العتبة الحسينيةمؤسسة وارث الأنبياء
مخطوطة العتبة الحسينيةمخطوطة وارث الأنبياء
مفاهيم إسلامية مستوحاة من نصوص زيارات الإمام الحسين(عليه السلام) مفهوما الجهاد والشهادة وما يترتّب عليهما أُنموذجاً  - دراسة تحليليّة نقديّة

مفاهيم إسلامية مستوحاة من نصوص زيارات الإمام الحسين(عليه السلام) مفهوما الجهاد والشهادة وما يترتّب عليهما أُنموذجاً - دراسة تحليليّة نقديّة

العلّامة السيّد صدر الدين القبانجي (دام توفيقه) - أُستاذ في الحوزة العلمية/النجف الأشرف

خلاصة المقال

مقدّمة

إنّ مفهومي الجهاد والشهادة من أبرز المفاهيم ذات الجنبة العملية في منظومة الأفكار والسلوكيّات الإسلامية، كيف لا؟! وبهما تُحيا القيم، وتدوم النعم، وتستمرّ المسيرة.

وعليه؛ فقد حظيت فريضة الجهاد باهتمام الإسلام وعنايته الخاصّة في نصوص قرآنية وروائية كثيرة، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[1]. وقال أمير المؤمنين×: «الجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء»[2].

أمّا عناية الإسلام بفضيلة الشهادة، فقد باتت واضحة وجلية من خلال أدنى مراجعة لنصوصه المباركة، فمثلاً قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[3]. وكذلك قوله|: «فوق كلّ ذي برّ برّ حتّى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله فليس فوقه برّ»[4]. وقوله| أيضاً: «أشرف الموت قتل الشهادة»[5]. إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة في كلا الموردين.

وإذا نظرنا إلى هذين المفهومين من خلال نهضة الإمام الحسين× في عاشوراء، فإنّهما سيكتسبان رونقاً خاصّاً؛ لأنّهما لم يتجسّدا بصورة رائعة، ولم يأخذا أبعادهما الحقيقية إلّا في هذه الواقعة الأليمة. ومن هنا؛ أراد أهل البيت^ أن يديموا هذا التألّق والتوهّج، فربطوهما بنصوص زيارة الإمام الحسين×؛ سعياً منهم^ إلى إبقاء مثل هكذا ثقافات حيّة في وجدان الأُمّة، ولا سيّما في الوقت الحاضر الذي بات فيه المجتمع الإسلامي بأمسّ الحاجة إلى إحياء قيم الجهاد وثقافة الشهادة وإدامتها؛ جرّاء ما يتعرّض له من هجمة شرسة على جميع الأصعدة وفي كافّة المجالات.

وسنقف في هذه الندوة العلمية، وفي ضوء نصوص زيارات الإمام الحسين×، على أبعاد هذين المفهومين، وما يترتّب عليهما من مفاهيم دينية أُخرى. نعم، من باب المقدِّمة الممهِّدة لهذا الحديث سوف نتطرّق إلى بيان أهمّية الزيارة، وكذلك إلى بيان جملة من المفاهيم الدينية المتعلّقة بالعقيدة وببعض الفروع الدينية، والمستوحاة أيضاً من النصوص المشار إليها.

أهمّية الزيارة

إنّ زيارة النبي الأكرم| والأئمّة الأطهار^ في الفقه الشيعي تختلف عن زيارتهم^ في الفقه السنّي، فهي عند الشيعة لا تقتصر على تحصيل الثواب، أو الاتّعاظ بالقبور ـ كما يدّعي بعضٌ ـ وإنّما هي عبارة عن محطّة شحن روحية، يتقرّب الزائرون بها إلى الله تبارك وتعالى من خلال ما تزوّدهم به من مفاهيم ومبادئ تصبّ في صميم الدين وجوهره؛ ولهذا فإنّ الشيعة يولون الزيارات أهمّية بالغة تفوق ما يتصوّره الآخرون. كما أنّ هذا التفاعل مع الزيارات، وهذا الموقع الذي تحتلّه في ثقافتنا، يعبِّر عن شيءٍ عظيم، ومدرسة علمية تحوي موسوعة من المفاهيم والمبادئ الإسلامية، التي تتجلّى بشكل عامّ في زيارات النبيّ‘ والأئمّة الأطهار^، وبشكل خاصّ في زيارات الإمام الحسين×.

هذا؛ ويوجد لدينا أكثر من عشر زيارات للإمام الحسين×، وبأسانيد معتبرة وصحيحة، وهي منقولة عن أئمّة أهل البيت^، فبعضها منقول عن الإمام الكاظم×، وبعضها عن الإمام الصادق×، وبعضها عن الإمام الباقر×. ومن تلك الزيارات: الزيارة المطلقة، وزيارة عاشوراء، وزيارة العيدين، وزيارة عرفة، وزيارة الأربعين، وزيارة النصف من رجب، وزيارة النصف من شعبان، وزيارة ليالي القدر.

وهذه الزيارات ـ كما أسلفنا ـ تتضمّن مفاهيم إسلامية هائلة، تدعو الباحثين إلى الوقوف عندها ودراستها دراسةً تحليليّةً، وهذا الأمر بحاجة إلى عقد ندوات مطوّلة من أجل بيان هذه المفاهيم في نصوص الزيارات، واستكشاف دلالاتها العميقة.

ويمكن أن نُشير إشارةً سريعةً إلى هذه المفاهيم على سبيل المثال لا الحصر، ثمّ نتطرّق ـ بعد ذلك ـ إلى مفهومي الجهاد والشهادة المفادين من تلك النصوص، ونتطرّق أيضاً إلى ما يترتّب عليهما من مفاهيم دينية أُخرى.

مفاهيم دينيّة منوّعة مستفادة من زيارات الإمام الحسين×

1ـ تفاعل الكون مع مصيبة الإمام الحسين×

يتجلّى هذا المفهوم في جملة من نصوص زيارات الإمام الحسين×، منها: «وجلّت وعظمت مصيبتك في السماوات على جميع أهل السماوات»[6].

