.

تهذيب النفس

 للوصول إلی رضا الله تبارك وتعالى، والفوز بالنعيم الخالد الذي وعد به الباري} لا بدّ للإنسان من الإنتباه إلی نفسه ورغباتها وشهواتها، كما هو منتبه على طول الزمان إلی جسمه واحتياجاته، ولا أقل حاجة الطعام والشراب، وبانتباهه إلی نفسه يكون قد جاهدها جهاداً عظيماً، إذا أراد لها ذلك، وإلّا فمجرّد الإنتباه إلی أخطائها من دون ردع ونهي لا يحلّ لنا المشكلة، غاية ما في الأمر قد شخّص المرض من دون علاجٍ، وعندئذٍ لا تشفى النفس من أمراضها، بل لا بدّ من علاج واقعي[288].

والوقاية قبل العلاج، كما رسمه المتخصّصون، تتم عن طريق مراحل ثلاث، هي: (المشارطة والمراقبة والمحاسبة).

مالمقصود بالمشارطة؟

 المشارطة هي أول مرحلة من المراحل الثلاث المذكورة، والقائم بها يسمى بـ(المشارط) والمقصود منه: «الذي يشارط نفسه في أوّل يومه على أن لا يرتكب اليوم أيَّ عمل يخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك، ويعزم عليه. وواضح أنَّ ترك ما يخالف أوامر الله ليومٍ واحدٍ أمر يسير للغاية، ويمكن للإنسان بيسر أن يلتزم به»[289]، وعندئذٍ يطلب ـ بصدق ـ من الله تبارك وتعالى، ورسوله الأكرم’، وأهل بيته الطاهرين^، ويتوسّل إلی الله تعالى بهم^؛ لإعانته على هذه المرحلة ليقدر على كبح نفسه وشهواتها حتّى يُهذّبها، وأن لا يبتدي المشارط من أوّل يوم بتحميل نفسه أكثر من طاقتها، بل على المشارط الابتداء بالسير اليسير؛ حتّى يصل إلی المطلوب، لا أنّه يريد التهذيب في يومٍ وليلةٍ، كما حصل ذلك لبعض الأصدقاء، فأراد في ليلةٍ وضحاها أن يصل إلی مرتبة أحد العرفاء الذي كان إذا جنّه الليل جنّ في عبادته مع الله تبارك وتعالى، ولكن لم يوفّق لذلك؛ لأنَّ الوصول إلى هذه المرتبة لا يكون إلّا بعد ردحٍ من الزمن يقضيه في الجهاد والمعاناة والتهذيب.

 روى الشيخ الكليني& بسنده، قال: «عن يعقوب بن الضحاك، عن رجل من أصحابنا سرّاج، وكان خادماً لأبي عبد الله×، قال: بعثني أبو عبد الله× في حاجةٍ، وهو بالحيرة، أنا وجماعة من مواليه، قال: فانطلقنا فيها، ثمَّ رجعنا مغتمّين. قال: وكان فراشي في الحائر الذي كنّا فيه نزولاً، فجئت وأنا بحال فرميت بنفسي، فبينا أنا كذلك إذا أنا بأبي عبد الله× قد أقبل. قال: فقال: قد أتيناك. أو قال: جئناك. فاستويت جالساً وجلس على صدر فراشي، فسألني عمّا بعثني له فأخبرته. فحمد الله، ثمّ جرى ذكر قوم، فقلت: جعلت فداك إنّا نبرأ منهم، إنّهم لا يقولون ما نقول. قال: فقال: يتولّونا ولا يقولون ما تقولون تبرؤون منهم؟ قال: قلت: نعم قال: فهو ذا عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟ قال: قلت: لا ـ جعلت فداك ـ قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا أفتراه أطرحنا؟ قال: قلت: لا والله، جعلت فداك ما نفعل؟ قال: فتولوهم ولا تبرؤوا منهم، إنّ من المسلمين مَن له سهم، ومنهم مَن له سهمان، ومنهم مَن له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة أسهم، و منهم من له خمسة أسهم، ومنهم من له ستة أسهم، ومنهم مَن له سبعة أسهم، فليس ينبغي أن يحمل صاحب السهم على ما عليه صاحب السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستّة، ولا صاحب الستّة على ما عليه صاحب السبعة، وسأضرب لك مثلاً: إنَّ رجلاً كان له جار، وكان نصرانياً، فدعاه إلى الإسلام وزيّنه له، فأجابه فأتاه سُحيراً، فقرع عليه الباب، فقال له: مَن هذا؟ قال: أنا فلان. قال: وما حاجتك؟ فقال: توضأ والبس ثوبيك، ومرّ بنا إلى الصلاة. قال: فتوضأ، ولبس ثوبيه، وخرج معه، قال: فصليا ما شاء الله، ثمَّ صليا الفجر، ثمَّ مكثا حتى أصبحا، فقام الذي كان نصرانياً يريد منزله، فقال له الرجل: أين تذهب؟ النهار قصير، والذي بينك وبين الظهر قليل؟ قال: فجلس معه إلى أن صلى الظهر، ثمَّ قال: وما بين الظهر والعصر قليل، فاحتبسه حتى صلى العصر، قال: ثمَّ قام وأراد أن ينصرف إلى منزله، فقال له: إن هذا آخر النهار، وأقل من أوله، فاحتبسه حتى صلى المغرب، ثمَّ أراد أن ينصرف إلى منزله فقال له: إنّما بقيت صلاة واحدة! قال: فمكث حتى صلى العشاء الآخرة، ثمَّ تفرّقا فلمّا كان سحيراً غدا عليه، فضرب عليه الباب، فقال: مَن هذا؟ قال: أنا فلان. قال: وما حاجتك؟ قال: توضأ والبس ثوبيك واخرج بنا فصلِّ، قال: اطلب لهذا الدين مَن هو أفرغ مني، وأنا إنسان مسكين، وعليَّ عيالٌ، فقال أبو عبد الله×: أدخله في شيء أخرجه منه ـ أو قال: أدخله من مثل ذه وأخرجه من مثل هذا ـ»[290].

ومن هنا قال الإمام الصادق×: «إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم، يصعد منه مرقاة بعد أُخرى، فلا يقولنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لست على شيء حتى ينتهي إلى العاشر، فلا تُسقط مَن هو دونك، فيسقطك مَن هو فوقك، وإذا رأيت مَن هو أسفل منك بدرجةٍ فارفعه إليك برفقٍ، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيق فتكسره؛ فإنَّ مَن كسر مؤمناً فعليه جبره»[291].

وهذا هو الفارق الجوهري بين أُسلوب العلماء في الهداية وغيرهم، فالعلماء يتّخذون أُسلوبَ القرآن، وهو: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[292].

وبهذا الأُسلوب صار الفقيه فقيهاً كاملاً، فعن الإمام أمير المؤمنين×: «الفقيه كلّ الفقيه مَن لم يقنّط الناسَ من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمِّنهم من مكر الله»[293].

فإذا تمّت مرحلة المشارطة يأتي الدور إلی مرحلة المراقبة.

ما هي المراقبة؟

 قال أهل الفنّ وأطبّاء النفوس: وبعد هذه المشارطة عليك أن تنتقل إلی المراقبة، وكيفيتها: أن تنتبه طوال مدّة المشارطة إلی عملك، وفقاً لما اشترطته، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شرطت[294].

وقد كان علماؤنا الكبار يشارطون ويتعاهدون الله على فعلٍ ما، أو تركٍ ما، وينذرون الصيام لمدّة سنتين ـ مثلاً ـ لو خالفوا شرطهم، وبذلك يكون مثل هذا النذر مانعاً لهم من مخالفة الشرط، وما تركنا للأعمال التي يترتّب عليها حدّ شرعي، وارتكابنا للمحرّمات الأُخرى كالغيبة ـ مثلاً ـ مع كونها أعظم من سابقتها إلّا في الحدود الشرعية المترتّبة على تلك، وعدم ترتّب حدٍّ أو جزاءٍ عاجلٍ على الغيبة.

قال الإمام الخميني&: «وإذا حصل ـ لا سمح الله ـ حديثٌ لنفسك بأن ترتكب مخالفاً لأمر الله، فاعلم أنَّ ذلك من عمل الشيطان وجنده، فهم يريدونك أن تتراجع عمّا اشترطته على نفسك، فالعنهم واستعذ بالله من شرّهم، وأخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: إنّي اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم ـ وهو يوم واحد ـ بأي عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو وليّ نعمتي طول عمري، فقد أنعم عليَّ وتلطَّف بي بالصحّة والسلامة والأمن، وألطافٌ أُخرى، ولو أنّي بقيت في خدمته إلی الأبد لما أديت حقَّ واحدةٍ منها، وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرطٍ بسيطٍ كهذا. وآمل ـ إن شاء الله ـ أن ينصرف الشيطان ويبتعد عنك وينتصر جنود الرحمٰن.

 والمراقبة لا تتعارض مع أيِّ عملٍ من أعمالك، كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلی الليل، ريثما يحين وقت المحاسبة»[295].

ما هي المحاسبة؟

 والمحاسبة هي المرحلة الثالثة، والتي أشارت إليها الوصية التي افتتحنا بها الحديث، وهي أن تحاسب نفسك محاسبة الشريك شريكه، كما قال النبيّ الأكرم’ لأبي ذر&[296].

 وفي (الأربعون): «وأمّا المحاسبة، فهي أن تحاسب نفسك؛ لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الجزئية؟ إذا كنت قد وفيّت حقّاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسر لك سبحانه التقدُّم في أُمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترةً، والمأمول أن يتحوّل إلی ملكة فيك، بحيث يصبح هذا العمل بالنسبة إليك سهلاً ويسيراً للغاية، وستحسّ عندها باللذّة والأُنس في طاعة الله تعالى، وترك معاصيه... وإذا حدث ـ لا سمح الله ـ في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله وأطلب العفو منه، وأعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وكن على هذا الحال، كي يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلی الطريق المستقيم للإنسانية»[297].

فيحاسب الإنسان نفسه من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حلّ ذلك أم من حرام؟ حتّى يشكر الله تبارك وتعالى على الحلال، ويتوب إلی الله} توبةً نصوحاً من الحرام، وذلك بإرجاع كلّ حقٍ إلی أهله، وهذا هو الذي يميّز أهل البيت^ عمّن عاداهم، وهو الذي أشار إليه الإمام الحسين×، عندما طلبوا منه البيعة ليزيد، حيث قال: «أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، مُعلنٌ بالفسق، مثلي لا يبايع لمثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون، أيَّنا أحقّ بالخلافة والبيعة. قال: وسمع مَن بالباب الحسين، فهمّوا بفتح الباب وإشهار السيوف، فخرج إليهم الحسين سريعاً، فأمرهم بالإنصراف إلى منازلهم، وأقبل الحسين إلى منزله»[298].

أقول: ليت شعري! أين كان هؤلاء عندما بقيت الحوراء زينب‘ تنادي إخوتها وبني عمومتها؟

أين أنت يا أبا الفضل، وهي التي خرجت بكفالتك؟

 

عبّاس تسمعُ زينباً تدعوك مَن
أوَ لستَ تسمعُ ما تقولُ سُكينةٌ
لي يا حمايَ إذا العدى نهروني
عمّاهُ يومَ الأسرِ مَن يَحميني
[299].

***

المحاضرة الخامسة عشرة:حقوق الأئمّة ^

روي عن الرسول الأكرم’ أنّه قال: «مَن أحبَّ أن يحيى حياتي ويموت موتتي، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي؛ فإنَّ ربي غرس قصباتها بيده، فليتولَّ عليَّ بنَ أبي طالب رضي الله عنه؛ فإنّه لن يخرجكم من هدى، ولن يدخلكم في ضلالة»[300].

لم نعثر في كتاب من كتب السيرة والتاريخ أن تحدّثَ عن سيرة أحدٍ إلی مستوى سير الأئمّة^، ولم تذكر كتب الحديث روايةً واحدةً ـ ولو كانت موضوعةً ومفتراةً ـ في فضل أحد الأشخاص، إلّا وقد ذكر من قبلها روايات كثيرة وصحيحة أكثرها في معاجز وفضائل وكرامات أهل البيت^.

ومنه يتبيّن أنّ ما وصل إليه أهل البيت^، لم يصل إليه أحد من غيرهم^؛ فقد جاهدوا في نصرة الدين، وحماية المسلمين وحقوقهم، جهاداً لم يحدّثنا التاريخ بمثله، حتّى استشهدوا في سبيل العقيدة والمبدأ، ومن هنا كانت لهم حقوق وواجبات على المسلمين، لا بدّ من تأديتها لهم^، ونحن نشير إليها إشارةً مختصرةً.

