العتبة الحسينيةمؤسسة وارث الأنبياء
مخطوطة العتبة الحسينيةمخطوطة وارث الأنبياء
الزيارة وإبراز الهوية الشيعية

الزيارة وإبراز الهوية الشيعية

رئيس التحرير

خلاصة المقال

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في الواقع العملي وفي الحياة الاجتماعية، وعلى امتداد التاريخ هناك حقيقة تعيشها البشرية لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها، وهي التمايز الحاصل بين الأفراد في جوانب عديدة، تشمل مجموعة من العوامل التي تُحدّد وتميّز الشخص، كالعوامل الشخصية، مثل الاسم والعمر والجنس والديانة والجنسية واللغة، وهو ما يعبّر عنه بالهوية الشخصية، وقد تشمل الهوية ـ أيضاً ـ العوامل الاجتماعية والثقافية، مثل العائلة والمجتمع والثقافة والانتماءات الأُخرى، وتتطوّر الهوية للفرد على مرّ الزمان وتتأثّر بالتجارب الحياتية والعوامل المحيطة.

والهوية هي عنصر أساس في تشخيص كينونة الفرد والتأثير على سلوكيّاته  وميوله، وتؤثّر أيضاً في الطريقة التي يتعاطى بها مع الآخرين، وتُسهم كذلك في إظهار الانتماء والتمايز الاجتماعي؛ حيث يمكن التعرّف على الأفراد طبقاً لهويّاتهم.

وكما أنّ للفرد هويّته الشخصية، فللجماعات والكيانات والفئات هويّاتها المميّزة لها في طريقة تفكيرها وتصرّفاتها وقيمها واعتقاداتها، فقد أكّدت الدراسات والأبحاث السوسيولوجية أنّ لكلّ كيان أو مجموعة سمات وخصائص اجتماعية وثقافية ونفسية وتاريخية متماثلة، تؤثّر على تصرّفات الأفراد داخل هذا الكيان أو المجموعة، فتجعلهم ينصهرون فيه، فيشكّلون وحدة اجتماعية واحدة.

إنّ مسألة الهوية وبيان مرتسماتها وحدودها قضية شغلت بال العلماء والباحثين منذ مدّة ليست بالقليلة، فاختلفت تعريفاتها، وتعدّدت تشخيصاتها؛ نظراً لاختلاف الرؤى والمنطلقات والنظريّات والفلسفات، فهناك الهوية الشخصية، والهوية الجماعية.

كما أنّ تعريف الهوية يتأثّر ـ كذلك ـ بالأبعاد والعوامل المتعدّدة لها، فهي تركيبة فريدة من العوامل المختلفة التي تُحدّد وتميّز الشخص أو المجموعة، لكنّ الذي يهمّنا هنا هو الهوية التي تتكوّن لمجموعة أو  كيان أو أُمّة ما، وقد عُرّف هذا النوع من الهوية بأنّها مجموعة العقائد والمبادئ والخصائص والترميزات التي تجعل أُمّة ما تشعر بمغايرتها للأُمم الأُخرى[1].

والذي نعتقده أنّ  هوية أُمّة ما أو جماعة ما، لكي تتشكّل لا بدّ لها من توافر مجموعة من المقوّمات:

لا بدّ لها من مرتكزات وأُسس تتمثّل بعقيدتها ومبادئها الخاصّة بها.

امتلاكها مجموعة من المحدّدات تمثّل تراثها وثقافتها ومصادر المعرفة لديها.

أن تتجلّى أُسس الهوية ومرتكزاتها ومحدّداتها بمبرزات معبّرة عن المظهر الخارجي ـ إن صحّ التعبير ـ  لهوية هذه الجماعة أو تلك.

وفي السياق التاريخي والحضاري للأُمّة الإسلامية، ونتيجة للاختلافات الفكرية والثقافية، والصراعات السياسية، برزت مذاهب ومشارب واتّجاهات ومسالك عديدة، انحازت على إثرها طوائف وجماعات شكّلت لها هويّات خاصّة بها تميّزها عن غيرها وإن ظلّت تدّعي الانتماء إلى الهوية الإسلامية العامّة.

وفي قبال هذه التكتّلات والاصطفافات برز أتباع أهل البيت^ وشيعتهم وموالوهم، متمسّكين بحبلهم، وسائرين على منهجهم؛ بوصفهم الامتداد الحقيقي
لرسالة النبي الأعظم‘، والقيّمين على المنهج الإلهي الذي أرسى دعائمه الرسول‘، قال الإمام الباقر×: «
نحن أهل بيت الرحمة، وشجرة النبوّة، ومعدن الحكمة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي»[2]. ومن هنا؛ صيغت هوية الشيعة وتكوّنت في كنف أهل البيت^، وفي ضوء توجيهاتهم، فتمايزت عن غيرها من الهويّات عقيدة وفكراً ومنهجاً وسلوكاً وممارسة.

والطابع المبرز لهذه الهوية هو التمسّك بآل محمد^، والأخذ عنهم، والولاء لهم، وإحياء أمرهم بذكر فضائلهم، ونشر علومهم، وإحياء مناسباتهم، وتعاهد قبورهم وزيارتها.