 ومنها أيضاً: «أشهد أنّ دمك سكن في الخلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنّار من خلق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى»[7].

وهذا يعني أنّ جميع الكون ـ كلٌّ بحسبه ـ تفاعل مع قضية الحسين×، بمن فيهم أهل الجنة وأهل النار أيضاً.

2ـ خلق أنوار الأئمّة^ قبل الدنيا

المفهوم الآخر الذي نستفيده من نصوص زيارات الإمام الحسين×، هو أنّه× وسائر الأئمّة^ كانوا أنواراً مخلوقةً قبل الدنيا، فقد ورد في نصّ الزيارة: «السلام منّي إليك، والتحية مع عظيم الرزية، كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، ونوراً في ظلمات الأرض، ونوراً في الهواء، ونوراً في السماوات العلى، كنت فيها نوراً ساطعاً لا يطفى، وأنت الناطق بالهدى»[8].

وكذلك ورد هذا المعنى في زيارة رسول الله‘: «أشهد يا رسول الله، أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة»[9].

وهذا المعنى نفسه قد ورد بشأن جميع الأئمّة^، وذلك في الزيارة الجامعة لهم^: «خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين»[10].

3ـ الأئمّة^ أسباب الرحمة الإلهية

من المفاهيم المستفادة من نصوص زيارات الإمام الحسين× هو كون الأئمّة× أسباب الرحمة الإلهية التكوينية في الدنيا، ومن ذلك ما نقرأه في إحدى الزيارات: «... وبكم تُنبت الأرض أشجارها، وبكم تخرج الأشجار أثمارها، وبكم تنزل السماء قطرها ورزقها»[11].

وفي بعض زيارات الأئمّة^ في رجب نقرأ: «فبكم يُجبر المهيض، ويُشفى المريض، وما تزداد الأرحام وما تغيض»[12].

ونقرأ أيضاً في زيارة أُخرى لهم^: «بكم فتح الله وبكم يختم الله، وبكم ينزّل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه»[13].

فهذه المفاهيم تحمل دلالات ذات أسرار عظيمة، بحاجة إلى الكشف عنها وتفسيرها، فهي ترتبط بالدور التكويني لأهل البيت^ في هذا الوجود، وأنّ الكون كلّه قائم بهم^.

إذاً؛ فقراءة هذه النصوص ليست هي مجرّد أدب أو مجاملة نأتي بها، وبالتالي فعلينا الوقوف عندها؛ لتحليلها واستكشاف أسرارها، وربطها بالمفاهيم القرآنية والنصوص الروائية الأُخرى.

4 ـ رضا الأئمّة^ وغضبهم معيار رضا الله وغضبه

من المفاهيم التي نستفيدها من نصوص الزيارات هو أنّ رضاهم^ رضا الله تعالى، وغضبهم غضب الله تعالى؛ فإنّنا نقرأ في إحدى زيارات الإمام الحسين×: «السلام عليك يا مَن رضاه من رضا الرحمن، وسخطه من سخط الرحمن»[14].

وفي نصّ آخر نقرأ في وصف أعداء أهل البيت^: «اللّهمّ العن الذين كذّبوا رسلك، وهدّموا كعبتك، واستحلّوا حرمك، وألحدوا في البيت الحرام، وحرّفوا كتابك»[15]، حيث يدلّ هذا النصّ على أنّ أعداء أهل البيت^ هم أعداء الله تعالى، وأنّهم أصبحوا مورداً لسخطه وغضبه.

5ـ التعريف بمقامات الأنبياء^

ومن المفاهيم المهمّة التي يمكن للزائر أن يقف عليها في نصوص زيارات الإمام الحسين×، هو مفهوم التعريف بمقامات الأنبياء والمرسلين، وهذا ما نلمسه بوضوح في النصّ التالي: «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله»[16].

6ـ ترسيخ الثوابت الإسلامية الكبرى

تضمّنت نصوص زيارات الإمام الحسين× مجموعة من الثوابت الإسلامية الكبرى، كالصلاة، والصوم، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقد ورد في بعضها: «أشهد أنّك أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر»[17]. فالزائر حينما يقف أمام القبر الطاهر، ويقرأ هذه النصوص، ويتأمّل فيها، فلا شكّ أنّ المفاهيم أعلاه سوف تترسّخ في نفسه، خصوصاً وهو يعتبر صاحب القبر قدوة له في تجسيد مختلف القيم والمبادئ الإسلامية.

7ـ مفاهيم أُخرى في التعريف بمقام أهل البيت^

ومن المفاهيم الأُخرى المرتبطة بأهل البيت^، والواردة في نصوص الزيارات، هي أنّهم^ حملة الرسالة، وورثة الأنبياء، والطريق إلى الله تعالى، فقد جاء في الزيارة: «مَن أراد الله بدأ بكم، ومن وحّده قبل عنكم، ومن قصده توجّه بكم»[18].

ومنها: أنّهم^ أحياء عند ربّهم يرزقون، كما ورد في الزيارة: «أشهد أنّكم أحياء عند ربّكم ترزقون»[19].

ومنها: أنّهم^ يسمعون كلامنا، ويردّون سلامنا، فقد ورد في إحدى زيارات الإمام الحسين× ما نصّه: «... عارفاً عالماً أنّك تسمع كلامي، وتردّ سلامي»[20].

ومنها: أنّ الله تعالى قد شفّعهم في عباده؛ فإنّنا نقرأ في إحدى الزيارات: «فكن لي إلى الله شفيعاً... فأنت كلمة الله وكلمة رسوله‘»[21].

هذه بعض المفاهيم التي أردنا الإشارة إليها على نحو السرعة، ويوجد غيرها الكثير من المفاهيم الإسلامية المستوحاة من نصوص زيارات الإمام الحسين×، والتي أعرضنا عنها لئلّا يُخرجنا الخوض فيها عن أصل البحث.