الحقّ الأوّل: معرفتهم

 فقد جاء في الحديث ـ الذي أجمع المسلمون عليه[301] ـ عن النبيِّ الأكرم’ أنّه قال: «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»[302].

فمن هنا وجب على كلّ مسلم يدين بهذا الدين الحنيف معرفتهم، حتّى يكون على بصيرةٍ من عقيدته وشريعته؛ لأنّ كلّ مسلمٍ يؤمن بالله تبارك وتعالى ونبيه الأكرم’ لا بدّ له من الأخذ بأقوالهم والإهتداء بهديهم، وهذا لا يكون إلّا بعد معرفتهم^.

وروى علماء العامّة ـ كما نُقل في صحيح مسلم ـ أنّه’ قال: «لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش»[303].

وهذا الحديث شاهد على وجود الإمامة في شخص الإمام× حتّى قيام الساعة، وأنّ هذه الإمامة حصر على أهل بيت العصمة والطهارة^، دون غيرهم من الملوك والسلاطين من بني أُميّة أو العباسيين؛ إمّا لزيادتهم على هذا العدد (اثني عشر)، أو لفسقهم وفجورهم، وصفات أُخرى لا تليق بمنصب الخلافة الإلهية.

ونفس هذا المعنى صرّح به الإمام أمير المؤمنين×، حيث يقول: «اللّهم بلى، لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجّة. إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً؛ لئلاّ تبطلَ حُججُ الله وبيناتُه. وكم ذا؟ وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلونَ عدداً والأعظمون قدراً. يحفظ اللهُ بهم حُجَجَه وبيناته»[304].

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح هذا المقطع: «وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الإمامية، إلّا أنَّ أصحابنا يحملونه على أن المراد به، الأبدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم، أنّهم في الأرض سائحون، فمنهم مَن يُعرف، ومنهم مَن لا يُعرَف، وأنّهم لا يموتون حتى يودعوا السرّ، وهو العرفان عند قومٍ آخرين، يقومون مقامهم، ثمّ استنزر عددهم فقال: وكم ذا ! أي كم ذا القبيل ! وكم ذا الفريق !»[305].

فلاحظ بعين الإنصاف كيف شرح هذا الكلام، وكيف اعترف بتأويل القوم له تأويلاً بارداً، وصرفا بائساً؟!

الحقّ الثاني: موالاتهم

 من حقوقهم^ الموالاة لهم، وتأتي في الرتبة بعد معرفتهم، فكثير من الناس مَن يدّعي معرفتهم، وقد يعرفهم واحداً بعد واحدٍ، ويعرف فضلهم ومنزلتهم عند الله}، وعند رسوله’، ولكن لا يواليهم، وهذا ـ أعني معرفتهم ـ غير كافٍ ما لم يشفع بالمولاة.

وقد ورد عن طريق العامّة أنّ النبيَّ الأكرم’ قال: «أنا سلمٌ لمَن سالمتم وحربٌ لمَن حاربتم»[306]. ومن المعلوم أنّ مَن سالمه النبيُّ فقد سالمه اللهُ، ومَن حاربه النبيُّ فقد حاربه اللهُ؛ لأنّ النبيَّ الأكرم’ لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى، كما صرّح به القرآن الكريم[307].

وهناك أحاديث عديدة، بل وآيات فيها إشارة إلی مسألة الموالاة لهم^.

ومنها هذا الحديث الذي افتتحنا به الكلام، المروي عن سيد الأنام’، الذي يأمر به المسلمين بالموالاة لعليٍّ وذريته^،إن كانوا يريدون السير واقعاً على نهج النبيِّ’ في حياته ومماته.

الحقّ الثالث: طاعتهم

 والحقّ الثالث لهم^ هو الطاعة لهم، والانقياد لأوامرهم؛ فإنّ المعرفة والموالاة لا يكفيان من دون طاعتهم^؛ فإنّ هكذا معرفة وموالاة خالية عن المضمون، فقد يوالي إنسانٌ إنساناً آخر ولكن لا يطيعه، فهذه الموالاة لم تكن إلّا موالاة صورية، والمطلوب هو الموالاة الواقعية الحقيقية، ومن هنا ورد في بعض الأحاديث القدسية هذا المعنى، كما عن المفضل بن عمر، قال: سمعت مولاي الصادق×يقول: «كان فيما ناجى اللهُ به موسى بن عمران×، أن قال له: يا بنَ عمران، كَذِبَ مَن زعم أنّه يُحبّني، فإذا جنَّه الليلُ نامَ عنّي، أليسَ كلُّ مُحبٍّ يُحبُّ خلوةَ حبيبه؟...»[308].

وما ورد عنهم^ أنّهم قالوا: «إنّ المحبّ لـمَن أحبّ مطيع»[309].

فلا بدّ من الطاعة بعد الموالاة، وقد وردت آيات عديدة تشير إلی ذلك.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ[310].

فقد أوجب الله تبارك وتعالى على المسلمين في الآية المباركة طاعة الأئمّة من أهل البيت^، كما فُسّرت هذه الآية برواياتهم^ العديدة: فعن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر×، أنّه سأله عن قول الله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قال: «نزلت في عليّ بن أبي طالب». قلت: إنَّ الناس يقولون: فما منعه أن يسمي عليّاً وأهل بيته في كتابه؟ فقال أبو جعفر: «قولوا لهم: إنّ الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسمِّ ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول الله هو الذي فسّر ذلك، وأنزل الحجّ فلم ينزل: طوفوا سبعاً، حتى فسّر ذلك لهم رسول الله، وأنزل: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فنزلت في علي والحسن والحسين، وقال رسول الله’: أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، إنّي سألت الله أن لا يفرّق بينهما حتى يوردهما عليَّ الحوض فأعطاني ذلك»[311].

وروي عن إمامنا الصّادق× أنّه قال: «وصلَ الله طاعةَ ولي أمرِه بطاعةِ رسولِه، وطاعة رسوله بطاعته، فمَن تركَ طاعةَ ولاة الأمر، لم يطع اللّه ولا رسوله»[312].

ومن الآية والرواية نعرف أنّ طاعة أهل البيت^ كطاعة الرسول’، وهذا دليلٌ واضح على عصمتهم وطهارتهم^، وعدم التفريق بين طاعتهم وطاعة الرسول’ وطاعة الله تبارك وتعالى.

قال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [313].

وروى زرارة عن الإمام الباقر× أنّه قال: «بُنيَ الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية، قال زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل؛ لأنّها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن، قلت: ثمَّ الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال: الصلاة، إنَّ رسول الله’ قال: الصلاة عمود دينكم، قال: قلت: ثمَّ الذي يليها في الفضل؟ قال: الزكاة؛ لأنّه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها، وقال رسول الله’: الزكاة تذهب الذنوب. قلت: والذي يليها في الفضل؟ قال: الحجّ... أما لو أنَّ رجلاً قام ليله وصام نهاره، وتصدّق بجميع ماله، وحجَّ جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حقّ في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان، ثمَّ قال: أولئك المحسن منهم يدخله الله الجنّة بفضل رحمته»[314].

وأدلّ شيءٍ على طاعتهم هو قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[315].

الحقّ الرابع: أداء حقّهم ^  من الخُمس

 ومن حقوقهم^ العملية التي أكثر ما يلج الناس بها النار، حقّ الخمس الذي أكّدت عليه الشريعة، وأنّه زكاة لأموال الناس.

قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [316]، وغيرها من الآيات الأُخرى.

وهذا الحقّ فرض محتّم على المسلمين، شرّعه اللّه} لأهل البيت^، ومن يمتّ إليهم بشرف القربى والنسب.

 «وهو حقٌّ طبيعيٌّ يفرضه العقلُ والوجدان، كما يفرضه الشرع؛ فقد درجت الدول على تكريم موظّفيها والعاملين في حقولها، فتمنحهم راتباً تقاعدياً يتقاضوه عند كبر سنهم، ويورثونه لأبنائهم، وذلك تقديراً لجهودهم في صالح أممهم وشعوبهم.

وقد فرض اللّهُ الخُمسَ لآل محمدٍ^ وذراريهم تكريماً للنبيِّ’ وتقديراً لجهاده الجبّار، وتضحياته الغالية، في سبيل أُمّته، وتنزيهاً لآله عن الصدقة والزكاة.

وقد أوضح أمير المؤمنين× مفهوم ذي القربى، فقال: نحن واللّه الذين عنى اللّه بذي القربى، الذين قرنهم اللّه بنفسه ونبيه، فقال: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [317] منّا خاصّة؛ لأنّه لم يجعل لنا سهماً في الصدقة، وأكرم اللّه نبيه، وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس»[318].

وعن أبي بصير، قال: قلت لأبي جعفر×: «أصلحك الله، ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال: مَن أكل مال اليتيم درهماً، ونحن اليتيم»[319].

وروى محمد بن مسلم عن أحدهما÷ أنّه قال: «إنّ أشدّ ما فيه الناس يوم القيامة إذا قام صاحب الخُمس، فقال: يا ربّ خُمسي...»[320].

إلی غير ذلك من النصوص والروايات.

الحقّ الخامس: الإحسان إلى ذرّيتهم

 ومن علامات الودّ والحبّ لأهل البيت^ الإحسان إلی ذريتهم بقدر المستطاع.

فعن الإمام الرضا× عن آبائه^ عن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «قال رسول الله’: أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريّتي، والقاضي لهم حوائجَهم، والساعي في أُمورِهم عندما اضطروا إليه، والمحبّ لهم بقلبه ولسانه»[321].

وعن الإمام الصادق× عن آبائه^ قال: «قال رسول الله’: إذا قمتُ المقامَ المحمودَ تشفّعتُ في أصحاب الكبائر من أُمّتي، فيشفعني الله فيهم، واللهِ لا تشفّعتُ فيمَن آذى ذُرّيتي»[322].

الحقّ السادس: مدحهم ونشر فضائلهم

ومن حقوق أهل البيت^ أن نمدحهم وننشر فضائلهم^ بكلّ ما أوتينا، وما أُتيحت لنا من فرص ووسائل بقدر الإمكان؛ لأنّ مدحهم ونشر فضائلهم هو تقوية للدين الإسلامي الحنيف، ونصر لهذا المذهب الشريف، فإنَّ الأئمّة هم أرفع الناس نسباً، وأعلاهم شرفاً، وآثرهم حسباً، وأجمعهم للفضائل والكمالات، هذا بنظر الله تبارك وتعالى ونبيه’، وبنظر شيعتهم ومواليهم ومحبّيهم.

وأمّا بنظر أعدائهم فهم يحقدون عليهم تعنّتاً وتعصّباً، لا إنكاراً لفضائلهم؛ لأنّ انكارها يعني إنكار الدين، وتكذيب الشرع المبين، المتمثّل بخاتم الأنبياء والمرسلين، ولكن ديدن المنافقين على بغض الإمام أمير المؤمنين× وذريّته الطاهرين^.

ومن هنا قال أمير المؤمنين×: «لو ضربتُ خيشومَ المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني. ولو صببتُ الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني؛ وذلك أنّه قضى فانقضى على لسان النبيِّ الأمّي’ أنّه قال: يا علي، لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق»[323].

 «من أجل ذلك كان العارفون بفضائلهم، والمتمسّكون بولائهم، يتبارون في مدحهم، ونشر مناقبهم، مُعرِبينَ عن حبِّهم الصادق وولائهم الأصيل، دونما طلب جزاء ونوال. وكان الأئمة^، يستقبلون مادحيهم بكلِّ حفاوة وترحاب، شاكرين لهم عواطفهم الفيّاضة، وأناشيدهم العذبة، ويكافؤنهم عليها بما وسعت يداهم من البرّ والنوال، والدعاء لهم بالغفران، وجزيل الأجر والثواب. فقد جاء في (خزانة الأدب): حكى صاعد مولى الكُميت، قال: دخلت مع الكُميت على عليِّ بن الحسين× فقال: إنّي قد مدحتك بما أرجو أن يكون لي وسيلة عند رسول الله’، ثمَّ أنشده قصيدته التي أولها:

مَن لقلبٍ متيمٍ مُستهامِ   

غير ما صبوة ولا أحلامِ

فلما أتى على آخرها، قال له: ثوابك نعجز عنه، ولكن ما عجزنا عنه، فإنَّ الله لا يعجز عن مكافأتك، اللهم اغفر للكميت. ثمَّ قسط له على نفسه وعلى أهله أربعمائة ألف درهم، وقال له: خذ يا أبا المستهل. فقال له: لو وصلتني بدانق لكان شرفاً لي، ولكن إن أحببت أن تحسن إلي، فادفع إلي بعض ثيابك أتبرك بها، فقام فنزع ثيابه ودفعها إليه كلّها، ثمّ قال: اللهم إنَّ الكُميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك بنفسه حين ضنَّ الناس، وأظهر ماكتمه غيره من الحقّ، فأحيه سعيداً، وأمته شهيداً، وأره الجزاء عاجلاً، وأجزل له المثوبة آجلاً، فإنّا قد عجزنا عن مكافأته. قال الكميت: ما زلت أعرف بركة دعائه.

