العتبة الحسينيةمؤسسة وارث الأنبياء
مخطوطة العتبة الحسينيةمخطوطة وارث الأنبياء
افتتاحية العدد

افتتاحية العدد

رئيس التحرير

خلاصة المقال

بسم الله الرحمن الرحيم

بادئ ذي بدء؛ لا يسع المرء المؤمن بالمنظومة الفكرية لمدرسة أهل البيت^ إلّا أن يذعن بأنّه لا يمكنه الإحاطة تماماً بحركة المعصوم× وإدراك سعة آفاقها، فمراميه (سلام الله عليه) أشمل وأبعد من أن تنالها عقول البشر، وتصل إلى كنه حقائقها مدركاتهم. ولكنّ ذلك لا يمنع من التأمّل في مغازي حركاته وسكناته، وإقدامه وإحجامه لمحاولة استخلاص العبر واستلهام الدروس على قدر الوسع والطاقة، وهذا مقتضى اتّخاذه قدوةً وأُسوة لنا، بل بوصفه واجهة الدين والتشريع ومرآته الصافية.

والنهضة الحسينية المباركة تعدّ ـ بحقّ ـ من أكثر الأحداث والقضايا التي أحكم صنع فصولها أهل البيت^، وقدّموا للأُمّة من خلالها سِفراً يفيض بالعِبَر والدروس التي لا تنقضي مدى الدهر.

فلو أردنا أن نقف على ساحل بحرها الوسيع متأمّلين متدبّرين، فيمكننا القول: إنّ النهضة الحسينية ما كانت لتؤثِّر هذا التأثير في حركة التاريخ الإسلامي، وتؤدّي رسالتها للأجيال كافّة، وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، لولا امتلاكها لعنصرين أساسيّين حسب تصوّرنا:

 الأوّل: العمل على جعل النهضة الحسينية بأحداثها وشخوصها ومفرداتها غضةً طريةً حاضرةً في وجدان الأُمّة في كلّ زمان ومكان مهما كانت الظروف والتقلّبات السياسية والاجتماعية. فعاشوراء الحسين× لم تغب يوماً عن ذهن ووجدان أتباع أهل البيت^ حتى يستذكرونها في أيّام معينة، ففي ممارساتهم وتحرّكاتهم، ومفاصل حياتهم العامّة والخاصّة، وأفعالهم العبادية وشؤوناتهم اليومية، كانوا يحافظون على جذوة كربلاء متّقدةً، ويزيدونها توهُّجاً في مواسم الحزن والعزاء في محرّم وصفر. وهذا الحضور في واقع الأمر أسهم في إيصال أهداف عاشوراء ورسالة النهضة الحسينية إلى المجتمع بكلّ أطيافه.

الثاني: العمل على إنضاج الوعي المجتمعي بأهداف النهضة الحسينية، والعمل على رفع مستوى الإدراك لمغزى هذه الحركة التي قام بها المعصوم×، ومحاولة فهم خطواتها العملية، ورسائلها القولية. وهذا الأمر ـ الثاني ـ لا يمكن أن يُثمر من دون وجود الأمر الأوّل، فحضور القضية الحسينية ووجودها حيّةً متحرّكةً فكرياً وعاطفياً، يُمهِّد الأرضية للحديث عمّا تهدف إليه من رسالة، وما تحويه من قيم ومبادئ سامية، بخلاف ما يكون الكلام عن  قضية لفّها النسيان، وأطبقت عليها صفحات التاريخ وأنت تحاول أن تستحضرها أوّلاً ثمّ تتحدّث عن غاياتها ثانياً.

وهذان الأمران ـ في واقع الأمر ـ سعى أئمّة أهل البيت^ إلى تحقيقهما، وأمروا أتباعهم في التعامل مع القضية الحسينيّة بهذا النحو من التعامل، وهذا ما نلمسه في مواقفهم وممارساتهم وأقوالهم ووصاياهم، فجعلوا من النهضة الحسينية بكلِّ أحداثها ومفاصلها حدثاً معاشاً، بل أوصلوها إلى أن تكون جزءاً مقوّماً من هوية أتباعهم، وذلك وفق آليّات وممارسات عديدة، وفي أثناء ذلك كانت وصاياهم وتعاليمهم^ توجِّه بوصلة أتباع مدرسة أهل البيت^ نحو استلهام قيم هذه النهضة المباركة، ووضعها معايير تُقاس عليها مواقفهم وخطواتهم؛ لأنّها تحمل روح الإسلام وتعاليمه الفذّة.