مفهوما الجهاد والشهادة في نصوص زيارات الإمام الحسين×

إنّ مفهومي الجهاد والشهادة من أبرز المفاهيم الواردة في نصوص زيارات الإمام الحسين× والأئمّة المعصومين^، بل لعلّ جميع زيارات الإمام الحسين× تناولت هذين المفهومين، ومن ذلك نقرأ في إحدى الزيارات: «أشهد أنّك قُتِلت مظلوماً، وأنّ قاتلك في النار، وأشهد أنّك جاهدت في سبيل الله حقّ جهاده»[22].

وفي موضع آخر من الزيارة نفسها نقرأ: «... وأشهد أنّك قد بلّغت ونصحت ووفيت، وجاهدت في سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، ومضيت للذي كنت عليه شهيداً ومستشهداً ومشهوداً»[23].

إنّ مختلف أساليب الظلم والتنكيل التي تجلّت بأقسى صورها في قضية عاشوراء، جعلت جانب المصيبة فيها أكثر بروزاً، وجعل التفاعل معها بالحزن والبكاء أكثر وقعاً في نفوس الشيعة، بل ندبت إليه الكثير من النصوص الشريفة، ومنها نصوص زيارات الإمام الحسين×، كما نقرأ في بعضها: «يا أبا عبد الله، لقد عظمت الرزية، وجلّت وعظمت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل الإسلام، وجلّت وعظمت مصيبتك في السماوات على جميع أهل السماوات»[24]، فمّما لا شكّ فيه هو أنّ ما تعرّض له الإمام الحسين× وأهل بيته وصحبه من مُصاب عظيم، حريّ بأن تبكي له جميع المخلوقات، لكن مع كلّ هذه الأهمّية لهذا التفاعل مع القضية الحسينية ينبغي لنا ألّا نغفل عمّا ركّز عليه الأئمّة^ في نصوص الزيارات، وهو ضرورة تغذية بعض المفاهيم الدينية للزائرين، وعلى رأسها مفهوما الجهاد والشهادة، فقد ورد التأكيد عليهما في نصوص زيارات الإمام الحسين×؛ ليترسّخا في نفوس الزائرين.

أمّا ما هي أهمّ المفاهيم الدينية والأحكام الشرعية المترتّبة على مفهومي الجهاد والشهادة في نصوص زيارات الإمام الحسين×؟ فهذا ما سنتناوله في هذا الجانب من البحث، والذي يُعتبر صُلب الموضوع في هذه الندوة العلمية.

1ـ الإمامة بين الحقّ والسلطة

إنّ نظرية الشيعة في الإمامة قائمة على أساس أنّ الحقّ والسير على هدي الله وتعاليمه هو البوصلة التي تُحدّد لنا مَن يتسنّم هذا المنصب الحسّاس في المجتمع الإسلامي، قال الشيخ المفيد&: «اتّفق أهل الإمامة على أنّه لا بدّ في كلّ زمان من إمام موجود، يحتجّ الله به على عباده المكلّفين، ويكون بوجوده تمام المصلحة في الدين»[25].

وبعبارة أُخرى: إنّ الفكر الشيعي يرى أنّ السلطة لا بدّ أن تكون تابعة للحقّ، وعليه؛ فلا مشروعية للسلطان الجائر.

وبخلاف ذلك نجد نظرية الجمهور ـ في المقام ـ تعتبر أنّ السلطة هي البوصلة في ذلك، بل يذهبون إلى أكثر من ذلك، حيث يرون ثبوت الشرعية للحاكم الجائر والفاسق وإن تمكّن من السلطة وأمسك بزمام الأُمور عن طريق قهر الناس بقوّة السيف؛ فإنّه ـ حينئذٍ ـ يتمتّع بحقّ الطاعة والولاء، بغضّ النظر عن مشروعية أو عدم مشروعية الطُرق التي سلكها من أجل الوصول إلى سدّة الحكم.

وقد ذهب بعض علماء الجمهور ـ بناءً على هذه النظرية ـ إلى القول بوجوب بيعة الحاكم ـ وإن كان فاسقاً أو جائراً ـ على جميع الناس بمَن فيهم العلماء والصالحون، فالبيعة واجبة حتّى على ابن رسول الله أو بنت رسول الله؛ لأنّ الحاكم بمجرّد أن يجلس على كرسي الخلافة يصبح أميرهم الشرعي، وله في أعناقهم البيعة؛ يقول النووي في بيان طُرق انعقاد الإمامة: «... وأمّا الطريق الثالث، فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام، فتصدّى للإمامة مَن جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته؛ لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعاً للشرائط بأن كان فاسقاً، أو جاهلاً، فوجهان، أصحّهما انعقادها؛ لما ذكرناه وإن كان عاصياً بفعله»[26].

ويضيف قائلاً: «إذا ثبتت الإمامة بالقهر والغلبة، فجاء آخر فقهره، انعزل الأوّل وصار القاهر الثاني إماماً»[27].

ولبيان فساد هذه النظرية يمكن أن نُشير بصورة سريعة إلى نموذج من النماذج التاريخية لتطبيقاتها في الفكر السنّي، فنذكر على سبيل المثال حادثة قتل المنتصر لأبيه المتوكّل من أجل الجلوس على عرش الحكم، ليصبح ـ بعد ذلك ـ هو الحاكم الشرعي الذي يجب على جميع الأُمّة الإسلامية ـ بفقهائها وصلحائها ـ مبايعته؛ يقول الخضري بك[28]: «فاجتمع لذلك [أي لأجل قتل المتوكّل] الخصمان: قوّاد الأتراك، وولي العهد. مال الأتراك إلى المنتصر؛ ليستعينوا به في تنفيذ غرضهم، ومال إليهم؛ ليحفظ لنفسه الخلافة»[29].