 وقال دعبل: «دخلت على علي بن موسى الرضا× ـ بخراسان ـ فقال لي: أنشدني شيئاً ممّا أحدثت. فأنشدته:

مدارسُ آياتٍ خلتْ من تلاوةٍ
ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العَرصاتِ

حتى انتهيت إلى قولي:

إذا وُتروا مدّوا إلى واتريِهم
أكَفُاً عن الأوتارِ مُنقَبِضَاتِ

 فبكى حتى أُغميَ عليه، وأومأ إليَّ خادمٌ كان على رأسه: أن اسكت، فسكتُّ فمكث ساعةً، ثمّ قال لي: أعد. فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً، فأصابه مثل الذي أصابه في المرّة الأُولى، وأومأ الخادم إليَّ أن أسكت، فسكتُّ. فمكثُ ساعةً أخرى، ثم قال لي: أعد. فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها، فقال لي: أحسنت. ثلاث مرات. ثمّ أمر لي بعشرة آلاف درهم، ممّا ضرب باسمه، ولم تكن دفعت إلى أحد بعد. وأمر لي مَن في منزله، بحلي كثير أخرجه إليَّ الخادم، فقدمت العراق، فبعت كلّ درهم منها بعشرة دراهم، اشتراها منّي الشيعة، فحصل لي مائة ألف درهم، فكان أول مال اعتقدته»[324].

الحقّ السابع: زيارة مشاهدهم ^

 ومن حقوقهم^ على مواليهم وشيعتهم، زيارة مشاهدهم المشرّفة والسلام عليهم؛ فإنّها من مظاهر الحبّ والولاء، ومصاديق الوفاء والإخلاص، فهم سيّان أحياءً وأمواتاً.

وقد تواترت النصوص في فضل زيارة مشاهدهم المشرّفة، ومراقدهم الطاهرة^، وما تشتمل عليه من الخصائص الجليلة والثواب الجمّ[325].

فعن الوشّاء قال: سمعتُ الرضا× يقول: «إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد، وحُسن الأداء، زيارة قبورهم، فمَن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمّتهم شفعاؤهم يوم القيامة»[326].

وعن زيد الشحام قال: قلت لأبي عبد الله×: «ما لمَن زار واحداً منكم؟ قال: كمن زار رسول الله’»[327].

وعن أبي الحسن موسى بن جعفر× قال: «إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأولين، وأربعة من الآخرين، فأمّا الأربعة الذين هم من الأولين: فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى^، وأمّا الأربعة من الآخرين: فمحمّد، وعليّ، والحسن، والحسين، صلوات الله عليهم، ثمّ يمدّ المضمار، فيقعد معنا مَن زار قبور الأئمّة^ إلّا أنَّ أعلاهم درجة، وأقربهم حبوة، زوّار ولدي عليّ»[328].

وعن أبي جعفر× قال: «قال أمير المؤمنين×: زارنا رسول الله’، وقد أهدت لنا أُمّ أيمن لبناً وزبداً وتمراً، فقدّمنا منه، فأكل ثمَّ قام إلى زاوية البيت، فصلى ركعات، فلمّا كان في آخر سجوده بكى بُكاءً شديداً، فلم يسأله أحدٌ منّا اجلالاً واعظاماً له، فقام الحُسين× وقعد في حجره فقال: يا أبه، لقد دخلت بيتنا فما سررنا بشيء كسرورنا بدخولك، ثمَّ بكيت بكاءً غمّنا، فما أبكاك؟! فقال: يا بني، أتاني جبرئيل× آنفاً فأخبرني أنّكم قتلى، وأنّ مصارعكم شتى. فقال: يا أبه، فما لمَن يزور قبورنا على تشتتها، فقال: يا بني، أولئك طوائف من أُمّتي يزورونكم فيلتمسون بذلك البركة، وحقيق عليَّ أن آتيهم يوم القيامة حتى أخلصهم من أهوال الساعة، ومن ذنوبهم، ويسكنهم الله الجنة»[329].

ما ذنبُ أهلِ البيتِ
تركوهم شتى مصارعُهُم
فمغيّبٌ كالبدرِ ترتقبُ
ومكابدٌ للسمِ قد
ومـضرّجٌ بالسيفِ آثرَ
حتى منهُمُ أخلوا ربوعَه
وأجمعُها فضيعَه
الورى شوقاً طلوعَه
سُقيت حشاشته نقيعه
عزّه وأبى خُضوعَه
***

إلى أن يقول&:

وكرائمُ التنزيلِ بينَ
تدعو ومَن تدعو وتلكَ
واهاً عرانينُ العُلى
ما هزَّ أضلُعَكُم حدأ
أُميّةٍ برزت مروعَه
كُفاةُ دعوتِها صريعَه
عادت أنوفُكُمُ جديعَه
القومِ بالعيسِ الضليعَه
[330].

***

المحاضرة السادسة عشرة: حبّ النبي’ وأهل بيته ^

عن أبي جعفر الباقر×، عن أبيه، عن الحسين÷، قال: «قال رسول الله’:حُبّي وحُبُّ أهل بيتي نافعٌ في سبعةِ مواطن أهوالهنّ عظيمة: عند الوفاةِ، وفي القبرِ، وعند النشورِ، وعند الكتابِ، وعند الحسابِ، وعند الميزانِ، وعند الصراط»[331].

من اعتقاداتنا وعقائدنا التي انطوت عليها قلوبنا وعقولنا هو الأعتقاد بوجوب حُبِّ أهلِ البيت^، ووجوب التبري من أعدائهم، فعلى كلّ إنسانٍ شيعي أن يلتزم بهذه العقيدة؛ حيث إنَّ من فروع ديننا القويم، ومذهبنا السليم، موالاة أولياء الله، والتبرّي من أعدائهم.

وأمّا أنّ إنساناً يحبّ أهل البيت^، ولايتبرأ من أعدائهم فهو أعور، كما عبّر عن ذلك أمير المؤمنين×، فيما رواه عنه الشيخ ابن إدريس في كتاب السرائر في المستطرفات.

قال&: «إنّ رجُلاً قَدِمَ على أمير المؤمنين×، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أحبُّك وأحبُّ فلاناً ـ وسمّى بعض أعدائه ـ فقال×: أمّا الآن فأنت أعور، فأمّا أن تعمى، وأمّا أن تُبصر»[332].

وعنه& قيل للصادق×: «إنّ فلاناً يواليكم، إلّا أنّه يضعف عن البراءة من عدوّكم. قال: هيهات، كذب مَن ادّعى محبّتنا، ولم يتبرأ من عدوّنا»[333].

وعليه فلا بدّ من التمسك بحبّهم، والتبري من أعدائهم، وأمّا الخلط بين هذا وذاك، فهذا غير مجزٍ ولا مقبول، وإنّما المقبول والمجزي والنافع هو حبّهم مع التبري من أعدائهم.

 وقد أشار القرآن الكريم من قبل ذلك إلى مودتهم ـ علاوةً على الدليل الروائي عن طريق الخاصّة ـ حيث قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[334].إذن هذا الفرض وهذه العقيدة مسلّمة.

ثمرات حبّ أهل البيت ^

ثمّ إنّ ثمرات حُبّ أهل البيت^ ملموسة في الدنيا لكلّ إنسان تمسك بولايتهم، وأحبّهم، وأطاعهم، شريطة أن يجمع بين حبّ النبيِّ المصطفى’ وحُبّ أهل بيته^، فلا يسوغ لأي إنسان أن يُحبّ النبيَّ’ ولا يُحبّ أهل بيته^، حتى ولو قال: إنّ الحديث ناظرٌ إلى الاكتفاء بكل واحد من الحبُيّن؛ لأنّه لو قيل: بأن الحديث ناظرٌ إلى أنّ حب النبيِّ’ بنفسه نافع في هذه المواطن السبعة، فلا يحتاج إلى ضمِّ حبّ أهل بيته^ معه، وإنّما ذكر حبّ أهل البيت كطريق آخر، وعلّة أُخرى للنجاة من المواطن السبعة.

فإنّنا نقول: نسلِّم ـ جدلاً ـ ذلك، ولكن الذي يُحبّ النبيِّ’ لا بدّ أن يطيعه، وإلّا كيف يُحبّ إنسانٌ أنساناً آخر ولايطيعه في أوامره ونواهيه؛ ولذا ورد في الحديث القدسي مارواه المفضل بن عمر، قال: سمعت مولاي الصادق× يقول: «كان فيما ناجى الله به موسى بن عمران× أن قال له: يا بن عمران، كذب مَن زعم أنّه يحبّني، فإذا جنّه الليل نام عني، أليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه؟...»[335]، وما ورد عنهم^ أنَّهم قالوا: «إنّ المحبّ لمَن أحبّ مطيع»[336].

فحتى لو قلنا بأن حُبّ النبيِّ الأكرم’ بوحده كافياً للنجاة من أهوال المواطن السبعة، وهو علّة كافية، ولا يحتاج إلى ضمِّ حبّ أهل البيت^، فلا بدّ أيضاً من حبّهم، والتولّي لهم، والتبرّي من أعدائّم؛ لأنّ النبيَّ الأكرم’ أشار في أكثر من حديث إلى حبِّهم، بالإضافة إلى آية المودّة المتقدّمة، التي وردت على لسان النبيِّ الأكرم’ في أنّه لايريد أجراً للرسالة، إلّا أجراً واحداً، وهو مودّة قرباه وأهل بيته^.

ولوقلنا: بأنّ الحديث ناظرٌ إلى عطف حبّ أهل البيت^ على حبّ النبيِّ الأكرم’، بمعنى أنَّ حبّ أهل البيت^ مع حبّ النبيِّ إذا إجتمعا نفعا في المواطن السبعة، وأما إذا إفترقا فلا، فقد خسر المبطلون حينئذٍ؛ فنحن نحبّ أهل البيت^ ونطيعهم مع حبّنا للنبيِّ الأكرم’، وهو’ الذي أمرنا بحبّ أهل بيته^ وطاعتهم، والتبرّي من أعدائهم.

وعليه فلا يمكن المصير إلى الفهم الأوّل؛ إذ لو أراد النبيِّ الأكرم’ الاكتفاء بكلّ حبّ على حدة، لما ذكر الحديث بهذه الطريقة التي تقتضي العطف بـ (الواو) التي تفيد الجمع والتشريك، وإلّا لو أراد المعنى الأول لقال: (حُبّي أو حبّ أهل بيتي...).

فحبّه’ وحبّ أهل بيته^ ينفع في مواطن لا تحصى في الدنيا، وآثار محبّتِهم^ لاتنقضي، فلو كانت البحار مداداً والشجر أقلاماً، لما أحصوا بركات هذا الحبّ والولاء، بل حبّهم^ لم يُحد بحدود المؤمن الموالي والمخلص، بل يتعدّى حتى إلى المشرك.

لكن بلا شكٍ لحبّ أولياء الله لهم^ المنزلة الخاصّة؛ ولذا كان أولياء الله يغمى عليهم إذا ذكرت لهم مصيبة من مصائب أهل البيت^،كما نقل هذا المعنى عن آية الله العظمى السيد البروجردي&، أنّه كان في منزله يوماً مجلس عزاء، وكان الشيخ الأنصاري القمّي هو الخطيب، فصادف أن أنشد قصيدة في فاطمة الزهراء‘، منها هذا البيت:

ولستُ أنسى خبرَ المسمارِ                   

سل صدرَها خُزانة الأسرار[337].

فأخذ السيد البروجردي يبكي كثيراً حتى أُغمي عليه، فجاء الحاج أحمد، وطلب من الخطيب أن يُنهي قراءة التعزية، وأخبره بأنّ السيد البروجردي قد أُغمي عليه[338].

ومن آثار وبركات حُبِّهم والولاء لهم^ في الحياة الدُّنيا، ما نُقل عن المرحوم الحاج آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري& قال: «كُنت يوماً عند الميرزا الشيرازي& بسامراء أقرأ عليه[339]، وفي أثناء الدرس دخل أستاذنا الكبير آية الله السيد محمد الفشاركي&، وعليه آثار الإنكماش؛ نتيجة ظهور مرض الوباء الذي شاع في العراق في ذلك الزمان.