ولتحقيق الأمرين آنفي الذكر ـ جعل القضية الحسينية حيّةً طريّةً حاضرةً في كلّ زمان، وبث الوعي بأهدافها ورسالتها ـ سعى أئمّة أهل البيت^ من خلال أقوالهم وبياناتهم ومواقفهم إلى خلق آليّات وممارسات معيّنة وحثّوا على إدامتها، ووضعوا المحدّدات الخاصّة والشروط والقواعد التي من شأنها المحافظة عليها وضمان استمراريّتها وحمايتها من الانحراف عن خطّ سيرها الصحيح. ومن بين هذه الممارسات المهمّة هي الشعائر والطقوس الخاصّة بواقعة عاشوراء في شهري المحرّم وصفر، المشتملة على إظهار طابع الحزن والأسى، واستذكار الأحداث المأسويّة ـ التي مرّت بالإمام الحسين× وأهل بيته وأصحابه ـ من على المنابر في المساجد والحسينيّات، وبكلّ وسيلةِ تواصلٍ أُخرى مرئيةً كانت أم مسموعةً، بالإضافة إلى الشعائر الأُخرى المعبِّرة عن مبادئ النهضة الحسينية وأهدافها.

والممارسة المهمّة الأُخرى التي جذّرها أهل البيت^ وعمّقوها في وجدان الأُمّة هي زيارة أضرحة أئمّة أهل البيت^ وتعاهدها وتشييدها، ولا سيّما ضريح المولى أبي عبد الله الحسين× وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، والأماكن الأُخرى المرتبطة بهم، فقد حظيت زيارة الإمام الحسين× بتأكيد وحثّ منقطعي النظير، فجُعل في قِبال ذلك من الثواب والعطاء الإلهي الجزيل ما يجعل المرء حائراً متفكِّراً متأمّلاً، ويمكنه أن يدّعي أنّ من غايات وأسرار هذه الشعيرة هي تحقيق الأمرين المذكورين؛ فعلى صعيد إبقاء النهضة الحسينية ماثلةً في ضمير المجتمع الإسلامي، متحرّكة أمامه يعيش مفرداتها، ويتلمّس أحداثها ووقائعها، نجد الزيارة بنصوصها وطقوسها والبيانات الحاثّة عليها، تؤدّي هذه المهمّة على أكمل وجه؛ فالزائرون حين يشدّون الرحال إلى ضريح أبي عبد الله الحسين× ويحضرون عنده، ويلتقون مع الجموع الآتية من شتّى الأرجاء، وتتراءى أمامهم المشاهد المشرّفة التي ضمّت رفات الشهداء الذين قضوا في هذه الموقعة المشرّفة، ويطؤون بأقدامهم الأرض التي كانت مسرحاً لواقعة عاشوراء، كلّ ذلك يجعل شريط الأحداث يمرّ من أمامهم حيّاً مجسّداً. ويُعزّز ذلك التأكيد في الروايات على تجديد العهد بكربلاء والمواظبة والاستمرار على زيارة القبر الشريف في كلّ وقت وزمان، وفي أوقات مخصوصة من السنة.

ويكتمل المشهد عندهم عندما يقرؤون نصوص الزيارة التي تُذكّر دائماً بالمأساة: «يا أبا عبد الله، لقد عظمت الرزيّة، وجلّت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل السموات»[1]. وفي نصّ آخر يصوّر لنا بعض ما جرى من تكالب أهل الباطل على الإمام× وقتله: «وقد توازر عليه مَن غرّته الدنيا، وباع حظّه بالأرذل الأدنى... فجاهدهم فيك صابراً محتسباً حتى سُفِكَ في طاعتِك دمُه، واستُبيح حريمه»[2].

 ونجد نصّاً  آخر يرسم للزائر مساراً يحدّد له أنّ ما جرى على الإمام الحسين× هو مصيبة عظمى حلّت على رسول الله‘ والإسلام برمّته، فيقول: «السلام عليك يا صريع الدمعة الساكبة، وقرين المصيبة الراتبة، لعن الله أُمّةً استحلّت منك المحارم، وانتهكت فيك حرمة الإسلام، فقُتِلتَ (صلّى الله عليك) مقهوراً، وأصبح رسول الله‘ بك موتوراً، وأصبح بفقدك كتاب الله مهجوراً»[3].

ولا يخلو نصّ من نصوص الزيارات من الإشارة إلى يوم عاشوراء، اليوم الذي استُشهد فيه الإمام الحسين× وأهل بيته وأصحابه، بل هناك زيارة خاصّة حملت هذا الاسم يُزار بها الإمام الحسين×، فيستحبّ أن يتلوها الزائر في هذا اليوم، وفي غيره من الأياّم، إلى جانب ما يُذكر من أحداث المقتل وقصّته كاملةً أثناء تواجد الزائرين في رحاب مرقد أبي عبد الله الحسين×.