ثمّ يتحدّث عن سيطرة الأتراك وقوّة شوكتهم في خلافة المعتصم جدّ المنتصر، ويصفهم قائلاً: «فإنّه ملّك الخلافة قوماً لا حلوم لهم، وليس لهم من الأخلاق ما يمنعهم ممّا فعلوا... وأجلّ من ذلك أن يكون وليّ العهد شريكاً في دم أبيه»[30].

وبعد هذا الذمّ للمنتصر، واعتباره شريكاً في قتل أبيه، يأتي الخضري بك ـ بعد عدّة أسطر ـ ليصفه قائلاً: «كان من خُلق المنتصر سعة الاحتمال، وكثرة المعروف، والرغبة في الخير والسخاء والعفّة، وكان يأخذ نفسه بمكارم الأخلاق، وحسن المعاشرة، بما لم يسبقه خليفة إلى مثله... وقد أظهر الإنصاف في الرعية، فمالت إليه قلوب الخاصّة والعامّة»[31].

وما هذا الوصف وهذا التبجيل والتعظيم إلّا نتاج نظرية تبعية الحقّ للسلطة كما تقدّم، فما إن جلس المنتصر على عرش الحكم حتّى تحوّل من كونه شخصاً متآمراً مع الأتراك على قتل أبيه ـ وهو الحاكم الشرعي بحسب هذا الفكر ـ إلى كونه حاكماً شرعياً يتمتّع بكلّ ما ذُكر من صفات مكارم الأخلاق.

ولا شكّ أنّ هكذا رؤى وأفكار تمنح الحكومات الجائرة مساحة واسعة لإبداء الرأي في شريعة ربّ العالمين، من خلال تنصيبهم أئمّةً وفقهاء يبرّرون لهم أفعالهم وأساليبهم القمعية، ويفتون الناس بوجوب بيعتهم والانصياع لأوامرهم.

إذاً؛ فالمقياس في تشخيص الإمام وطاعته هو السلطة وفق المذهب السنّي، أمّا وفق المذهب الشيعي فالمقياس هو الحق؛ إذ يعتقد بأنّ السلطة لا تعني شيئاً في مفهوم الإمامة؛ ولذلك نجد ـ عبر التاريخ ـ مئة وأربعة وعشرين ألف نبيّ لم يصل منهم إلى السلطة سوى داود وسليمان÷ ونبيّنا محمّد‘. وفي المقابل كانت السلطة للفراعنة، فهل يُعقل القول بأنّ الفراعنة كانوا يتمتّعون بالشرعية وفق هذا المنطق؟!

ومن هنا؛ نرى التأكيد على نظرية تبعية السلطة للحقّ دون العكس في فقرات كثيرة من نصوص زيارات الإمام الحسين×، ومن ذلك: «أشهد أنّك قُتلت مظلوماً، وأنّ قاتلك في النار، وأشهد أنّك جاهدت في سبيل الله حقّ جهاده»[32]. وهو ما يؤكّد أحقّية الإمام الحسين× في قيامه ضدّ الحاكم الجائر، وأنّه من الجهاد في سبيل الله، وبالتالي فهو يدلّ ـ بالملازمة ـ على سلب المشروعية من الحاكم الجائر، وأنّ الشرعية للحقّ وإن كان صاحبه مضطهداً، أو سجيناً، أو قتيلاً. ومن هنا؛ فإنّ قول رسول الله‘:
«علي مع الحقّ، والحقّ مع علي، يدور حيثما دار»
[33]، فيه دلالة صريحة على أنّ عليّاً× مع كونه ظلّ حبيس بيته لمدّة خمس وعشرين سنة، إلّا أنّ الشرعية كانت له، وليست لـمَن أمسك زمام الأُمور كما عند الجمهور.

كما أنّه طبقاً لنصوص الزيارات المشار إليها؛ فإنّه× في نهضته الخالدة ضدّ جبهة الباطل المتمثّلة بيزيد وأعوانه، كان يقف إلى جانب الحقّ دون سواه، ومن تلك النصوص: «أشهد أنّك كنت على بيِّنة من ربّك، قد بلّغت ما أُمرت به، وقمت بحقّه... أشهد أنّ الجهاد معك جهاد، وأنّ الحقّ معك وإليك... وأشهد أنّ دعوتك حقّ، وكلّ داع منصوب غيرك فهو باطل مدحوض»[34].

كما نقرأ في موضع آخر من نصوص الزيارات: «وأشهد أنّك ومَن قُتل معك شهداء أحياء عند ربِّك تُرزقون، وأشهد أنّ قاتلك في النار، أدين الله بالبراءة ممّن قتلك، وممّن قاتلك وشايع عليك، وممّن جمع عليك، وممّن سمع صوتك ولم يعنك، يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً»[35].

وممّا يؤكّد نظرية أنّ المقياس في الإمامة هو الحقّ وليست السلطة، كلام الإمام الحسين× خارج نصوص الزيارات، فقد جاء في كتابه إلى أهل الكوفة ما نصّه: «... ولعمري، ما الإمام إلّا العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحقّ، الحابس نفسه في ذات الله»[36].

إذاً؛ هذه جملة من نصوص الزيارات الواضحة والصريحة الدالّة على أنّ الإمام الحسين× وأتباعه كانوا يمثّلون جبهة الحقّ والشرعية، في مقابل جبهة الباطل واللاشرعية المتمثّلة بيزيد وأشياعه الذين استحلّوا حرمات الله تعالى؛ وبذلك استحقّوا اللعن عليهم والبراءة منهم، كما نقرأ ذلك في النصوص التالية الواردة في بعض الزيارات: «لعن الله قاتليك، ولعن الله سالبيك، ولعن الله خاذليك، ولعن الله مَن شايع على قتلك، ومَن أمر بذلك، وشارك في دمك، ولعن الله من بلغه ذلك فرضي به أو سلّم إليه، أنا أبرأ إلى الله من ولايتهم، وأتولّى الله ورسوله وآل رسوله، وأشهد أنّ الذين انتهكوا حرمتك وسفكوا دمك ملعونون على لسان النبيّ الأُمّي. اللّهمّ العن الذين كذّبوا رُسلك، وسفكوا دماء أهل بيت نبيّك صلواتك عليهم»[37].