فقال لنا: هل تعرفونني مُجتهداً أم لا؟ قُلنا: نعم. قال: أتعلموني عادلاً؟ قُلنا: نعم. وكان مقصوده أخذ الأقرار والأعتراف مِنّا، هل له شرائط الحكم والفتوى أم لا؟

قال بعد ذلك: أصدر حُكمي إلى كافّة شيعة سامراء من الرجال والنساء، أن يقرأ كلّ واحدٍ منهم كلّ يوم زيارة عاشوراء نيابة عن والدة الإمام الحجة#، وهذه المُكرّمة تشفع لدى ابنها حضرة ولي الأمر#؛ ليشفع بدوره عند الله المتعال حتى ينجو الشيعة من هذا البلاء.

قال المرحوم الحائري: عندما أصدر هذا الحكم، أطاعه جميع الشيعة من سكنة سامراء، وكانت النتيجة أنّه لم يتلف أحدٌ من الشيعة في سامراء، في حين كان يتلف عشرة، أو خمسة عشر يومياً من غير الشيعة من أثر الوباء»[340].

وهذا غيض من فيضٍ، وقطرة من بحارهم^، وإلّا فكرامتهم^ وآياتهم لا تحصى.

وهذه آثار حبّهم وموالاتهم والاعتقاد بهم في الدنيا ما دام الإنسان حيّاً، وأمّا إذا مات الإنسان فقد قامت قيامته، كما ورد في الحديث الشريف[341].

فيبدأ حبّهم وولايتهم للدفاع عن الإنسان في أصعب المواطن وأهولها وأشدّها عظمة على الإنسان.

وأوّل هذه المواطن هو الموت نفسه، وكفى به هولاً، وكفى به شدّةً.

ومن ثَمَّ الموطن الآخر، وهو القبر، فتأتي ولايتهم^ بأبهى صورة وأجمل مثال، كما روي عن أبي بصير، عن أحدهما÷، قال: «إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستّة صور، فيهن صورة هي أحسنهن وجهاً، وأبهاهن هيئةً، وأطيبهن ريحاً، وأنظفهن صورةً، قال: فيقف صورة عن يمينه، وأُخرى عن يساره، وأُخرى بين يديه، وأُخرى خلفه، وأُخرى عند رجليه، ويقف[342] التي هي أحسنهن فوق رأسه، فإن أُتي عن يمينه، منعته التي عن يمينه، ثمَّ كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست، قال: فتقول أحسنهن صورة: مَن أنتم، جزاكم الله عني خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحجّ والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا برّ مَن وصلت من إخوانك، ثمَّ يقلن: مَن أنتِ؟ فأنتِ أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً، وأبهانا هيئةً، فتقول: أنا الولاية لآل محمد (صلوات الله عليه وعليهم)»[343].

 ثمّ المواطن الأُخرى، وهي: عند النشور، والقيام من القبور، والوقوف أمام ربّ العزّة والجلال، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط.

ومثل هذا المعنى أو قريبٌ منه ورد عند زيارة الإمام×، ولعلّه من مختصّاته×؛ لإختصاصه بجملةٍ من الصفات والكرامات، فقد اختصّ كلّ إمام بجملة من الصفات، دون غيره من آبائه المعصومين^، فهم وإن كانوا كلّهم سُفن نجاة، وينابيع رحمة وحكمة، لكن سفينة الحسين× أسرع، كما قال الشيخ التستري&: «... فالنبيّ والأئمّة^ كلّهم أبواب الجنان، لكنَّ باب الحسين مسلكه أوسع، وكلّهم سُفن النجاة، لكنَّ سفينة الحسين مجراها على اللجج الغامرة أسرع، ومرساها على السواحل المُنجية أيسر، وكلّهم مصابيح الهدى، لكنَّ محالَّ الإستضاءة بنور الحسين أوسع دائرة، وكلّهم الكهف الحصين، لكنَّ منهاج كهف الحسين أسمح وأسهل»[344].

 وهكذا، فتقف عند قبر الإمام الرضا× وتزوره بتلك الروحية، وبتلك النظرة العالية لمضامين هذه الزيارة الشريفة، التي جاء فيها عنه×: «مَن زارني على بعد داري وشطون[345] مزاري، أتيتُه يومَ القيامة في ثلاث مواطن؛ حتى أخلّصه من أهوالها: إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالاً، وعند الصراط، وعند الميزان»[346].

ومن ضمن هؤلاء الشيعة الخُلَّص الذين أكثروا من زيارتهم للإمام الرضا× دعبل بن علي الخزاعي&، دخل على الإمام الرضا× بمرو، فقال: يابن رسول الله، إنّي قُلتُ فيكم قصيدةً، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك، فقال: هاتها يا دعبل، فأنشده:

مدارس آياتٍ خلت من تلاوة
 ومنزلُ وحيٍّ مقفر العرصاتِ

إلى أن قال:

أفاطمُ لو خلت الحسين مجدّلاً
إذن للطمتِ الخدّ فاطمُ عنده
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندُبي
قبورٌ بكوفانٍ وأُخرى بطيبةٍ

وقد مات عطشاناً بشطِ فراتِ
وأجريتِ دمع العين في الوجناتِ
نجومَ سمواتٍ بأرض فلاتِ
وأُخرى بفخٍ نالها صلواتي

فلما انتهيت إلى قولي:

خروجُ إمامٍ لا محالةَ خارجٌ
يميز فينا كلَّ حقٍّ وباطلِ
 يقوم على اسمِ اللهِ والبركاتِ
ويجزي على النعماء والنقماتِ

 بكى الرضا× بكاءً شديداً، ثمّ رفع رأسه إليَّ فقال لي: «يا خزاعي، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري مَن هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟».

 فقلت: لا يا سيدي، إلّا إنّي سمعت بخروج إمام منكم، يطهّر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً، فقال: «يا دعبل، الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، وأمّا متى؟ فإخبار عن الوقت، ولقد حدَّثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي×: أنَّ النبيَّ’ قيل له: يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال: مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلّا هو ثقلت في السماوات والأرض، لا يأتيكم إلّا بغتة»[347].

فلمّا بلغ دعبل& إلى قوله:

«أرى فيئهم في غيرهم متقسّماً
وأيديهم من فيئهم صفراتِ

بكى أبو الحسن الرضا×، وقال له: صدقت يا خزاعي.

فلمّا بلغ إلى قوله:

إذا وتروا مدّوا إلى واتريهم
أكُفاً عن الأوتار منقبضاتِ

 جعل أبو الحسن× يقلّب كفّيه، ويقول: أجل، والله منقبضات.

فلما بلغ إلى قوله:

لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها
وإنّي لأرجو الأمن بعد وفاتي

قال الرضا×: آمنك الله يوم الفزع الأكبر.

فلما انتهى إلى قوله:

وقبر ببغداد لنفس زكية
تضمنها الرحمن في الغرفاتِ

قال له الرضا×: أفلا ألحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟ فقال: بلى، يا ابن رسول الله، فقال×:

وقبر بطوس يا لها من مصيبة
توقد في الأحشاء بالحرقات
إلى الحشـر حتى يبعث الله قائماً
يفرّج عنّا الهمَّ والكربات

فقال دعبل: يا ابن رسول الله، هذا القبر الذي بطوس قبر مَن هو؟ فقال الرضا×: قبري، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري، ألا فمَن زارني في غربتي بطوس، كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له...»[348].

 حقّاً، فما مضت الأيام والليالي إلّا والإمام في نعشه محمولاً إلى قبره، والناس ينادون: وا إماماه وا سيداه، ونحن ننادي أيضاً: وا إماماه وا سيداه.

مات الرضا وارتجت الفگده أرض طوس ‍
اوطلعت الشيعة امفرّعه اوتلطم على الروس
ورجالها إتنادي علي تفداك النفوس ‍
 اونسوانها بالدور نصبت له عزيّه
الله يعين امحمّد ابهاذي المصيبة


 مرّة يجي الطوس اويرد مرّة الطيبة
إيسلي العيلة اللي بگت لجله مريبه ‍
 مُتخوفة الغايب جرع كاس المنيّة
فوگه انحنى إيودعه اويحب خدّه اونحره ‍
 لمن گضه نحبه نهض مكسور ظهره
اتوله جهازه اوشيّعه ابنفسه الگبره ‍
 اوردّ المدينة إينشّف ادموعه الجريه

 


حضـرت كلّ بني العباس شيعت نعش أبو محمد
اوچتاله عليه حزنان لاچن بالگلب عيّد
اوزينب من نخت چتال أخوها إيدفنه اتعنّد ‍
وآمر عـشر خياله يدوسونه من الفُرسان
چتاله الغريب ابطوس يواري ابيده الإمام ‍
اوچتاله غريب الطف يخلّونه ثلث تيام
اوزينب تنتخي بيهم چنها مادرت ظِلاّم

يرضّونه ابجياد الخيل او لا هاشم يثاره انگوم

 


***

لاتشقّوا لآل فهرٍ قُبوراً
فابن طه ملقىً بلا إقبارِ
[349].

***

المحاضرة السابعة عشرة: الفوز في الدارين

دخل شابٌ على رسول الله’ فقال: يا رسول الله، علّمني عملاً إذا أنا عملتُه أحبّني اللهُ والناس، ويكثر مالي، ويصحو بدني، ويطول عمري، ويحشرني الله معك يوم القيامة، قال’: «أيّها الشاب، إذا أردت أن يحبّك الله فخافه واتقه، وإذا أردت أن يحبّك الناس فاقطع الطمع عمّا في أيديهم، وإذا أردت أن يثري مالك فعليك بالصدقة، وإذا أردت أن يصحّ بدنك فعليك بالصوم، وإذا أردت أن يطول عمرك فصل أرحامك، وإذا أردت ان يحشرك الله معي فعليك بطول السجود لله»[350].

يحتاج الإنسان أن يتعلّم كيف يسأل ومَن يسأل، ولا يشغل نفسه ويقضي وقته بما لا فائدة فيه أصلا ً، أو فائدته قليلة جداً، لاتنفع مَن عَلِمَها، ولا تظر مَن جهلها، كما روى الزمخشري «عن قتادة أنّه دخل الكوفة فالتفّ عليه الناس، فقال: سلوا عمّا شئتم، وكان أبو حنيفة حاضراً، وهو غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ قال: من كتاب الله، وهو قوله قالت نملة ولو كانت ذكراً لقال: قال نملة...»[351]، فمن المعلوم أنّ معرفة نملة سليمان×، وأنّها أنثى أم ذكر، لا يقدّم شيئاً ولا يؤخّره.

بخلاف سؤال هذا الشاب، الذي سأل رسول الله’، فإنّه تعلَّم، وفهم كيف يسأل، ومَن يسأل؟

فإنّه سأل رسول الرحمة’، الذي هو مدينة العلم، والذي لا ينطق عن الهوى، بل عن الوحي الذي يوحى إليه. فسأله عن أُمور يحبّها الله ورسوله’، وعن حبّ الله له، وعن الكون مع رسول الله’ يوم القيامة.

فهذا الشاب سأل عن موجبات هذه الأشياء الستّة: (حبّ الله له، وحبّ الناس، وكثرة المال، وصحّة البدن، وطول العمر، والحشر مع رسول الله’ يوم القيامة).

فما أجلّها وأعظمها من أشياء، يتمنّاها كلّ إنسان واعي مُتديّن، فمَن منّا لا يرجو ويتمنّى حبَّ الله والناس له، وكثرة المال، وصحّة البدن، وطول العمر، والحشر مع النبيِّ الأكرم’؟!.

فاُنظر إلی موجبات هذه الأشياء الستّة، وهي ستّة أيضاً.

الأولى: حبّ الله توجبه مخافة الله والتقوى

 كان السؤال الأول من هذه الأسئلة الستّة كيف يحبّني الله؟ فقال’: إذا أردت أن يُحبّك الله فخافه واتقه. يعني ما يوجب حبَّ الله هو الخوف منه تعالى وتقواه، عزّ شأنه وتقدّست أسماؤه.

أمّا التقوى: فهي ـ على ما جاء في الروايات[352] وتقدّم بيان ذلك ـ: أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، فإذا كان قد نهى عن الغيبة وشرب الخمر والنميمة والكذب... فالمفروض أن لا يجدنا قريبين منها.

وإذا كان قد أمرنا بالصوم والصلاة والذكر والزكاة وغيرها، فلا يفقدنا عند أوقاتها وأماكنها، كالمساجد ومجالس الذكر مثلاً.

وأمّا الخوف فكلّما كان الإنسان خائفاً من الله كان الله محبّاً له.