وكذلك حفلت نصوص الزيارات بمفردات الحرب والقتال، المصيبة والقتل والشهادة والثأر، وما شاكل ذلك، ممّا يجعل النهضة الحسينية ورموزها وأحداثها متفاعلةً في ذهن الزائر، حاضرةً في مخيّلته، وكأنّها حدثت أمس القريب، الأمر الذي ما كان ليحصل لو التخطيط الإلهي الذي تكفّل به أهل بيت العصمة^ في سبيل تحقيق أهداف النهضة الحسينية وغاياتها النبيلة من خلال ربط الأُمّة بها.

وعلى صعيد إشاعة الوعي بأهداف النهضة ورسالتها؛ فبعد أن جعلها أهل البيت^ حيّةً خالدةً متجدّدةً في كلّ زمان، دأبوا عبر توجيهاتهم الحاثّة على المواظبة على شعيرة الزيارة بكلّ تفاصيلها ونصوصها التي أُثِرت عنهم، على أن تكون هذه الممارسة ذات محتوىً هادف يُسهم في خلق وعي مجتمعي بأهداف النهضة الحسينية ورسالتها الخالدة، ويُسهم أيضاً في تربية جيل حسيني المضمون والغايات، فجاءت نصوص الزيارة مفعمةً بالتوجيهات القيّمة التي تُعرِّف معالم النهضة الحسينية، ففي كثير من نصوص يطالعنا النصّ الذي يشهد به الزائر للإمام× بأنّه ما خرج إلّا لإقامة العدل والقسط في الأُمّة، فيقول له: «أشهد أنك قد أمرت بالقسط والعدل، ودعوت إليهما، وأنّك صادق صدِّيق صدقتَ فيما دعوت إليه»[4].

وفي موضع آخر نجد أنّهم^ يرسِّخون في ضمير الأُمّة أنّ خروج الإمام الحسين× كان من أجل الإصلاح ومحاربة الفساد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعلِّمون الزائر بأن يشهد للإمام× ويقول عند زيارته له: «أشهد أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين... وأشهد أنّك من دعائم الدين وأركان المؤمنين»[5].

وفي نصّ آخر يشهد الزائر فيه أمام الله سبحانه بأنّ الإمام الحسين× هو «وليّك وابن وليّك، وصفيّك وابن صفيّك، الفائز بكرامتك، أكرمته بالشهادة، وحبوته بالسعادة، واجتبيته بطيب الولادة، وجعلته سيّداً من السادة، وقائداً من القادة، وذائداً من الذادة، وأعطيته مواريث الأنبياء، وجعلته حجّةً على خلقك من الأوصياء، فأعذر في الدعاء، ومنح النصح، وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة»[6].

فيظهر لنا أنّ هذه الدماء الزكيّة التي سُفكت، وهذه الأرواح الطاهرة التي أُزهقت إنّما كانت لإنقاذ الأُمّة من الجهل والتيه والضلال.

وتربط نصوص أُخرى بين الإمام الحسين× ونهضته، وبين حركة الأنبياء ورسالاتهم، وأنّه الامتداد الحقيقي لهم، والوريث الشرعي لمسيرتهم الإلهية، فيُسلّم الزائر على الإمام× ويقول: «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمداً حبيب الله، السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين عليه السلام ولي الله»[7].

وكلّ ما ذُكر من النصوص كان على سبيل المثال لا الحصر على حرص أهل البيت^ على تجذير الوعي بأهداف النهضة الحسينية ومعطياتها وأسبابها في أعماق الأُمّة، وإلّا فنصوص الزيارة المتعدّدة وآدابها وكلّ ما يتعلّق بها يشهد بذلك.

من هنا؛ أفردت مجلّة (الإصلاح الحسيني) محوراً خاصّاً بالزيارة الحسينية، وفسحت المجال للباحثين في تناول هذه الشعيرة من جوانبها المتعدّدة؛ لتساهم المجلّة بجزء يسير من مهمّة إيصال الأهداف الحسينية للأُمّة لتحقيق الغايات الإلهية منها، والله ولي التوفيق.

 

 

 



[1][1] الطوسي، محمد بن الحسن (ت460هـ)، مصباح المتهجّد، الناشر: مؤسّسة فقه الشيعة، بيروت ـ  لبنان، الطبعة الأُولى، 1411هـ/1991م: ص721.

 

[2] المصدر السابق: ص789.

 

[3] العاملي، محمد بن مكّي (الشهيد الأوّل) (ت786هـ)، المزار، الناشر: مؤسّسة الإمام المهدي#، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1410هـ: ص174.

 

[4] ابن طاووس، علي بن موسى (ت664هـ)،  إقبال الأعمال، تحقيق: جواد القيّومي الأصفهاني، الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1416هـ: ج3، ص342.

 

[5]  الطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص721.

 

[6] المصدر السابق: ص788.

 

[7] المفيد، محمد بن محمد (ت413هـ)، المزار، تحقيق: السيّد محمد باقر الأبطحي، الناشر: دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1414هـ/1993م: ص197.