ونقرأ أيضاً: «اللّهمّ العن العصابة التي جاهدت الحسين، وتابعت وبايعت وتابعت على قتله، اللّهمّ العنهم جميعاً»[38].

ولهذا نرى في فكرنا الشيعي هذه الجموع من الزائرين ـ بمختلف مستوياتهم العلمية ووعيهم الثقافي ـ يعتقدون بأنّ السلطة لا تُمثّل الشرعية، وهذا الاعتقاد أحد أسبابه الرئيسة نصوص الزيارات التي تغرس في نفوسهم هذا المعنى، فعندما يقف الزائر على هذه المفاهيم من خلال قراءته لنصوص زيارات الإمام الحسين×؛ فإنّه يخرج من حضرته وهو مشبع ومشحون بهذه الفكرة التي ترسم له معالم الحقّ فيتّبعه، وتبيّن له الباطل فيتجنّبه؛ فشعوبنا معبّأة ومحصّنة بمفاهيم القضية الحسينية منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة وإلى يومنا هذا.

2ـ الخروج على السلطان الجائر

المفهوم الثاني من المفاهيم المترتّبة على مفهومي الجهاد والشهادة، هو مفهوم الخروج على السلطان الجائر، وهو من الأبحاث الفقهية المهمّة والكبيرة، والذي يعتبر ـ إضافة للمفهوم المتقدّم ـ مفترق طرق آخر بين الفقهين الشيعي والسنّي، ففي الفقه السنّي لا يجوز الخروج على السلطان الجائر وإن فعل ما فعل من المعاصي؛ يقول النووي: «لا تنازعوا ولاة الأُمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم، إلّا أن تروا منهم منكراً محقّقاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحقّ حيث ما كنتم. وأمّا الخروج عليهم وقتالهم، فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين»[39].

نعم، في حالة واحدة يجوز الخروج على الحاكم، وذلك فيما إذا صدر منه كفر بواح، كأن يصرّح بذلك من على المنبر بأنه ـ مثلاً ـ لا يؤمن بالله تعالى، ففي هذه الحالة يجوز الخروج عليه؛ يقول ابن باز: «لا يجوز لهم منازعة ولاة الأُمور، ولا الخروج عليهم، إلّا أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان... فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته»[40].

وانطلاقاً من هذه النظرية يرى بعض مفكّري أهل السنّة أنّ الإمام الحسين× قد أخطأ في خروجه على يزيد؛ لأنّه خرج على السلطة الشرعية بزعمهم، وبذلك يكون قد فارق الجماعة؛ يقول الخضري بك: «وعلى الجملة، فإنّ الحسين أخطأ خطأً عظيماً في خروجه هذا الذي جرَّ على الأُمّة وبال الفرقة والاختلاف، وزعزع عماد أُلفتها إلى يومنا هذا»[41].

ويقول أيضاً: «لا ينبغي لـمَن يُريد عظائم الأُمور أن يسير إليها بغير عدّتها الطبيعية، فلا يرفع سيفاً إلّا إذا كان معه من القوّة مَن يكفل له النجاح أو يقرب من ذلك»[42].

وفي خصوص حكومة يزيد يقول: «بايعه الناس ولم يظهر منه ذلك الجور ولا العسف»[43].

إذاً؛ يعتقد أصحاب هذه النظرية أنّ قيام الإمام الحسين× كان خلافاً للحكمة والتدبّر في عواقب الأُمور، ويعتبرونه إقداماً متهوّراً، وإلقاءً للنفس في التهلكة
ـ والعياذ بالله ـ وأنّه صار سبباً في تفريق وحدة الأُمّة، إلى غير ذلك من الأوصاف المبتنية على النظرية المتقدّمة، والتي تنمّ عن عدم فهم أصحابها لحقيقة وفلسفة النهضة الحسينية.

نعم، هناك من أهل السنّة مَن يرى ضرورة الخروج على الحاكم الفاسق مع الإمكان؛ يقول محمّد رشيد رضا: «... وأمّا طاعة المتغلّبين فهي للضرورة وتقدّر بقدرها بحسب المصلحة، ويجب إزالتها عند الإمكان من غير فتنة ترجّح مفسدتها على المصلحة»[44].

وفيما يرتبط بخروج الإمام الحسين× على يزيد، يقول: «... فخروج الإمام الحسين السبط× على يزيد الظالم الفاسق كان حقّاً موافقاً للشّرع»[45].

وعلى العكس من نظرية الفقه السنّي المتقدّمة، فإنّ الفقه الشيعي يؤكّد ضرورة الخروج على السلطان الجائر، ويرى أنّ خروج الإمام الحسين× على يزيد كان تجسيداً لهذا المعنى، فقد أعلن× مشروعية حركته بأوّل كلمة كانت له بحسب التسلسل التأريخي، حيث روي أنّه× قال: «أيّها الناس، إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ قال: مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غيّر»[46].

وبملاحظة هذا النصّ ونصوص أُخرى قرآنية وروائية تضمّنت المعنى نفسه ـ من
قبيل قوله تعالى: (وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)
[47]. وقوله أيضاً: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)[48]. وكذلك ما تظافر من قول النبي| وأهل بيته^: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[49]. وقول الإمام الرضا× عن آبائه^ عن رسول الله|: «مَن أرضى سلطاناً بما أسخط الله خرج من دين الله»[50] ـ نراها تعتبر الخروج على السلطان الجائر مشروعاً، بل واجباً في الفكر الشيعي، وذلك مع مراعاة بعض الاعتبارات المطلوبة فقهياً في الخروج، من الإمكانات، والأولويّات، وتوفّر شروط النهي عن المنكر، والمصلحة المترتّبة على ذلك الخروج، وغير ذلك من التفصيلات الفقهية ممّا هي ليست محلّ بحثنا، وإنّما المهمّ في بحثنا هو معرفة حكم أصل المسألة في الفقه الشيعي، وهو الوجوب مع القدرة على التغيير، أمّا مع عدمها فلا يجوز.