ومن هنا روي بسند معتبر عن الإمام السجاد علي بن الحسين× أنّه قال: «كان في بني إسرائيل رجل ينبش القبور، فاعتلَّ جارٌ له فخاف الموت، فبعث إلى النبّاش، فقال له: كيف كان جواري لك؟ قال: أحسن جوار. قال: فإنَّ لي إليك حاجة، قال: قضيت حاجتك، قال: فأخرج إليه كفنين، فقال: أحب أن تأخذ أحبّهما إليك، وإذا دفنت فلا تنبشني. فامتنع النبّاش من ذلك، وأبى أن يأخذه، فقال له الرجل: أحبّ أن تأخذه. فلم يزل به حتى أخذ أحبّهما إليه، ومات الرجل، فلمّا دُفن قال النبّاش: هذا قد دفن، فما علمه بأنّي تركت كفنه أو أخذته، لآخذنه، فأتى قبره فنبشه، فسمع صائحاً يقول ويصيح به: لا تفعل، ففزع النبّاش من ذلك، فتركه وترك ما كان عليه، وقال لوِلده: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: نعم الأب كنت لنا، قال: فإنَّ لي إليكم حاجة. قالوا: قل ما شئت، فإنّا سنصير إليه إن شاء الله.

 قال: فأحبّ إذا أنا مت أن تأخذوني فتحرقوني بالنار، فإذا صرت رماداً فدقوني، ثمّ تعمّدوا بي ريحاً عاصفاً، فذروا نصفي في البرّ، ونصفي في البحر. قالوا: نفعل. فلما مات فعل به ولده ما أوصاهم به، فلما ذروه قال الله جلّ جلاله للبرّ: أجمع ما فيك. وقال للبحر: أجمع ما فيك. فإذا الرجل قائم بين يدي الله جلّ جلاله. فقال الله: ما حملك على ما أوصيت به ولدك أن يفعلوه بك؟ قال: حملني على ذلك ـ وعزتك ـ خوفك. فقال الله جلّ جلاله: فإنّي سأرضي خصومك، وقد آمنت خوفك، وغفرت لك»[353].

فاُنظر إلی أهمية الخوف وكيف أوجب حبّ الله للعبد، وغفران ذنوبه، وأمانه من ذلك الخوف الذي أعدّه الله تبارك وتعالى للعاصين، الذين لم يخشوه في هذه الدنيا، فعن رسول الله’ أنّه قال: «... لا يجمع الله على عبده خوفين ولا أمنين»[354].

الثانية: حبّ الناس يوجبه قطع الطمع عمّا في أيديهم

ثمّ يقول الرسول الأكرم’ للشاب: وأمّا إذا أردت أن يحبّك الناس فاقطع الطمع عمّا في أيديهم، يعني لا يكن عندك طمع في أحد، وإنّما كلّ طمعك بما في يديّ الله تعالى، وعندئذٍ سوف يحبّك الناس؛ لأنّهم لا يخافون منك إذا أحبّوك أن تأخذ ما في أيديهم، أو تطلب ما عندهم، فيحبّون علاقتك وصداقتك، ويعلمون أنّها ليست للمال، ولا لأيّ شيءٍ آخر، بل هي لله تعالى، فالمداراة التي يتصنّعها البعض للبعض الآخر لأجل ماله، لو كانت خالصة ومع الله تبارك وتعالى لأعطت ثمارها. ؟

 فعلى الإنسان أن يداري وجهاً يغنيه عن الوجوه، وإذا داريت وجهه} سوف يجعل الله تبارك وتعالى لك ودّاً في قلوب المؤمنين، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا[355].

ويوضّح لنا مدارة وجه الله تبارك وتعالى ما روي عن أبي جعفر× أنّه قال: «كان في بني إسرائيل رجل وكان له بنتان، فزوجهما من رجلين، واحد زرّاع، وآخر يعمل الفخار، ثمّ إنّه زارهما، فبدأ بإمرأة الزرّاع، فقال لها: كيف حالك؟ قالت: قد زرع زوجي زرعاً كثيراً، فإن جاء الله بالسماء فنحن أحسن بني إسرائيل حالاً، ثمّ ذهب إلى أُخرى[356]، فسألها عن حالها، فقال: قد عمل زوجي فخاراً كثيراً، فان أمسك الله السماء عنا، فنحن أحسن بني إسرائيل حالاً، فانصرف وهو يقول: اللهم أنت لهما»[357].

فلاحظ كيف توجه هذا الرجل لله تبارك وتعالى، فهو الذي يقسّم الأرزاق بين العباد.

الثالثة: كثرة المال توجبه الصدقة

 وهذه تجارة مع الله تبارك وتعالى لكلّ مَن أراد أن يكثر ماله، ومَن لا يريد ذلك؟! كلّنا ـ إلّا مَن ندر ـ يريد كثرة ماله من حلال؛ حتّى يصل أرحامه، ويقضي حوائج الآخرين به، بقدر الإمكان.

فيقول الصادق الأمين’ لهذا الشاب السائل: وإذا أردت أن يثري مالك فعليك بالصدقة، ومن هنا قال الإمام أمير المؤمنين×: «إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة»[358].

فمَن أراد زيادة أمواله وكثرتها بطريق مشروع، فالطريق المشروع هو الصدقة وليس الربا، قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [359]، وقال تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ[360]، فهكذا يتاجر الإنسان مع ربّه، وهو الرابح دائماً وأبداً، ما دام عمله لله تبارك وتعالى.

وهناك آثار عديدة للصدقة اقتصر النبيّ’ على أحدها، وهو كثرة المال؛ لأنّ السائل كان يريد ما يوجب كثرة المال، فقال له النبيّ الأكرم’: «الصدقة توجبه»،وإلّا فآثار الصدقة عديدة، منها: دفع البلاء، ودفع ميتة السوء، واستجابة الدعاء بأوراد مخصوصة، وقضاء الحوائج، وغير ذلك[361].

روي عن الإمام الصادق× أنّه قال: «مرَّ يهودي بالنبي’ فقال: السام عليك، فقال رسول الله’: عليك، فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت، قال: الموت عليك، قال النبيّ’: وكذلك رددت. ثمَّ قال النبيّ’: إنَّ هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله، قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله، ثمّ لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول الله’: ضعه فوضع الحطب، فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود، فقال: يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملاً إلّا حطبي هذا احتملته فجئت به، وكان معي كعكتان، فأكلت واحدة، وتصدّقت بواحدة على مسكين، فقال رسول الله’: بها دفع الله عنه. وقال: إنَّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان»[362].

الرابعة: صحّة البدن يوجبها الصوم

 وسأل الشاب عن العمل الذي يوجب صحّة البدن، فقال النبيّ الأكرم’: وإذا أردت أن يصحّ بدنك فعليك بالصوم، فالصوم إذن هو العمل الموجب لصحّة البدن.

ومن هنا روي عنه’ أنّه قال: «صوموا تصحّوا»[363]؛ لأنّ البدن له حقّ على الإنسان، وهو أن يعطيه صاحبُه قسطاً من الراحة، وراحته بالنوم وقلّة الطعام، بل الإمساك عنه عدّة ساعات؛ حتّى تهدأ هذه الأعضاء عن العمل الذي تقوم به، وبعد ذلك تكون قد تجدّدت الحيويّة فيها.

ويكفي الصوم فضلاً وثواباً، أنّه قد نسبه الباري} له، حيث ورد في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به»[364]. وروي عن الصادق الأمين’ أنّه قال: «الصومُ جُنّة من النار»[365].

وورد في بعض الأدعية والمناجاة «إلهي ربح الصائمون»[366]، وبالفعل إذا كان الصوم ـ كما ذكرنا ـ فيه صحّة البدن، وأنّ الله تبارك وتعالى هو الذي يجزي به أو عليه، وأنّه وقاية من النار، فكيف لا يكون الصائم رابحاً؟!

والصوم ركن أساسي من أركان هذا الدين الحنيف، وهو نصف الصبر على ما جاء في بعض الروايات[367]، بل إنّ البعض من الآيات ذكرت الصبر والمراد به الصوم[368].

الخامسة: طول العمر يوجبه صلة الأرحام

والمسألة الخامسة التي سألها الشاب هي طول العمر، فسأل هذا الشاب عن الموجب لها ما هو؟

فأجابه النبيّ الأكرم’، بأنّ موجبها صلة الأرحام، فقال له: «وإذا أردت أن يطول عمرك فصل أرحامك»، وهذه النقطة قد تكلّمنا عنها سابقاً بما فيه الكفاية، ولكن نشير إلی ذلك بعض الشيء.

فنقول: صلة الأرحام هي إشراك الإنسان أقربائه بما ناله من خير، سواء كان مالاً أم جاهاً أم علماً أم غير ذلك، من خلال السؤال عن أحوالهم وعيادتهم ومساعدتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، ومشاركتهم في مسرّاتهم وأحزانهم، ووصلهم ولو بالكلمة الطيبة، فقد روي عن رسول الرحمة’ أنّه قال: «إنّ أعجلَ الخيرِ ثواباً صلة الرحمِ»[369].

وعنه’ أنّه قال: «الصدقة بعشرةٍ، والقرض بثمانية عشر، وصلة الإخوان بعشرين، وصلة الرحم بأربعة وعشرين»[370].

وقد وردت آثار عديدة في صلة الأرحام، وأحد هذه الآثار هو طول العمر، وهناك آثار أُخرى ذكرت في الروايات عن النبي’ وأهل بيته الأطهار^ منها: أنّها تنفي الفقر، وتعمّر الديار، وتهوّن الحساب، وتقي ميتة السوء، وتُكثر الأموال، وتعصم من الذنوب.

فعنه’ أنّه قال: «صلة الأرحام تزيد في العمر وتنفي الفقر»[371]، وعنه’ قال: «صلة الرحم تعمّر الديار»[372]، وعنه’ قال: «صلة الرحم تُهوّن الحساب وتقي ميتة السوء»[373]، وأيضاً’ قال: «إنّ القوم ليكونون فجرة، ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم، وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبراراً بررة؟!»[374].

وعن الإمام الصادق× قال: «إنّ صلة الرحم والبرّ ليهوّنان الحساب، ويعصمان من الذنوب، فصلوا أرحامكم، وبروا بإخوانكم، ولو بحسن السلام وردّ الجواب»[375].

وأهمّ أثر من هذه الآثار ـ بحسب نظر الإنسان ـ هو طول العمر، والشاب سأل عن ذلك، فقال له النبيّ’: صل أرحامك.

ومن هنا رُويَ عن إمامنا أمير المؤمنين علي×، أنّه قال: قال رسول الله’: «إنّ الرجل ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين، فيصّيرها الله ثلاثين سنة، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيصيّرها ثلاث سنين...»[376].

وخير شاهد على ذلك ما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق× أنّه قال لأحد أصحابه واسمه مُيسّر: «يا مُيسّر، قد حضر أجلُك غير مرّة ولا مرّتين، كلّ ذلك يؤخر الله أجلك لصلتك قرابتك»[377].

السادسة: الحشر مع النبي الأكرم’ يوجبه طول السجود للّه

وسأل الشاب أيضاً عمّا يجعله محشوراً مع حضرة النبيِّ الأكرم’، وهو غاية المنى، وأمنية كلّ متمنٍ، فأجابه النبيّ’ قائلاً: وإذا أردت أن يحشرك الله معي فعليك بطول السجود لله}. فاُنظر إلی أثر طول السجود لله تبارك وتعالى في الدنيا، كيف يوجب تلك الأمنية العظيمة، وما أسهله على الإنسان، ولكن يمنعه عن ذلك الشيطان لحسده له؛ لأنَّ الشيطان خرج من الجنّة بسبب تكبّره وامتناعه من السجود لآدم×[378]، فالسجود أشقّ عبادة عليه ـ لعنه الله ـ فإنّه إذا رأى إنساناً يسجد لربّه، يقول: يا ويحي، أمرني ربّي بالسجود فعصيت، وأمر هذا بالسجود فأطاع، ويقول لأبالسته: عليكم أن تشغلوه عن صلاته[379].

ومن هنا قيل: إنّ سبب تسمية المحراب بهذا الاسم؛ لأنّه تقوم حرب بين المصلي والشياطين[380].

وروي عن أبي عبد الله الصادق× أنّه قال: «أوحى الله إلى موسى بن عمران×: أتدري يا موسى، لم انتجبتك من خلقي، واصطفيتك لكلامي؟ فقال: لا، يا ربّ، فأوحى الله إليه: أنّي اطّلعت إلى الأرض، فلم أجد عليها أشدّ تواضعاً لي منك، فخرَّ موسى ساجداً وعفّر خدّيه في التراب تذللاً منه لربّه، فأوحى الله إليه: ارفع رأسك يا موسى، وامر يدك موضع سجودك، وامسح بها وجهك وما نالته من بدنك، فإنه أمان من كلّ سقم وداء وآفة وعاهة»[381].

وهكذا يكون السجود لله} عظيماً دائماً وأبداً.