لقد أضحت زيارة قبور آل محمد وأضرحتهم ـ لا سيّما زيارة ضريح الإمام الحسين× في كربلاء المشرّفة ـ أحد المعالم التي أبرزت الهوية الشيعية، وساهمت بصورة واضحة في خلق الشخصية الشيعية وتفرّدها بها من بين الاتّجاهات الإسلامية الأُخرى، وما كان ذلك ليحصل إلّا بتمسّك أتباع أهل البيت^ ـ امتثالاً لتوجيهات أئمّتهم ـ بهذه الشعيرة التي تجلّت بزيارة الإمام الحسين×، والتي دفع الشيعة في سبيل إحيائها واستمرارها عبر التاريخ ضريبة باهظة؛ تمثلّت بما يقوم به أعداء أهل البيت^ من شتّى صنوف التضييق والمنع التي تتطوّر في أحايين كثيرة إلى السجن والتعذيب والقتل،  الأمر الذي ما زال مستمرّاً إلى يومنا هذا، وقد شهدناه بأُمّ العين، سيستمرّ ـ من دون أدنى شكّ ـ مهما سنحت لهم الفرص، وإن أعيتهم الحِيَل لجؤوا إلى الاستهزاء والسخرية وتعيير الشيعة بهذه الزيارة.

 ففي رواية عن أبي عامر الساجي ـ واعظ أهل الحجاز ـ قال: «أتيت أبا عبد الله جعفر بن محمد‘ فقلت له: يابن رسول الله، ما لمـَن زار قبره ـ يعني أمير المؤمنين ـ
وعمّر تربته؟ قال
: يا أبا عامر، حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه الحسين بن علي، عن علي×: إنّ النبي‘ قال له: والله، لتُقتَلن بأرض العراق وتُدفن بها. قلت: يا رسول الله، ما لمـَن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن، إنّ الله جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنّة، وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحنّ إليكم، وتحتمل المذلّة والأذى فيكم، فيعمّرون قبوركم، ويكثرون زيارتها؛ تقرّباً منهم إلى الله، مودّة منهم لرسوله، أُولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زوّاري غداً في الجنّة.

يا علي، مَن عمّر قبوركم وتعاهدها، فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومَن زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أُمّه، فأبشر وبشّر أولياءك ومحبّيك من النعيم وقرّة العين، بما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكنّ حثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم بزيارتكم كما تعيّر الزانية بزناها، أُولئك شرار أُمّتي، لا نالتهم شفاعتي، ولا يردون حوضي»[3].

ولكنّ ذلك لم يثنِ الشيعة ـ زادهم الله توفيقاً ـ  عن أداء هذه المهمّة الإلهية، ولم تفتّ في عضدهم تلك الأفعال أبداً، بل زادتهم إصراراً وعزيمة على مواصلة هذا الدرب المضمّخ بالدماء والتضحيات جيلاً بعد جيل.

إنّ زيارة ضريح الإمام الحسين×، وما يرافقها من ممارسات وأعمال عبادية على مدار السنة، وما يتخلّلها من زيارات مليونية حاشدة، لم تكن إحدى مبرزات الهوية الشيعية فقط، بل أسهمت ـ وبشكل فاعل ـ في ترسيخ الاعتقاد بمنهج أهل البيت^، والدفاع عنه بالغالي والنفيس، وقد أدرك العالم بعلمائه ومفكّريه هذه الحقيقة، فكُتبت فيها الأبحاث والدراسات، وعدّها بعض المنصفين من المسلمين وغيرهم من أنجع السبل والوسائل للحفاظ على حيوية الدين المحمّدي الأصيل.

ومنه هنا؛ ربّما نفهم أحد جذور الحثّ الشديد من قبل أئمّة أهل البيت^ على مواصلة هذه الزيارة وبصورة مكثّفة جدّاً، وما رصد لها من الثواب الجزيل، والعطاء الوفير الذي عزّ نظيره في كثير من العبادات.

إنّنا في معرض حديثنا عن أهمّية زيارة الإمام الحسين× في إبراز الهوية ورسم ملامحها، وتطبّع الشخصية بطابعها العامّ، لا نعني بذلك أبداً اقتصار ممارسة هذه الشعيرة على أتباع أهل البيت^، فضريح الإمام الحسين× تهفو إليه قلوب المحبّين من الطوائف والمذاهب الإسلامية، بل غير المسلمين أيضاً، والواقع العملي خير شاهد على ذلك، فزوّار الإمام الحسين× فيهم من غير الشيعة ومن غير المسلمين، ولكنّ الطابع العامّ ـ كما هو واضح ـ هو لشيعة أهل البيت^.

إنّ أهمّية هذه الشعيرة بأبعادها المتنوّعة، وجوانبها العديدة، حدت بـ: (مجلّة الإصلاح الحسيني) أن توسّع المساحة لمحور زيارة الإمام الحسين× لتغطية أكبر عدد من الأبحاث والدراسات في هذا الموضوع المهمّ والحسّاس، ونسأل الله سبحانه أن يُسدّد الإخوة الباحثين ويوفّقهم لما فيه الخير والصلاح لهذه الأُمّة. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 



[1]  اُنظر: بكار، د. عبد الكريم، تجديد الوعي: ص69ـ70. دار القلم ـ دمشق، الطبعة الأُولى، 1421هـ/2000م.

 

[2] الفتّال النيسابوري، محمد، روضة الواعظين: ص206. منشورات الشريف الرضي ـ قم المقدّسة.

 

[3][3] الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص22. تحقيق: السيّد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، الطبعة الرابعة، 1365ش.