3ـ وظيفة الأُمّة في التغيير والنصرة

من المفاهيم التي أكّدتها نصوص زيارات الإمام الحسين× هو أنّ المسؤولية الشرعية في نصرة الحقّ، ومواجهة الانحرافات والبدع في الدين، والتغيير باتّجاه إصلاح الأُمّة، لا يقتصر على الإمام، أو عالم الدين، أو المبلِّغ، أو طلّاب العلوم الدينية، بل إنّ الأُمّة ـ جميعاً ـ مسؤولة عن ذلك، فعلى كلّ فرد من أفرادها تأدية الوظيفة الشرعية الملقاة على عاتقه في التغيير من جهة، وفي النصرة لإمام الحقّ من جهة أُخرى؛ ولذلك نرى أنّ الزائر يدعو بما ورد في نصوص الزيارات، قائلاً:
«... فأسأل الله الذي أكرم مقامك أن يكرمني بك، ويرزقني طلب ثارك مع إمام منصور من آل محمّد»
[51].

ومن هنا؛ نسبت بعضُ نصوص الزيارات جريمةَ قتل الإمام الحسين× وأهل بيته^ وأصحابه إلى الأُمّة: «فلعن الله أُمّة أسّست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت، ولعن الله أُمّة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم التي رتّبكم الله فيها، ولعن الله أُمّة قتلتكم، ولعن الله الممهّدين لهم بالتمكين من قتالكم»[52]. وفي نصّ آخر: «لعن الله أُمّةً ظلمتك، وأُمّةً قاتلتك، وأُمّةً قتلتك، وأُمّةً أعانت عليك، وأُمّةً خذلتك، وأُمّةً دعتك فلم تجبك، وأُمّةً بلغها ذلك فرضيت به، وألحقهم الله بدرك الجحيم»[53]. وفي نصّ ثالث: «... فلعن الله أُمّةً قتلتك، ولعن الله أُمّةً ظلمتك، ولعن الله أُمةً سمعت بذلك فرضيت به»[54].

ومن ذلك خطبة السيّدة أُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين× في الكوفة، فقد جاء في بعض فقراتها: «يا أهل الكوفة، سوأةً لكم! ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه؟! فتبّاً لكم وسحقاً. ويلكم، أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم؟! وأيّ وزر على ظهوركم حملتم؟! وأيّ دماء سفكتموها؟! وأيّ كريمة أصبتموها؟! وأيّ صِبْية سلبتموها؟! وأيّ أموال انتهبتموها؟! قتلتم خير رجالات بعد النبي|، ونُزعت الرحمة من قلوبكم. ألا إنّ حزب الله هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون»[55]. فقد اعتبرتهم جميعاً ـ حتّى مَن لم يشارك منهم بشكل مباشر في المعركة ـ شركاء في تلك الجريمة.

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي تؤكّد مسؤولية الأُمّة في تلك الجريمة الكبرى؛ فهي تتحمّل وزر سكوتها عن قول الحقّ، وخذلانها لجبهته، والرضا بفعلة يزيد وابن زياد وأتباعهما، فالمسؤولية لا تقع على الجبهة المباشرة في ارتكاب الجريمة فحسب، بل تشمل الأُمّة التي أعانت، والتي مهّدت، والتي رضيت، بل والتي خذلت وإن لم تكن راضيةً، فجميع هؤلاء قد اشتركوا في ارتكاب هذه الجريمة النكراء، واستحقّوا بذلك غضب الله وسخطه، فألحقهم بدرك الجحيم.

ومن هنا؛ نرى أنّ الإمام الحسين× ينصح عبيد الله بن الحرّ الجعفي ـ الذي امتنع عن إجابة الإمام الحسين× عندما دعاه إلى نصرته، واعتذر بأنّ نفسه لم تسمح له بالموت ـ بأن يبتعد عن المعركة؛ لئلّا يسمع واعية أهل البيت^ فيستحقّ بذلك غضب الله ولعنته، فقد ورد: «... فقال له الحسين×: فإن لم تنصرنا فاتّقِ الله أن تكون ممّن يقاتلنا. والله، لا يسمع واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلّا هلك»[56].

إذاً؛ فالأُمّة أمام مسؤوليّتين شرعيّتين: الأُولى: قول الحقّ ورفض الباطل وتغييره.والثانية: نُصرة الحقّ والدّفاع عن مبادئه. وقد جسّد هذا المعنى أنصار سيّد الشهداء× في تلك المواقف البطولية النابعة عن إيمان راسخ بالقضية التي يؤمنون بها، ويدافعون عنها بأموالهم وأنفسهم، والتي هي إحياء دين الله تعالى، وسنّة نبيّه‘، ونهج أهل بيته^؛ ولهذا نقرأ في الزيارة: «السلام عليكم يا أنصار دين الله، وأنصار نبيّه، وأنصار أمير المؤمنين، وأنصار فاطمة سيّدة نساء العالمين، السلام عليكم يا أنصار أبي محمّد الحسن الوليّ الناصح، السلام عليكم يا أنصار أبي عبد الله الحسين الشهيد المظلوم، صلوات الله عليهم أجمعين»[57].

إذاً؛ هذا هو المفهوم الثالث من المفاهيم المتفرّعة على مفهومي الجهاد والشهادة، وهو مسؤولية الأُمّة في التغيير والنصرة، وهو من المفاهيم التي رسّختها نصوص زيارات الإمام الحسين× في نفوس الزائرين، ومن علامات هذا التجسيد ما لمسناه من ثقافة النصرة عند شعبنا؛ وذلك عندما هبّت تلك الجماهير الغفيرة استجابة لفتوى المرجعية الدينية العليا ـ المتمثّلة بالمرجع الأعلى السيّد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوارف) ـ في الدفاع عن الوطن والمقدّسات، فحقّقت تلك الانتصارات الباهرة على أخطر المنظّمات الإرهابية (داعش)، والقوى الداعمة لها.