ولقد جسّد ذلك سيدُ الشُهداء× في يوم عاشوراء، فإنّه سجد لله} ولكنّه لم يكتفِ بذلك، بل صار موضعاً لسجود الرماح والسيوف ومحراباً لها، ورحم الله السيد رضا الهندي حيث يقول:

صلّت على جسم الحُسين سيوفُهم
ومضـى لهيفاً لا يجد غيرَ القنا
ضمآن ذاب فؤادُه من غُلةٍ
فغدا لساجدة الضُبا محرابا
ظلاً ولا غيرَ النجيع سرابا
لو مسّت الصخرَ الأصمَّ لذابا
[382].

***

المحاضرة الثامنة عشرة: الغيبة وآثارها

روي عن رسول الله’ أنّه قال: «مَن اغتابَ مُسلماً أو مسلمةً لم يقبلِ اللهُ تعالى صلاتَه ولا صيامَه أربعينَ يوماً وليلةً، إلّا أن يغفرَ لهُ صاحبُه»[383].

الغيبة: هي ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه، ممّا يعدّ نقصاناً في العرف، بقصد الانتقاص والذمّ، أو التنبيه على ما يكره نسبته إليه[384].

ومن هنا يكون التعريف الثاني أعمّ من الأول؛ لأنَّ الأوّل اقتصر على الذكر، وأمّا الثاني فهو يشمل القول والفعل، من كتابة أو إشارة أو غير ذلك، وفيه تنبيه على إظهار نقص الآخرين، ويدخل في ذلك حتّى النحنحة والقهقهة، والإشارة بالعين و الحاجب وغيرها.

ثمّ إنّه قد وقع الخلاف بين الأعلام في أخذ قصد الانتقاص في تعريف الغيبة وعدمه، والمسألة مذكورة في الرسائل العملية، والمرجو من المؤمنين الرجوع إليها، كلٌّ بحسب تقليده.

ذمّ الشارع المقدّس للغيبة

 لقد حرّم الشارع المقدّس الغيبة، وشبّه المغتاب بآكل لحم الميت، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بـقوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [385].

وقد وردت روايات عديدة عن رسول الله’ وأهل بيته^ في بيان بشاعة هذه الصفة وهذا الداء، فعنه’ أنّه قال: «مررتُ ليلةَ أُسريَ بي على قومٍ يخمشونَ وجوَهَهم بأظافيرهم، فقلتُ: يا جبرئيلُ مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناسَ، ويقعونَ في أعراضِهم»[386].

وعنه’ أيضاً قال: «مَن اغتاب امرئاًمسلماً بطل صومُه، ونقض وضوءه، وجاء يومَ القيامةِ يفوحُ من فيهِ رائحةٌ أنتنُ من الجيفة، يتأذّى به أهلُ الموقف، وإن ماتَ قبل أن يتوبَ مات مُستحلاً لما حرّمَ اللهُ»[387].

وعن الإمام أمير المؤمنين× قال: «يا نوفُ... اجتنب الغيبة؛ فإنّها إدام كلاب النار، ثمّ قال: يا نَوفُ كذبَ مَن زعَمَ أنّه ولد من حلالٍ، وهو يأكل لحومَ الناس بالغيبة...»[388].

وفي الحقيقة هناك روايات ذكرت الغيبة ومساوئها تقشعرُّ منها الأبدان، وتصتكُّ منها الأسماع، كما روي أنّها أشدّ من الزنا، فعن الرسول الأكرم’ أنّه قال: «الغيبة أشدُّ من الزنا، فقيل: يا رسولَ الله، ولِمَ ذلك؟ قال: صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبُه الذي يحله»[389]، ولكن نرى الكثير من الناس مَن يتساهل فيها، ويشنّع على الزاني، بل على الناظر للأجنبية ـ وإن كانا محرّمين ـ أكثر ممّا يفعله المغتاب نفسه، وكلّ ظنّه بأنّه لم يقل شيئاً إلّا حقيقة.

فكثيراً ما نسمع من الناس أنّهم يذكرون أشخاصاً ويغتابونهم، وعندما يقال لهم: بأنّ هذا الكلام غيبة تراهم يجيونك على الفور: بأنّها حقائق! ظانّين بأنَّ الغيبة لا تتناول الحقائق، وهذا عجيب جدّاً؛ إذ الغيبة ليس موردها إلّا الحقائق، فعندما يقول شخص عن آخر: بأنّه بخيل، أو أنّه كذّاب، أو غير ذلك، وكانت هذه الصفات موجودة فيه بالفعل فهذه هي الغيبة، وأمّا إذا لم تكن موجودة فهذا هو البهتان.

ومن هنا روى يحيى الأزرق، قال: قال لي أبو الحسن×: «مَن ذكر رجُلاً من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، ومَن ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه، ومَن ذكره بما ليس فيه فقد بهته»[390].

والغيبة محرّمةٌ بالإجماع بين المسلمين، بل تُعدُّ حرمتُها من ضروريات الفقه الإسلامي، وإنّها من المعاصي الكبيرة والموبقات المهلكة، ولشدّة حرمتها لاتتحقّق التوبة منها حتّى يغفرها صاحبها الذي اُغتيب، وهذا ما ورد في الرواية الشّريفة المتقدّمة التي بيّنت أنّها أشدّ من الزنا.

قال العلاّمة المجلسي&: «وتحريم الغيبة في الجملة إجماعي، بل هو كبيرة موبقة؛ للتصريح بالتوعّد عليها بالخصوص في الكتاب والسنّة، وقد نصَّ اللهُ على ذمّها في كتابه، وشبّه صاحبَها بآكل لحم الميتة...»[391].

حقيقة الغيبة في عالم الغيب

 إنّ لأعمالنا ـ واجبة أو محرّمة ـ صوراً وراء الصور التي نراها نحن، وقد أشار القرآن الكريم في عدّة مواضع إلی هذه الحقيقة.

فمثلاً عبّر عن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً بأنّهم يأكلون ناراً، حيث يقول تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [392]. وعن الذين يتعاملون بالربا أنّهم لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس، حيث يقول جلّت قُدرتُه: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [393]، إلی غير ذلك. وما هو شاهد كلامنا الغيبة، فقد عبّر عنها الباري بأنّها أكل الإنسان للحم أخيه الميت.

فهذه صور غيبيّة وراء صورتها الظاهرية، وقد ذكرت الرويات الشريفة صوراً بشعة متعددة، تصف فيها الغيبة تختلف باختلاف الحيثيات.

ومن هذه الصور:

1 ـ تشبيه مرتكب الغيبة بآكل لحوم إخوانه الموتى، وقد دلّت على هذه الصورة الآية المباركة، حيث قالت: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [394].

2 ـ إنّ مرتكب هذه الجريرة الموبقة تفوح منه رائحة أنتن من رائحة الجيفة، وقد دلّ على ذلك الحديث المتقدّم المروي عن النبيِّ الأكرم’ القائل: «مَن اغتاب امرئاًمسلماً بطل صومه، ونقض وضوءه، وجاء يوم القيامة يفوحُ من فيه رائحة أنتن من الجيفة، يتأذّى به أهل الموقف، وإن مات قبل أن يتوب مات مُستحلاً لما حرّم الله».

3 ـ إنّ الغيبة هي بنفسها إدام كلاب النار، يعني أنَّ لها صورة أُخرى في عالم الغيب تتمثّل بها، وهي طعام الكلاب الموجودة في النار، كما جاء ذلك في الحديث المتقدِّم عن الإمام أمير المؤمنين×، حيث قال: «اجتنب الغيبة؛ فإنّها إدام كلاب النار...». ويمكن تصور وجوهاً أُخرى بمتابعة النصوص والآثار، تركنا ذلك للاختصار.

المفاسد المترتبة على الغيبة

 قال ثاني الشهيدين&: «واعلم أنّ السبب الموجب للتشديد في أمر الغيبة، وجعلها أعظم من كثير من المعاصي الكبيرة، هو اشتمالها على المفاسد الكلية المنافية لغرض الحكيم سبحانه، بخلاف باقي المعاصي؛ فإنّها مستلزمة لمفاسد جزئية.

 بيان ذلك: أنّ المقاصد المهمّة للشارع اجتماع النفوس على همٍّ واحدٍ وطريقةٍ واحدة، وهي سلوك سبيل الله بسائر وجوده الأوامر والنواهي، ولا يتمّ ذلك الّا بالتعاون والتعاضد بين أبناء النوع الإنساني، وذلك يتوقف على اجتماع همّهم، وتصافي بواطنهم، واجتماعهم على الألفة بالمحبّة، حتى يكونوا بمنزلة عبدٍ واحدٍ في طاعة مولاه، ولن يتمّ ذلك إلّا بنفي الضغاين والأحقاد والحسد ونحوه، وكانت الغيبة من كلّ منهم لأخيه مثيرة لضغنة، ومستدعية منه بمثلها في حقّه، لاجرم كانت ضد المقصود الكلّي للشارع، وكانت مفسدة كلّية؛ فلذلك أكثر اللهُ ورسولُه من النهي عنها، والوعيد عليها»[395].

علاجُ الغيبة

إنّ هذه الرذيلة ـ وكما ذكرنا ـ من أبشع الرذائل والمعاصي، ولا بدّ للإنسان من علاجها قبل ارتحاله من هذا العالم إلی عالم الآخرة الذي لا عمل فيه، وإنّما حساب فحسب، ويقف المرتكب لها في محضر الأنبياء والمرسلين، والأوصياء المنتجبين، والملائكة المُقرّبين، نادماً على ما ارتكبه في دار الدنيا، ولات حين مناص، وخسر هنالك المبطلون.

وقد ذكر أهل الأخلاق أنّ هذه الرذيلة وأمثالها يمكن علاجها عن طريق العلم النافع والعمل.

 «أمّا العلم النافع: فهو أن يفكّر الإنسان في الآثار النافعة التي تترتّب على معالجة هذه الموبقة، ويقارنها مع المضاعفات السيئة، والآثار الشنيعة التي تترتّب على الغيبة، ثمّ يعرض كلا الأمرين على العقل، ويستهديه لما فيه الحسن والخير والصلاح.

وأمّا من الناحية العملية: فلا بدّ من كفّ النفس عن هذه المعصية بعض الوقت مهما كان صعباً، ولجم اللسان، والمراقبة الكاملة للنفس، ومعاهدة النفس بعدم اقتراف هذه الخطيئة، ومراقبتها والحفاظ عليها ومحاسبتها، حيث يمكن أن يتمّ إصلاح النفس بعد مضي فترة قصيرة بمشيئة الله تعالى، وتستأصل مادة الفساد، ويسهل عليك الأمر قليلاً قليلاً، وبعد فترة تحسُّ بأنّك تنفر منها بحسب طبيعتك، وتنزجر عنها، ثمَّ تكون راحة النفس ومتعتها في ترك هذه المعصية»[396].

ولو تدبّر الإنسان في بشاعة الغيبة من خلال الآيات والروايات المتقدّمة وصورتها الغيبيّة، لكان ذلك رادعاً حقيقيّاً له، بل لكلّ إنسان عاقل.

ويكفيه أن يتدبّر في هذا الخبر، وهو ما روي عن النبي الأكرم’ أنّه قال: «ما النارُ في اليبسِ بأسرعِ مِنَ الغيبةِ في حسناتِ العبدِ»[397]، وقوله’ أيضاً: «يؤتى بأحدٍ يوم القيامة، يُوقف بين يدي الربِّ ويدفع إليه كتابُه، فلا يرى حسناته فيه، فيقول: إلهي، ليس هذا كتابي، فإنّي لا أرى فيه حسناتي! فيُقال له: إنّ ربّك لا يضلُّ ولا ينسى، ذهب عملُك باغتيابِ الناس، ثمّ يُؤتى بآخر ويُدفع إليه كتابُه فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي، ما هذا كتابي، فإنّي ما عملت هذه الطاعات، فيقول له: إنّ فلاناً اغتابك فدُفعت حسناته إليك»[398].

وحكي عن بعض العلماء: أنَّ أحداً اغتابه، فسمع بذلك، فجاءه ومعه طبق من الحلوى، وطرق بابه، وقدّمها له: فتعجّب ذلك الرجل، وقال: ما المناسبة؟ فقال هذا العالم: لقد وهبت إليَّ أعزّ ما عندك؟، وهي حسناتك، فأحببت أن أردّ جميلك هذا بهذا الطبق من الحلوى، فلقد ذهبت حسناتك من سجلِّ أعمالك إلی سجلِّ أعمالي باغتيابك إيايّ[399].

وقد جاء في الروايات الشريفة: «إنّ الغيبة تأكلُ الحسناتِ، كما تأكلُ النارُ الحطبَ»[400].

فلو تدبّرنا في هذه الأخبار وغيرها التي تكشف القناع عن وجه هذه الموبقة العظيمة، وأنّها تذهب بأهمّ شيء عنده وهي حسناته، لكفانا رادعاً عنها.

وكلّ ما ذكرناه من حرمة الغيبة، وأنّها من الموبقات، وبشاعة صورتها الغيبية، جارٍ في الاستماع للغيبة.

فالمستمع كالفاعل لها بلا فرق من الناحية الشرعية، بل ورد في بعض الروايات أنّ المستمع مثل المغتاب في كلّ الأُمور، حتّى في وجوب التسامح من الذي اُغتيب، وأنّ الاستماع من الكبائر.

فعن الإمام أمير المؤمنين× أنّه قال: «السامع للغيبة أحدُ المغتابين»[401]، وقد علّق العلاّمة المجلسي& على هذا الكلام بقوله: «ومراده×: السامع على قصد الرضا والإيثار لا على وجه الاتّفاق، أو مع القدرة على الإنكار ولم يفعل، ووجه كون المستمع والسامع على ذلك الوجه مغتابين مشاركتهما للمغتاب في الرضا، وتكيّف ذهنهما بالتصورات المذمومة التي لا ينبغي، وإن اختلفا في أنّ أحدهما قائل، والآخر قابل، لكن كلّ واحد منهما صاحب آلة، أمّا أحدهما فذو لسان يعبر عن نفسٍ قد تنجّست بتصور الكذب والحرام والعزم عليه، وأمّا الآخر فذو سمع تقبل عنه النفس تلك الآثار عن إيثار وسوء اختيار، فتألفها وتعتادها، فتمكن من جوهرها سموم عقارب الباطل، ومن ذلك قيل: السامع شريك القائل، وقد تقدّم في الخبر ما يدلّ عليه. فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلّا بأن ينكر بلسانه، فإن خاف، فبقلبه، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام غيره فلم يفعله لزمه، ولو قال بلسانه: اسكت وهو يشتهي ذلك بقلبه، فذلك نفاق وفاحشة أُخرى زائدة، لا يخرجه عن الإثم ما لم يكرهه بقلبه، وقد روي عن النبي’ أنّه قال: مَن أُذلّ عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذلّه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله’: مَن ردّ عن عرض أخيه بالغيب كان حقّاً على الله أن يردّ عن عرضه يوم القيامة. وقال أيضاً: مَن ردّ عن عرض أخيه بالغيب كان حقّاً على الله أن يعتقه من النار»[402].

وروي أنّه نظر أمير المؤمنين× إلى رجلٍ يغتاب رجُلا ًعند الحسن ابنه× فقال: «يا بُني، نزّه سمعك عن مثل هذا؛ فإنّه نظر إلى أخبث ما في وعائه، فأفرغه في وعائك»[403]، بل في بعض الروايات ورد الحث على وجوب ردّ الغيبة.

فعن النبيّ الأكرم’ قال: «مَن ردّ عن أخيه غيبةً سمعها في مجلسٍ ردّ الله عنه ألف باب من الشرّ في الدنيا والآخرة، فإن لم يردّ عنه (وأعجبه) كان عليه كوزر مَن اغتاب»[404].

وعن الإمام الباقر× قال: «مَن اُغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه، نصره الله في الدنيا والآخرة، ومَن لم ينصره ولم يدفع عنه، وهو يقدر على نصرته وعونه، خفضه الله في الدنيا والآخرة»[405].

كفّارةُ الغيبة

 وإذا تورّطنا ـ لا سمح الله ـ بهذه الموبقة العظيمة، والجريرة الكبيرة، لزم علينا المبادرة إلی إصلاح ما أفسدناه، والندم والتوبة فوراً، والتأسّف على ما جنيناه.

وقد ذكر العلماء الأعلام أنّ الاستغفار بوحده غير كافٍ، بل لا بدّ من ضميمةٍ معه، وهذه الضميمة قد أشارت إليها بعض الروايات، وقد ذكرنا بعضها، ومنها: الرواية التي جعلت الغيبة أشدّ من الزنا، المروية عن الرسول الأكرم’، حيث قال’: «الغيبة أشدّ من الزنا. فقيل: يا رسول الله، ولِمَ ذلك؟ قال: صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يحلّه»، وهذه الأشدّية ناتجة عن هذه الضميمة، أعني: (حتى يكون صاحبه الذي يحلّه).

 قال الشهيد الثاني&: «وقد ورد في كفارتها حديثان: أحدهما: قوله’: كفارة من استغبْته أن تستغفر له. والثاني: قوله’: مَن كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه، من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فيزيد على سيئاته. ويمكن أن يكون طريق الجمع حمل الاستغفار له على مَن لم يبلغ عيبة المغتاب، فينبغي الاقتصار على الدعاء له والاستغفار؛ لأنّ في محالّته إثارة للفتنة وجلباً للضغائن، وفي حكم مَن لم يبلغه مَن لم يقدر على الوصول إليه، بموت أو غيبة، وحمل المحالّة على مَن يمكن التوصّل إليه مع بلوغه الغيبة. ويستحب للمعتذر إليه قبول العذر والمحالّة استحباباً مؤكّداً...»[406].

وقد ضرب أهل البيت^ أروع الأمثلة في قبول العذر والصفح حتى عن أعدى أعدائهم، لكن تعال سلني هل عرف أعداؤهم هذا المعنى الجميل، واللطف الجليل؟! لا والله، بل قابلوا الإحسان بالإساءة، الله أكبر!

وعليك خزي يا أُميّةُ دائماً
يبقى كما في النار دام بقاك
هلا صفحت عن الحسين ورهطه
صفح الوصي أبيه عن آباك؟
وعففت يوم الطف عفّة جدّه
المبعوث يوم الفتح عن طلقاك؟
أفهل يدٌ سلبت إماءَك مثلما
سلبت كريمات الحُسين يداك؟
أم هل برزنَ بفتح مكة حُسـّراً
كنسائه يوم الطفوف نساك؟
[407].

***

المحاضرة التاسعة عشرة: صنوف المواعظ

 قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [408].

إنَّ الله بعث رسولَه المصطفى مُحمّداً’ بهذا الكتاب الكريم إلى الناس كافّة؛ لأجل هدايتهم وتذكيرهم بالمخزون الفطري الذي أودعه الله تبارك وتعالى فيهم، وهذا القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم[409]، جاءنا بأوامر ونواهي فيها كمالُنا ورقيُنا، وهناك من الآيات الشريفة ما اشتمل على أكثر من أمر ونهي، ولو سألَنا سائل عن أوامر الله ونواهيه ما هي؟ وأراد منّا جواباً مختصراً ومفيداً، لكان الجواب هذه الآية المباركة؛ لأنّ هذه الآية جمعت بين صنفوف المواعظ، وروائع الحكم وغررها، فجاءتنا بستّ مواعظ[410]، أمرتنا بثلاث منها، ونهتنا عن ثلاث أُخرى.

أشمل آيات الخير والشر هذه الآية المباركة

 إنّ محتوى هذه الآية المباركة له من قوّة التأثير ما جعل كثيراً من الناس يصبحون مسلمين على بينةٍ من أمرهم، وها هو عثمان بن مظعون& أحد أصحاب رسول الله’ قال: «كنتُ أسلمتُ استحياءً من رسولِ الله’؛ لكثرةِ ما كان يعرضُ عليَّ الإسلام، ولمّا يقرّ الإسلامُ في قلبي، فكنتُ ذاتَ يومٍ عنده، حال تأمّله، فشخص بصره نحو السماء، كأنّه يستفهم شيئاً، فلمّا سري عنه، سألتُه عن حاله، فقال: نعم بينا أنا أحدثك، إذ رأيتُ جبرائيلَ في الهواء، فأتاني بهذه الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ . وقرأها عليَّ إلى آخرها. فقرَّ الإسلامُ في قلبي. وأتيتُ عمَّه أبا طالب فأخبرتُه، فقال: يا آلَ قُريش، اتّبعوا مُحمّداً’ ترشدوا، فإنّه لا يأمركم إلّا بمكارم الأخلاق. وأتيت الوليد بن المغيرة، وقرأت عليه هذه الآية، فقال: إن كان مُحمّدٌ قاله فنعم ما قال، وإن قاله ربُّه فنعم ما قال»[411].

وروي عن النبيِّ الأكرم’ أنّه قال: «جماعُ التقوى في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»[412].

فهذه الآية هي أكمل برنامج للفرد والمجتمع بصورة عامّة

فتقول في الموعظة الأُولى من مواعظها الستّ: (إنّ الله يأمر بالعدل).

 فما هو العدل؟

العدل: هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود، حتى السماوات والأرض، فهي قائمة على أساس العدل، وهو ضد الجور، والاعتدال هو التوسّط[413].

أقسام العدل

 للعدل عدّة أقسام، ولكن كتقسيمٍ أولي فهو ينقسم إلی قسمين:

العدل العام: وهو عدل الحكّام والملوك والأمراء.

والعدل الخاصّ: وهو العدل بين أفراد العائلة، وبين الزوجات وبين الأبناء.

وينقسم من جهة أُخرى ولحاظ آخر إلی العدل في الفعل، والعدل في القول.

فأمّا العدل في القول، فقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا[414]، فحينما يريد الإنسان التدخّل في مسألة نزاعية لا بدّ عليه من القول بالعدل.

وهكذا إذا أراد أن يفعل فعلاً من الأفعال كالإنفاق كان عليه ذلك، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [415].

ولحسن حظ العدل أنّ الكلّ يدّعيه؛ فأنت لا ترى حاكماً من الحكّام، أو سلطاناً من السلاطين يُريد أن يصل إلی هدفه ومبتغاه إلّا وقدّم لذلك شعار العدل؛ ليكون مطيّته للوصول إلی أغراضه الخسيسة أو الشَّريفة.

وهذا المفهوم من المفاهم الواسعة والشاملة لجميع مرافق الحياة.

فالعدل في الشجاعة الحدّ الوسط بين الجبن والتهور، والعدل في الإنفاق الحدّ الوسط بين الإسراف والتقتير، وهكذا يمكن القول بأنّه محور الحياة وواقعها.

ثمّ قالت: (والإحسان) يعني يأمر بالإحسان، فالكلمة معطوفة على العدل، كما هو واضح.

ما هو الإحسان؟

 الإحسان هو مرتبةٌ عاليةٌ، وخُلُقٌ رفيعٌ يأمرنا به الباري}، فهو تفضّل؛ ولذا قال الإمام أمير المؤمنين× «العدلُ الإنصافُ، والإحسانُ التفضّلُ»[416]. وهواسمٌ جامعٌ لكلّ معاني الخير.

وسيرة الأئمّة^ حافلة بذلك من العفو عمّن ظلمهم، والرحمة لمـَن عاداهم، وقضاء حوائج المحتاجين، إلی غير ذلك.

ومن قصص الإحسان مارواه القندوزي، عن أبي الفرج ابن الجوزي في كتابه الملتقط حيث قال: «كان ببلْخ[417] رجل من العلويين وله زوجة وبنات، فتوفي الرجل، فخرجت المرأة بالبنات إلى سَمَرقند[418] خوفاً من الأعداء، فأدخلت البنات مسجداً في شدّة البرد، فمضت في سكك البلد، فرأت الناس مجتمعين على شيخ هو شيخ البلد، فقالت له حالها. فقال لها الشيخ: أقيمي عندنا البينة أنّك علوية، فيئست منه، وعادت إلى المسجد فرأت شيخاً على دكان وحوله جماعة، وهو مجوسي، فشرحت حالها له فقال لخادمه: قل لسيدتك: إذهبي مع هذه المرأة إلى المسجد الفلاني واحملي بناتها إلى الدار. فجاءت بالبنات فاسكنهن في دار مفرد، وكساهن ثياباً نفيسة، وأطعمهن أطعمةً لطيفة. فلمّا كان نصف الليل رأى شيخ البلد المسلم في منامه قصراً من الزمرد الأخضر، فقال: لمَن هذا القصر؟ فقيل: لرجل مسلم. فقال: يا رسولَ الله أنا رجلٌ مسلم. فقال له: أقم البينة عندي أنّك مسلم، ونسيت ما قلت للعلوية؟! وهذا القصر للشيخ الذي هي في داره. فانتبه الرجل (وهو) يبكي فأُخبر أنّها في دار المجوسي، فجاء إليه قال: إنّي أريد أن أضيفها. قال المجوسي: ما إلى هذا سبيل. قال: هذه ألف دينار خذها وتسلمهن إلي. فقال: لا والله، ولا بمائة ألف. فلمّا ألحَّ عليه قال له: المنام الذي رأيتَه، أنا أيضاً رأيتُه، وذلك القصر خلق لي، والله ما أحدٌ في داري إلّا وقد أسلموا معي ببركات العلوية، ورأيت النبيَّ’ فقال لي: القصر لك ولأهلك لما فعلت بالعلوية من الاحترام»[419].

هذا كلّه بالنسبة إلی الموعظة الثانية التي أمرتنا بها الآية المباركة.