4ـ الوعد الإلهي بالغلبة

من المفاهيم المترتّبة على مفهومي الجهاد والشهادة، هو مفهوم الوعد الإلهي بالغلبة، فقد صرّحت نصوص الزيارات الشريفة بهذا المفهوم، مبيّنةً أنّ الغلبة في النهاية لا بدّ وأن تكون للحقّ، وقد ذكرنا قبل قليل دعاء الزائر ـ «فأسأل الله الذي أكرم مقامك أن يكرمني بك، ويرزقني طلب ثارك مع إمام منصور من آل محمّد» ـ
الذي يدلّ على أنّ الطالب بثأر الحسين× سوف يكون مؤيّداً بنصر الله تعالى. وقد ورد هذا المعنى في نصوص أُخرى، ومنها ما نقرأه في دعاء الندبة: «أين الطالب بدم المقتول بكربلا؟ أين المنصور على مَن اعتدى عليه وافترى؟»
[58]؛ وهذا هو الوعد الإلهي بتحقيق النصر على يدي قائم آل محمّد.

وهناك وعدٌ إلهي آخر أعمّ من الوعد بالغلبة في الحياة الدنيا، فقد ورد في بعض نصوص الزيارات: «أشهد أنّك قُتلت مظلوماً، وأنّ الله منجز لكم ما وعدكم»[59].

وفي نصّ آخر: «يا مولاي، أشهد أنّ الله منجز لك ما وعدك، ومعذّب مَن قتلك، عليه اللعنة إلى يوم الدين»[60].

ومن ذلك الوعد الإلهي أيضاً ما نقرؤه في دعاء الندبة عند الحديث عن النعيم المقيم الذي وعد به تعالى أولياءه، فقد جاء في بعض فقرات الدعاء: «اللّهمّ لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك، الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال»[61].

وهذه سنّة إلهية، نصّت عليها ـ علاوة على ما تقدّم ـ الآيات القرآنية، كقوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)[62].

ومن هنا؛ نعرف أنّ الحسين× وأهل بيته وأنصاره قد حقّقوا بتلك الملحمة التاريخية نصراً إلهياً في إعلاء مبادئ الحقّ، ودحض مبادئ الباطل؛ وهذا هو النصر الحقيقي الذي يتخطّى حدود الزمان والمكان للواقعة، بخلاف النصر المادّي الذي حقّقته جبهة الباطل في ساحة المعركة، والذي لم يستمرّ سوى فترة قصيرة حتّى انقلب السحر على الساحر، وأصبحت زهوة النصر خزياً وعاراً على أصحابها الذين حقّت عليهم لعنة الله والناس أجمعين. وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه عقيلة الطالبيّين’ عندما وجّهت خطابها ليزيد بتلك الكلمات التي نزلت على سلطانه وملكه كالصاعقة المدوّية، حيث أوضحت فيها معالم الحقّ وأهله المتمثّلة بجبهة الإمام الحسين×، وزيف الباطل وأعوانه المتمثّل بجبهة يزيد، وذلك حينما صدحت قائلة: «... وسيعلم مَن سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً، ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفّرها أُمّهات الفراعل، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك، وما ربك بظلّام للعبيد، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل، فكد كيدك واسعَ سعيك وناصب جهدك، فوالله لا [ترحض][63] عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيّامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد؟! يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين»[64].

فهذا هو النصر الحقيقي الذي يُخرج الناس من ظلمات الباطل إلى نور الحقّ، والذي حقّقه أبو عبد الله الحسين× بنهضته الخالدة، وبدمائه الزكية التي اختلطت مع دماء الشهداء من أهل بيته وأصحابه^؛ لتنير للأجيال طريق الحقّ والهداية، ولتوقظ الأُمّة من سُباتها في ظلمة الجهل والباطل، التي خيّمت على المجتمعات آنذاك بسبب الإعلام المزيّف والأكاذيب الأُمويّة.

إذاً؛ هذه مجموعة من المفاهيم الدينية، ذات الدلالات العميقة والعظيمة، التي تناولتها بعض نصوص زيارات الإمام الحسين×، مضافاً إلى غيرها من النصوص الدينية القرآنية أو الروائية.

المصادر المراجع

* القرآن الكريم.

            الإرشاد، محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري، المعروف بالشيخ المفيد (ت413هـ)، تحقيق: مؤسّسة آل البيت^ لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1414هـ/1993م.

            إقبال الأعمال، علي بن موسى بن طاووس (ت664هـ)، تحقيق: جواد القيّومي الأصفهاني، مكتب الإعلام الإسلامي، قم المقدّسة، الطبعة الأُولى، 1414هـ.

            بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسي (ت1111هـ)، مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية المصحّحة، 1402هـ/1983م.

            تاريخ الطبري، محمّد بن جرير الطبري (ت310هـ)، مراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلّاء، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، الطبعة الرابعة، 1403هـ/1983م.

            تفسير المنار، محمّد رشيد رضا (ت1354هـ)، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأُولى، 1414هـ.

            روضة الطالبين وعمدة المفتين، يحيى بن شرف النووي الدمشقي (ت676هـ)، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، والشيخ علي محمّد معرض، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.

            شرح صحيح مسلم، يحيى بن شرف النووي الدمشقي (ت676هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 1407هـ/1987م.

            الكافي، محمّد بن يعقوب الكليني (ت328/329هـ)، صحّحه وعلّق عليه: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة، 1363ش.

            كامل الزيارات، جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي (ت368هـ)، جواد القيّومي، لجنة التحقيق، مؤسّسة نشر الفقاهة، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

10ـ      اللهوف في قتلى الطفوف، علي بن موسى بن طاووس (ت664هـ)، أنوار الهدى، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1417هـ.

11ـ      مثير الأحزان، محمّد بن جعفر بن نما الحلّي (ت645هـ)، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، 1369هـ/1950م.