ثمّ قالت الآية: ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى

ما هو الإيتاء لذي القربى؟

 إنّ مسألة إيتاء ذي القربى من المسائل التي تندرج تحت مفهوم الإحسان؛ لأنّ من ضمن مصاديق الإحسان هو مساعدة وإيتاء ذي القربى، سواء كان إيتاء على صعيد المال أم غيره.

ولكن الفرق الواضح بين الإحسان والإيتاء هو أنّ الأوّل عام، ويشمل جميع طبقات المجتمع، بخلاف الثاني فهو مخصوص بفئةٍ معينة، وهم ذو القربى، وبلحاظ أنّ المجتمع يتألّف من مجموعات صغيرة، فكلّما حصل انسجام واندماج على مستوى هذه المجموعات سوف يحصل اندماج على مستوى المجتمع الأُمّ؛ لأنّ ذلك يستلزم من كلّ مجموعة صغيرة أن تمدَّ يد العون إلی المجموعة الأُخرى من أقربائها، ممّا يؤدّي أخيراً إلی شمول العون لجميع الضُعفاء والمعوزين.

وقد وردت بعض الروايات تُبيّن أنّ المقصود بذي القربى هم أهل بيت النبيّ’، وذريّته من الأئمّة^، والمقصود بـ(إيتاء ذي القربى) هوأداء الخمس إليهم^[420]. ولكن مع هذا يمكن التمسّك بالإطلاق الموجود في الآية لكلّ قرابة، ويحمل ما في الرواية على أظهر المصاديق، وهم أهل البيت^ وذرّيتهم الأطهار.

وبعدما ذكرت الآية المواعظ التي أمرتنا بها، وهي: (العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)، انتقلت إلی المواعظ التي نهتنا عنها، أو قل: الأصول السلبية الثلاث، وهي: (الفحشاء والمنكر والبغي)، فقالت: ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ.

وقد ذكر المُفسّرون كلاماً كثيراً حول هذه المصطلحات الثلاث، ويمكن تلخيص ذلك بما يلي:

إنّ الفحشاء إشارة الى الذنوب الخفية، والمنكر إشارة إلی الذنوب العلنية، والبغي إشارة إلی كلّ ما يتجاوز على حقوق الإنسان، وظلم الآخرين، والاستعلاء عليهم[421].

ومن هنا قال البعض: «وأمّا الثلاثة التي نهى الله عنها، وهي الفحشاء والمنكر والبغي فنقول: إنّه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة، وهي الشهوانية البهيمية، والعصبية السبُعية، والوهمية الشيطانية، والعقلية الملكية، وهذه القوّة الرابعة أعني: العقلية الملكية لا يحتاج الإنسان إلى تأديبها وتهذيبها؛ لأنّها من جواهر الملائكة، ومن نتائج الأرواح القدسية العلوية، إنّما المحتاج إلى التأديب والتهذيب تلك القوى الثلاثة الأولى.

 أمّا القوّة الشهوانية، فهي إنّما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية، وهذا النوع مخصوص باسم الفحش، ألا ترى أنّه تعالى سمّى الزنا فاحشة، فقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا، فقوله تعالى: ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِالمراد منه المنع من تحصيل اللّذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، وأمّا القوّة الغضبية السبُعية فهي أبداً تسعى في إيصال الشرّ والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس، ولا شكَّ أنَّ الناس ينكرون تلك الحالة، فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوّة الغضبية.

 وأمّا القوة الوهمية الشيطانية فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس والترفّع وإظهار الرياسة والتقدّم، وذلك هو المراد من البغي، فإنّه لا معنى للبغي إلّا التطاول على الناس والترفّع عليهم، فظهر بما ذكرنا أنَّ هذه الألفاظ الثلاثة منطبقة على أحوال هذه القوى الثلاثة، ومن العجائب في هذا الباب أنَّ العقلاء قالوا: أخسّ هذه القوى الثلاثة هي الشهوانية، وأوسطها الغضبية، وأعلاها الوهمية. والله تعالى راعى هذا الترتيب، فبدأ بالفحشاء التي هي نتيجة القوّة الشهوانية، ثمّ بالمنكر الذي هو نتيجة القوّة الغضبية، ثمَّ بالبغي الذي هو نتيجة القوّة الوهمية»[422].

وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجدّداً على أهمية هذه الأصول الستّة: بقوله تعالى ﴿ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

 وبالفعل فإنَّ إحياء هذه الأصول الثلاثة: (العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)، ومكافحة الإنحرافات الثلاث: (الفحشاء والمنكر والبغي) على صعيد العالم كفيل بأن يجعل الدنيا عامرة بالخير، وهادئة من كلّ اضطراب، وخالية من أي سوء وفساد، وعلی العكس تماماً ما لو تُرك العمل بهذه المواعظ الست؛ فإنَّ الدنيا سوف تكون خربة، ومملوءة بالشرّ، ومضطربة أشدّ الإضطراب، ومنغمسة بالسوء والفساد، وذلك واضح وبيّنٌ بين الفترة التي تسلّم فيها الإمام أمير المؤمنين× زمام الحكم، وبين الفترة التي ملك بها آل مروان، وبنو أُميّة، وآل أبي سفيان، وبنو العبّاس، حتّى أنّهم جزّروا آل نبيهم وأهل بيته الأطهار^ وشتتوهم.

بعــضٌ بطيبةَ مدفونٌ وبعضُهُمُ
وأرضُ طوسٍ وسامراء وقد ضمنتْ
بكربلاءَ وبعضٌ بالغريينِ
بغدادُ بدرينِ حلاّ وسطَ قبرينِ
[423].

***

المحاضرة العشرون: الحجابوآثاره

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [424].

تناولت هاتان الآيتان مفهوماً لطالما تطاول به أعداؤنا علينا؛ ليشنِّعوا ويهرجّوا هنا وهناك لا لشيء، إلّا لأنّ هذا الموضوع لا ينسجم مع مبتنياتهم الفكرية، وأخلاقهم المنحطّة، وأوصافهم الرذيلة التي ترفّع عنها حتّى بعض الحيوانات، فضلاً عن بني البشر، وهذا المفهوم والموضوع هو الحجاب.

ما هو الحجاب؟

 «كلُّ شيء منع شيئاً من شيء فقد حجبه حجباً»[425]و «الحجاب: الستر»[426].

وأمّا اصطلاحاً: فهو أن تستر المرأةُ جميعَ بدنِها، وأمّا الوجه والكفان فيجب سترهما إذا كانت في الوجه أو اليدين زينة، أو كان هناك ناظر ينظر إليها بلذّة أو ريبة، أو كان هناك خوف من الوقوع في الفتنة.

الحجاب في قديم الزمان

 قالوا: إنّ عادة احتجاب النساء قديمة جدّاً، فكانت هذه العادة موجودة عند نساء اليونانيين القدماء، فكنّ يحجبن وجوههنّ بطرف مآزرهنّ، أو بحجابٍ خاصٍ كان يُصنع في بعض البلاد.

وقال لاروس في كتابه دائرة المعارف: «كان نساء الرومان مغاليات في الحجاب، لدرجةٍ أنّ القابلة (الداية) كانت لا تخرج من دارها إلّا مخفورة ملثّمة باعتناء زائد، وعليها رداء طويل يُلامس الكعبين، وفوق ذلك عباءة لا تسمح برؤية شكل قوامها»[427].

وأمّا العرب فهم من الأُمم التي كانت عادة الحجاب متأصّلة فيها من القدم، وهو الذي يتبادر إلی الذهن من أُمّة كان من رجالها مَن يتلثّمون. ولكن يظهر أنّ هناك من النساء الساقطات كنّ يسفرن للرجال ويتبرجّنّ لهم، فنزلت بعض الآيات القرآنية تحثّ على الحجاب، ومنها الآيتان اللتان افتتحنا بهما الحديث.

سبب نزول هذه الآية

 جاء في سبب نزول هذه الآية المباركة رواية عن الإمام الباقر× قال فيها: «استقبل شابٌ من الأنصار امرأةً بالمدينة، وكان النساء يتقنّعنَّ خلفَ آذانهنَّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، واعترض وجهَه عظمٌ في الحائط أو زجاجةٌ فشقَّ وجهَه، فلمّا مضت المرأة فإذا الدماء تسيل على صدره وثوبه، فقال: والله لآتينَّ رسولَ الله’ ولأخبرنه قال: فأتاه فلمّا رآه رسولُ الله’ قال له: ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيلُ× بهذه الآية: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ »[428].

لماذا الحجاب؟

 أوجبَ اللهُ تبارك وتعالى الحجابَ على المرأة، كما أوجب غضَّ النظر عليها وعلی الرجل على حدٍّ سواء، ولكن قد يسأل سائل: أنّه لماذا الحجـاب،أوَ ليس هذا معناه تقييد للمرأة وإذلال لها؟

والجواب عن مثل هذه الأسئلة التي تطرح هنا وهناك هو: أن الله تبارك وتعالى لا يوجب شيئاً أو يحرّمه إلّا وفيه مصلحة شديدة للإنسان فعلاً أو تركاً، ومصلحة الحجاب للمرأة ملموسة وواضحة؛ فإنَّ المرأة في نظر الإسلام جوهرة ثمينة، ونصف المجتمع الآخر، فالشارع يهتمّ بها كثيراً، فأراد أن يحفظها من الأعين الخائنة، والقلوب المريضة، والأيدي الآثمة، كما يحافظ صاحب الكنز على كنزه، وذلك عن طريق الحجاب الإسلامي، الذي يحفظ هيبتها وماء وجهها.

أمّا المرأة التي لا يهتمّ بها الشارع ولا يعتمد عليها، فتلك المرأة السافرة التي ينظر إليها الجميع، حالها حال الثوب المعروض في واجهة المحلات، فهي أشبه شيءٍ بالحجارة الي يدوسها الجميع، لا أنها جوهرة ثمنية، وكنز ثمين، كما هو الحال في المرأة المحجبة.

والملفت للنظر أنّ الإنسان بطبيعته وفطرته السليمة لا يميل إلی المرأة الباذلة لنفسها والعارضة لها في الأسواق، وهذا الكلام ملموس ومحسوس حتّى عند فسقة الناس، فتراهم اذا أرادوا الإقتران بامرأة، تقصّوا البيوت الطاهرة العفيفة، مع أنّهم ليس لهم من العفّة شيء.

فإذن الهدف من الحجاب هو حماية المرأة، وسدّ المنافذ أمام عملية استغلالها، واستدارجها نحو السقوط في مستنقع الرذيلة، وتحويلها إلی أداة لتمييع المجتمع من حولها، وبالتالي تدميره، فبذهاب عفاف المرأة تدمّر الأسرة الإسلامية، وبتدمير الأسرة يُدمّر المجتمع وينهار، كما هو واضح في المجتمعات الأُخرى.

فحوى الآيتين ومحتواهما

 تقول الآية الأُولى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، ومعناه التنقيص وتقليل النظر، فالآية لم تأمر المؤمنين بأن يغمضوا عيونهم، وإنما أمرت بغضّها.

وهذا التعبير الرائع جاء لينفي غلق العيون بشكل تامّ، بحيث لا يعرف الإنسان طريقه بمجرد مشاهدته امرأة ليست من محارمه، فالواجب عليه أن لا يدقّق النظر فيها، بل أن يرمي ببصره إلى الأرض أو إلى جهةٍ أُخرى، وحينئذٍ يصدق عليه أنه غضّ من بصره.

ثمَّ قالت الآية: ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، وهذا هو الحكم الآخر الذي أشارت إليه الآية المباركة، والمقصود من الفرج العورة، وحفظه معناه تغطيته عن الأنظار، وقد جاء في الرواية الشريفة عن الإمام الصادق× أنّه قال: «كلّ آية في القرآن في ذكر الفرُوج فهي من الزنا، إلّا هذه الآية، فإنّها من النظر»[429].

ثمّ تُحذِّر الآية أولئك الذين ينظرون بشهوة إلی النساء، ويبررون عملهم هذا بأنّه غير متعمد، تحذرهم بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ.

وتناولت الآية الثانية شرح واجبات النساء في هذا المجال، فأشارت أولاً إلی الواجبات التي تشترك فيها مع الرجال، فقالت: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ .

وبهذا حرّم الله النظر بريبة على النساء أيضاً، مثلما حرّمه على الرجال وفرض تغطية فروجهن عن أنظار الرجال والنساء، مثلما جعل ذلك واجباً على الرجال، ثمّ أشارت الآية إلی مسألة الحجاب في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ، وقال بعض المفسّرين: أنّ المقصود بالمنع في هذا المقطع هو المنع عن أدوات الزينة عندما تكون على الجسم، وبالطبع يكون الكشف عن هذه الزينة مرادفاً للكشف عن ذلك الجزء من الجسم