12ـ      مجموع فتاوى العلّامة عبد العزيز بن باز، عبد العزيز بن عبد الله بن باز (ت1420هـ)، أشرف على جمعه وطبعه: محمّد بن سعد الشويعر.

13ـ      محاضرات تاريخ الأُمم الإسلامية.. الدولة العبّاسيّّة، محمّد الخضري بك (ت1345هـ)، تحقيق: محمّد العثماني، دار القلم، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1406هـ/1986م.

14ـ      محاضرات تاريخ الأُمم الإسلامية.. الدولية الأُمويّة، محمّد الخضري بك، تحقيق: محمّد العثماني، دار القلم، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1406هـ/1986م.

15ـ      المزار، محمّد بن جعفر المشهدي، المعروف بابن المشهدي (ت القرن السادس الهجري)، تحقيق: جواد القيومي الأصفهاني، نشر القيوم، قم ـ إيران، الطبعة الأُولى، 1419هـ.

16ـ      المزار، محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري، المعروف بالشيخ المفيد (ت413هـ)، تحقيق: السيّد محمّد باقر الأبطحي، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية، 1414هـ/1993م.

17ـ      مصباح المتهجّد، محمّد بن الحسن الطوسي (ت460هـ)، مؤسّسة فقه الشيعة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأُولى، 1411هـ/1991م.

18ـ      مفاتيح الجنان، عبّاس القمّي (ت1359هـ)، تعريب: السيّد محمّد رضا النوري النجفي،  مكتبة العزيزي، الطبعة الثالثة، 1385ش/2006م.

19ـ      ميزان الحكمة، محمّد الريشهري (ت1443هـ)، تحقيق ونشر: دار الحديث، الطبعة الأُولى.

20ـ      وسائل الشيعة، محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (ت1104هـ)، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم المشرّفة، الطبعة الثانية، 1414هـ.



[1] التوبة: آية41.

 

[2] الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة: ج1، ص444.

 

[3][3] آل عمران: آية169.

 

[4] الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة: ج2، ص1512.

 

[5] المصدر السابق.

 

[6] ابن المشهدي، محمّد بن جعفر، المزار: ص481.

 

[7] القمّي، عبّاس، مفاتيح الجنان: ص623.

 

[8] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص403.

 

[9] ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال: ج3، ص129.

 

[10] ابن المشهدي، محمّد بن جعفر، المزار: ص529.

 

[11] الكليني، محمّد بن يعقوب، الكافي: ج4، ص576.

 

[12] الطوسي، محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص821.

 

[13] ابن المشهدي، محمّد بن جعفر، المزار: ص532.

 

[14] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص383.

 

[15] المفيد، محمّد بن محمّد، المزار: ص107.

 

[16] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص375.

 

[17] المفيد، محمّد بن محمّد، المزار: ص106.

 

[18] ابن المشهدي، محمّد بن جعفر، المزار: ص532.

 

[19] المصدر السابق: ص416.

 

[20] المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج97، ص295.

 

[21] المصدر السابق.

 

[22] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص406.

 

[23] المصدر السابق: ص409ـ410.

 

[24] الطوسي، محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص774.

 

[25] المفيد، محمّد بن محمّد، أوائل المقالات: ص39.

 

[26] النووي، يحيى بن شرف، روضة الطالبين وعمدة المفتين: ج7، ص266.

 

[27] المصدر السابق: ج7، ص267.

 

[28] مفتّش في وزارة المعارف، ومدرّس التاريخ الإسلامي في الجامعة المصرية.

 

[29] الخضري بك، محمّد، محاضرات تاريخ الأُمم الإسلامية.. الدولة العبّاسيّة: ص300.

 

[30] المصدر السابق: ص301.

 

[31] المصدر السابق: ص304.

 

[32] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص406.

 

[33] المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار: ج10، ص432.

 

[34] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص371ـ372.

 

[35] المصدر السابق: ص383.

 

[36] الحلّي، ابن نما، مثير الأحزان: ص16.

 

[37] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات: ص407ـ408.

 

[38] الطوسي، محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص776.

 

[39] النووي، يحيى بن شرف، شرح صحيح مسلم: ج١٢، ص٢٢٩.

 

[40] ابن باز، عبد العزيز، مجموع فتاوى العلّامة عبد العزيز بن باز: ج8، ص203.

 

[41] الخضري بك، محمّد، محاضرات تاريخ الأُمم الإسلامية.. الدولية الأُموية: ص460.

 

[42] المصدر السابق.

 

[43] المصدر السابق.

 

[44] محمّد رشيد رضا، تفسير المنار: ج12، ص183.

 

[45] المصدر السابق.

 

[46] الطبري، محمّد بن جرير، تاريخ الطبري: ج4، ص304.

 

[47] الشعراء: آية151ـ 152.

 

[48] هود: آية113.

 

[49] الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج11، ص157، وج15، ص174، وج16، ص154، وص155.

 

[50] المصدر السابق: ج16، ص154.

 

[51] ابن قولويه، جعفر بن محمّد، كامل الزيارات، ص329.

 

[52] المصدر السابق: ص328ـ 329.

 

[53] ابن المشهدي، محمّد بن جعفر، المزار: ص375.

 

[54] الطوسي، محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص721.

 

[55] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص91.

 

[56] المفيد، محمّد بن محمّد، الإرشاد: ج2، ص82.

 

[57] ابن طاووس، علي بن موسى، إقبال الأعمال: ج2، ص65.

 

[58] المصدر السابق: ج1، ص509.

 

[59] الطوسي، محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد: ص725.

 

[60] ابن المشهدي، محمّد بن جعفر، المزار: ص432.

 

[61] المصدر السابق: ص574.

 

[62] الصافات: آية171ـ 173.

 

[63] ما بين المعقوفتين من المصادر الأُخرى. المجلّة.

 

[64] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص107.